المفهوم الرئيسي: القَيْد والنَّقْص والمُقاوَمة وإعادة الاختراع
مفهوم للإنسانية
يكمُن مستقبل الفلسفة في تطوير مفهومٍ مُقلق للإنسانية — للعمل، والفكر، والكامن الإنساني. وهو مُقلِق لأنه يناقض العديد من طُرق تفكيرنا المقبولة، ولأنه يلمِّح إلى نقدٍ جذريٍّ للمجتمع والثقافة كما هما راسخان الآن. وبمعنًى آخر، على أي حال، هذا المفهوم تقليديٌّ أيضًا؛ فهو ينتُج من تعميمِ وتعميقِ بعضِ الاتجاهات الأكثر تميزًا للفكر خلال القرنَين الأخيرَين. وإذا كان للتقليد البراجماتي أي حقٍّ خاص للتحدث نيابةً عن هذه الاتجاهات، فهذه السُّلطة تكمُن في العنف الذي هاجمَت به بعض العقبات الثقافية لتقدُّمها؛ وبالتالي، فإن الأمر المهدَّد بالضياع عند مناقشة ردكلة البراجماتية هو مستقبل هذه الدوافع في الفكر وأهميتها بالنسبة إلى المجتمع.
وفي بعض الأحيان، جرى التعبير عن السُّلطة والحقيقة المتفوِّقة للاشخصي في وجهات النظر التي شدَّدَت على حقيقة العالم الظاهراتي، وفي أحيانٍ أخرى في الأفكار التي مثَّلَت الظواهر باعتبارها تعبيراتٍ مُخففة عن نماذجَ أكثر خَفاءً وأكثر حقيقية. ولكَونِها وضعَت الحقيقة والقيمة المطلقة بعيدًا عن المخاوف الآنيَّة للعامل المكروب والمكافح، قلَّلَت مثل هذه المعتقدات من قيمة التحول وتغيير الذات عَبْر الكِفاح. لقد أرادوا للعقل وللذات التحرُّر، والصفاء، والحصانة التي ربطوا بينها وبين الله.
وهذه الاتجاهاتُ نفسُها في حضارتنا أنكَرَت خُلُق الحصانة الذي يكوِّن العنصر الأكثر ثباتًا وشمولية في الانعكاس الأخلاقي للثقافات الرفيعة في كل فترات تاريخ العالم. وبدلًا منها، وضعَت فكرة، استُكشفَت باستمرار في بعض الأدبيات الأكثر تميزًا في الغرب المعاصر (مثل الرواية في القرن التاسعَ عشَر)، مفادُها أن الفَرد يطوِّر شخصيةً قوية ومستقلة، وأنه يسمو بنفسه ويجعل نفسه إلهيًّا أكثر، من خلال الصراعِ مع المجتمعِ وداخلَ ذاته. يمُر الطريقُ إلى التحكُّم في الذات وبناء الذات عَبْر تخفيضٍ انتقائيٍّ للدفاعات، وخلقِ مناطقَ من التعرُّضية المتبادَلة والمتزايِدة.
ليست أقل خدمة تقدِّمها الديمقراطية إلى الإنسانية هي تهيئة مُناخٍ أكثر ملاءمةً لمثل هذا الاستكشاف، وهي تعمل ذلك من خلال كُل مَن هاجموها على الأشكال المتطرِّفة والمتجذِّرة لعدم المساواة، واعتناقها فكرةَ قدرة الرجال والنساء العاديين على التحوُّل وتغيير الذات.
ضمن أي فَهمٍ للعالم، وللذات، والمجتمع، والفكر، يُمكِننا أن نطوِّر بأفضلِ صورةٍ هذا الدافع الثوري في حضارتنا، مع اختبار مبرِّراته وحساب عواقبه؟ إن البراجماتية التي تستحق المحافظة عليها وردكلتها هي مجرد اسمٍ آخر للفلسفة التي تأخذ هذا السؤال باعتباره خاصًّا بها.
