وعي الذات: تخيُّل الإنسانية
نزع سلاح التخيُّل: العقلَنة والأنسَنة والإفلاتيَّة
إن مفهوم الذات والعقل اللازم لتزويدِ بديلٍ كافٍ للفلسفة الدائمة يجب أن يُدرك في ممارسات العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية إذا رغبنا في إدراكِه أصلًا، وإذا كان منظور الإنسانية المستنيرة بموضوعات القوة، والاحتمال، والمستقبلية، والتجريبية هو صميمَ أي براجماتيةٍ مردكلة، فإن إدراك هذا المنظور بالطريقة التي نستخدمُها لفهمِ مَن نحنُ وما يُمكِن أن نصير إليه هو تلك الفلسفة ذاتها؛ فنحنُ لم ننجَح في برنامجنا الثقافي حتى حوَّلنا الممارسات التي نفسِّر بها تجربتَنا ونتناقَش حول فُرص نجاحنا.
تُطبِّع هذه النزعاتُ رؤيتَنا للمجتمع حتى عندما يبدو أنها تقوِّض هذه الرؤية. وما دام مجالُ الصراعِ العمليِّ والأيديولوجي حول شروطِ الحياةِ الاجتماعية محدَّدًا، فسيَظَل مثلُ هذا التطبيعِ لا جدال فيه.
إن المعتقَدات التي أصبحَت تُهيمِن على نحوٍ متزايدٍ على العلوم الاجتماعية والإنسانيات تؤدي إلى نتيجةٍ مماثلة، ولكن بشكلٍ غيرِ مباشر. وهي تفعل ذلك عن طريق الادِّعاء بأن القيود غير المرنة أو القوى شبه القانونية تشكِّل أساس المؤسَّسات، والممارَسات، وأشكال الوعي الحالية أقل منها بتجاهُل أو إنكار تخيُّل الفُرصة التحوُّلية؛ أي الخطوات التالية التي يُمكِنُنا من خلالها، في الفِكر والممارسة، أن ننتقلَ من هنا إلى هناك.
وفقط عندما تكونُ هناك أزمة — أعني مشكلة لا تعرض البنيةُ الراسخةُ لها أيَّ حَلٍّ جاهز — نتجاوز حدود أفكارِنا وطرقنا الحالية. وعندها فقط يبدأ البحثُ عن طرقٍ بديلة للتفكير. وعلى أي حال، ففي الفكر، كما في الحياة الاجتماعية، ثمَّة علامةٌ تجريبية تتمثَّل في أننا لسنا بحاجة إلى انتظارِ حدوث أزمة. يقوم التخيُّل بعمل الأزمة من دون أزمة، مما يُمكِّننا من أن نُعايِش التغيير من دونِ أن نتعرَّض للخراب. لا يمكن للتخيُّل أن يقوم بهذا العمل ما لم يكن مجهزًا على نحوٍ مناسب، نحن نحصل على المُعدَّات التي نحتاجُ إليها عن طريقِ إعادةِ بناء المعدَّات المتاحة. إن انتقادَ الأشكال السائدة من المعرفة الاجتماعية في أيِّ زمانٍ كان يُنتِج ضربًا من القيمة الدائمة، بالإضافة إلى الفائدة الآنيَّة؛ الاستبصار بما يلزم لاستخدامِ النظرية ضد القدَر.
يأتي أحدُ الاتجاهَين من النظرية الاجتماعية الكلاسيكية. وهو موضَّح بأفضلِ صورةٍ في تعليمات كارل ماركس. وتتمثَّل فكرتُه الرئيسية في أن ما نُغرى بالتعرُّف عليه باعتبارِه القوانينَ الكونية للتجربة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية هو في الحقيقة النظامياتُ المتميزة لأي ترتيبٍ مؤسَّسي معيَّن للحياة الاجتماعية والمعتقَدات الراسخة التي تُرشِده. ونحن نُخطِئ في التعرُّف على الخاصِّ باعتباره عامًّا، وعلى العابِر باعتباره مستديمًا. إن البنية العميقة المحددة تشكِّل الروتينات والنزاعات السطحية للمجتمع.
في هذه النظرية الاجتماعية الكلاسيكية، تجيء فِكرة البِنية العميقة مرتبطةً عادةً بافتراضاتٍ أخرى. ومن بين هذه الافتراضاتِ فرضيةُ الإغلاق؛ فهناك قائمةٌ مغلَقة، مقرَّرة سلفًا من الخيارات البِنيوية في التاريخ العالمي مثل «أنماط الإنتاج» لكارل ماركس وهي الإقطاعية، والرأسمالية، والاشتراكية. ولا يُصبِح مجالُ القائمة ظاهرًا إلا عند التفكير فيما حدَث في السابق، لكن تركيبته ليست جاهزةً لأوَّل من يريدها. إن النتيجة العملية هي قيدٌ جذري على المعنى الذي يكونُ فيه التاريخ مفتوحًا.
أما الافتراضُ الثالثُ فهو فرضيةُ التعاقُب شبه القانوني: وهو منطقٌ لا يُقاوَم من التحوُّل، ينشأ عن التوتُّرات والتناقُضات الداخلية لكل شكلٍ مؤسَّسي من الحياة الاجتماعية، ويقود إلى الأمامِ متواليةً مقدَّرة من الأنظمة المؤسَّساتية. ويتَّسِم الصراعُ والرؤيةُ بعَجزِهما عن خَلق جِدةٍ حقيقية؛ فلا يُمكِنها أن تَكشِف سوى المستقبَل المقدَّر لنا. ومع تزايُد حدَّة النزاع، يُصبِح منطقُ مصالحِ المجموعةِ أو الفئةِ أكثَر وضوحًا. إن العقاب المتمثِّل في الانخداعِ بمحتواه يمثِّل فشلًا سياسيًّا. وثمَّة نتيجةٌ طبيعية لهذه الفرضية، وهي أنَّ التفكيرَ البرامجيَّ لا محلَّ له هنا؛ فالتاريخ يوفِّر المشروع، ومع ذلك فليس من دونِ أسًى ساحقٍ للقلب.
بَيْدَ أن هذه الفَرضياتِ الثلاثَ خاطئة، وفَهم السياسة المشكَّلة بواسطتها يُهدِر فرصةً بنَّاءة. وليست هناك قائمةٌ موجَزة بالطبقاتِ المؤسَّساتيةِ المعروضةِ للإنسانية؛ وبالتالي فإن الاختلافَ والابتكارَ في خواص، وكذلك في محتَوى الترتيبات المؤسَّساتية، يكون حاسمًا بدرجةٍ أكبر من حيث الأهمية، كما أن الأشكال المُتعاقِبة للتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليست أنظمةً غيرَ قابلةٍ للتجزئة، تقوم أو تسقُط معًا؛ فإعادةُ بنائِها التدريجية — أو إصلاحها الثوري — هي النمطُ النموذجي للسياسة التحوُّلية. وليست هناك مجموعةٌ من القوى التي لا تُقاوَم تُقرِّر سرعة واتجاه التغيير؛ فنحن الذين نُقرِّرهما. وفي الوقتِ الحاضِر، نحن نُواصِل تقريرَهُما تحت النظام المُرعِب للفاجعة، وحبَّذا لو أمكنَنَا إحداثُ التغييرِ من دونِ كارثة.
