حقيقة الزمن: تحوُّل التحوُّل
الزمن حقيقي
ليست هناك حقيقةٌ أكثر أهميةً لأن نُقرَّ بها إذا أردنا أن نفهَم أنفسَنا ومكانَنا في العالَم.
وعلى أي حال، ليست الفلسفة الدائمة وحدها هي التي تقاوم الإقرار بحقيقة الزمن؛ فالعلاقات المنطقية أو الرياضية بين الافتراضات، حتى عندما تُشير إلى الأحداث التي يبدو أنها تقَع ضمن الزمن، تبدو هي نفسها سرمدية؛ وبالتالي، فبعد أن نخلِّص أنفسَنا من تأثير الفلسفة الدائمة، فقد نستمرُّ في اكتشاف مؤامرة ضد الإقرار بحقيقة الزمن، والمترسِّخة في الحصن الداخلي لحياتنا العقلية.
ولا تقتصر تضميناتُ هذا الانقسام في تجربتِنا على استنتاجاتنا المنطقية والرياضية؛ فهي تمتد أيضًا إلى ممارساتنا المتعلقة بالتفسير السبَبي. ومن هذه الحقيقة ينشأ ما أسميتُه تناقُض الزمن في موضعٍ سابق، فإذا كان الزمن يمُر بجميع المراحل، فليست هناك قوانينُ سرمدية للطبيعة؛ فكلُّ قانونٍ له تاريخ، وكلٌّ منها يتغيَّر. وبعد ذلك، على أي حال، تُتركُ أحكامنا السببية غير مستقرة وغير آمنة لأنه ليست هناك قوانينُ دائمة تؤمِّن عليها.
وعلى أي حال، إذا كان الزمن غير واقعي، فلا شيء في حالتنا سيكون ما يبدو أنه عليه؛ لأن كل مَظهَر في حياتِنا منقوع في الزمن. إن القوة، والاحتمال، والمستقبلية، والتجريبية لن يكون لها أي معنًى كملامحَ رئيسيةٍ لتجربتنا، أما حياتُنا فستكون أنفاقًا من الوهم لا يُمكِننا أن نهربَ منها، كما تُوصي به الفلسفة الدائمة، إلا بواسطة الارتباط بحقيقةٍ سرمديةٍ خفية.
وعلى أي حال، فإذا كان لمقاومة الاعتراف الكامل بحقيقة الزمن مَوطِئ قدَم في طبيعة تفكيرنا، أو في استنتاجاتِنا المنطقية والرياضية على الأقل، وليس في مجرَّد تقليدٍ فلسفي نمتلكُ مطلَق الحرية في إنكاره، فسنجد تجربتَنا منقسمةً ضدَّ نفسها. كيف يُمكِننا أن نفهَم هذا الانقسام وأن نُسيطِر عليه؟ إن تأكيدَ حقيقةِ الزمن وإدراك ما ينطوي عليه هذا التأكيد هو أن نجدَ نقطةَ بدايةٍ أخرى لتطوير بديلٍ للفلسفة الدائمة، ومثل هذا البديل يصحِّح صورة الذات الحقيقية، التي تُكافِح حول المستقبل في عالمٍ حقيقي، عالمٍ زمني، والذي لا تُسيطر عليه وبالكاد تفهمه. سأقوم هنا، في صورة خَمسِ فرضيات، بتطوير وجهة نظرٍ حولَ حقيقةِ الزمن وعواقبِ هذه الحقيقة بالنسبة إلينا.
فرضية كون الزمن تحوُّلًا للتحوُّل
وإذا كان الزمن مقارنةً بين ما يتغيَّر وما لا يتغيَّر، فهو أيضًا تحوُّل التحوُّل. وإذا كان التغير موحَّدًا — في السرعة، في النطاق، في الاتجاه، وفي النتائج المنظورة — فلن يكون تغيُّرًا. وليس بوسعنا أن نعيِّن زمنَ سلسلةٍ من التغيُّرات فيما يتعلق بسلسلةٍ أخرى. إن الزمن غير موجود، أو إنه موجودٌ بمعنى مُضمَحِل للغاية.
بالنسبة إلى مثل هذا العقل في مثل هذا العالم، فإن الاختلاف بين السلسلة السببية للأحداث وبين العلاقات الرياضية أو المنطقية بين المفاهيم تنكمش؛ فعلاقة النتائج بأسبابها في فَهمنا للطبيعة ستُشبه كثيرًا علاقةَ الاستنتاجات بالافتراضات في التفكير المنطقي والرياضي. ووفقًا لبعضِ تفسيراتِ هذه الظروف، من الممكِن أن يُقال إن الزمن موجود، لكنه موجودٌ بالكاد فقط، وعلى أي حال، فذلك العالَم ليس هو العالَم الحقيقي، وذلك العقل ليس هو عقلنا.
وعندما نُحاذِر من سوء فهم الزمن كشيءٍ أكثر قوةً أو أكثر أساسيةً من المكان، يُمكِننا أن نعرِّف بدقةٍ أكثر معنى فكرة أن الزمن يمُر بجميع المراحل. وهي ببساطة كالتالي: أنه لا يُوجَد شيء لا يتغيَّر، بما في ذلك تنظيم الارتباط، الذي هو المكان، وبما في ذلك التغيُّر ذاته وأي قوانينَ قد تحكُمه. قد تبدو هذه الفكرة في بادئ الأمر رائعةً للغاية. وعند أخذ الأمر على محمَل الجِد، على أي حال، يتضح أنها تتطلَّب التمرُّد ضد بعض أكثر فرضياتِنا رسوخًا حول العلم وحول أنفسنا.
من الممكن للتغيُّر أن يُلغيَ نفسه، وحينئذٍ قد يتوقف العالم لفترة — إذ يتم تعليق الزمن — لكن ذلك يتم فقط إلى أن يتغيَّر ثانيةً إلى عالمٍ متغيِّر. وفي مثل هذا العالم، لن تكون هناك حياة وبالتالي لا عقل. إن ثباته، بالإضافة إلى كونه مؤقتًا، سيكون مجهولًا.
إن رفض مشروع مثل الأنطولوجيا السرمدية هذه يعني إنكارَ أن هناك شيئًا ما — الأنواع الأساسية أو الأنواع الطبيعية من الوجود — يُفلِت من الزمن. لكن لا، لا شيء يُفلِت من الزمن، كما ترى الفرضية التالية؛ فلا شيء ثابت؛ وبالتالي فهو سرمدي، وذلك هو المعنى الذي يمُر فيه الزمن بجميعِ المراحل.
تُظهِر هذه التأمُّلات أن تأكيدَ حقيقةِ الزمن يتخذ قضيةً مشتركة مع تأكيد حقيقة العالم، أنَّ حقيقةَ الزمن وحقيقةَ العالم — وخواصَّه المتعلقة بالتعدُّد والارتباط — هما وجهان للحقيقة نفسها.
عند التفكير بشأن الزمن، فمن المحتَّم أن نخلط بين الزمنِ كتجربةٍ من التعاقُب نحو الموت في حياتنا المحدودة في وجود الزمن كخاصيةٍ موضوعيةٍ للحقيقة، قد تبدو وجهةُ النظر القائلة بالزمن بوصفِه تحوُّلًا للتحوُّل مضلِّلة لأنها قد تبدو غَيرَ مرتبطةٍ بما يعنيه الزمن بالنسبة إلينا. وعلى أي حال، فلا يُمكِننا أن نفهم تجربتَنا المنقوعة في الزمن، ونُبرِّئ منظور الذات ومكانها في العالم الذي لخَّصْناه في الصفحات السابقة، إلا إذا تعامَلْنا مع الاستعلام عن الزمن كاستعلامٍ عن العالم بالإضافة إلى الاستعلام عنَّا، فإذا لم يكن الجنس البشري موجودًا، لكان الزمن سيُوجَد على الرغم من هذا.