وعلى أي حال، فهي أقلُّ في هذه الأشكال المختلفة من تضمينات الادِّعاء بأولوية الشخصي على اللاشخصي، والذي يُمكِننا أن نجده في كلِّ ما هو أكثرُ إرباكًا وأكثر وعدًا حول البراجماتية؛ الأمر الذي سأعود إلى معناه ودوافعه قريبًا. ولو أمكنَنا أن نأخُذ هذا الادِّعاء بالكامل، فستظهر علاقة البراجماتية بالشكوكية تحت ضَوءٍ جديد. من المُمكِن تدبير الشكوكية بواسطةِ مجموعةٍ من الحركات المضادَّة التي أثبَت الزمنُ فعاليَّتها. وبمجرد ردكلتها، فإن البراجماتية، على أي حال، لا يمكن احتواؤها إلا بواسطة الارتداد إلى إعلاء الوثنية للاشخصي على الشخصي، وهي هيمنةٌ حاوَل الغربُ جاهدًا لمدةٍ طويلة — والعالَم بأكمَله على إثْره — إسقاطَها منذ ذلك الحين.
عناصر المفهوم
هناك ثلاثُ أفكار حول الذات وحول الإنسانية في علاقتها بالسياقات المؤسَّساتية والاستطرادية للفعل الإنساني تتسم بأهميتها المحورية لمثل هذا البرنامج الفلسفي. وسنُسيء فَهْم هذه الأفكار إذا فَشِلنا في النظر إليها من حيث علاقتها بعضها ببعض؛ لذا سأذكُر كلًّا منهما باعتبارِه مفاهيمَ تتعلق بالذات الفردية وباعتباره منظورًا لإنسانيتنا.
تتسم أجهزتُنا المتعلقة بالإدراك والعمل بتشبُّعها بالخصوصية؛ وهي متناسبةٌ بصورةٍ أفضلَ مع المقياس الزماني والمكاني الذي يجب فيه على الكائن الفاني المتجسِّد أن يعمل. ومن الحقائق الطبيعية عنَّا أنَّنا لا نرى من دون مساعدةٍ سوى ما هو موجودٌ حولنا ونستشعر بسهولةٍ أشد ما يهدِّدنا أو يُبهِجنا هنا والآن. تعتمد أغلبُ أفكارِنا على أعمالنا، فتسبقها ككشَّافين أو تتبعها كمؤرِّخين وقضاة.
أما الفكرة الثانية، فتتمثل في كون الأماكن المألوفة للفعل والفكر، خصوصًا كما تُنظِّمها مؤسَّساتُ المجتمع وأعرافُ الثقافة، عاجزةً عن احتوائنا. وبرغم أنها تشكِّلنا، فهي لا تشكِّلنا بالكامل مطلَقًا. وحتى عندما لا تدعونا إلى تحدِّيها وتغييرها، غير أنه بإمكاننا — على الرغم من هذا — أن نتحدَّاها ونغيِّرها. تتبقَّى دائمًا فينا بقيةٌ أو فائضٌ من المقدرة الجامحة وغير المُستنفَدة.
إن السمة البالغة القوة للعقل والذات المنفردة تتكرَّر في تجربة الإنسانية ككل؛ فليست هناك قائمةٌ محتملة من الترتيبات الاجتماعية والثقافية يُمكِنها استنفادُ القدرات الجماعية للنوع. ولا ينتهي التعاقُب التاريخي لمثل هذه الترتيبات مطلقًا إلى تسويةٍ كاملة ونهائية بين الرُّوح والظروف.
حدث التنبُّؤ بسوء التطابُق الدائم هذا بيننا وبين حالتنا في الحقائق الأكثر أساسيةً لدستورنا الطبيعي، بدايةً بمرونة الدماغ وبالانفتاح النسبيِّ وانعدامِ الهدف المميزين لأكثر دوافعنا بدائية. ويتردَّد صداه في جميع أرجاء كلٍّ من مستويات تجربتنا، بما في ذلك أكثر مشاريعنا طموحًا في الفكر، والسياسة، والفن. أما أسمى تعبيرٍ عنه في عالم الأفكار فيتمثل في فكرة اللانهائي. هذا الكائن غير الكامل والمحدود، الذي يعيش حياةً قصيرة الديمومة في وسط جهلٍ مستغلق حول معنى هذا الوجود والتخوم الخارجية للحقيقة، يجب أن يأخذ فكرة اللانهائي في حدِّ ذاتها كشيءٍ يسمو به، لدرجة أنَّه يجب أن يقومَ بالتعامُل مع هذه الفكرة وفقًا لشروطٍ متوترة لكنها حميمة، وأنه يجب أن يُواجه علاقتَه مع الذوات الأخرى، باعتبار أنه يُمكِن تغيير مظهرها بفعل اشتياقٍ لانهائي، وهو اشتياقٌ لا يمكن لأي شيءٍ ولا أحدٍ أن يُخمِدَه — كل هذا يشهد بمدى قيام هذه العلامة المميزة لإنسانيتنا بوَصمِنا.