توقَّفَت طريقةُ التفكير المشكَّلة بهذه الفرضياتِ منذ فترةٍ طويلةٍ عن أن تُمثِّلَ عقبةً أمام التبصُّر؛ لأنها توقَّفَت منذُ زمَنٍ عن أن تكونَ قابلةً للتصديق. وفي سياقِ انحدارِها البطيء، على أي حال، أسقطَت معها لُب الحقيقة الأساسية التي تحتويها؛ أي إننا في كل ظرفٍ تاريخي نكون سُجناء لبِنْيةٍ من الترتيبات والفرضيَّات التي نخلطُ بسهولةٍ بينها وبين طبيعة المجتمع والإنسانية ذاتِها. نحن ننالُ الحريةَ والقوةَ بتحقيقِ ضربٍ من الإتقانِ الثقافي والعملي لمثلِ هذه السياقات، ونحن نتقدَّم من خلالِ إصلاحِه.
وعلى أي حال، فقد بُني الخطُّ الرئيسي لتطوُّر علم الاجتماع الإيجابي على رفضِ أيٍّ من هذه البرامج الثقافية، ولقد رفض الاتجاهُ العامُّ المقارنةَ بين الروتينات السطحية والبِنية العميقة للحياة الاجتماعية، مما يُقلِّل من قيمة عنصر التوقُّف والتباعُد المحتوم في التاريخ. وقد صوَّر الترتيباتِ والفرضياتِ غيرَ المتنازَع عليها كأنها تشكِّل مجتمعًا وثقافة ليسَا أكثر من كونِهما البقية المتبلورة للنزاعات والتسويات العادية.
ومن خلال هذا الإنكار لإمكانية التوقُّف والتباعُد الجذري، أدى مرةً أخرى إلى التطبيعِ ذاتِه للنظامِ الراسخ، والذي ثارت ضده النظرية الاجتماعية الكلاسيكية.
لا يُمكِننا أن نرى طبيعةَ وتضميناتِ هذا المزيجِ الخرافيِّ من الاعتذار والتفسير في أي مكانٍ بوضوحٍ أكبر مما نجدُه في العلم الاجتماعي الأشد تأثيرًا؛ أي الاقتصاد، وهناك، يتخذ إنكار البدائل ثلاثةَ أشكالٍ مميزة.
وفي الحقيقة، لا يُمكِن استنتاجُ مثل هذه الترتيباتِ من المبادئ التي يُفتَرض أنها تشكِّل أساسًا لها؛ فالتأثيراتُ المنسوبةُ إليها تعتمد على الظروفِ المحليَّة بالإضافةِ إلى اعتمادها على علاقتها بالترتيبات المُطبقة الأخرى. ومثل كل المفاهيمِ المؤسَّساتية المجرَّدة ذات الأهمية المحورية للخطاب المعاصر، فإن مفهومَ السوقِ يُعَد مبهمًا من الناحيتَين المؤسَّساتية والقانونية؛ فهو يفتقر إلى ترجمةٍ مؤسساتيةٍ طبيعية وضرورية منفرِدة. اكتسبَت هذه الفرضية النظرية أهميةً عملية في الوقت الحالي. ليس بوُسْعنا الآن تحقيقُ أهدافنا الديمقراطية والتجريبية بمجرَّد تنظيم السوق أو بتعويضِ أوجُه عدمِ المساواةِ فيه من خلال إعادة التوزيع بأثَرٍ رجعي؛ فلا يُمكِننا تحقيقُ تلك الأهداف إلا بواسطةِ إعادةِ تنظيمِ المؤسَّسات التي تُحدِّد ماهية اقتصاد السوق.
أما الشكل الثالث من مُراوَغة التركيب في الاقتصاد فيحدُث في العديد من تطبيقات التحليل الاقتصادي للجدل المتعلِّق بالسياسات. وهي تَجنُّب الوضوح بشأن العلاقة بين نظاميات الحياة الاقتصادية والخلفية المؤسساتية والأيديولوجية التي تعتمد عليها هذه النظاميات. وقد أدَّى هذا الموضوع بالتحديد إلى محاولةِ ماركس وغيره تطويرَ ممارسةٍ للفكر الاقتصادي تُعالِج الثوابت المتعلقة بأي نمطٍ راسخ من الحياة الاقتصادية باعتبارِها نواتجَ سياقها المؤسَّساتي المُحدد بدلًا من منحها صفةً كونيةً خاطئة.
وبالتالي فإن هذَين التقليدَين المتعلقَين بالتفكير حول المجتمع — تقليد النظرية الاجتماعية الأوروبية الكلاسيكية وتقليد العلوم الاجتماعية الإيجابية — يتآمران لنزع سلاح التخيُّل. وهما يفعلان ذلك بحرماننا من طريقةٍ للتفكير حول الافتراضات المسبقة المؤسساتية والأيديولوجية لأي شكلٍ منظَّم من الحياة الاجتماعية، وكيف تُرسَّخ هذه الافتراضات المسبقة وكيف تُغيَّر.
من أجل أن نتخيل المجتمع والتاريخ كما هما عليه حقًّا، نحتاج إلى طريقةٍ للتفكير — مثل النظرية الاجتماعية الأوروبية الكلاسيكية، وعلى خلاف العلوم الاجتماعية الإيجابية المعاصرة — تتعرَّف على الدَّور المحوري للتوقُّف البِنيوي في التاريخ وعلى التأثير الحاسم للسياق المؤسَّساتي والأيديولوجي المفترض. وعلى أي حال، فعليها أن تفعل ذلك بدون السماح لتبصُّراتها بأن تتلوَّث بالفرضياتِ الحتمية التي تُنادي بها النظرية الاجتماعية الكلاسيكية، والتي يجب أن ترفُضَها جميعَها بالكامل.
وبعد أن دَمَجنا فكرةَ كونِ الإطارِ الراسخ للحياة الاجتماعية حاسمًا في تأثيراته، مع فكرةِ كونِه متزعزعًا في تركيبه بقَدْرِ كَونِه عارضًا في أصوله، يجب أن تَستَمر طريقةُ التفكير في تطويرِ مفهومٍ لم يكن أبدًا جزءًا من النظرية الاجتماعية الكلاسيكية. وهذا المفهوم هو وجهة النظر القائلة بأن طبقاتِ المجتمعِ والثقافة تختلف في المدى الذي تَعرِضُ به أنفسَها كأشياءَ طبيعية، محصَّنة نسبيًّا ضد التحدي والتغيير، أو — على العكس من ذلك — باعتبارها معرَّضةً لإعادة التشكيل ضمنَ شئوننا العادية. وهي بِنًى صُنعية، وليست أقدارًا، ويُمكِن تشكيلُها لجعل خاصيَّتها الشبيهة بالبِنَى الصنعية أكثر وضوحًا وأكثر صلاحيةً للاستخدام.
واليوم، وفي جميع أنحاء العالم، تؤمن الشرائحُ المثقَّفة والمسيَّسة من المجتمع بأن النظام الراسخ يفتقر إلى أي ضرورةٍ أو سلطةٍ عميقة، لكن تغييره — على الرغم من هذا — يُعد من أشباه المستحيلات، إلا تحت ضغط الأزمات. وهم على صوابٍ تقريبًا. فيجب أن يتمثل عملُ أيِّ خيالٍ مطلع من التاريخ والمجتمع في إثبات وتصحيح هذه التجربة. إن بِنية المجتمع والثقافة هي النتاجُ المؤقَّت للقتال المتقطِّع حول شروطِ وصولِنا بعضِنا إلى بعض.