إن الإصرار الصحي على فهم الزمن كصفةٍ للحقيقة بدلًا من مجرَّد اعتباره خاصيةً لتجربتنا يمهِّد السبيل للتعقيد والالتباس، علينا أن نُدرِك الصلة بين الزمن كجزءٍ من الحقيقة الخارجية والزمن كجزءٍ من التجربة الداخلية.
فرضية كون الزمن يفرِض سلطانَه على كل شيء
كل شيء يتغيَّر عاجلًا أم آجلًا. ويعني هذا المُقترَح أن قوانينَ الطبيعة تتغيَّر بدَورِها.
هناك بضعُ ملاحَظاتٍ حول تاريخ العلم الحديث تساعد في توضيح محتوَى ومدَى وصول هذه الفرضية. أسقطَت فيزياءُ القرن العشرين التفريقَ بين ظواهرِ العالم الطبيعي وبين الخلفية الثابتة من المكان والزمان التي تقَع أمامَها هذه الظواهر، لقد أصبحَت الخلفية جزءًا من الظواهر. وعلى أي حال، ففي معرَض تقويضِها لهذا التفريق، أيَّدَت فيزياءُ القرن الماضي، على الرغم من هذا، المقارَنة بين خلفيةٍ لا تتغيَّر من القوانين الطبيعية وعالمٍ ماديٍّ متغيِّر، ولكي تصمُد فرضية أن كل شيءٍ يتغيَّر عاجلًا أم آجلًا، فما فعلَه الفكر لخلفية المكان والزمان يجب الآن أن يفعلَه لخلفية القوانين السرمدية. ويجب أن تكون الحال هي أن القوانين نفسها تتغيَّر وأنها تتغيَّر بطريقةٍ ما، مع الظواهر التي تحكُمها.
هذه الفكرة محيِّرة، لكنها ليست منافيةً للعقل، ويظهر لنا كونها ليست منافيةً للعقل في أننا تعلَّمنا أن نفكِّر بهذه الطريقة حول التاريخ (في النظرية الاجتماعية) وحتى حول الحياة (في علم الأحياء). لنتدبَّر إحدى الحركات الأساسية التي قامت بها النظرياتُ الاجتماعية الكلاسيكية للقرنِ التاسعَ عشر؛ محاولة وضع تفسيرٍ جديد لقوانينِ ضَربٍ معيَّن من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، والذي كان يُنظَر إليه بشكلٍ خاطئ كقوانينَ كونيةٍ للمجتمع والاقتصاد. وهكذا، هاجَم ماركس علماءَ الاقتصاد السياسي الإنجليز لكونهم مثَّلوا كقوانينَ كونية وخالدة في الاقتصاد ما كان في الحقيقة قوانينَ الرأسمالية.
والآن، صحيحٌ أنه في نظرية ماركس الاجتماعية هناك قوانينُ عُليا يُفتَرض أنها تحكُم تعاقُب الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية؛ وبالتالي فهي تحكُم أيضًا تعاقُب القوانينِ الخاصة التي تنطبق على كلٍّ من هذه الأنظمة. وعلى أي حال، فتلك الفكرة المتعلقة بالقوانين العُليا هي الجزء الأول من نظرية ماركس الاجتماعية، والتي تخلَّى عنها خلفاؤه المعاصرون. إن الماركسي المُعاقَب الذي تخلى عن الإيمان بالقوانين العُليا لكنه يتشبَّث بفكرة أن الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية المختلفة تمتلك قوانينَها المتميِّزة للعمل والتحوُّل، يُوجَد بالتحديد في الظروف الثقافية التي قد نُغرى بأن نعتبرَها بلا معنًى، في حين أنها في الحقيقة مجرَّد إرباك.
تستحق هذه النقطة أن تُعمَّم؛ فلقد تطوَّر تاريخ العلم الحديث بحيث يُلهم إجحافًا قويًّا، ولقد أتت ميكانيكا نيوتن والتقدير الكمي لغاليليو أولًا، وزوَّدا نموذجًا للفكر الأكثر طموحًا وصرامة، وأصبح يُنظر إلى البيولوجيا والتاريخ الطبيعي باعتبارهما فيزياء ضعيفة، وإلى علم الاجتماع باعتباره بيولوجيا ضعيفة. يُساعِدنا هذا التاريخُ المشروط للأفكار على تفسير السهولة التي نعتنق بها — باعتبارها بارزة وحتى كونية — وجهة النظر المتعلِّقة بحكم القوانين السرمدية التي ظلَّت في الحقيقة مجرَّد عقيدةٍ متعلقة بأحد أساليب التفكير العلمي.
دعونا لا نستبدل مسلَّمة بأخرى؛ فكرة البيولوجيا كفيزياء ضعيفة والتاريخ كبيولوجيا ضعيفة بوجهة النظر المعارضة للفيزياء كبيولوجيا غير ناضجة والبيولوجيا كتاريخٍ خام. أما مواقفنا من العلاقة بين الظواهر وقوانينها المتعلِّقة بالتوالُد أو التحوُّل، وبين كلٍّ منهما وبين الزمن، فيجب أن تبقى — إلى أقصى حدٍّ ممكن — غير متأثرة بالتاريخ العَرَضي للفِكر، وعند التخلُّص من ظل هذا التاريخ، سنكون قادرين على أن نتدبَّر من دون تحيُّز فكرةَ أن قوانينَ الطبيعة لها تاريخ.
إن القول بأن القوانين لها تاريخٌ يعني القول بأنها تتطور جنبًا إلى جنبٍ مع الظواهر التي تحكُمها، ولا يُمكِننا وضعُها فوق الزمن؛ فهي أدنى بكثير، في قلب الأحداث. تؤمِّن القوانين على الارتباطات السببية، كما أن طبيعة هذه الارتباطات، بالإضافة إلى محتواها المحدَّد، تتغيَّر مع التغيُّر الحادث في القوانين. إن التغيُّر البعيد المدى والمستديم بما فيه الكفاية لن يَكتفيَ باستبدالِ سببٍ بآخر؛ ولكن سيعمل على تبديل الطريقة والمعنى الذي يُحدِث به سببٌ ما أثَرَه.
ولأن كل شيء في العالم يتغيَّر عاجلًا أم آجلًا، بما في ذلك القوانين الحاكمة للتغيير، فإن طبيعةَ وضرورةَ الاحتمال أيضًا تكون معرَّضةً للمُراجَعة. ونحن معتادون على فكرة أنَّ ما نعنيه بضرورة العلاقات الأكثر إلحاحًا يتفاوت وفقًا لوجهات نظرنا حول كيفية عمل الطبيعة. ومن بين وجهات النظر هذه، تكتسب معتقداتُنا حول تاريخ الكون أهميةً خاصَّة. وعلى أي حال، فليس فهمُنا لضرورة العلاقات الأكثر إلحاحًا هو وحده ما يتغيَّر وفقًا لأفكارنا حول طرق عمل الطبيعة؛ فطبيعة هذه الضرورة للعلاقات الأكثر إلحاحًا تتغيَّر أيضًا وفقًا لتغيُّرات الطريقة التي يعمل بها العالَم في الحقيقة.
إن الحركة من مجموعة من القوانين والظواهر إلى أخرى ليست من دون سببٍ ولا أعجوبية، وذلك ببساطة لأنه لا تُوجَد مجموعةٌ أعلى وأبديَّة من القوانين تقفُ فوقها، وتتحكَّم — بشكلٍ نهائي — في اتجاهها. وعلى أي حال، إذا كان الزمن يمُر بجميع المراحل، تَستَن الطبيعة لنفسِها القوانينَ في أثناء مرورها هذا؛ ومن ثَم فإن سِمات كل ارتباطٍ سببي، والذي يؤدِّي في نقطةٍ ما من الزمن، تتغيَّر وفقًا لذلك.