إن البِنية الدقيقة لتجربتنا تذكِّرنا بحقيقة عدم تلاؤمنا نفسها، وتُظهِر كيف يُمكِن لعدم الملاءمة هذا أن يصبح مصدرًا للقوة. علينا أن نتوقَّف عن إهدار معظم حياتنا في الروتين والتَّكرار. نحن نكرِّر لأن الزمن والقدرة أمران نادران، ونحن نجسِّد في الماكينات كلَّ ما يُمكِننا أن نكرِّره ونُخضِعه لصيغةٍ ما. يعمل التكرار على تحرير الطاقة والزمن لما لا نعرف حتى الآن كيف نكرِّره، ويُمكِّننا من التحرُّك إلى الخارج إلى الظل الباهت للجديد. تقتضي مصلحتُنا أن نعجِّل هذا التذبذُب، باستخدام التَّكراري لخدمة ما لا يتكرَّر.
ونحن لا نُسرِّع إيقاعَ هذا الإجراء من أجل منافعه المادية والأخلاقية المميزة فقط، بل نسرِّعه من أجل مصلحته الخاصة؛ أي من أجل تجربة السيادة على شروط وجودنا، والألفة مع اللانهائي — التي تجعله ممكنًا. أما الأداة الفلسفية لهذا التعجيل فهي ضربٌ من البراجماتية المردكلة.
تنقسم أنشطتُنا إلى صنفَين اثنَين؛ فبعضُ الأنشطة هي حركاتٌ تقع ضمن إطارٍ من التنظيم والاعتقاد الذي نعتبره بديهيًّا. عند الحدِّ الخارجي، يبقى الإطار من دون تحدٍّ بل وحتى خفيًّا. نحن نجعله طبيعيًّا أو مقدَّسًا، ونتعامل مع المنتَج الجماعي بيدَينا نحن على أنه حقيقةٌ طبيعية أو حتميةٌ مقدَّسة. أما الأنشطة الأخرى، فهي حركاتٌ تتعلق بالإطار. تعمل مثل هذه الأنشطة على تغيير الإطار بالطريقة الوحيدة التي يُمكِن أن يتغيَّر بها في العادة؛ قطعةً فقطعة وخطوةً فخطوة.
من الممكن تنظيم المجتمع والفكر لتطويل المسافة بين الحركات العادية التي نقومُ بها ضمنَ الحدود الراسخة وبين الحركات الاستثنائية الذي نُعيد من خلالها تعريفَ هذه الحدود. عندما نطوِّل هذه المسافة، يعتمد التحوُّل على الصدمة؛ فيُصبِح الدمار شرط التغيير. وبدلًا من ذلك، فمن الممكِن ترتيبُ المجتمع والفكر لتقصير هذه المسافة. ونحن نقصِّر المسافة بترتيب ممارساتنا الاجتماعية والاستطرادية بحيث يصبح تحوُّل البِنى امتدادًا ثابتًا لطريقة مواصلتنا لأعمالنا العادية، وهنا سيُصبِح التحوُّل أقل اعتمادًا على حدوثِ كارثة؛ ومن ثَم سيُصبِح مبتذلًا ويتم امتصاصه في تَجربتِنا اليومية.
نحن نقسِّم الاختلاف بين الوجود داخل إطارٍ معيَّن يقرَّر لنا ما يجب علينا فعلُه، وبين الوجود خارج مثل هذا الإطار؛ حيث نكون مجبَرين على تقرير كل شيء بأنفسنا. إن ما نُحرم منه هنا هو الاختيار الثاني بعد الألوهية. وبالنظر إلى أننا لا نستطيع أن نقيم في سياق كلِّ السياقات؛ أي الفضاء الطبيعي والنهائي للمنطق والمجتمع، يُمكِننا على الأقل أن نخلق إطارًا يساعد على القذف بنا خارجًا إلى ما وراء نفسه.