لنفترض أننا نستطيعُ تصميمَ المؤسساتِ ونبتكر الممارسات التي تمكِّننا بسهولةٍ أكثر من تغيير حالتنا الجماعية، بخطواتٍ صغيرة لكن متكرِّرة، محرِّضين التخيُّل على أن يقوم ببعضِ عملِ الأزمة، عندئذٍ ستصبح اكتشافاتُنا لفرص إعادة البناء أقربَ إلى سطح الحياة الاجتماعية. وعندها سيكون بوسعنا أن نرى بوضوحٍ أكبر، وسنكُون أكثر حرية. إنَّ فهمًا للمجتمع والتاريخ، والمطهَّر من كل عيوب العقلَنة، هو الشكل الذي تتخذه هذه الحركة في عالَم الأفكار.
وإذا سادت العقلَنة في العلوم الاجتماعية الإيجابية، تسود الأنسنة في الفكر المعياري السياسي والقانوني. ووفقًا لمنظور الأنسنة، فنحن لا نستطيع تغيير المجتمع بصورةٍ جذرية. وإذا أمكَنَنا ذلك، فستكون المحاولةُ شديدةَ الخطورة، كما تُظهِر مغامراتُ القرن العشرين. دعونا، إذن، نستفيد بأفضلِ صورةٍ من عالَم لا يُمكِننا إعادة بنائه.
ومن بين طرق الاستفادة منه بصورةٍ أفضل، نجد التحولات التعويضية، التي تُضعِف تبايُنات وتقلُّبات اقتصاد السوق عن طريقِ إعادةِ التوزيعِ بأثَرٍ رجعي. يُصبِح التبريرُ الفلسفيُّ لمثل هذه التحوُّلات أحدَ المخاوفِ الرئيسية لأنسنة الفلسفة السياسية. ثمَّة طريقةٌ أخرى للاستفادة منه بصورةٍ أفضل، في التجسيد المثالي للقانون كمُستودَع للمبادئ التي تُجسِّد الحقَّ اللاشخصي وللسياسات التي تقدِّم المصلحة العامة. نحن نأمل في تحسين تأثير القوانين — وخصوصًا على المجموعات الأكثر ضعفًا والأقل نفوذًا — بقراءتها تحت أفضلِ ضوءٍ ممكن. يصبح التبرير التشريعي لهذا التجسيد المثالي مركَز أنسنة النظرية القانونية.
في كلتا الحالتَين، يعمل رفضُ الطموح البنَّاء كنقطةِ بدايةٍ لمحاولةٍ لتليينِ قسوةِ النظام الاجتماعي غير المُعاد بناؤه. وفي الاثنتَين، نجد أن فقرَ التخيُّل المتعلِّق بالتغيير البِنيوي، وبالبدائل البِنيوية، ووجهة النظر الخاطئة القائلة بأنه يتوجَّب علينا أن نختار بين الأنسنة والثورة — أي استبدال أحد النظامَين بالآخر — يمنح السلطة لعملية الأنسنة. وفي الاثنتَين، نحن نُمكِّن نخبة يُفترض أنها مُحسنة من المسئولين الإداريين والقضائيين الذين يُديرون مشروع الأنسنة. وفي الاثنتَين، نحن نُخاطِر بتحويل المستفيدين المعنيين إلى حُراسٍ سلبيين لتلك النخبة.
هناك استراتيجيتان رئيسيتان تتمثَّل إحداهما في توليد وضوحٍ مُوجه حول العدالة بفعل رغباتنا أو بديهياتنا. وعن طريق تلخيص رغبات العديد من الأفراد، وفقًا لنظامٍ محدد للقياس، أو بإظهار المبادئ الضمنية في بديهياتنا، نحن نحوِّل التجربة إلى رؤية. وعلى أي حال، فحتى عندما ننجح في التغلُّب على كل العقبات المألوفة الأخرى لهذا العمل من التجميع أو التوضيح، فنحن نُواجِه صعوبةً برغم أنها الأقلُّ مناقشةً إلا أنها الأكثر أهمية؛ العلاقة المتناقضة بين احتياجاتنا وبديهياتنا وبين النظام الحالي للحياة الاجتماعية.
لدينا احتياجاتٌ وبديهياتٌ تستخفُّ بهذا النظام. وعلى أي حال، فلدينا أيضًا احتياجاتٌ وبديهياتٌ تتجاوز حدوده؛ على سبيل المثال، خیالات المغامَرة والتمكين، التي تَعِد بالهروب من الإذلال الرتيب للحياة اليومية. وهذا التركيب الثنائي لوعينا ليس ميزةً عَرَضية للعقل؛ فهو يظهر مباشرة من لانفاديَّتنا بفِعل السياقاتِ المحدودة التي نقطُنها.
لا تعمل طرق النفعية أو العَقْد الاجتماعي على توليد مبادئ العدالة بفعل رغباتنا وبديهياتنا إلا بواسطة القيام أولًا بتجاهل بنيتنا — بإنكار الأشواق والتأملات، وبالتعامل معها كما لو كانت مجرَّد أشباهِ ظلالٍ واهية وتافهة حول الشيء الأصلي. ومن خلال هذا التسطيح لثنائية الوعي، على أي حال، يقوم فلاسفة الأنسنة بإلقاء أنفسِهم بين يدَي العالَم الاجتماعي الذي ادعوا أنهم يُصدِرون أحكامهم عليه. أما مشروع الأنسنة، بكل قيوده، فيتبع ذلك كنتيجةٍ له.
هناك إجراءٌ ثانٍ، ومتوازٍ، يقوم بواسطته أنصارُ طريقةِ النفعية أو العَقْد الاجتماعي بمحاولة العمل مستقلين بأنفسِهم فوقَ ظروفهم. وهو التعرُّف على طريقةِ تكديسِ الرغبات أو توضيحِ البديهيات بواسطة آليةٍ مؤسساتيةٍ متوافرة بالفعل، ولو أنها في شكلٍ ناقص؛ وهي الديمقراطية النيابية أو اقتصاد السوق، ولكونها مجسَّدة في هاتَين الماكينتَين العظيمتَين للاختيار، تتغلب الطريقة على عجزها — عدم قدرتها على أن تُنتِج من فرضياتها عن طريق التوجيه والسلطة أكثر مما وضعَت فيهما أولًا. وبعد أن ادَّعَت قدرتها على حل هذه الصعوبة، تكونُ الطريقةُ استنتاجاتٍ عملية حول طريقة توزيع الموارد الاجتماعية.
لكن ما الذي خوَّلنا لتحديد طريقةٍ مخلوعةٍ عليها صفاتُ المثالية لتكديسِ الرغبات أو توضيحِ البديهيات في وجود مؤسَّسات العالَم الحقيقي السياسية والاقتصادية هذه، والتي تشكَّلَت وسط صراعات فئاتٍ ومصالحَ غيرِ متساوية، مقابلَ خلفيةٍ من مجموعةٍ من الأفكار المؤسَّساتية التي هي، في أي زمان أو مكان، غيرُ مَرِنة وعَرَضية في الوقت نفسه؟ ليست المشكلة في وجود العيوب المحلية التي، بمجرد أن تُصحَّح، ستؤهِّل النماذج الحالية للديمقراطية والسوق لتمثيل الطريقة النزيهة للاختيار الجماعي، وللتمتُّع بسلطة مثل هذه الطريقة. تتمثَّل المشكلة في أن إعادة تنظيم الديمقراطيات والأسواق تمثِّل هي نفسها بؤرةً رئيسية للصراع في التاريخ، ويُمكِنها أن تتحرك في اتجاهاتٍ مختلفة جذريًّا، مع إحداث نتائجَ فيما يتعلق بكلٍّ من المجتمع والثقافة.