وإذا كان تغيُّر القوانين لا يحدُث بالمصادفة، وإذا لم يكن أعجوبيًّا، فهل هو غير مسبَّب؟ وإذا كان مُسَبَّبًا، فهل يجب ألا يكونَ سببه ما حدث من قبلُ؟ إن العقل النافذ والمُحتوِي بما فيه الكفاية سيتوقَّع، إضافةً إلى تحوُّل الظواهر، تحوُّل القوانين؛ ولكنا سنُنقِذ شيئًا من فكرة القوانين السرمدية؛ فالزمن، إن لم يهزم، فسيُحتوى على الأقل.
وعلى أي حال، فهذه الصورة تعرض منظورًا فقيرًا للغاية للطبيعة. وقد تتطوَّر الطبيعة بطريقة تسمح بأن تظهر بنيةٌ ما، بالمصادفة في البداية، ضمن الحدود الموضوعة من قِبل الحقيقة الموجودة مسبقًا، والتي تسمح بعد ذلك بوجود أشكالٍ من التحوُّل الذاتي الذي لا يُمكِن اختزالُه إلى المقابلاتِ البسيطة للضرورة والمصادَفة.
كان هذا الحدث في تاريخ العالم هو ظهور الحياة، وإذا حدث بهذا الشكل، الذي هو قريبٌ منَّا ومن مخاوفنا، فمَن يقول إنه لم يحدُث، ولن يحدُث ثانية، في صورٍ سنكون غير قادرين الآن على توقُّعها أو حتى وَصْفها؟
تتسم هذه الأفكار حول اشتمالية الزمن باتساقها، فمَظهرُها المتناقض يختفي بمجرَّد أن نتخلى عن أوجُه الإجحاف التي تُوحي بها إلينا الطريقة التي اتفق وتطوَّر بها العلم الحديث. لكن هل هذه الأفكار حقيقية؟ إنها على الأقل متوافقةٌ مع تبصُّرنا الحالي بالطبيعة بنفس درجة المعتقَدات التي تقيِّد متناول الزمن وتؤسِّس مكانًا للقوانين السرمدية. لدينا سببٌ لتفضيلها، ومن خلال تفضيلها، لأن نتصرَّف على أساسها؛ فهي تصف عالمًا أقلَّ غرابةً عنَّا مما يُمكن للعالم أن يكون فيما عدا ذلك — وهو عالَمٌ منقوع في الزمن مثلنا، نحن المرتبطين بالموت. وبالإضافة إلى ذلك، فبرغم أننا لا نستطيعُ إخضاعَ هذه الأفكار مباشرةً للاختبار التجريبي، فبوسعها تنويرُ جداولِ أعمالِ التفكير العلمي التي يُمكِن أن تكون خاضعةً لمثل هذا الاستقصاء. للسببِ نفسه، يُمكِنها أن تُساعدَ على إحداث تخميناتٍ خصوصية في علومٍ بعينها.
أما وظيفتُها من حيث هي جزءٌ من المُعدَّات التي نقيسُ بها العالم، فقد تمنحُها بعضَ الاستثناء من السؤال المُلِح حول: لماذا يكون لكلٍّ منها قيمةٌ ما، وليس أخرى؟
إن ما يبدو أنه ناقصُ التحديد قد يُنسَب إلى الاحتمال؛ أي دحرجة النَّرد الكوني. وهو حلٌّ يصبح أقلَّ مقبوليةً على نحوٍ متزايد خلال قيامنا بتوسيعِ مجالِ البحث التفسيري الذي نتوقَّع منه تنفيذه، من الممكِن أن تكونَ لهذا الحل قوةٌ لا تُنكَر في المساعدة على تفسيرِ أحداثٍ طبيعيةٍ وبيولوجيةٍ معيَّنة. وعلى أي حال، فعند توسيع نطاقه إلى فرضيةٍ كوزمولوجيةٍ قادرة على توضيح القيمة غير المفسرة للبارامترات الاعتباطية ظاهريًّا، سيكون ناقصًا لدرجة كونه غير ذي جَدْوى، إنه نصف بدلًا من كلِّ الإجابة؛ وبالتالي فليس له سوى معنًى ضئيلٍ من دون النصف المفقود.
تتمثَّل إحدى المقاربتَين في دفع قوانين الطبيعة عدةَ مستوياتٍ إلى الأعلى، بمنحها دَورَ التحكُّم فيما هو مشتركٌ بين العوالِم المحتمَلة غير المحدَّدة العدد، بدلًا من التحكُّم فيما هو خاصٌّ بالعالم الفعلي الذي نجد فيه أنفسَنا، وحينئذٍ ستكون علاقتُها بالظواهر غير المفسرة مثل العلاقة بين القيود والنظاميَّات الكيميائية الحيوية الأساسية وبين التفاصيل العَرَضية للتاريخ الطبيعي.
أما النتيجة فهي سَلب العالم مما يجب، بالنسبة إلى العلم وكذلك للفن، أن تكون خاصيَّته الأكثر أهميةً أنه في كل خصوصيَّته الحاضرة، والماضية، والمستقبلية فهو الموجود، أو كان، أو سيكون موجودًا، بالنظر إلى تاريخه الحاسم تمامًا. إن العالم الحقيقي هو ما هو عليه، وليس شيئًا آخر. وكلما زاد وضوحُ اعترافِنا بهذه الخاصيَّة، ازداد عمقُ الهاوية التي تفصل، فيما يتعلق بأفكارنا حول العالَم، بين الوجود وغير الوجود. بَيْدَ أن العوالِم المحتمَلة للمجاز المرفوض تزوِّد فئةً ثالثة بين الوجود وغير الوجود، وتجعَل المقارنة بينهما مطلقةً بدرجةٍ أقل.
عند المضاهاة مع القانون العُرفي في التاريخ الإنساني، فإن بعض التغيُّر الطبيعي يكون محكومًا بالقانون، وبعضُه مغيِّر للقانون. وعند القياس بطريقةِ تفكيرٍ جيدةٍ الرسوخ في بعضِ تقاليدِ النظريةِ الاجتماعية، على رغم كونها مألوفةً بدرجةٍ أقلَّ في العلوم الطبيعية، قد ينتُج تغيُّرٌ متقطِّع، عند نقاطِ تكسُّر مثل هذا التغيُّر، في القوانين المتغيِّرة.
تهدف حُجَّة هذا الكتاب إلى اقتراحِ أساسٍ يُمكِننا من خلاله التعامُل مع حقيقة الزمن، في كل تفكيرنا وأفعالنا، بما في ذلك ممارستنا العلمية. ولدينا مصلحةٌ في تعميمِ مثلِ وجهةِ النظر هذه؛ فمن بينِ نتائجِ مثل هذا التعميم تلطيفُ غرابة الطبيعة عن مخاوفِنا وتجربتِنا الإنسانية. إن العالَم مفتوح، مثلنا؛ لأنه — مثلنا — لا يمتلك أيَّ خاصيةٍ لا يُمكِن للزمن تغييرُها.
فرضية عدم وجود أفقٍ مغلَق للعوالِم المحتمَلة
ليس هناك أفقٌ مغلَق للعوالِم المحتمَلة، ولا للطُّرق المحتمَلة لسيرِ الأمور، والتي يُمكِننا ضمنَها أن نضَع بثقة العالَم الفعلي أو الطريقة الحاليَّة لسَير الأمور، إن الطرقَ المحتمَلة لسَير الأمور ليست سابقةً سرمديةً للطرق الفعلية لسَير الأمور؛ فهي مجرَّد ظلٍّ باهتٍ يُحيطُ بما هو فعلي.
