الزمن والتجربة
مصدَر التناقُضات
إن أجهزتَنا الإدراكية مصمَّمة وفقًا لمقياس هذا العالَم وسياقه الطبيعي الآني. وعلى أي حال، فلأنها تتميز بالخاصية البارزة للمرونة، واللاتناهي الوظيفي النسبي، والإزعاج الدائم في التوتُّر بين السياق المحدود والاشتياق الذي لا يشبع، والكفاح الذي لا يُمكِن إيقافُه، وهي مقدرةٌ لا يُنهيها إلا الموت، فمتناوَلنا يمتَد إلى ما وراء سياقاتنا الآنيَّة.
هذا الأفُق المنحسر للتفاصيل في أثناء فَحصِها بدقة من قِبل الفَهم يذكِّرنا بالبِنية العامة لحالتنا. إن علاقتَنا بسياقاتِنا المنظمة الخاصة للفِعل والفِكر مماثلة لهذه العلاقة بين التفاصيل والفَهم؛ ففينا، كما في التفاصيل التي يسعَى فهمُنا إلى إدراكها، تُوجَد بقية لا تنضب. ثمَّة حالةٌ مماثلة تنشأ في علاقاتنا مع الأشخاص الآخرين؛ فنحن نتعامل مع القبول والاعتراف من قِبل الشخص الآخر باعتباره علامةً على التوكيد المطلَق فيما يتعلق بمكاننا في العالم، وهو توكيدٌ لا يستطيع الآخرون تزويدَه مطلقًا؛ وبالتالي فنحن نطلب اللامحدود من المحدود.
ومع تحرُّكِنا مُبتعِدين عن هذا المسرح الإنساني وتحويل عقولنا إلى الطبيعة البعيدة، تقع أفكارنا في مجموعةٍ من التناقضات. هذه التناقُضات هي أوجُه التضارُب المتعلِّقة بالتجربة، والتي لا نستطيعُ حلَّها. كما أنَّنا، على أي حال، لسنا عاجزين كليًّا عن التعامل معها؛ فبوسعنا أن نخفِّف القيود التي تُخضع لها بصيرتنا وقوَّتنا؛ ومن ثَم نقوم في تعاملاتنا مع الطبيعة بإعادةِ ترسيخِ نسخةٍ باهتة من المعرفة العميقة والأكثر كمالًا التي يُمكِننا اكتسابُها من عالَمِنا الخاص. وعملية الإنقاذ هذه تجعل من العلوم الطبيعية أمرًا ممكِنًا.
وبالتالي، تزوِّدنا العلوم الطبيعية بمعرفةٍ تتسم بكَونها أقلَّ كمالًا من المعرفة التي يُمكِننا أن نستَقيَها من مفاهيمنا الاجتماعية والثقافية، أو بعضنا من بعض، أو من أنفسنا، كما تبدو صورتُنا منعكسةً في مرآة الشخص الآخر. وعلى أي حال، فبوسعنا أن نقلِّل من عدم كمالها وأن نزيدَ من قُوَّتها ببعض الحِيَل التسويفية. ونتيجةً لذلك، فنحن نُوهن قوة التناقضات، برغم أننا لا نستطيع التغلُّب عليها.
من الممكِن اختزالُ جميع تناقُضات اللاشخصي إلى اثنَين؛ تناقُض الزمن وتناقُض الموضوعية.
اللاشخصي والشخصي
يستند فهم تناقُضَي الزمن والموضوعية إلى وجهةِ نظرٍ معيَّنة حول العلاقة بين تجربتنا بذواتنا وتبصُّرنا بالطبيعة. وتتشارك النزعة الفلسفية التي أُطلق عليها في فقرةٍ سابقةٍ اسمُ المذهب الطبيعي مع الفلسفة الدائمة وجهةَ النظرِ القائلة بأن اللاشخصي يمتلكُ قيمةً أعلى من الشخصي، ويسمَح بمعرفةٍ أكثر إحكامًا. وفي بعض الجوانب المهمة، نجد أن رسالة هذا الكتاب، لكونها مخلصةً لمعظم الأمور الأكثر تميزًا والأكثر إرباكًا في الثقافة الغربية الحديثة، مؤهَّلة بل وحتى عاكسة لهذه التراتُبية للقيَم والبصيرة. والآن هو الزمنُ الملائم للوصول إلى تعريفٍ أكثر وضوحًا ودقةً لمحتوَى وأساسِ هذا التأهُّل أو الاعتكاس.