إن اختصار المسافة بين المحافظة على السياق والأنشطة المحوِّلة للسياق هو سعر التقدُّم العملي، بما في ذلك النمو الاقتصادي والابتكار التقني، وهو يخلُق سياقًا يمكن أن يزدهر فيه التعاون التجريبي، ويضخِّم حريتَنا لإعادة توحيد الناس، والماكينات، والممارسات في ضوء الفُرص الظاهرة. وهو من متطلَّبات تحرير الفرد من التراتُبية والتقسيم الشديدَي التجذُّر؛ فأي مخطط للطبقات والأدوار الاجتماعية الجامدة يعتمد، من أجل تخليده، على تطبيع أو تقديس الترتيبات التي تستنسخه، وهو يمنح فرصةً لتجربةٍ أساسية من الحرية والتمكين؛ وهي تجربة عدم الحاجة إلى الاختيار بين الوفاء لذواتِنا المتجاوِزة للسياق وبين التعاطي مع عالَمٍ معيَّن.
إن البراجماتية المردكلة هي المبدأ التشغيلي لتقصير المسافة بين المحافظة على السياق وبين الأنشطة المحوِّلة للسياق؛ وبالتالي فهي برنامجٌ للثورة الدائمة، وعلى أي حال، فهي تمثِّل برنامجًا يُفهَم بحيث يُسرق من كلمة «ثورة» كل التلميحات الرومانسية المستوحاة من عوالمَ أخرى، والتسوية بينها وبين دنيوية الحياة كما هي.
أين، في هذه اللحظة من التمدُّد أو التجاوز، يمكننا أن نجد التوجيه؟ تتمثَّل الإجابة في أننا نجدُه من خلال القيام بحركةٍ مزدوجة. لم يعُد بإمكاننا فهمُ مصالحنا ومُثُلنا العليا كما فهمناها عندما كنَّا نتصرف بحذَر ضمن الإطار. نحن نستكشف ما تعنيه الآن بعد أن غيَّرنا بعضَ الافتراضاتِ المؤسَّساتية أو المفاهيمية التي كنا نتصرَّف على أساسها. ونحن نُحاوِل جعلَ الغرض يدومُ لفترةٍ أطولَ من سياقه المألوف. وعلى أي حال، فنحن لا نستطيع تجديد حياته من دون إصلاح محتواه. وفي الوقت نفسه، علينا أن نسأل أنفسنا عن الأمر الذي سيقوِّي بأفضل صورةٍ من قدرتنا التعديلية في الفكر والمجتمع.
تَرقَى الأفكار الموجودة في محور البراجماتية المُعتقة إلى أن تكون طريقةً للتفكير في علاقتنا بجميع السياقات المألوفة لأفعالنا. وعندما نحكُم على قيمة أي مبادرة، يجب علينا أن نأخذ في الحسبان تأثيرَها في هذه العلاقة، فيجب علينا أن نسأل عما إذا كانت تطوِّر أو تقوِّض صفاتنا المتمثِّلة في القوة، والتفوُّق، والمستقبلية، والتجريبية.
دعوني هنا أطرح مثالًا مستمدًّا من التنظيم المؤسَّساتي للسياسة الديمقراطية وليس من التنظيم المنهجي للعلوم الطبيعية. وهو مثالٌ ملائم للطرح، بالنظر إلى أسبقية ما هو شخصي وما هو اجتماعي على اللاشخصي والطبيعي في تعريف البراجماتية المردكلة.
- أولًا: نحن نؤيِّد الهدف التحرُّري لتجزيء القوة مع إنكار الهدف المحافظ لإبطاء التحوُّل السياسي للمجتمع. وإذا واجهنا نظامًا رئاسيًّا على الطراز الأمريكي، على سبيل المثال، فنحن نزوِّد الآليات التي تُمكِّن الفرعَين السياسيَّين من الحكومة، اللَّذَين فَشِلا في التوصُّل إلى تسوية من إنهاء حالة اللااتفاق بالدعوة إلى الانتخابات المرتقَبة لكلٍّ من فرعَي الحكومة. يمتلك أيٌّ من الفرعَين حقًّا أحاديَّ الجانبِ للدعوة للانتخابات. ولممارسة هذا الحق، سيجبُ عليه أن يُواجِه الخطَر الانتخابي. وعن طريق هذه الوسيلة النفعية البسيطة، فنحن نحوِّل النظام الرئاسي إلى أداةٍ لتنشيط السياسة الديمقراطية.