إن المعنى اللاشخصي لما هو مُحتمَل هو ما يُمكِن أن يحدُث لاحقًا، بموجبِ القوانينِ التي تحكُم الطبيعةَ الآن، ولكن أيضًا بموجبِ الطريقةِ التي قد تتسبَّب فيها التحوُّلات المحكومة بهذه القوانينِ في حدوثِ تغيُّراتٍ في القوانينِ ذاتِها، سواء بصورةٍ مباشرةٍ بجعلها تحدُث أو السماح لها بأن تحدُث. وهذا المعنى اللاشخصي لما هو مُحتمَل أقلُّ وضوحًا بكثيرٍ من المعنى البشَري التمركُز.
وهو أقلُّ وضوحًا لأننا عاجزون عن النظَر فيما وراءَ حجابِ الزمن، إلى أي بداية أو نهاية، وعن تتبُّع حدودِ أو منطقِ هذا التحوُّل الذاتي للقوانين الذي يحدُث بالإضافة إلى تحوُّل الظواهر.
وطبقًا لوجهة النظر هذه، لا تحدُث استحالاتُ الحقيقة ضمنَ فضاءٍ مُبهَم الترتيب، وهو أفقٌ يطوِّق الطرقَ المحتمَلة لسَير الأمور. ويمثِّل ذلك جزءًا مما يعنيه كونُ الزمن حقيقيًّا وكونُه يمُر بجميع المراحل. وهو طريقةٌ أخرى لإنكار الفِكرة الشبَحية للاحتمال؛ فكرة ما هو محتمَل كشبَحٍ يطارد العالم وينتظر تلميحًا ليخطُو إلى مسرح الواقع. وهو وسيلةٌ أخرى لتأكيد أنه يُمكِن لشيءٍ ما أن يكون جديدًا بحق، وأن الجديد ليس مجرَّد تجسُّد للمحتمَل الشبَحي.
إذا كان هناك أفقٌ مغلَق للعوالِم المحتمَلة، فستحدُث التغيُّراتُ وفقًا لنموذجٍ بسيط لاتباع القواعد، والذي يميِّز بشكلٍ واضح بين القواعد والأفعال المندرجة تحت القواعد، وستكون القواعدُ هنا هي القوانين الثابتة للطبيعة، وستكون الأفعالُ المُندرِجة تحت القواعد هي الظواهر التي تحكُمها القوانين.
ولأنه لا يُوجَد هناك مثل هذا الأفُق المغلَق، يحدُث التغيير وفقًا لنموذجٍ أكثَر لوذعية، مثل القانون العُرفي بدلًا من القانونِ النظامي. وتحت هذا النموذجِ من القانون العُرفي، لا يُوجَد اختلافٌ واضح بين القواعد والسلوك الذي تنطبق عليه، يدخل كُل فعلٍ جديد إلى المادة التي تحدِّد في الوقت نفسه ما القواعدُ التي إما تتوافَق معها أو تتحدَّى ما كانت تُفهَم على أنها عليه، في حالتها الموجودة سلفًا. ويعملُ التغييرُ على تغيير التغيير، وهو يعملُ ذلك إما بشكلٍ مستمر أو بشكلٍ متقطِّع؛ أي بطرقٍ هي نفسها عُرضة للتغيير.
لفهم شيءٍ ما، علينا أن نتخيَّله ليس فقط باعتباره غائبًا بل ومتحولًا أيضًا. إن وجهة النظر المتعلقة بكيفَ تتصرَّف ظاهرةٌ ما — أو ما ستُصبِحه — تحت الظروف المختلفة هو ما يَعْنيه فهمُها؛ وبالتالي فإن الحَدْس السببي المتعلق بالواقع المضاد لا غنى عنه بالنسبة إلى تعميق التبصُّر بالعالم. وهو، على أي حال، ملوَّث بفعلِ عيبٍ ما، ولا يُمكِننا أن نمحُوَ هذا العيب؛ فهو متجذِّر في شروط فهمنا، وليس بوُسعِنا سوى أن نكشفَه، وبكشفِه نحتوي مخاطره.
إن فهم الشيء يعني أن نتخيَّل أنه تغير، أن نرى كيف ومتى قد يتغيَّر، وإلى ماذا. وعلى أي حال، فكل تغيُّر مثل هذا قد يؤدي إلى تغيُّر في الطرق التي تؤثِّر بها الأشياء بعضها على بعض؛ فقد يغيِّر القوانين. إن المغالَطة الشائعة للتحليل المتعلق بالواقع المضاد المتأصل في التفسير السببي هو أن نفترض أننا عندما نغيِّر — أو نتخيل أننا نغيِّر — جزءًا من العالم، فكل شيءٍ في العالم المتغير يستمرُّ في الاشتغال وفقًا للقواعدِ نفسِها كما في السابق. وذلك كأنَّنا قمنا بتعليقِ واستبدالِ جزءٍ من الواقع لكنَّنا قمنا بدعمِ كاملِ النظام الذي يعمل بموجبه ذلك الواقع. وفي الحقيقة، لا يُمكِن دعم النظام.
ولمعرفة كيف تغيَّر النظام من دون ريب، يجب أن تكونَ هناك قواعدُ عُليا تحكُم تغيُّر النظام، وهكذا إلى الأبد، في ارتدادٍ لا نهائي. وعلى أي حال، إذا كان الزمن حقيقيًّا بصورةٍ جَذْرية، فليس هناك مثل هذه القواعد العُليا، أو أنها تتوقَّف عن الانطباق عند نقطةٍ ما. يفشَل النظام في الإغلاق عند القمة أو من الخارج؛ ولذلك فهو، على وجه التحديد، ليس بنظامٍ مطلَق، لكن سياق التحقيق لا يتوقَّف حينئذٍ، بل إنه يستَمِر، ولو على أُسسٍ أكثر إبهامًا وزعزعة.
وهنا نواجه للمرة الثانية السِّمةَ المتناقضةَ للتفكير السببي الذي يتعيَّن علينا أن نعتمد عليه لتشكيل صورةٍ للعالم. إن الفكرةَ الشبَحية الشائعة للاحتمال، التي نحتكِم إليها بانتظامٍ في سياق تفكيرنا، تُراوِغ الزمن، وإذا كان الزمن زائفًا، فستحدُث كلُّ الظواهر أو الأحداث في الوقت نفسِه؛ ولذلك فإن التسبيب والتفسير السببي سيُعتبران مجرَّد خيالاتٍ أو أوهام. إن فكرة الأفُق المغلَق للطرق المحتمَلة لسَير الأمور، والفكرة الشبَحية للاحتمال (طرق سير الأمور بينما تُطارِد الأشباح العالم، في انتظار النداء لكي تُصبح حقيقية)، التي هي وثيقة الصلة به، تُمثِّل محاولاتٍ للاعتراف بأن الزمنَ حقيقي، ولكن بالكاد فقط سيَشهَد العالم تحوُّلًا، لكن ليس تحوُّل التحوُّل، على الأقل في أدني المستويات، سيفشَل الزمنُ في المرور بجميع المراحل.
وعلى أي حال، فهذا المبدأ الميتافيزيقي، برغم أنَّه قد يقدِّم حلًّا لفكرتنا الملتبسة للسببية، يبدو دائمًا أقلَّ توافُقًا مع ما نكتشفه، على الرغم من التباساتنا السببية، حول الطبيعة. وكما سنرى قريبًا، فهو يُناقِض الملامح الأكثر تميُّزًا وبروزًا لتجربتنا الدنيوية، حتى إنه يُهدِّد بالمساعدة على نزعِ سلاحِنا في جهودِنا لصنع عالمٍ لأنفسنا في مواجهة الطبيعة اللامبالية.