ليس هناك في هذا الخط من التفكير ما يُنكِر أننا جزء من الطبيعة، ولا شيء فيه يحتكم إلى وجود مادةٍ روحيةٍ متلاشية مُعْفاة من الطبيعة وقوانينها. وتتمثَّل القضية هنا في التوصُّل إلى أفضلِ طريقةٍ لتناوُل العلاقة بين الطبيعة الموجودة بداخلنا، كما نلتقيها ضمنَ عالَم من المبادرة والتواصُل الإنساني، وبين الطبيعة خارجنا، كما نتعامل معها فيما وراء حدود ارتباطاتنا مع الآخرين ومع أنفسنا. وفي سبيل استكشاف هذه العلاقة، نحن لا نقارن بين ما هو إنسانيٌّ وما هو طبيعي؛ بل نُقارِن بين التجربة الطبيعية للإنسانية والتجربة الإنسانية للطبيعة.
هناك حقيقتان — من الحقائق الطبيعية — تؤديان دورًا محوريًّا في تشكيل التجربة الطبيعية للإنسانية. بناءً على أُولى هاتَين الحقيقتَين، تمتلك معرفتُنا الموجهة للفعل أفضليةً على المعرفة المعزولة عن الفعل. وبناءً على الحقيقة الطبيعية الثانية، فإن ذلك الجزء من المعرفة الموجهة للفعل الذي يخاطب عالمنا الخاص — أي العالَم الإنساني — قادر على تحقيق اختراقٍ لا يمكن أن ينافسه فيه أيُّ جزءٍ آخر من معرفتنا. وباعتبارهما معًا، تقترح هاتان الحقيقتان الطبيعيتان أسبابًا لرفض فكرة أن المعرفة الأكثر موثوقية هي معرفة اللاشخصي. ومن خلال القيام بذلك، فهما تُسهِمان أيضًا في خلفية المعتقدات التي تدعَم القيمة البارزة للشخصي.
تتعلَّق أولى هاتَين الحقيقتَين الطبيعيتَين بخاصية العقل باعتباره أداةً لحل المشكلات، والمبنية على مقياس كائنٍ حي معرَّض للموت. تخيِّم ظلال أفكارنا على أفعالنا، وتُنفذ أعمالنا في العادة من أجل اغتنام الفرص وتفادي الأخطار. وعلى هذا المقياس الإنساني، يتواجَه الفكر باستمرار مع المقاومة التي تفرضُها الطبيعة المحيطة بنا والمتجسِّدة فينا.
ولكننا لا نُصادِف هذا العالَم بصورةٍ مباشرة؛ لأننا لسنا روحًا كونيةً متحرِّرة من الجسد؛ فنحن لا نصادفه سوى ضمن العالم المتألِّق لمدركاتنا؛ وبالتالي، فإن الفلسفة تُناقِش ما إن كانت عمليات تحرير الإدراك تمثِّل علاماتٍ موثوقة على الطبيعة الحقيقية للعالم أم أنها مجرَّد هَلْوسة، تُمارِس سلطاتها بموجبِ وزنِ اتساقِها الخاص.
وعلى أي حال، فنحن نستَمر في الاعتماد على مبدأ الفعالية؛ فنحن أشبه بنفَر من العميان الذين يحملون عِصيَّهم لتحسُّس العقبات التي أمامهم؛ وبالتالي فإن تخمينَنا الناجح يُكافأ بألا نصطدم ونسقط، وبأن نتقدَّم إلى الأمام إلى وجهتِنا المطلوبة. وسواء أكانت رسالة الأحاسيس تكشف الحقيقة أم لا، فنحن نجد التوجيه والتصحيح في المقاومة التي تفرضُها الطبيعة على إراداتنا، لكن فقط في ذلك المسرح الصغير الذي يُمكِننا التمثيل على خشبته.
ولحل المشكلات بالطريقة التي يعمل بها، يجب أن يكون العقل قادرًا أيضًا على القيام بخطواتٍ لم يقُم بها من قبلُ، وفقًا للقواعد التي يُمكِنه صياغتُها، إذا كان بوسعه ذلك أصلًا، فقط بعد أن يقوم بها. وبكلماتٍ أخرى، يجب أن يكون قادرًا على ألا يكرِّر نفسه. هذا الدافع من المفاجأة، والابتكار، والتجاوز، عند اقترانه مع الدافع المُجمل، يحوِّل الوعي إلى ما نسمِّيه بالتخيل، ويمثِّل جزءًا لا يُستَهان به من قدرة العقل على مواجهة مشكلات التجربة الموجهة للفعل.