لن نتمكَّن من تطبيق الضغط اللازم للاستناد إلى الطرق المقبولة التي يتم من خلالها تحقيق مُثُلنا العُليا ومصالحنا في الممارسة العملية قبل أن نكتشفَ فيها التباساتِ المعنى والاتجاه التي أُخفيَت عنا طالما بقيَت سُبل التعبير العملية عنها غير مُعتَرضٍ عليها.
إن النقاش حول التنظيمِ البديلِ لاقتصاد السوق، على سبيل المثال، يُجبرنا على أن نسأل عما يُهم أكثر حول السوق. هل هو توسيعُ عدَد الوكلاء الاقتصاديين الذين يمتلكون وصولًا فعالًا للمصادر والفرص الإنتاجية، بالإضافة إلى تنويعِ الأنظمةِ القانونيةِ التي يُمكِن لهم في ظلها أن يستخدموا تلك المصادر؟ أم هل هو مدَى تمتُّع كلٍّ من أولئك المستخدمين بالقوة المطلَقة على المصادر المتوافرة تحت إمرته؟ عندما نشرع في فصل المُثُل العُليا والمصالح عن المؤسَّسات والممارسات التي تُزوِّد أسُسها الخفية للمعنى، نُصبِح أكثر حريةً وأكثر ارتباكًا.
لن تكونَ هناك طريقةٌ للتغلُّب على هذا الالتباس، اللَّهُمَّ إلا من خلال صُنع إيمانٍ سياسي لا أساسَ له إذا فشلَت ممارسة الحُجة المعيارية في تضمين عنصرٍ نبوئي ورؤيوي ثانٍ، يعتمد هذا الجانبُ الثاني على المفهومِ المتعلِّقِ بإنسانيَّتِنا وبالفُرَص غير المُدرَكة للإنسانية. وهذا المفهوم مستنيرٌ بقراءةٍ لدروسِ التجربةِ التاريخية؛ النبوءة المدرَّبة بالذاكرة. وهي تكتسبُ مسافتَها الأبعَد نسبيًّا عن السياقِ الآني في مُقابِل الهشاشة الأكبر نسبيًّا لادِّعاءاتها. من أجلِ الفَوزِ بالسلطة والتوجُّه، يجبُ عليها أن تسعى باستمرارٍ لإعادة لمسِ أرضيةِ التجربة الآنيَّة. أما الطريقة الأكثر شيوعًا لقيامها بعمل ذلك، والموجودة في تعاليمِ جميعِ الأنبياء السياسيين والدينيين، فتتمثَّل في مناشدةِ سماتِ التجربة الحالية، وخصوصًا تجربتنا حول العلاقات المباشرة بين الأفراد، والتي يُمكِن أن تُتصوَّر مسبقًا سبيلًا لتطوير المجتمع والثقافة.
تتبايَن علاقة النوعَين الرؤيوي والعادي للحُكم المعياري. وكلما ازداد رسوخُ ترتيبات المجتمع ومبادئ الثقافة، وزادت المسافةُ بين أنشطتِنا العادية المحافِظة على السياق ومبادراتِنا الاستثنائية المحوِّلة للسياق، ازداد وضوحُ المقارَنة بين جانبَي الخطاب التقادُمي. ومع تناقُصِ رسوخِ الترتيبات والمبادئ، وتضَيُّق المسافة بين أفعالِنا المحافِظة على السياق وتلك المحوِّلة للسياق، يتضاءل التبايُن بين سمات الجدل المعياري. وهنا تُصبِح حُجَجُنا العادية نبوءاتٍ صغيرة، فيما تتحوَّل نبوءاتُنا إلى تجاربَ صغيرة.
تترافَق العقلَنة في العلوم الاجتماعية الإيجابية والأنسَنة في الخطاب السياسي والقانوني المعياري مع الإفلاتية في العلوم الإنسانية. وتتجنَّب العلومُ الإنسانيةُ مواجهةَ البِنْية العملية للمجتمع. وبدلًا من ذلك، فهي تصفُ وتستكشفُ مغامراتٍ في الوعي. ولا تحملُ هذه المغامراتُ أيَّ علاقةٍ ظاهرةٍ بإعادة صُنع النظام الاجتماعي. وبصورةٍ أكثر عمومية، فإن الروح — أي الروح الإنسانية كما صوَّرَتها العلوم الإنسانية — تهرُبُ من البِنْية الخانقة للحياة اليومية. وبعد أن تهرُب، فهي تطفو للأعلى، متحرِّرةً من الجسد، وغيرَ راغبة وغيرَ قادرة على نفخِ الروحِ في، وإنعاش، ذلك العالَم الخالي من الروح لكلٍّ من الروتين والتَّكرار.
أما الموضوع الآخر فهو السلبية المتصلِّبة؛ التخلي عن مؤسَّسات وممارَسات المجتمع، والتي ترى — ضمنيًّا إن لم يكن بصراحة — باعتبارِها الأعداءَ الألدَّاءَ للرُّوح المقاوِمة والفائقة. تُوجَد الحقيقة الاجتماعية في عنصر التَّكرار. والتَّكرار، كما هو الحال في علاقة الزواج بالحب الرومانسي، فيبدو أنه إفناءُ الروح.
ليس بوسعنا تشكيل وتحسين الشخصية بدون تشجيع الدافع القوي والرؤية القوية في الفرد. ويجب أن يسعى مثلُ هذا الدافع ومثلُ هذه الرؤية إلى أي صوتٍ جماعي وتعبيرٍ اجتماعي. وإذا فَشِلا في عمل ذلك، فلا بد أن يحدُث أحدُ شيئَين؛ قد يذبل الاندفاع والرؤية؛ أو أنهما قد ينقلبان إلى الداخل، إلى النرجسية وتهذيب الذات، وهي نتيجةٌ هازمة لذاتها؛ لأنهما غيرُ قادرَين على التعامُل مع مقتضياتِ الصلة بين تأكيد الذات وبين الارتباط.
إن موضوع السلبية يستند على خطأ حول التركيب وخطأ حول الروح. وإن الخطأ المتعلق بالتركيب هو الاعتقاد بأن العلاقة بين مؤسساتنا وممارَساتنا بعملنا المتحدي للتركيب تبقى ثابتة. وعلى العكس من ذلك، فإن إحدى طرق تنظيم المجتمع والثقافة قد تختلف بشكلٍ حاسم عن الأخرى في مدى تَغذيتِها لقُدراتِنا على إعادة البناء، كما تخلق المناسبات لممارستها. أما الخطأ المتعلق بالروح فهو وجهةُ النظر القائلة بأن القوى المُنتهِكة والمتجاوِزة التي تساعد على تعريف إنسانيتنا يُمكِنها البقاء والازدهار في المغتَرب البعيد المدى عن الروتين والتَّكرار.