وعلى أي حال، فإن التعامل مع الزمن على أنه حقيقيٌّ بالكامل، برفضِ الفكرة الشبَحية للاحتمال وفكرة الأفُق المغلَق للطرق المحتملة لسَير الأمور، يعني الإقرار بعدمِ وجودِ قوانينَ سرمديةٍ تدعَم تفسيراتنا السببية، وهو الإقرار بأن الافتراضاتِ المتعلقةَ بالواقع المضاد التي يجب أن تعمل به مثلُ هذه التفسيراتِ تحرمُنا من أي أرضٍ لن تهتَز. وهو أن التأكيد على أنَّ المشروع المتعلق بوجود نظريةٍ سببيةٍ موحدة لكل شيءٍ مضلِّل من حيث المبدأ. وهو الاستنتاج بأنَّنا، برغم أننا قد نُسيطِر على التباساتِ وجهةِ نظرِنا العادية للسببية وممارساتنا المألوفة للتفسير السببي، لا يُمكِننا تبديدُ تلك الالتباسات مطلقًا.
علينا أن نعزُوَ هذه الالتباساتِ إلى توتُّرٍ محتوم بين حقيقة الزمن — الذي هو أكثر حقيقيةً مما نرغب في الاعتراف به — وبين فكرة الارتباط والاستدلال التي يقودُنا إليها عدوٌّ فِطري للزمن هو تفكيرنا الرياضي والمنطقي.
فرضية كون الرياضيات تُقاوِم الاعترافَ بالزمن
إن الرياضيات — وكل جوانب تفكيرنا التي تشترك في طبيعتها — تقترح علينا بشكلٍ دائم مفهوم وجودَ عالَم من دون زمن. وإن العلاقات بين أفكارنا الرياضية سرمدية، حتى عندما نستخدم مثل هذه الأفكار لتمثيل أحداثٍ تقع في إطار الزمن.
إن تطوير الأفكار الملخَّص في الفرضيات المتعلقة بحقيقة الزمن، وشمولية الزمن، وعدم وجود أفقٍ سرمدي ومغلَق للاحتمالات المتعلقة بالعالَم الفعلي يواجه مصدرًا للمقاومة في التعبير الأكثر عمقًا والأشد قوةً للعقل؛ استدلالاتنا الرياضية. إن فهم كيفَ ولماذا نُواجِه هذه المقاوَمة من داخل العقل للاعتراف بحقيقة الزمن يعني اكتشافَ ما هو مهدَّد بالضياع في إثبات تلك الحقيقة.
ربما تطوَّرَت لدينا القدرة على التفكيرِ بشأنِ الكُليات وحُزَم العلاقات المنظَّمة بصورةٍ أفضَل من أجلِ حلِّ المشكلاتِ في ظلِّ حاجةٍ إلى التصرُّف في حالاتٍ معيَّنة من الخطَر أو الفُرصة. وعلى أي حال، فحتى إذا بقيَت هذه المهمَّة الأصلية سامية، فبُوسعنا أن نخدمَها بأفضلِ صورةٍ عن طريق تعميم المَلَكة التي أفرزَتها فيما وراء أيِّ ظرفٍ بعَينه، وفيما بعد أيِّ مجموعةٍ محدَّدة من مثل هذه الظروف. إن إحراز المحتوى بالتخلُّص من المُحْتوى هو ذلك الطموح المُتناقِض الذي يُبقي على هذه الخاصية الرابعة، والحاسمة، للرياضيات.
إن التواتُر الذي أُلهم به فرعُ الرياضيات بمحاولات حلِّ مشكلات العلوم الطبيعية التي لا تكفي لها الأدواتُ الرياضية المتوافِرة لا ينتقِص من أهمية هذا التجريد من المحتوى الطبيعي بالنسبة إلى الرياضيات.
ولأن هذه الفتوحات تُمثِّل محاولاتٍ لاستخدامِ التمثيلِ الرياضي للطبيعة كتحريضٍ على أن نرى، عن طريق النظام والارتباط، أكثَر مما يُمكِننا أن نُدرِكه في العالم الطبيعي، فهي تبدو كأننا سنَقفِز نحو الطبيعة على أملِ أن نقفزَ إلى ما وراءها.
وهكذا، فبالنسبة إلى عالَم الرياضيات، ليست الرياضيات خادمةً للعلوم الطبيعية؛ إذ تعمَل العلوم الطبيعية محرضًا للتقدُّم الرياضي، وتتخذُ مكانَها بجانب التحريضِ المتأصِّل في التاريخِ المهووسَ بالذات للتحليل الرياضي.
وهناك، على أي حال، ثَمنٌ للحرية وللقوة الكبرى اللتَين تأتيان مع هذا الإنكار للمحتوى، وهذا الثمَن هو اختفاءُ الزمن. إنَّ العلاقات بين أفكارنا الرياضية تقع خارج إطار الزمن؛ فهي عاجزةٌ عن فَهمِ الزمن، وفي هذا السياق، تختلفُ العلاقاتُ بين المفاهيم الرياضية عن الارتباطات السببية، التي تمتلكُ دائمًا أحداثًا مقيَّدة بالزمن باعتبارِها موضوعَها الأساسي.
لا رَيْب في أن الأفكار الرياضية تُفعَّل عادةً في وصفِ الأحداثِ المقيَّدة بالزمن. من الممكن تمثيل التفسيرات السببية بلغة الرياضيات؛ فالفيزياء الرياضية للعصر الحديث هي الطفلُ الأكثر شهرةً الناتج عن زواج الرياضيات بالعلوم الطبيعية. اختُرعَت فروعٌ كاملة من الرياضيات، مثل حساب التفاضل والتكامل، لأول مرة في أثناءِ محاولاتِ تمثيل التغيُّر، الذي يحدُث ضمنَ حدودِ الزمن، وعلى أيِّ حال، ففي تلك الفروعِ من الرياضياتِ المَعْنية بصورةٍ مباشرة بتمثيل التغيُّر النسبي، فإنَّ العلاقات التصوُّرية للتفسير، والارتداد، والتكافؤ ليست هي نفسها مقيَّدة بالزمن؛ فهي سرمدية. وهي ليست سرمديةً فقط في ذلك المعنى الضعيف الذي تكونُ فيه قوانينُ الطبيعة سرمديةً عندما نتخيَّل أنها لا تمتلكُ تاريخًا؛ بل هي سرمديةٌ أيضًا في المعنى القوي لكونها عاجزةً عن الامتزاجِ مع عالَم الأحداث المقيَّدة بالزمن.
وما يصحُّ على فرضياتِ الرياضيات ينطبقُ بشكلٍ أكثَر عموميةً على الارتباطاتِ التصوُّرية التي تشكِّل الموضوعَ الأساسيَّ للمنطق. ولا يحدُث أي استدلالٍ استنتاجي أو تناقُضٍ منطقي داخلَ حدودِ الزمن، وحدَها أفكارُنا حولها هي الأحداث المقيَّدة بالزمن.
إن غرابة الرياضيات، كمثلِ حِصانِ طروادة في العقل ضد الزمن، يُمكِن الآن توضيحُها. وإن الرياضيات هي علمٌ لا يتعلق موضوعُه بالعالم الطبيعي المنقوع في الزمن، أو التطوير الحر للأعراف الاعتباطية، أو عالم منفصل من الموضوعات الرياضية التي تشبه الموضوعات الطبيعية الأخرى باستثناء أنها، مثل الملائكة، تبقى مُخفاةً عن أعيُننا.
ليست الرياضيات ظلًّا للعلوم الطبيعية، ولا هي لعبة من الحِيَل العقلية، ولا هي دراسة للموضوعات التي ستكون مثلَ غيرها لو كانت مادية. إن الرياضيات هي الاستكشافُ الرؤيوي لأيِّ صورةٍ مزيَّفة للعالم، وهي دراسةٌ للعالَم — العالَم الوحيد الموجود — باستثناء أن الزمن قد انتُزع منه.