أما الحقيقة الطبيعية الثانية فتتعلق بواحد من أنواع معرفتنا الموجهة للفعل؛ وهي المعرفة بعالمنا الخاص، وبالمجتمع والثقافة. وفيما يتعلق بهذا العالم، يُمكِننا أن نأمل في الحصول على معرفةٍ تختلف عن أي معرفةٍ أخرى لأنها معرفةُ الخالقِ بخلقه. وتتوافق هذه المعرفة مع مبدأ البناء؛ يُمكِننا أن نتعرف، بشفافيةٍ لا نظير لها في أي جزءٍ آخر من تجربتنا، على ما صنَعناه بأنفسنا. هنا، وهنا فقط، يُمكِننا أن نتمنَّى الاستغناء عن نَبوت العميان وأن نرى بعيونٍ مفتوحة على اتساعها.
إن المنظور الرباني الذي تعزوه كلٌّ من الفلسفة الدائمة والمذهب الطبيعي الحديث، بطرقهما المختلفة، إلى معرفتنا غير المتحيِّزة بالنظام الطبيعي ينطبق، بملاءمة أكبر بكثير، على معرفتنا الإنسانية بالعالم الإنساني. وعلى أي حال، فهو لا يفعل ذلك تلقائيًّا أو بالتساوي؛ فقابلية تطبيقِه المتزايدة هي نتيجة تحوُّلٍ ناجح للحياة الاجتماعية والثقافية في اتجاهٍ معيَّن.
إن ترتيبات المجتمع والثقافة تحارب بعناد لا يلين؛ فهي تبقى على قيد الحياة عن طريق إيقاف أو احتواء النزاع العملي والرؤيوي. وكلما زاد تنظيم المجتمع والثقافة لزيادة المسافة بين أنشطتنا المحافِظة على السياق وتلك المحوِّلة للسياق، ازداد اكتسابُ هذه الترتيبات لمظهر الحقائق الطبيعية. وهي تظهر بالنسبة إلينا كمسلَّمات، كقدَرنا الجماعي. وفي الحقيقة، ذلك هو ما تتحوَّل إليه حينئذٍ، بصورةٍ ما.
فقط من خلال كفاحٍ طويل، يحتل معظمُ تاريخ البشرية، يمكِننا إصلاح المجتمع والثقافة لتقليل المسافة بين الخطوات العادية التي نقومُ بها ضمنَ سياقٍ مؤسَّساتي وأيديولوجي نأخذه باعتباره من المسلَّمات، وبين الخطوات الاستثنائية التي نقوم من خلالها بإعادةِ تشكيلِ ذلك السياق، بالتدريج وخطوةً خطوة. ومن بين علاماتِ نجاحِنا أن يصبح التغيير أقلَّ اعتمادًا على وقوعِ كارثة، وأفضلَ قدرةً على أن يأتي من الداخل، كامتدادٍ لأنشطتنا العادية.
وفي سبيل إصلاح المجتمع والثقافة لوضعهما بصورةٍ أكثر كلية في متناوَل الإرادة المتحوِّلة، نحن نضعُهما أيضًا بصورةٍ أكثر كمالًا في قبضة التخيُّل التحوُّلي. وبما أننا نجحنا — ونحن لا ننجح أبدًا إلا على نحوٍ متردِّد ونسبي — فإن مبدأ البناء — أي المعرفة التي يُمكِن للصانع أن يكتسبها عن مصنوعته — ينطبقُ بقوةٍ أشد. وهنا نصبح أعظمَ وأكثَر حرية، ونتمتَّع ببصيرةٍ أعمقَ فيما يتعلق بعالَم من صُنعنا نحن.
يُعد خلقُ مثل هذه المجتمعات والثقافات إنجازًا يتحدَّث عن نفسه بقدرته على الترويج لأكثر مصالحنا أساسية، ليس فقط مصلحتنا في السيطرة على السياق، الذي هي أكثر مَلامحِه مباشرة، ولكن أيضًا مصلحتنا في إعادة الالتئام التجريبية إلى الناس والموارد من أجل النمو الاقتصادي، ومصلحتنا في التدمير الدائم لكل المخطَّطات الراسخة للتقسيم والتدرُّج الاجتماعي لمصلحة قدرتنا على إعطاء أنفسنا بعضنا لبعض باعتبارنا المخلوقاتِ الأصليةَ الراديكالية التي نعتقد في النهاية أننا هُم، وليس كمجرد رموزٍ في أيٍّ من مثل هذه المخطَّطات.