إن استكشافَ التيَّاراتِ المُعاكِسة للوعي في ظرفٍ بعَينه — أي الوعود غير المؤكَّدة الحدوث لمستقبلياتٍ أخرى، وتتبُّع الكفاح بين الروح والتركيب في كل مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية، وإظهار كيف يتم تجسيد الرؤية في المؤسَّسات والممارَسات، ومن خلال كونها متجسِّدة، فهي تُصبِح مقوضة ومصححة في الوقت نفسه، لكنها متحوِّلة في جميع الحالات، كما أن كَشْف كيف نخسر حريتَنا للتخيُّل وإعادة البناء، ثم استعادتها، حتى وإن كان ذلك ضد رغبتنا، والاستيلاء على الحكمة الغريبة من أجلِ انتقادِ النظامِ الراسخ والتجربة الحالية بصورةٍ أفضل، ومنح صوت لمن فقد صوتًا أو لم يكتسب واحدًا بعدُ، وأن نعرضَ في كلٍّ من أقسام تجربتنا، من الصغيرة إلى الكبيرة ومن العاطفة إلى الحساب، ثورة اللانهائي داخلَنا ضد ما هو مُتناهٍ حولنا — كل هذا يُمثِّل عملَ العلومِ الإنسانية عندما تتعرَّف علينا لما نحن عليه وما يُمكِن أن نصير إليه.
إعادة توجيه وعي الذات
يقترح نقد الاتجاهات المُضللة في العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية مقاربةً بديلة للتفسير والنقد. وتُمثِّلنا هذه المقاربة كنواتجَ لظروف، وسياق، وتركيب — كُلٍّ من المؤسسات والمعتقدات – لكن ليس كامل المنتجات.
يُمكِننا أن نقلبَ الطاولاتِ سواء بشكلٍ عَرَضي أو منهجي، يُمكِننا أن نقلبَ الطاولاتِ بشكلٍ عَرَضي بأن نفعل وأن نحلُم بأكثر مما يُمكِن للنظام المؤسَّساتي أو الأيديولوجي الراسخ أن يسمح به — وبعد ذلك مراجعة النظام ارتجاعيًّا بحيث يُمكِنه أن يستوعب تلك الأفعال والأحلام المقاوِمة. ويُمكِننا أن نقلبَ الطاولاتِ منهجيًّا بصياغة الترتيبات المؤسَّساتية والمفاهيمية التي تقلِّل المسافة بين ما نفعله داخل الإطار وما نفعله حيال الإطار.
إن مصلحتَنا في قلب الطاولات منهجيًّا — مهما كان النظام راسخًا — هي أكثر لا مباشرية، لكنها لا تقل قوة، عن مصلحتنا في قَلْب الطاولاتِ بشكلٍ عَرَضي، ومن بينِ العديدِ من جوانبِ هذه المصلحة، نجد الجانبَ الثقافي. ليس بوسعنا أن نتمنَّى القفزَ خروجًا من أنفسنا وأن نرى بعينَي الله، من مكانٍ محصَّن ضد تأثير المكان والزمان. وعلى أي حال، يُمكِننا أن نرتِّب مجتمعاتِنا وأفكارَنا بحيث نُغرى بصورةٍ أقلَّ لأن نخطئ في المحلي باعتباره عالميًّا، وأكثر قدرةً على تسجيل ومواجهة القيد بدون أن نُخطئ في التعرُّف عليه باعتباره القَدَر.
إن الفلسفة التي تتحيَّز للعامل المقاوِم، والتائه في عالمٍ عَرَضي، تُمدِّد، وتُعمِّق، وتُجذِّر كل هذه الممارسات الفكرية، كما أن نظرياتها تعلِّمنا كيف ننظر إلى الوراء، من المستقبل، إلى الحاضر.
رؤيةٌ أولية للعقل
من المفهوم ضمنيًّا في هذه المقارَبة البديلة لمشكلات الفهم الاجتماعي والتاريخي، نجد مفهومًا للعقل وللطبيعة البشرية. ويتخذ هذا المفهوم كنقطتَي انطلاقه التناقضَين الظاهرَين اللذَين ينتميان إلى طبقتَين شديدتَي الاختلاف؛ واحدة تتعلق بالدماغ والعقل، والأخرى بالتاريخ وأنصاره.
إن التناقُض المتعلِّق بالدماغ والعقل هو أنه مهما كان حجمُ تأكيدِنا على أننا كائناتٌ طبيعية حتى النخاع وإنكارنا لأي جزءٍ من تجربتنا يقع خارج بِنيتنا الطبيعية، فلا يُمكِننا وصف تجربة الوعي كما ينبغي بلغةٍ مادية، يُمكِننا الربطُ بين الملامح المختلفة لتجربتِنا الواعية وبين الحقائق الطبيعية التي قد تساعد على توضيح كيف أصبحَت ممكِنة. وعلى أي حال، فنحن لا نفسِّر بذلك ما هو أكثر أهميةً بالنسبة إلينا حول الوعي. وبشكلٍ خاص، نحن نفشَل في التعامل مع الخاصية الأكثر أهميةً للفكر وهي قدرتُه على تدمير نفسه.
يُمكِننا أن نصفَ هذه النقطة، بغَرض التوضيح، ضمنَ فئاتِ علومنا المعاصرة، برغم أن أهميَّتها تفوق تلك الفئات. لنفترِض أننا، بالاعتماد عليها، نميِّز ثلاثة من جوانب بِنيتنا العقلية؛ جهاز حسي-حركي، وجهاز مفاهيمي-قصدي، ومقدرة على ما أُطلق عليه اسم الارتداد. والارتداد هو القدرة، التي تتضِح بأكثر الصور مباشرةً في اللغة، على الاختلاف اللانهائي على أساسِ عناصرَ متناهية.
أما العنصر الثالث — أي القدرة على إنتاج اللانهائي من المتناهي — فيُغيِّر كل شيء، مشكلًا تجربتَنا الواعية برُمَّتِها؛ فهو يمنحُنا قدرتَنا على استخدام وسائلَ محدودةٍ لتوليد اختلافاتٍ غير محدودة في اللغة والفكر، والتعبير عن المحتويات أو المعاني المختلفة عن طريق علاقاتٍ رسميةٍ متشابهة بين الرموز، ونقل المحتويات نفسها، أو المعاني عَبْر سلسلةٍ مختلفة من الرموز. وهو يؤدِّي إلى السمة الأكثر بروزًا من تجربتِنا المفاهيمية-القصدية؛ قدرتنا على أن نقوم بشكلٍ لانهائي بمراجعة أفكارنا بجعل الضغط يؤثِّر على افتراضاتها؛ وهي مقدرة لا نكتسبها إلا من خلال قدرتنا الأكثر أساسيةً على توليد الاختلاف والتعقيد اللانهائيَّين. هذه القدرة بدَورها تنوِّر تجربتنا الحسية-الحركية عن طريق السماحِ لنا باستمرارٍ بتغيير القصص الضمنية التي بها نَغرسُ مدركاتِنا ونُوجِّه حركاتِنا.
ومن هذه الحقائق، ينتج التباسٌ في استخدام مفهوم الوعي. بوسعنا أن ننسبَ الوعيَ إلى الحيواناتِ الأخرى، التي نتشارَك مع بعضها، كما نفعل نحن، الملامحَ العريضةَ من التجربة الحسية-الحركية وحتى المفاهيمية-القصدية. بوسعنا حتى أن نتمنى أن نميِّز بوضوحٍ أكثر الآليات الطبيعية التي تعمل بها الأجزاء المختلفة لكلٍّ من هذه الأجهزة. وعلى أي حال، ففي نهاية المطاف، لن نكون قد زوَّدنا خريطة يُمكِننا نحن البشر أن نتعرَّف عليها باعتبارها الحياة الواعية.