يبدو الأمر كأننا سنأخُذ من الطبيعة شريان حياتها — الزمن — ومن خلال المحافظة عليه من الفساد، نجعله خالدًا لأنه سرمدي. ومن المفارقة أنه من خلال دراسة هذه الصورة المزيَّفة نقوم بتسليحِ أنفسِنا بصورةٍ أفضَل للكفاح ضدَّ استعبادنا للأفكار المحدودة حول النظام والعلاقة التي تقترحُها علينا التجربة والعلم، ومن خلال إبعاد أنفُسنا عن العالَم الذي يتغيَّر تحت ظل الزمن، فنحن نجهِّز أنفسنا بصورةٍ أفضَل للتعامُل مع ذلك العالَم، نحن نُضاعِف مخطَّطات الارتباط التي نجلبُها إلى فَهمِنا للأحداث الطبيعية. ونحن نؤكِّد السمة الثانية للعقل — تلك المفاجِئة والمتجاوِزة — بالتعبير عن، وتطوير، قدرة الخيال على تجاوُزِ انطباعاتِ الطبيعة.
دائمًا ما تُوحي استدلالاتُنا الرياضية والمنطقية إلينا بحقيقة وجود عالَمٍ سرمدي؛ وبالتالي فنحن نُغرى بأن نخلط بين هذا العالم المحنَّط وبين العالم الأصلي. وعلى أي حال، فلا شيء أكثَر حقيقيةً من الزمن. وبطريقةٍ ما، فهو الشيءُ الحقيقيُّ الوحيد.
فرضية امتلاكِ التجربةِ الإنسانية لبِنيةٍ زمانيةٍ محتومة
نحن لا نُصادِف الزمنَ ككائناتٍ منفصلة وعديمة السياق، بل نُواجِهه ضمنَ حالةٍ معيَّنة. هناك فينومينولوجية إنسانية للزمن؛ تجربة الزمن وأنفسنا ككائناتٍ زمانية. ليس هناك أيٌّ من عناصر حالتنا أعمق أو أكثر انتشارًا. وتمتلك فينومينولوجية الزمن هذه بِنيةً محدَّدة ومُدهِشة. ومثلها كل شيء في الحياة وفي الواقع؛ فهي أيضًا تتغير. وفي الحقيقة، هي تتطوَّر تاريخيًّا، مستنيرة بالأفكار ومتأثِّرة بالترتيبات، وبالممارَسات، وحتى بالماكينات. وبعبارةٍ أخرى، فإن فينومينولوجية الزمن هي في حدِّ ذاتها زمانية. وعلى أي حال، فإن استمرارياتِها وتوقُّفاتِها تمثِّل بعض الاستمراريات والتوقُّفات الأكثر أساسيةً لطبائعنا. ليس هناك شيءٌ غير مترابط أو خيالي فيما يتعلَّق بمحاولة تغيير تجربتِنا مع الزمن، فرديًّا وجماعيًّا، فهي ليست غير ذات جَدْوى أو حمقاء، بل هي صعبةٌ ليس إلا.
إن كونَنا مقيَّدين بالزمن هو أكثر ما نتشارَكُ فيه مع كل الحقيقة. بطريقةٍ ما، نحن مصنوعون من الزمن؛ ولذلك فإن تحليل فينومينولوجية الزمن يكتسبُ أهميةً خاصة؛ فمن خلاله يُمكِننا أن نفهم كلَّ ما يميِّزنا عن العالَم المحيط بنا، وما يربطنا بذلك العالَم. دعونا نَرَ هذه النقطة مبسَّطة في بادئ الأمر، وبعد ذلك لنقُم بتعقيد الصورة.
تقع حقيقتان في القلب من فينومينولوجية الزمن، والحقيقة الأولى هي أننا كائناتٌ حية تعيش وتموت، أما الحقيقة الثانية فهي أننا ننفِّذ المشاريع ونشكِّل الارتباطات، ونسعى إلى تقوية مثل هذه المشاريع والارتباطات ضد ويلاتِ الزمن.
تكتسب المعرفة المسبقة بالموت أهميةً محورية بالنسبة إلى الحقيقة الأولى؛ فحقيقة وتلميحات الموت هما ما يمنَحُ تجربتَنا خاصيَّتها من التركيز الدراماتيكي. وهو ما يفسِّر الطبيعة المتدرِّجة والمتعذِّرة العكس لتجربتنا، ليس هناك ما يكفي من الزمن لأن نعملَ كلَّ شيء مرةً أخرى بشكلٍ مختلف، أو أن نمتلك ما يكفي من الفُرص الثانية. وهي تحدِّد تجربتَنا حول كيف تُجعل الحياةُ الإنسانية ذاتَ مغزًى وكيف يُمكِن تدميرُ مغزاها. ليس في وسعنا حلُّ مشكلة المَغزَى عن طريق التأجيل إلى ما لانهاية، كأن الخُلُو من المغزى في هذه اللحظة يُمكِن معالجتُه دائمًا بوساطة المغزى لاحقًا أو بوساطةِ القدرة على التحديقِ إلى بداياتِ الزمن.
إن موقعَنا بوصفِنا كائناتٍ حيةً تعيش وتموت بمرور الزمن يقع في جذور السمة الأكثر مهابةً من تجربتنا؛ التفاوُت غير المحسوب والمستعصي بين مقياس الحياة الإنسانية وحقيقة الكون حولنا. وهذا التفاوت يسلبُنا الحقَّ في الإيمان بأننا في شراكةٍ مع السياق الطبيعي لوجودنا؛ فنحن نتشارَك في زمانيته، لكننا لا نستطيعُ التشارُك في مقياسه.
إن تجربتَنا مع الزمن، على أي حال، لها جانبٌ ثانٍ؛ فعَبْر الزمن وضد الزمن، نحن نُنفِّذ المشاريع ونشكِّل الارتباطات. ويُغيِّر هذا الجانب الثاني أهمية الأول، ويحوِّل السياق الزماني لوجودنا إلى مناسبة لتضارُب الرؤى ولإنتاج الجديد.
في القَدَر الزماني لمشاريعنا وارتباطاتنا، نرى أنفسنا بوضوحٍ أكبر مما يُمكِننا أن نرى به أنفسَنا مباشرة؛ فعلاقتُنا به تُمثِّل جزءًا كبيرًا من تجربتنا مع الزمن؛ فمن ناحية، هي الساعاتُ الحقيقية التي نقيس بها الزمن، وهي تستغرق وقتًا لتتشكَّل وتكتمل؛ أما الخطوات والفترات المستغرقة في صُنعها فهي إحصاءُ أيام حياتنا. ومن الناحية الأخرى، فهي رهينةٌ للشك والهزيمة لأنها تؤدَّى ضمنَ إطارِ الزمن. وتعرُّضها للدمار هو تعرُّضنا نفسه للدمار؛ كما أن عجزها عن ترويضِ ما لا يُمكِن توقُّعُه هو عجزنا نفسه عن ترويض ما لا يُمكِن توقُّعُه.
نحن نصُوغُ المشاريع وننفِّذها، ونشكِّل الارتباطات ونعيشها. إن المشاريعَ والارتباطاتِ تمثِّل الاستجابةَ الوحيدة التي نمتلكُها في وجودنا نحو التركيزِ الحاد والمساقِ المتعذِّر العكس للزمن. وإذا كان هناك اتجاهٌ في حياتنا، فهو اتجاهُها؛ وإذا كان هناك مغزًى لحياتنا، فهو مغزاها. وهي تُعرِّف حدودَ عالَمٍ مبنيٍّ على مقياسنا نحن، وليس على المقياس المُرعِب، والمدمِّر للإنسانية وللعالَم حولنا. وعلى أي حال، فمن الممكن سحقُها، وفي النهاية سيقهَرُها الزمن. قد نتعامل معها على أنها خالدة، لكنها خالدةٌ فقط ما دامت باقيةً فقط.