إن الاختراق الذي ينتج بصورة أقلَّ اكتمالًا عن مبدأ حل المشكلات وأكثر اكتمالًا عن مبدأ البناء له تكلفة، وهذه التكلفة هي أن المعرفة التي يَعد بها كلٌّ من حل المشكلات والبناء، للأفضل والأسوأ، تكونُ ذاتَ مصلحة. ومع تزايُد الاختراق مع انتقالنا من المبدأ الأول إلى الثاني — من استخدام الرجل الأعمى لعصاه إلى البصيرة التي يُمكِن لخالقٍ بشَري أن يمتلكَها عن خلقه الاجتماعي والثقافي — تزداد أيضًا أهمية امتلاك المصلحة في الخطوة نفسها. وهنا تنمو البقية البراجماتية في فكرنا فيُصبح ما نعرفه ملوَّثًا بفعل ما سنعرفه.
إن تخميناتنا المتعلقة بحل المشكلات، على المقياس الذي يُمكِن فيه للفكر أن يرافق العمل، لا تمتلك سوى البقية البراجماتية لعصا الرجل الأعمى؛ فنحن نحكُم عليها من خلال استخدامها في تَمكينِنا من السير للأمام من دون أن نسقط، أما المقاومة التي نُواجهُها فيُمكِنها أن تدعم التخمينات البديلة، كما أن تفوُّق بعض هذه التخمينات على غيرها قد يتغيَّر ونحن نُعيد توجيه جهودنا.
تحتوي مفاهيمنا عن الإنسانية والمجتمع بقيةً براجماتية بمعنى أكثر ردكلةً بكثير، ونحن لا نستخدمها فقط كأسلحةٍ في صراع المصالح الواقعة في شَرك الرؤى، لكننا أيضًا غيرُ قادرين على أن نحذف منها خاصيةَ تحقيقِ الذات المتعلقة بالنبوءات. ويعني التعامُل معها كأدلةٍ إرشادية أن نمنحَها درجةً ما من القوة التحوُّلية. بَيدَ أن هذه القوة لن تكون غير محدودة — فلن تُحل القيود غير الملحوظة داخلَنا وحولَنا تحت ضغط الأمنيات — لكنها ستكونُ حقيقية. وهي تنتُج عن العديد من المصادر؛ أن فكرة المجتمع — حتى فكرة المجتمع الحر، التي تستند إلى التعاون بين الأفراد المطمئنِّين إلى تساوي الفُرص والاحترام — ليست لها ترجمةٌ فريدة وغير خلافية غير أنها تنظيمٌ معيَّن للحياة الإنسانية، وأن فهمَنا للمصالح والنماذج بالنسبة إلى الممارَسات والمؤسَّسات التي نتخيَّلها فيها من الممكِن تحقيقه، بحيث تكون هناك علاقةٌ داخلية بين تفكيرِنا بشأن تلك النماذج والمصالح وتفكيرِنا بشأن هذه المؤسَّسات والممارَسات، وأن الوعي يكونُ دومًا فرديًّا ومتجسدًا في كائنٍ حيٍّ منفرد، في حين أن المجتمع والثقافة هما منشآتٌ جماعية، لا تخضع مباشرةً لسيطرة الإرادة والتخيُّل الفرديَّين، وكذلك، وقبل كل شيء، فإن أيًّا من أنماطنا للحياة في المجتمع والثقافة لا يُمكِنه استنفادُ مواردنا من البصيرة والتجربة، والتي تتجاوزُها دائمًا.
ومن أجل كل هذه الأسباب، فإن تفكيرنا بشأن العالَم الذي نصنعه يظل إلى الأبد مغمورًا في ظلال الغموض، والإسقاط، والانخداع، وخداع الذات، في حين تتنكَّر الإرادةُ كبصيرة، وتتمنَّى أن تُصبح الفكرة حقيقة. وعلى أي حال، فكل هذه العيوب هي استثناءٌ للاختراق الخاص الذي نتمتَّع به في الميدان الذي ينطبق عليه مبدأ البناء، أقل من كَونِها السِّعر الذي يجب أن ندفَعه مقابل ممارسة هذه السلطة.
لنفترِض أننا تركنا ميدان معرفتِنا بالعالَم الذي صنعناه، والذي فيه مبدأ البناء، مع بقاء وَعدِه بالتبصُّر من الداخل صحيحًا إلى حدِّ نجاحنا في خلق المجتمعات والثقافات التي تمنحُنا الوسائل التي يُمكِننا بواسطتها أن نتحدَّاها ونغيِّرها. ولنفترِض أننا بعد أن تركنا مأوى التخيُّل هذا الذي انكمَش على مخلوقاته الجماعية الخاصة، حينئذٍ سنُواصل السفر مبتعدين عن سياق تجربتنا الداخلية، حتى نتجاوَزَ حدودَ معرفتنا بذلك الجزء من العالَم الطبيعي الذي تُواصِل فيه أفكارُنا تظليلَ أعمالنا. وأخيرًا، نحن نتحوَّل خارجًا إلى الحقائق المِجهَرية أو العِيَانية التي تقع فيما وراء مُتناوَلنا الآني. وهنا موضع العلم.