إن العنصر المفقود — أي القدرة المتكررة على التسبب في التعقيد — يُعد متممًا للوعي ومتغلغلًا فيه في الوقت نفسه. وهو، أيضًا، يمتلك شروطًا مسبقةً طبيعية. والأكثر أهمية من بين هذه لدونة الدماغ؛ أي الطريقة التي يُمكِن بواسطتها لقِطع الدماغ أن توسِّع، أو تُدمِج، أو أن تغيِّر من نواحٍ أخرى ما تفعَلُه أجزاء الدماغ هذه. ويمكِن لِلُّدونة بدَورها أن تعتمد على الحقائق الطبيعية البسيطة، مثل الزياداتِ الضئيلة في حجم الدماغ والتفاعُلات الجديدة بين دماغٍ أكبر حجمًا وبين التطوُّر الحسي-الحركي.
وبرغم هذا، ففي سبيل شرح الشروط المسبقة الطبيعية لهذه القدرة التكرارية، نحن لا نفعل شيئًا لتوضيح محتواها؛ طرق عملها الداخلية وعواقبها المتعدِّدة الجوانب بالنسبة إلى تجربتنا. إن العقل التَّكراري متجسِّد في كائنٍ حي يمتلكُ تاريخًا طبيعيًّا شكَّل القدراتِ الطبيعية وأوجُه القصور الطبيعية للفرد.
أما المدى الذي يُمكِن أن يصلَ إليه العقل التكراري، وفي أيِّ اتجاهات، بالنظَر إلى القُدرات وأوجُه القصور هذه، فهو ليس مما يُمكِننا استنتاجُه من الظروف المادية التي جعلَت الخصائص الابتكارية لمثل هذا العقلِ ممكنة. نحن لا نفهَم العقل بصورةٍ أفضَل باستكشافِ تلك الظروف بصورةٍ أكثر اكتمالًا.
ليست هذه نقطةً ميتافيزيقية حول الصعوبة التي تُواجِهنا في الربط بين الطبيعي والعقلي، بل إنها ملاحظةٌ حول بنيةٍ محدودة تمتلك قُدراتٍ لانهائية. ومثل هذه البِنية قد تكونُ العقل البشري، وقد تكونُ أيضًا طريقةً لتنظيم المجتمع تعكس، من خلال العلاقات والملَكَات التي تدعمُها، ما يُشبِهه العقل. إن التوازيَ المحتمَل بين تنظيم المجتمع وتنظيم العقل يُؤذِن بالفكرة المركزية لأي برنامجٍ سياسيٍّ ملتزم بتطلعات وفرضيات التجريبية الديمقراطية.
لنتدبَّر الآن تناقضًا ظاهرًا ثانيًا تبدأ به هذه المناقشة حول التعبير عن إنسانيتنا في بِنْية عقولنا، وهو تناقضٌ حول الطبيعة والتاريخ البشريَّين. وهناك افتراضان حقيقيان قد يبدوان متضاربَين في بادئ الأمر.
إن الحقيقة الأولى هي أن ملامح تجربتنا، مهما كانت خصوصية ومراوغة، تكونُ جاهزةً لأول مَن يُريدها في التاريخ، على سبيل المثال، كيف نستشعر الغَيرة وما تَعْنيه لنا، أو كيف نربط، في أكثر ارتباطاتنا آنيَّةً واكتمالًا بالناس الآخرين، بين القوة والحب.
ليس في وُسْعنا فصلُ تجربتنا إلى جزأَين؛ الجزء المتغيِّر وذلك الثابت. لا يُمكِن دعم مظهر الثبات إلا بوساطة الحرمان من المحتوى المفصَّل الذي نفترض أنه محصَّن ضد التاريخ. أما الثابت فسيكون إذن الجامد أو الفارغ؛ أي الصورة المزورة لطبيعةٍ بشريةٍ ثابتة وكونية.
تُمثِّل هذه الحقيقة نتيجةً لحقائقَ أخرى. لا يُمكِننا أن نصنعَ الحياة إلا مقابلَ خلفيةٍ من ترتيبٍ معتاد للمجتمع والفكر؛ وبالتالي علينا أن نقاطعَ أو نحتويَ نزاعَنا حول شروط مثل هذا الترتيب. ليس هناك ترتيبُ طبيعي أو نهائي، برغم أن هناك طريقةً للترتيب تتسم بكَونها أكثر قربًا لإنسانيتنا لأنها تُقِر وتغذِّي المَلَكَات التي تجعلنا بشرًا بجعلنا ربانيين. لا يكفي تاريخُنا الطبيعي وبِنْيتُنا الطبيعية لوصفِ أو توضيحِ الأمر الأكثر أهميةً بالنسبة إلينا مما يتعلَّق بنا. وعلى وجه الخصوص، فهما لا يلقيان سوى قليلٍ من الضياء على كيفية الإجابة، في كلٍّ من مجالات الحياة الاجتماعية، عن السؤال التالي: ماذا علينا أن نفعل لاحقًا؟
أما الحقيقة الثانية، التي تبدو في بادئ الأمر في توتُّر مع تعرُّضِنا لتأثيرِ مرورِ السياق والتاريخ بجميع المراحل أو عبورهما جميع المراحل، هي أننا لا نستطيع أن نغيِّر ما نحن عليه جماعيًّا إلا ببطء وعلى الهامش. إن المعنى العملي لفكرة الطبيعة البشرية هو ببساطةٍ ما نحن عليه الآن. بَيْدَ أن ما نحنُ عليه الآن ليس مادةً طيِّعة، منفتحة على إعادة التشكيل السريع أو الجذري.
ليس في وسعنا نسيان الماضي؛ ولا نحن، على أي حال، عاجزون عن تخفيف المسْكة الخانقة للقيد، والمجسدة في الممارسات والمؤسسات الراسخة للمجتمع، وكذلك في مبادئ الثقافة المُكتسَبة بالمُمارَسة.
لكن في وسعنا أن نغيِّر العلاقة بين التكرار والتجديد في تجربتنا الجماعية، باستخدام التكراري، المتجسد في الممارَسات القياسية وفي الماكينات، لتعزيز ما لم يُسلم نفسَه حتى الآن للتَّكرار. يُمكِننا أن نجعلَ الرحلةَ من أنشطتنا المحافِظة على الأطُر إلى أنشطتنا المحوِّلة للأطُر أكثر استمرارية. ومن خلال القيام بذلك، يُمكِننا أن نقلِّل اعتماد التغيير على الكارثة.
يتضح معنَى وقيمة هذا الجهد عند مقارنته بالمشكِلة المشابِهة في أي حياةٍ فردية. وباعتبار أن كلًّا من المجتمع والثقافة يجب أن يتخذا شكلًا جامدًا بعَينه، كذلك فلا بد أن تستند الشخصية إلى العادة، وهذا الشكلُ المعتاد للشخص — ميوله نحو الآخرين وكذلك نحو الفرص المأمولة لوجوده الخاص — هو طبعه. لقد عُلمنا أن طبعه يُصبِح قدَرَه، وهو ببساطةٍ هذه الذاتُ الجامدة، كما تُرى من الخارج أو تبرُز إلى الخارج، والتي يتم التعرُّف عليها الآن كقوةٍ غريبةٍ لا تُقاوَم.