إن العلاقة بين حالتنا ككائناتٍ حيةٍ محكومٍ عليها بالموت وسعْينا وراء المشاريع والارتباطات تكتسبُ أهميَّتها في مقابلِ خلفيةٍ من معارَضةٍ أخرى؛ المقارَنة بين الجوانب الصِّيَغية والمفاجِئة من تجربتنا. يحتل الروتينُ والتَّكرارُ جزءًا كبيرًا من حياتنا العملية والعقلية. وهما ليسا مجرَّد نفاية؛ فهما يمثِّلان مبدأً اقتصاديًّا ومبدأً تكامليًّا في الوقت نفسه.
وكمبدأ اقتصادي، هما يوفِّران وقتَنا لتلك الأنشطة التي لا نعرفُ حتى الآن كيف نُكرِّرها تحت صيغةٍ ما ومن ثَم نجسِّدها في ماكينة؛ وبالتالي يسمَحان لنا بتحويلِ أفقِ انتباهِنا بعيدًا عن التكراري باتجاه ما لا يُمكِن تَكرارُه بعدُ. تُميت العادةُ تجربةَ الزمن، أما التحوُّل من المألوف إلى ما ليس مألوفًا بعدُ فيستعيدُها.
وكمبدأ تكامُلي، هما يمكِّناننا من تنظيم تجربتِنا وهويَّتِنا. تمثِّل عاداتُنا قاعدةً ضروريةً لإحساسنا بالذات، وباستمراريتها، وكمالها. وهما ليسا مجرَّد عبء، بل هما يشكِّلان ويمكِّنان. إن استمرارية الذات، المكفولة من خلال العادة، تمثِّل شرطًا مسبقًا آخر لتجربتنا مع الزمن.
يمثِّل الديالكتيك بين الروتين والاختراع خاصيةً أساسيةً لإنسانيتنا، وهو ليس مقتصرًا على السلوك؛ فهو السمة المميِّزة للتخيُّل. ويتقدَّم فهمُنا للعالَم من خلال إزاحةٍ تحدُث على مرحلتَين، يُمكِنك أن تُسمِّي الإزاحة الأولى المسافة، والثانية التحوُّل.
وصف كانط الإزاحة من خلال التباعُد عندما عرَّف التخيُّل باعتبارِه القدرةَ على تمثيلِ ما هو غائب. إن الجانبَ الروتينيَّ لحياة الفَهم والإدراك هو زواجُ تجربتِنا المألوفة للإدراك بمخطَّط مطلَق، والذي نتركُه من دون تحدٍّ. وتبدو التجربة والمخطَّط متلازمَين؛ فالأخير هو التعبير المباشر عن الأول. وعندئذٍ يتقَهقَر الإدراكُ إلى تحديق، أما ما نُسمِّيه الفهم فسيتوقَّف عن الوجود.
من أجلِ أن تكونَ هناك تجربةٌ إنسانية للفهم، علينا أن نتخلى عن الإدراك الفوري — لأنه ليس أمامنا، أو لأننا قادرون على التعامل معه كما لو أنه ليس كذلك وأن نتذكَّره كصورة. علينا إذن أن نكونَ قادرين على إدراجِ التفاصيل تحت أصناف، أو أنواع، أو فئات. ومثل المحامين، علينا أن نُصنِّف بسهولةٍ معظم الوقت، وأن نُواجِه الشكَّ والالتباسَ لبعض الوقت.
أما الإزاحة الثانية فيجب أن تُكمِل جهدَ الإبعاد؛ إزاحة التحوُّل؛ فلا التخيُّل ولا العالَم المتخيَّل سيكونُ على ما هو عليه إذا كان بإمكاننا أن نُبعِد أنفسَنا عن الآني فقط لتغيير المشهد الذي يقترنُ فيه الإدراكُ المألوف بالأصناف المألوفة. إن جداليةَ تصنيفاتِنا المطلَقة متجذِّرة في تحوُّل الأحداث الظاهراتية التي تنطبقُ عليها.
لا يرجع العقل بشكلٍ لانهائي إلى قائمةٍ ثابتةٍ من الأنواع الطبيعية للأشياء؛ فليس هناك مثلُ هذه القائمةِ الثابتة. في العالَم الموجود — كلٌّ من العالَم كما يظهر في التجربة، والعالَم كما يُستكشف ويُكشف على فتراتٍ متقطِّعة من قبل العلم التجريبي — فإن كلَّ شيءٍ من نوعٍ ما يُمكِنه أن يصبح نوعًا آخر من الأشياء من خلال مجموعةٍ من التحوُّلات المتوسطة التي تحدُث تحت ظروفٍ معيَّنة. قد تكون مثلُ هذه التحوُّلات عديدة ومعقَّدة، وقد تستغرقُ وقتًا طويلًا. وقد ينتُج منها، بل إنها ستُنتج في الحقيقة — عاجلًا أو آجلًا — تغيُّرًا، ليس في أنواع الأشياء الموجودة فقط، ولكن أيضًا في ماهيةِ اختلافِ نوعٍ من الأشياء عن الأنواعِ الأخرى، أعني في طبيعة الأنواع الطبيعية.
نحن معتادونَ النظرَ إلى إعادة الاختراع البيولوجية للاختلاف باعتبارِها استثناءً بعيدَ الاحتمال بصورةٍ مدهشةٍ للتنظيم الكوني للمادة. وعلينا، بدلًا من ذلك، أن نفكِّر فيها كمثالٍ على خاصيةٍ واسعةِ الانتشارِ للعالَم وهي أن قائمةَ الأنواعِ الطبيعية تتغيَّر في طبيعتها وكذلك في تركيبها. وتُمثِّل هذه الخاصية سمةً لتحوُّل التحوُّل، بمعنى أنها إحدى سماتِ الزمن ونتيجة لحقيقته.
نحن نتخيَّل شيئًا ما بتمثيله ليس فقط باعتباره غائبًا، ولكن أيضًا باعتباره متغيرًا. يندمج تغيُّر الظواهر أو الأحداث في تغيُّر الأنواع الطبيعية الذي تجسِّده الظواهر أو الأحداث، كيف تختلف بالإضافة إلى ماهيَّتها. لا يُمكِننا التعامُل مع الأفُق الخارجي للاحتمال؛ فالفكرة الشبَحيَّة للاحتمال هي وَهْم. وإذا أُعطِي وقتًا كافيًا، فلن يكون هناك فضاءٌ مغلَق ونهائي من التشكيلات المُمكِنة التحقيق. وعلى أي حال، في وُسْعنا دائمًا أن نرى الخطواتِ المقبِلة للتحوُّل بطريقةٍ أو بأخرى، وإلى درجةٍ ما أو إلى درجةٍ أخرى. ويمثِّل فعل ذلك جزءًا مما يعنيه تخيُّل عالَمٍ زماني، ضمنَ حدود الزمن.
إن التعبير الرئيسي عن السمة الموحَّدة للحياة في الشخصية هو خاصيةٌ — أو شكلٌ متصلب من الذات — محاطةٌ بدرعٍ واقية من الروتين الفردي والاجتماعي. وتمتلك علاقتُنا بخاصيةٍ ما طبيعةَ علاقتِنا نفسها بكل السياقات المنظمة الأخرى لنشاطنا؛ فنحن نحتاج إليه، ولكن ليس من الضروري أن نستسلم له؛ فهو نحن، لكننا أكثر منه. يتطلب تطوُّر الشخصية كلًّا من اعتناق العادة وتحطيم العادة، وكلًّا من تشكيل الطبع وإعادة تنظيم الطبع جذريًّا. ومن دون مثل هذا التحطيم ومثل إعادة التنظيم هذه، فنحن نجعل أنفسَنا محدودين ليس إلا؛ إذ نُنكِر ونقمَع الجانبَ المفاجئ والمتجاوِز لطبيعتنا.