علينا الآن أن نُعيد خَلقَ الظروف التي تسمح لنا بتشكيل تخميناتٍ موثوقة في العالم الذي يُمكِننا الوصول إليه. ونحن نعمل ذلك بمد عصا الرجل الأعمى من خلال أدواتِ أو آلاتِ العالِم، ونفعل ذلك أيضًا بتنظيم التجارب التي تُحاكي تجربةَ الرجل الأعمى للضرب بعصاه مقابلَ الموانع، أو تجربته في اكتشافِ أن طريقه مفتوحٌ بصياغة الفرضيات وفقًا لتجربته المتعلقة بالمقاوَمة أو التقدُّم.
قبل أن يُمكِن أن تُصبح عقيدةً تتعلق بالفلسفة الطبيعية أو فرضيةً عاملة للعلوم الطبيعية، فإن فكرتنا القائلة بأن كل الحقيقة محكومةٌ بشبكة من الارتباطات السببية تمثِّل فعلًا إيمانيًّا، وهو فعلٌ إيماني من حيث قدرتنا على فهم كل الحقيقة بطريقةٍ تبقى مشتركةً مع تلك التجارب الأولية لتلمُّس طريقنا بعصا الأحاسيس في عالَمَنا المباشر. وكما يُكافَأ الرجل الأعمى بالوصول إلى وجهته إذا استنتج أفضل الاستدلالات من استعماله للعصا، يُكافأ العالِم بتوقُّع النتائجِ التجريبية إذا كان يعرف كيف يستفيدُ إلى أبعدِ الحدود مما تسمحُ له أدواتُه بافتراضه.
وكلما أوغلنا في التحرك مبتعدين عن نشاط الإرادة والتخيُّل المُوجه إلى العالم الإنساني الذي نبنيه، وبعدئذٍ مبتعدين حتى عن تلك الأجزاء من الطبيعة التي يُمكِننا أن نمسَّها مباشرة، معتمدين على الأدواتِ لتمديد مدى أحاسيسنا وعلى التجارب لتوسيعِ مجالِ اصطداماتنا مع الطبيعة، ازداد احتمال أن هذه المعرفة التي يُمكِننا اكتسابُها ستكون ملوَّثة بغلافٍ مجازي يتعذَّر استئصاله.
وعلى أي حال، فإن تلوُّثَ المعرفة هذا بفعل المجاز سيتم تعويضُه بفعل لامبالاة تمثِّل الجانب العكسي للاهتمام المستبطن لوجود البقية البراجماتية في أفكارنا حول أنفسنا. ومع ذلك فإن الأدلة والتجربة قد تدعَم التمثيلات، والتخمينات، والنظريات البديلة. وعلى أي حال، فإن اختيارنا من بينها سيتعرَّض لقدْرٍ أقلَّ من التشتيت بفعل مصلحتنا في جعل العالم — عالمنا — يسير بطريقةٍ ما بدلًا من أخرى. وربما كانت لدينا مثل هذا المصلحة بسبب تصوُّراتنا المسبقة — المنهجية، أو الميتافيزيقية أو اللاهوتية — لكنها ستكون أضعفَ وأقلَّ وضوحًا. سيتم تبسيط معايير النجاح؛ ومن ثَم سيكون من الملائم وجود تقارُب من نوعٍ لا يمكننا أن نتوقَّعه في معتقداتنا حول المجتمع والإنسانية (وحينئذٍ فقط، في معرضِ تمرُّدنا ضد الطبيعة المفكَّكة للمعرفة العلمية، ونحن نُصِر على البحث عن تفسيرٍ لكل شيء، وعلى اكتشاف ما يعنيه مثل هذا التفسير لموضعنا في العالم، ستظهر مشكلة البقية البراجماتية بصورةٍ أكثر حدَّة داخل العلم ذاته. وفي حين تصبح أكثَر شموليةً وأقلَّ ارتباطًا بالدليل والتجربة، تتوقَّف أفكارنا حول الطبيعة عن أن تكون قابلةً للانفصال عن مشاريعنا الخاصة بأنفسنا).