الرؤية الأولية المطوَّرة بالتباين
هذا المفهوم للعقل والطبيعة البشرية يبرُز بالتبايُن مقابلَ رؤيةٍ أخرى؛ فبرغم أنها تدَّعي امتلاكَ مؤهِّلات العلم، تجسِّد هذه الرؤية المُعارِضة أوجُه الإجحاف التي منعَتْنا من تطوير بديلٍ أفضل للفلسفة الدائمة.
وفي المقام الثاني، فالعقل ليس معياريًّا في أكثر جوانبه أهمية. ولا ريب في أنه يمتلكُ أجزاءً منفصلة، وهذه الأجزاء، التي تخضَع للتحسينات وتغيُّرات الوضع الناتجة من لُدونة الدماغ، تؤدِّي وظائفَ معيَّنة.
وعلى أي حال، فإن الطريقة التي يتم بها تجميع وتوجيه هذه العمليات المنفصِلة ليست معيارية؛ فالتجميع ليس مجرَّد مهمةٍ منفصِلة أخرى. ولا يُمكِننا أن نعزُوَه إلى أي جزءٍ متميِّز من حياتنا العقلية، كما لا يُمكِننا إدراجُه تحت مجموعةٍ مغلَقة من القواعد. يؤكِّد فعل الدمج باستمرارٍ قدرةَ العقل على تقديم النتائج — المتعلقة بالفكر، والعاطفة، وحتى الفهم — التي لا يُمكِن لمثل هذه المجموعة المغلَقة أن تشملَه أو تسمحَ به.
قد يبدو غريبًا أنه قد تكون هناك بِنيةٌ لكَسْر كل البِنَى، وأنها يمكن أن تتخذ شكلًا دقيقًا ومحدودًا، وأن تُبنى وفقًا لمواصفاتٍ معيَّنة. ومع ذلك فلدينا مثالان رئيسيان على مثل هذه البِنْية في تجربتنا؛ أحدهما هو العقل باعتباره تخيلًا. أما الآخر فهو المجتمع، المُعادة صياغتُه تدريجيًّا وفقًا لنموذج التخيُّل المنظم لتقصير المسافة بين أنشطتنا المحافِظة على السياق وتلك المحوِّلة للسياق، وتقليل اعتماد التحوُّل على الأزمة.
وفي المقام الرابع، فإن الانتقاء الطبيعي المنطبق على تطوُّر الدماغ والسلوك يُباغِته نظير الانتقاء الطبيعي في التاريخ؛ تنافُس أنماط الحياة الاجتماعية والثقافية. وتُشكِّل نتيجة هذا التنافُس تجربتَنا المتعلِّقة بالعقل. وهي تحدِّد، على سبيلِ المثال، الأهمية النسبية للجوانب التي يُمكِن حسابها — المعيارية والتي لا يُمكِن حسابُها وتلك اللامعيارية للتجربة العقلية. وهي تُشكِّل هذه العلاقة بصورةٍ أكثَر مباشرةً وقوةً بكثيرٍ مما تفعَل القوى الانتقائية التي تُواصِل التأثير في تطوُّر الدماغ والكائن الحي الذي يتجسَّد فيه الدماغ.
علَّمنا نقدُ الحتمية الوظائفية والتطوُّرية في الفِكر الاجتماعي خلال القرنَين الأخيرَين أن المستويات المماثِلة من القُدرة العملية على الإنتاج أو التدمير يُمكِن أن تتلقَّى الدعمَ من مجموعاتٍ بديلةٍ من المؤسسات. ولا تُوجَد علاقةٌ مباشرة بين الترتيبات المؤسَّساتية والفوائد الوظيفية.
وقد اكتشَفنا أيضًا أنه ليسَت هناك قائمةٌ قصيرة ومغلَقة من الأشكال البديلة للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي معروضة في تاريخ العالَم، ولدرجةٍ أقلَّ بكثيرٍ تقدُّم تطوُّري للأنظمة المؤسَّساتية غير القابلة للتجزئة، التي يخلُف بعضُها البعضَ بوساطة منطقٍ عنيد من التحوُّل.
تتنافَس الترتيباتُ المختلفة للمجتمع والثقافة؛ وتسلِّط نتائجُ المنافسة الضوءَ على ما ينجَح وما لا ينجَح. لكنه، على أي حال، ضوءٌ خافت ومبهَم. ليس هناك سوى عددٍ قليل من الخيارات الفعَّالة المعروضة والمتنافسة في أيِّ زمانٍ كان. أما الخياراتُ الشديدة الرسوخ، والمتعلِّقة بالقوى العالمية الرئيسية، فتتمتَّع بفوائدَ قد يفتقر إليها منافسوها ذَوُو الفعالية المشابهة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ اختباراتِ التفوُّق متعدِّدة الجوانب إلى درجة أنها لا تسمَح بالاستنتاجاتِ المباشرة، فهي تتضمَّن النجاحَ في إغواءِ القلوب، وفي تحويلِ العقول، وكذلك في تنفيذِ ما هو متوقَّع منها، وفي هزيمة العدُو.
هناك أحدُ أنواع الفائدة الوظيفية، الذي يتمتَّع في هذا الكِفاح المظلِم بمنزلةٍ فريدة ويستحق منا اهتمامًا خاصًّا؛ فمَع اضمحلالِ قوةِ الاعتمادِ على المسار في التاريخ، ومع تزايُد اختلاط الأشكال المختلفة من الحياة والوعي معًا، تزدادُ هذه القوةُ أهمية، وهي مقدرةٌ سلبية؛ القدرة على العمل بطريقةٍ لا صِيَغية ومُزدرِية لما يُمكِن أن تتوقَّعه القواعد والروتينات؛ أي القدرة التي يُمكِن إلهامُها وتقويتُها، أو تثبيطُها وإضعافُها، بفعل ترتيباتنا وممارساتنا، وكذلك من قِبل طُرق تفكيرنا وشعورنا.
هناك شيئان اثنان فقط في العالم، يستجيبان لهذا الوصف، أحدهما العقل البشري، والآخر هو المجتمع. وهما ليسا متماثلَين في هذا الجانب فقط، بل هما مرتبطان داخليًّا على نحوٍ معيَّن، وكلٌّ منهما متضمَّن في بنية الآخر.
يُظهِر العقل مجموعتَين مختلفتَين من القُدرات. في أحد جوانبه، يكون في الحقيقة معياريًّا وصِيَغيًّا، كما يمتلك أجزاءً متخصِّصة. تشتغل كُل هذه الأجزاء وفقًا لما نفهَمُه على أنه صِيَغ، وفي هذه الجوانب من طرق عمله، يكون لكل شيءٍ بداية ومنتصف ونهاية. وليست هناك مفاجآت، باستثناء مفاجأة اكتشافِ أن جهازًا قادرًا على حلِّ المشكلات عن طريقِ كسرِ القواعد يجب أن يحتويَ برغم هذا ضمنَ نفسِه شيئًا شديدَ الارتباط بالقواعد.