- ثانيًا: نحن نطرح سلسلةً من الإصلاحات التي لها تأثيرٌ مشتركٌ يتمثَّل في تصعيد مستوى التعبئة الشعبية المنظَّمة في السياسة؛ أي التمويل العام للحملات السياسية، والوصول الحُر من قِبل الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية إلى وسائل الإعلام الجماهيرية، والأنظمة الانتخابية المصمَّمة لتقوية الأحزاب. ونرفع درجة حرارة السياسة من دون التخَلي عن الالتزام بالتنظيم المؤسَّساتي. ونحن نفعل ذلك ونحن مقتنعون بأن هناك علاقةً بين الخِصْب البِنيوي structural fecundity لضَربٍ من الحياة السياسية وبين مستواه من النشاط، ونحن مدركون كذلك أن النشاط من دون تنظيمٍ يظلُّ قصيرَ الأمد وخطرًا في الوقتِ نفسِه.
- ثالثًا: نحنُ نقدِّم فهم وممارسة الاتحادية federalism كشكلٍ من أشكال التجريب. وعلى سبيل المثال، نحن نشجِّع — في وحداتٍ إقليمية أو قطاعاتٍ اقتصادية بعينها، وفي المجتمع — على تطوير النماذج المضادة countermodels للسياسة الرئيسية والحلول المؤسَّساتية المتَّبَعة في السياسة الوطنية. تحت بعض الشروط المصمَّمة لمنع الانتهاك والقَمْع، يُمكِن للنواحي أو المجموعات أن تنسحب من النظامِ القانونيِّ العام، وأن تصنع واحدًا آخر. يبدو الأمر كأن المجتمع، وهو يتقدَّم عَبْر طريقٍ بعَينه، عليه أن يُحوِّط رهاناته.
- رابعًا: نحن نعمِّق مفهومَ ونقوِّي أدواتِ حقوقِ الإنسانِ الأساسية؛ فمن أجل الازدهار وسط الابتكار المعجل، يجب أن يكون الفرد آمنًا وأن يشعر بالأمان وسط ملاذٍ من المصالح والإمكانات الحيوية المحمية. ويجب أن يتمتَّع بميراثٍ اجتماعي من الموارد الأساسية التي يُمكِنه أن يسحبَ منها خلال نقاط التحوُّل في حياته. وفي بعض الأحيان، يجد الناس أنفسَهم محتبَسين في أشكالٍ محلية من الأوضاع غير المواتية والاستبعاد، والتي لا يُمكِنهم الفرارُ منها باستخدام الأدوات الطبيعية للعمل الفردي المعتمد على الذات. أما الدولة، التي تعمل من خلال فرعٍ منفصلٍ من الحكومة، منظَّم ومجهَّز خصوصًا لهذا الغرض، فيجب أن تكونَ قادرةً على التدخُّل في الممارَسة أو المنظَّمة المعيَّنة، لإعادة ضحاياها إلى حالة الوكالة الفعَّالة.
وحتى التطبيق الجزئي لمشروعٍ محدَّد بالتزامه بهذه المجموعاتِ الأربعِ من الإصلاحات سيُعدِّل مفاهيمَنا الموجودةَ مسبقًا حول الحرية السياسية والمساواة السياسية في سياق الاستفادة منها. ومع ذلك، فسيُحقِّق بعض سلطتِه وتوجُّهه من الخدمة التي سيقدِّمها لمفهومٍ يتعلق بإنسانيتنا — وهو المفهوم ذاته الذي يتحدَّد بالأفكار الثلاث التي ناقشتُها من فوري. وهذا المفهوم ليس ثابتًا في حد ذاته؛ فهو يمتلك حياةً وتاريخًا لكنه يفتقر إلى جوهرٍ دائم. وهو يستمد المعنى والقوة من الطرق التي نُدرِكه بها في الحياة وفي الفكر.