قد نُغرى بأن نسيء فهم نجاحنا المحدود والمتميِّز في التنبؤ العلمي والسيطرة التقنية كعلامةٍ على أننا نرى العالم كما هو عليه بالفعل، وقد نُحاوِل نسيانَ أننا نراه مسجونًا في منظور المخلوق الفاني وندَّعي رؤيته بعينَي الله. وبعد ذلك قد نبدأ في التعامل مع معرفتنا بالعالَم الإنساني باعتبارها معرفةً أكثر غموضًا، وأكثر إثارةً للجدل، من معرفتِنا المتدرِّجة، والتقارُبية، والأكثر موثوقيةً بالطبيعة والكون.
وفي مقابل هذه الهلوسة، يجب علينا أن نُنقِذ أنفسَنا بواسطة تواضُع يعمل كطرفٍ مقابل في أفكارنا حول الطبيعة والكون لتحطيم الأصنامِ الذي يجب أن يُلهِم معتقداتِنا حول المجتمع والثقافة.
تناقُض الزمن
ولنفترض، وعلى العكس من ذلك، أن الزمن حقيقي، ويمُر بجميع الخطوات وصولًا إلى التنظيم النهائي للطبيعة. حينئذٍ لا يُمكِننا أن نُصدِر أحكامًا سببية إلا بمعنًى مصحح ومحدود للغاية، ولن ينطويَ الكون على قوانينَ دائمةٍ لتنوير مثل هذه الأحكام. أما النظاميات شبه القانونية التي نبني عليها أوصافَنا السببية فلن تكون سوى أوصافٍ تقريبية ومؤقَّتة لبعضِ حالاتِ الكون، وستكون هذه الحالاتُ محدودةً زمنيًّا، حتى إذا كان الزمن طويلًا جدًّا. كان هناك زمنٌ لم تكن تنطبق فيه هذه القوانين، حتى بصورةٍ تقريبية، وسيأتي زمنٌ آخر لن تعود فيه صالحة.
وإذا ادَّعَينا أن ثمَّة قوانينَ عليا تحكُم تعاقُب دولِ العالم وقوانينِها العابرة، فنحن نستحضر وجود حقيقةٍ أخرى تسمو فوق الكونِ الحالي. نحن نتخيَّل أن هذه الحقيقةَ الأسمى هي نفسُها غير مبتلَعة في الزمن.
عندما نتقبَّل فكرة أن الزمن يمُر بالخطوات كافة، وأنه لا يُوجَد شيءٌ لا يغزوه الزمن ويدمره، فنحن لا نُصادر الحق في تزويد التفسيرات السببية بمعنًى معدَّل بصورةٍ متطرفة. نحن نُعمِّم بصورةٍ تناظريةٍ من حالاتٍ معيَّنة في الكون، والواقعة ضمن حدود الزمن، فنقول ما دامت بعضُ الملامح الحاسمة لهذه الحالات مستقرة، فستنطبق بعضُ النظاميات شبه القانونية. وعلى أي حال، نحن ندرك أنه، حتى ونحن نستحضر مثل هذه النظاميات لوضع أساس لتفسيراتنا السببية، قد تكونُ في سبيلها إلى أن تُلغَى.
إن أي نظامٍ اجتماعي واقتصادي، بمجرد أن يستقرَّ من خلال توقُّف النزاع على أسُسه المؤسَّساتية والأيديولوجية، يقدِّم علاقاتٍ منتظمة، وإذا سمَحنا لهذا النظام بالتطبُّع، وإذا تغاضَينا عن قُدرتنا على تحدِّيه وتغييره فقد نُغرى بأن نخلط على سبيل الخطأ بين روتيناته وبين القوانين العالمية والأبدية للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي. وعندما نُنكِر مثل هذا الارتباك، فلا يُمكِننا أن نفكِّر في تحوُّل أو تعاقُب النظم إلا بواسطة الاستدلال من سجل التجربة الماضية وبالتنويه النبوئي للفُرص التحوُّلية غير المدركة، وهذه أيضًا هي الخاصية التي يجب أن تميِّز تفكيرنا بشأن الطبيعة — ولو بقدْرٍ من الحميمية والثقة أقلَّ من التفكير بشأن الإنسانية — إذا كان الزمن يمُر بجميع الخطوات بالفعل.