ومن بين علامات الشر الذي يفعلُه بنا مثلُ هذا الاستسلام نجد تجربة الضجَر، وهي إشارة إلى الطاقة غير المستغلة، تمرُّد اللانهائي بداخلنا ضد المتناهي، وشكوى المرونة المُنكرة ضد الصلابة المفروضة. ومثل كل المظاهر الأكثر عمقًا من تجربتنا، فهو ليس ثابتًا؛ إذ إنه عُرضة للنقد وللتحوُّل. ومع تنظيمنا مؤسَّسات المجتمع وممارَسات الثقافة بحيث تجعل نفسَها أكثر انفتاحًا بالكامل على التحدِّي والمراجعة، نُصبِح أكثر تعرضًا للضجَر. نحن نصوغُ فِكرتَه؛ وتُساعِد الفكرة على خَلق الشيء ذاته.
ثمَّة علامةٌ أخرى على الشر نفسه هي إخماد الإحساس بالمرور بفعل الزمن؛ فمع فقدانِ تحوُّلِ التحوُّل داخل تجربتنا الخاصة، نحن نفقد أيضًا الوسيلة التي يُمكِننا من خلالها أن نقيسَ وبقوة؛ ومن ثَم بمعايشة، مرور الزمن. تتعرَّض المشاريع والارتباطات للإزاحة بفعل الروتينات وتجلبنا بذكاءٍ إلى عالَمٍ تخفُت فيه حقيقةُ الزمن.
أما التجربة المعاكسة فهي تلك التي نحقِّقها متى كنا قادرين على تكريسِ أنفسِنا بكلِّ تركيزٍ وإخلاصٍ لارتباطاتِنا ومشاريعِنا. وحينئذٍ قد يبدو الأمر كأن الزمن توقف — الزمن المقيس بالأحداث الخارجية — ووحدَه الزمن الداخلي — الزمن المقيس وفقًا لتنفيذ الارتباط أو المشروع — هو ما يبقى لتتمَّ معايشتُه وعده. نحن نعلم أن هذا التحرُّر عابر وأنه سيُحرم ببطء من حياته بفعل العادة وسيُلغَى في النهاية من خلال التدمير بفعل الزمن. وعلى الرغم من هذا فخلال مثل هذه اللحظات، نحن نحقِّق التجربة الوحيدة للسرمدية التي لا يلزم أن تحتاج إلى الوَهْم واللامبالاة والتي لا تؤدي إلى تدمير الحيوية.
كيف يُمكِننا أن نمتلك كلًّا من هاتَين التجربتَين في الوقت نفسه — تجربة أن نُوقَظ بفعل الزمن — أي تعجيل الإزعاج من قِبل العالَم الهائل خارجنا وتجربة تكريس أنفسِنا من دون تحفُّظ للجريان المعلق بفعل الزمن لمشاريعنا وارتباطاتنا؟ لا يمكِننا ذلك؛ فمثلُ هذه التوليفة تُستثنَى بمحدودية حياتنا وبفعل تحيُّز موقع الأفضلية الذي نمتلكه. يمثِّل ذلك فكرةَ وجودِ ضربٍ من السعادة التي يجب أن تُراوِغنا إلى الأبد، ويرقى إنكارُها علينا إلى كونه مجرَّد تعبيرٍ آخر عن الاختلاف بين ما يعنيه أن نكونَ الله وما يعنيه أن نُصبحَ ربَّانيين أكثر.
ليس في وسعنا التوليف بين هاتَين التجربتَين؛ فكلُّ ما يُمكِننا أن نتمنَّاه هو امتلاكُ مزيدٍ من كلتَيهما واستخدام القدرات الناتجة من الثانية، لتحمل تقلُّبات الأولى بصورةٍ أفضل، مع الاعتراف — بعينَين مفتوحتَين — بحقيقة الزمن التي لا ترحم.
فإذا سُئلنا، إذن، عن ماهية الزمن، فعلينا ألا نُجيبَ فقط بالقول إنه الفرقُ بين ما يتغيَّر وما لا يتغيَّر، وإنه أيضًا يمثِّل تحوُّل التحوُّل، علينا أن نستطرد لوصفِ بِنية الفينومينولوجية الإنسانية للزمن، مع الإقرار بأنه كليٌّ في وجودنا، ومع ذلك فهو عُرضة في الهامش لإعادة التفسير والتنقيح التراكميَّين، في ضوء أفكارنا وبقوة ترتيباتنا.
علينا ألا نفهم بِنية التجربة الزمانية هذه لمجرَّد أن نرفضَها بصورةٍ أكثر اكتمالًا باعتبارِها هذَيانًا تفرضُه علينا طبيعتُنا ككائناتٍ تتسم، برغم أنها قد تكون أرواحًا متجاوزةً للسياق، بأنها كائناتٌ حية تتعرَّض للموت أيضًا. وبدلًا من ذلك، فهو الشكلُ الإنساني على نحوٍ مميز الذي نتشارَك خلالَه في الحقيقة الكونية للزمن. وإذا حاولنا إهمالَه باعتباره خياليًّا، فلن نُترك مع وجهة نظرٍ من فوق أو من خارج أنفسنا؛ فسنَترك أنفسنا ببساطة من دون وسيلةٍ للدفاع في مواجهة حصان طروادة الموجود داخلنا، ذلك الجزء من تفكيرنا، وخصوصًا المنطقي والرياضي، الحَرُون على الزمن. وعند فحصِ العالَم من ذلك المنظور السرمدي، فلن نراه من دونِ انخداع، لكننا سنراه بصورةٍ أقلَّ اكتمالًا.
ليس أمامنا سوى طريقٍ واحد؛ الإيمان بحقيقة الزمن، وبعد ذلك توسيع قدراتنا على الملاحظة والفهم، من خلال اختراعاتنا الميكانيكية والتصوُّرية، خارج نطاق تجربتنا المحسوسة الآنيَّة. وخلال تلك العملية، سنُضطَر في كل مناسبةٍ إلى أن نُقايِض قربنا الشديد من العالَم الظاهر مقابلَ بصيرةٍ أكثر عموميةً وأشد بُعدًا. وكلما ازدادت آنيَّة التجربة، زاد تشكُّلها بفعل الحقائق المحتملة لطبيعتنا المجسَّدة وبفعل تطوُّرها.
وكلما ازداد بُعد وعمومية تفكيرنا، على رغم أنه مجرَّب على الأطراف الخارجية للتخمين السببي، كما هي الحال في العلوم الطبيعية، ازداد تلوُّثه بالمجاز أيضًا، على رغم إعادة صياغته كنظريةٍ علمية. ليس في وسعنا أن نمتلكَ معرفةً تتسِم بكَونها حميميةً وعامة، أكثر مما يُمكِننا أن نجمع في التجربة نفسِها بين معنى كونِنا نستيقظُ على حقيقة الزمن بفعل إزعاجٍ من الخارج، وبين معني أن نتحرَّر من مرور الزمن عن طريقِ الانشغال بمشاريعِنا وارتباطاتِنا.
إن الخيط الموحَّد بين المنظورَين من الداخل ومن الخارج هو الاعترافُ بحقيقة الزمن. يمُر الزمن بجميع المراحل، مع تغيُّر التغيُّر، وهو الشيء الوحيد الذي يبقى دائمًا.