المواقف الفلسفية المتعلقة بهذه الأفكار
تدلُّ هذه الأفكار حول الإنسانية على ثلاثةِ مواقفَ فلسفية. وبالإضافة إلى الأفكار، تشكِّل المواقفُ صميمَ البرنامج الفكري الذي نستكشفه في هذا الكتاب.
إن الموقف الأول هو التزام باقتران النظرية بالعمل. إن وجهاتِ نظرنا حول الذات والمجتمع — وهي وجهاتُ النظر الموجودة في مركز البراجماتية المردكلة — لم تكن قَط أكثر من تعميقِ أفكارِ عاملٍ عادي في حياةٍ عادية. نحن نُرخي الصِّلاتِ التي تربطُ الأفكار بالأفعال لنخلع عليها عموميةً أكبر، لكننا لا نحلُّ هذه الروابط. ليس هناك اختلافٌ أساسي بين نوعية تأمُّلنا الذاتي في قبضة النشاط وبين طبيعة تفكيرنا ونحن نأخُذ خطوةً إلى الوراء؛ فالفيلسوف لا يُتقِن أي أسرارٍ محرَّمة على العامل.
إن استمرارية التأمل بصورةٍ متساوقة مع النظرية ضدَّ السياق لا يُعفِي النشاط التأملي من الوقوع تحت ضغطٍ فريد، وهو الإغراء الدائم للتفكير المتخصِّص لمطابقةِ روتيناتِ مجتمعٍ بعينه وأعراف ثقافةٍ ما بالطريقة التي تعمل بها الأمور على نحوٍ صحيح أو تكون عليها بالضرورة. تُشعِرنا الأزمات غير المتوقَّعة بالعَجز، فتكشف المعيَّن والمحتمَل كما هما، بحرمانهما من الغشاء الخادع للسلطة والضرورة. وعلى أي حال، فلسنا مضطَرين إلى انتظار حدوث تغيُّرٍ جذري لتحرير أنفسنا من خُرافاتنا. وبدلًا من أن ننتظر، بوسعنا أن نتخيَّل. يقوم الخيال بعمل الأزمة من دون حدوث أزمة.
وبالترافُق مع وجهة النظر الشبَحية هذه للاحتمال، تسير فكرة أنه بوسعنا — من حيث المبدأ على الأقل — أن نتمكَّن من تخطيط الأفق الخارجي للحالات الممكنة للشئون أو العوالِم المحتملة. وكل ما يحدث في الحقيقة في عالمنا لا يمثِّل سوى مجموعةٍ ثانوية من هذا الواقع الأكبر.
وبالتالي، يعني الأمر أننا لا نستطيع أن نعرف، عند النظر من أيِّ نقطة في التجربة التاريخية أو السيرية، ماهية الحدود الخارجية لأشكال التنظيم الاجتماعي والتجربة الشخصية. وإذا كانت هناك حدود، فمن المرجَّح أن تكون حدودًا متحرِّكة. من أجل فهم حقيقة القَيد، نحن في حاجة إلى أن نثقَ بقدرة التسلسل وأن نُدرِك أوجُه القصور التي يفرضُها دستورنا الطبيعي، وكذلك تلك المفروضة من قبل حالتنا التاريخية. وعلى أي حال، فلا يلزم أن نلجأ إلى فكرة وجود أفقٍ ثابت من الاحتمال.
تنشأ أكثر أفكارنا عمومية حول الذات والمجتمع عن توسيع أكثر تجاربنا المحلية وضوحًا، والمصحَّحة بفعل تذكُّرٍ مدروس للأحداث الماضية وتخيُّل اتجاهٍ مستقبلي. ويُرينا مثل هذا التخيُّل كيف يُمكِننا تحويلُ ما لدينا إلى شيءٍ آخر، وكذلك ما يُمكِننا أن نحوِّله إليه؛ الذاكرة إلى نبوءة.