ولذلك فإن وجهة نظرنا التقليدية للتسبيب ليس لها أي معنًى؛ لأن التسبيب إما أنه، مثل الزمن نفسه، مجرَّد وهم، وإما أنه — بسبب حقيقة الزمن — يفتقر إلى أساسٍ فيما وراء الزمن. أن نفكِّر سببيًّا، إذن، هو في أحسن الأحوال أن نفكِّر بواسطة سلسلة من الدوائر المتراكزة، أو التموُّجات المتوسِّعة، حول تجربتنا المباشرة؛ وبالتالي فإن الموقع المتوسِّط الذي يُوجَد فيه الزمن، ولكن ليس كثيرًا جدًّا — والذي هو فيه أكثر من وَهْم لكن أقل من سيد — هو مجرَّد أمنية. وهي أمنيةٌ للهروب من استبداد الزمن على الفكر، بالنظر إلى أننا لا نستطيع الهروب من استبداده على الحياة.
في العالم الإنساني، يُمكِننا — ونقوم بالفعل — حلُّ تناقُض الزمن باقتناص جانبه الثاني. يبيِّن تاريخ النظرية الاجتماعية أنه حتى في تفكيرنا بشأن المجتمع والذات، فنحن لا نصل بسهولة إلى هذا القَبول للخاصية التاريخية لوجودنا، وعلى الرغم من هذا فنحن نتوصَّل إليه في النهاية.
إن فهم فكرة التاريخ الطبيعي بالكامل، بتوسيع مجالها من تاريخ الحياة إلى تاريخ الكون، هو أن نُضعِف العوائقَ بين تفكيرِنا بشأن الطبيعة وتفكيرِنا بشأن أنفسنا؛ وهو تقريب الأول من ذلك الأخير؛ ومن ثَم رؤيته على أنه ذلك الشكلُ من المعرفة الأكثر نقصًا وإبهامًا الذي هو عليه بالفعل.
تناقُض الموضوعية
إذا فكَّرنا مليًّا في نتائج أفكارنا السببية حول العالم فسنجد أنفسَنا منقادين إلى استنتاج أن العالم — كما نراه ونُواجهُه — هو فقط ذلك العالم الذي ينقلُه إلينا جهازانا الإدراكي والعصبي، فهو وَهْمٌ داخلي يقدِّمه إلينا الدماغ والحواس. ولا نمتلك طريقةً لفهم علاقة هذا الوهم بالعالم وحده — أي العالم كما يراه الله ويعرفه. ليس فقط أننا ننظر من نقطةٍ خارجية إلى تخومٍ متزايدة الإظلام، بل إننا نجد أنفسنا أيضًا مسجونين في أجسادٍ ضعيفة وفانية، ومزوَّدين بأجهزةٍ إدراكيةٍ مبنية على مقياس سياق أفعالنا. يمكننا أن نمدِّد وصول هذه المعدَّات عن طريق الماكينات (أدوات الاستقصاء العلمي)، لكننا لا نستطيع القفز خارجين من أنفسنا.
ومع ذلك فمن خلال الفعل والمعيشة، نحن نعتنق هذا الوهم باعتباره مظهرًا يدل على واقعية العالم، نحن نعزو المقاومة التي نُصادِفها إلى أفعالنا باعتبارها فحصًا مستمرًّا للحقيقة؛ وبالتالي فإن التخوُّفات التي يُثيرها في عقولنا الشك في هذا الوَهْم تبدو لنا كما لو كانت هي نفسها أوهامًا، جلبَتْها علينا جهودٌ مُضللة للوصول إلى ما وراء أنفسنا، والمساواة بين الوصول إلى الحقيقة الموضوعية التحرُّر من شرط الوجود المتجسِّد. لا يُمكِننا أن نتخلى عن هذا التجاوز ولا أن نلتزم بتضميناته.
إن الخوفَ من الوهم مفروضٌ علينا بفعل تفكيرنا السببي بشأن الطريقة التي تُترجم فيها الحقيقة إلى تجربة الكائن المحدود، والمتجسِّد — أي كلٍّ منا. نحن نَصِف الظل الذي تطرحه الحقيقة على ذاتية الكائن الحي، وليس بوسعنا أن نُقارِن الظلالَ بالظلال؛ ولذلك فإن التفكير السببي نفسه قد يكون جزءًا من الوهم لسنا قادرين على الوثوق به كإظهارٍ للحقيقة.
سواء في الفعل أو المعيشة، علينا أن نعتمد على رسالة الأحاسيس، التي تُدبَّر وتُصحَّح من قِبل تجاربنا المفسرة. ومع ذلك، فإن الشك في الوهم يمثِّل حدثًا يقع ضمن هذا الفعل والمعيشة، وهو نتيجة للوعي، وليس هذَيانًا ميتافيزيقيًّا. ولأن وعينا يتضمَّن الاعتراف بحالتنا المتجسِّدة الشخصية، فذلك إدراك أننا لسنا الله. إن فكرة الموضوعية أو الحقيقة — الموضوعية المتوافرة للكائن المحدود والمتجسِّد — وليس الموضوعية المتوافرة لله — تبقى منقسمةً ضد نفسها.
قد تكون هذه الأشكال التَّوءَمية للعالَم الإنساني منفصلةً عنَّا، أو نحن عنها. وبرغم هذا، فكلٌّ منها يجيء منا ويعود إلينا؛ من وإلى النحن الجماعية، إن لم يكن إلى النحن الفردية. وفي مواجهتها، نحن لا نُواجِه حقيقةً خارجيةً محضة من الممكن أن ينطبق عليها تضادُّ الموضوعية.
نحن نعيش منعكسين كلٌّ منا في وعي وإدراك الآخر، فنكتشف ونطوِّر أنفسنا من خلال التلاقي مع الآخرين، ويبقى وعينا الذاتي خاويًا إلى أن يُملأ بذاكرة مثل هذه اللقاءات؛ وبالتالي فإن التَّذات مركزيُّ بالنسبة إلى الذاتية.
عادةً ما تمُر علاقاتُنا بهذه السياقات المؤسَّساتية والأيديولوجية المنظمة للحياة والفكر السويَّين بثلاث مراحل. في المرحلة الأولى، هناك انفجارٌ للصراع والاختراع، وهذه هي اللحظات التأسيسية في التاريخ، وازمنة إعادة التخيُّل وإعادة البناء، وهي مُعَدةٌ لنا كعلاماتٍ إرشادية، أو جدولِ أعمال، أو منظور لمستقبلٍ يستحق أن نمتلكَه ولأفضل طريقة للوصول إليه.
بَيْدَ أن هذه ليست لحظات من الثورة بالمعنى الحالِم الذي ساد في القرنِ التاسعَ عشر — أي الاستبدال العنيف، والمفاجئ، والشامل لكامل النمط المنظم للتفكير والمعيشة بنمطٍ آخر؛ فهي سلسلةٌ من أحداث الإصلاح الثوري، حيث يتم تغييرُ جزء من الإطار الراسخ للترتيبات والأفكار. وهذا التغيير، على أي حال، يكفي لأن يتطلب إعادةَ ترتيبِ كل الأجزاء التي لم تتغيَّر.
وفي المرحلة الثالثة، تنحسر اللحظة الأساسية بعيدًا جدًّا عن التجربة الحالية من أجل مواجهتها بوضوح وسلطة؛ فلم يعُد بوسعها التحدث بصورةٍ مؤثِّرة حتى من خلال مركبة العقائد التي تُعيد الموتى إلى الحياة؛ ولذلك يتشاحن الناس، من دون توجيه، أو أنهم ينتظرون أزمةً جماعيةً أخرى يُمكِن أن تُنقِذَهم من الصَّغار والالتباس.
وعلى سبيل المقارنة، يُشير هذا البيان عن أصل البِنَى إلى معنَى ومدَى تمكُّننا من احتواء العبء الذي يفرضُه تناقُض الموضوعية على معرفتنا بالعالَم الطبيعي. ومع انتعاش مذاهب الأيديولوجيين، في مرحلة التبريد، فإن تألُّق جدول الأعمال المُعتِم للحياة الاجتماعية والثقافية، وكذلك الممارَسات والأدوات، والأفكار التجريبية للعلوم الطبيعية يسمَح لنا بأن نحملَ إلى معرفتنا بالطبيعة قليلًا من المباشرية والحميمية المتعلِّقة بمعرفتنا بالإنسانية.
ولأن الخاصية المميزة للعلم التجريبي تتمثَّل في دمج الأدوات والأفكار بطرقٍ تسمَح لنا بتوسيع مَسْرَح الفهم والفعل الذي نُواجِه فيه العالم، فإن التجربة هي تدخُّل في تطافُرات الطبيعة لاكتشاف كيفية عمل الأشياء باكتشافِ ما تتحوَّل إليه تحت ظروفٍ مختلفةٍ من الضغط، لكننا نحن الذين نتدخَّل. أما الفكرة التجريبية فهي الامتداد التأملي لمثل هذا التدخُّل العملي، وعن طريقِ مزاوجةِ التجربة بالتخمين، نحن نضع أنفسنا في نسخةٍ مخفَّفة من ظروف الخالق، فنحنُ نُعيد صُنع الطبيعة أو نتخيل أنها أُعيد صُنعها، وبهذه الوسيلة فنحن نحرِّر أنفسنا، ولو جزئيًّا وتجريبيًّا، من الشك في معتقداتنا، ونعيش مرةً أخرى، غير خائفين، في ضَوء ما هو حقيقي.