تنشأ الفكرة الشبَحية للاحتمال عن كراهية الجديد. والجديد، وفقًا لتلك الفكرة، ليس جديدًا تمامًا لأنه كان يُطارِد العالَم في السابق باعتباره محتمَلًا. وفقط عندما نطلِّق الفكر من الفعل، ستبدأ وجهة نظر بمثل هذه الغرابة عن تجربة الارتباط والفعل في فرضِ نفسها علينا كأنها تزوِّد ترياقًا للأوهام التي يتعذَّر اجتنابها للملذات المجسدة.
على خلاف الحقائق الطبيعية، فمن الممكِن أن تُوجَد هذه الحقائق الإنسانية بدرجةٍ قد تزيد أو تنقص. وكلما زادَت المسافة بين أنشطتنا للمحافظة على السياق وتلك الخاصة بتحويل السياق، كان الإحساس بوجودها أشدَّ قوة؛ فهي تُوجَد بصورةٍ أشدَّ قوة لأننا نتصرَّف ونفكِّر بصورة أكثر ضعفا؛ أي إن القوة التي تمتَص منا تنجذب إليه. وكلما قصرَت المسافة بين أنشطتنا للمحافظة على السياق وتلك الخاصة بتحويل السياق، وُجدَت هذه الحقائق البنيوية بصورةٍ أقلَّ وضوحًا. ونحن هنا نزداد قوةً لأنه يجري إضعافُها.
ولذلك فإن تطبيع العالم الاجتماعي لا يعدو كونه هلوسةً تتحول باستمرار إلى تعيُّن. ولا يُمكِننا الهروب من هذا السجن بمجرد التفكير بشكلٍ مختلف، بل يتوجَّب علينا أن نُعيد تنظيم المجتمع والثقافة بحيث يصبحان أكثر حرية. وعلى الرغم من هذا، فإن التفكير بشكلٍ مختلف يبدِّد بعضَ الأوهام التي تُبقينا مستعبَدين.
يرجع أصل المواقف الفلسفية الثلاثة التي استحضرتُها ودافعتُ عنها إلى العالم الإنساني؛ فلا يمكننا حملها على التفكير بشأن العالم غير الإنساني الذي يحيط بنا. إن عدم قدرتنا على عمل ذلك هي مصدر التناقُضات المتعلقة باللاشخصي، والتي ستتم مناقشتُها في الجزء التالي من هذا الكتاب.
وفي هذا العالم الطبيعي، نجد أنفُسَنا في عالَمٍ لا يُمكِننا فيه أن نتقبَّل ولا أن ننبذَ الفكرة الشبَحية للاحتمال من دون تسميم أفكارنا بالالتباس والتناقض. يُمكِننا أن نُحاولَ فهم العالم باعتباره حقيقةً سرمدية في النهاية؛ وبالتالي فهي محكومة بقوانينَ لا تاريخ لها. وبذلك فنحن نُجبر أنفسَنا على الجهد المستميت لرسم حدودِ ما هو محتمَل. ونظرًا إلى ارتباكنا بفعل التناقُضات التي يوجِّهنا إليها هذا الجهد، نحن نحاول الاستغناء عن فكرة النظر إلى المحتمَل باعتباره سابقًا مبهمًا لما هو حقيقي، لنكتشف أننا — بالقيام بذلك — نُضعِف على نحوٍ مُهلكٍ مفهوم وجود كونٍ يشبه القانون. وعند تحويل أفكارنا إلى الطبيعة، نجد أنفسنا غير قادرين على حل الأشياء إلى الأفعال التي نشأَت عنها؛ وبالتالي غير قادرين على التمييز بين درجات الوجود.
إن بِنى المجتمع والثقافة هي قتالٌ تحوَّل إلى حجارة؛ فهي ما يأتي إلى الوجود ما دامت، وإلى أقصى حدود، مقاطعتنا لخلافاتِنا الأيديولوجية والعملية حول تنظيم الحياة في المجتمع. وعندما تتصاعد وتيرةُ القتال ثانية، تذوبُ تلك البِنى متحوِّلة إلى العمَل والتخيُّل الجماعيَّين التي ظهرَت منهما. وعندما نشكِّل البِنى المصمَّمة بحيث تدعو إلى إعادة بناء ذاتها، فنحن نحوِّلها إلى كلٍّ من أدواتٍ متفوِّقة لقوَّتنا وإلى انعكاساتٍ أكثَر دقَّة لإنسانيتنا.