والعقل، على أي حال، يمتلك سمةً ثانيةً أيضًا. وفي هذه الحياة الثانية، هو يُظهِر قدرتَين مميزتَين؛ قدرة اللانهائية التَّكرارية وقُدرة المبادرة اللاصيغية، وبواسطة قُدرة اللانهائية التكرارية، يصنَع العقل توليفاتٍ لانهائية من العناصر المتناهية. وبواسطة قدرة المبادرة اللاصيغية، فهو يصنع أشياءَ غيرَ متقيِّدة بالقواعد.
إن قُدرتَي اللانهائية التكرارية والمبادرة اللاصِيَغية تدعمان قدرةً تتَّسِم بكونها أكثر عموميةً في نطاقِها وكذلك أكثَر شموليةً في تأثيرها؛ المقدرة السلبية للعقل. إن المقدرة السلبية للعقل هي قدرتُه على الانقلابِ على نفسه، واختبار، وإنكار، وتدمير، والإفلات من، وتحويلِ الافتراضاتِ التي عَمِل بموجبها والروتينات التي يعمَل بواسطتها. يُمكِننا دائمًا أن نُفكِّر ونكتَشف أكثر مما يُمكِننا تبريرُه، أو حتى فهمُه بالكامل، ونجد التبرير والإجراءات المزوِّدة للمعنى عند التفكير بما حدث في السابق.
إن الوعي مُجمل؛ فتجربة الوعي هي تجريةٌ من الحركة ضمنَ مجالٍ مفتوح وعريضٍ من الاهتمام المحتمَل، وأي موضوعٍ بعينه لهذا الاهتمام ليس أكثر من حُطام سفينةٍ يطفو في محيطٍ من الوعي. وهناك أجزاءٌ تتعلَّق بأنشطَتنا العقلية. وعلى أي حال، فالوعي يتحرك بين الأجزاء كما لو أنه ليس مجرَّد مجموعةٍ منها. وفي الحقيقة، هو ليس كذلك.
والوعي متجاوز؛ فلا يمكن احتجازُه ضمن إطارٍ مغلَق من الافتراضات المسبقة. نحن لا نفهم قطعةً معيَّنة من العالَم الظاهر إلا بتمثيلها كغائبةٍ ومتحوِّلة في الوقت نفسه وعن طريق ربط المعيَّن ليس فقط بالمعيَّنات الأخرى ولكن أيضًا بينيةٍ من الأصناف التي هي نفسُها ناقصةٌ وقابلة للمراجعة. نحن نُدرِك أكثر مما يُمكِننا أن نفهَم، ونحن نفهَم أكثر مما يُمكِننا أن نبرِّره مستقبليًّا. نحن نحوِّل الأحجيات والشذوذ إلى نبوءة؛ الإشارة بطريقةٍ أخرى إلى فهم بعض أجزاء الحقيقة حولَنا.
إن العقل، إذن، هو توليفة من هاتَين السمتَين — الأولى تدريجية وتكرارية، والأخرى مستحوذة على قدرات اللانهائية التكرارية، والمبادرة اللاصِيَغية، والقدرة السلبية؛ ومن ثَم فهي مُجملة، ومتجاوِزة، ومفاجِئة.
إن العقل متجسِّد؛ ولأنه مبنيٌّ وفقًا لمقياس وحسب حالة كائنٍ حيٍّ مُتَناهٍ ومعرَّض للموت، فهو أداةٌ لحل المشكلات. وتتخذُ أفكارُه من الفعل خلفيةً لها. أما ملَكَات الإجمال، والتجاوُز، والمفاجأة فتُنتِج معظم قدرته على حل المشكلات. وإذا كان العقل بدعة صِيَغية، فلن يستطيع أن يتصدى للمخاطر والفرص الممكنة في العالم الزماني الذي ينبغي علينا أن نعمل فيه، ولا مع الطبيعية غير المحدودة والمتغيرة للمصالِح التي تحفِّز أفعالَنا. وعلى أي حال، فإن الملامحَ ذاتَها التي تمكِّنه من حلِّ مشكلاتٍ بعَينِها تسمَح له أيضًا بالتجوُّل فيما وراءها، بتخيُّل الخطر البعيد والفرص البعيدة في عالَم بانتظار أن يُخلق، واكتشاف الارتباطات المَخْفية في حقيقةٍ تتجاوَز أفقَ أعمالنا الفردية.
ومع تحرُّكنا لما وراء النِّطاق الذي يظلِّل الفكر فيه الفعل، محصَّنين بأدواتِنا التجريبية وتخميناتِنا التفسيرية، لن تُصبِح أفكارُنا صورًا أكثر موثوقيةً من الحقيقة؛ بل تُصبِح أقلَّ موثوقية؛ فهي تُصاب بعَدْوى المجاز. ولكي تُصبِح مفهومةً بالنسبة إلينا، يجب أن تُعاد ترجمتُها في النهاية إلى تعبيراتٍ يُمكِننا الربطُ بينها وبين تجربتنا المُرتكِزة على الفعل، وهي ليست منظر العالم كما يُرى من النجوم، بل إنها منظورنا فحسب؛ أي منظور الكائنات التي تتمتَّع بالقدرات المميزة للعقل.
يكشف تجسُّد العقل شيئًا يُثير قَدْرًا هائلًا من الاهتمام، ليس توليف جوانبَ للعقل مثل الزواج الغامض بين الإنساني والإلهي، وهو نتيجة للتطور الطبيعي لجهازٍ معيَّن، مصنوع من عددٍ قليل من العناصر المتناهية، والذي صِيغ معظَمُه قبل أن نُوجَد؛ ومن ثَم أُعيد توحيدُه بمرور الزمن.
ليس بوسعنا أن نصفَ بالكامل العلاقةَ بين جانبَي العقل بالنظر إلى العقل وحده؛ فالعلاقة بينهما تعتمد على شيءٍ آخر، وذلك الشيء الآخر مسئول عن الوصف ذي الوجهَين للإنسان والآلة؛ المجتمع وثقافته.
تُظهِر حياتُنا الاجتماعية والثقافية الثنائيةَ نفسَها التي تتسم بأهميتها المحورية للعقل؛ التَّكرار ضمنَ إطارٍ من الترتيبات والفرضيات التي قد تكون عادةً غير مُعتَرَضٍ عليها وحتى غير مرئية؛ وبعد ذلك، في بعض الأحيان، فعلًا عمليًّا أو تخيُّليًّا لتغيير ذلك الإطار.
قد يكون المجتمع والثقافة مُنظمَين لعزل نفسَيهما عن التحدي والتحوُّل، بتطويل المسافة بين الحركات العادية للمحافظة على السياق وتلك الاستثنائية المغيِّرة للسياق، وإحكام اعتماد التغيير على الأزمة. وفي مثل هذه الحالة، سيستَمِر الجانب الثاني من العقل في الوجود، وسيكون متضمَّنًا في تجربة الوعي، وفي ممارسة التفكير، وفي استخدام اللغة. وعلى أي حال، فقدراتُه المتعلقة باللانهائية التكرارية، والمبادرة اللاصِيَغية، والقدرة السلبية لن تكون في طليعة حياتِنا العقلية، بل ستبقى في الخلفية.
لنفترض، على أي حال، أن المجتمع والثقافة مرتَّبان لفتح نفسَيهما على التحدِّي والتغيير، بتقليص المسافة بين نَسخِ ومراجعة السياق المؤسَّساتي والأيديولوجي، وتقليل اعتماد التحوُّل على الكارثة. حينئذٍ لن تكونَ قدراتُ الجانب الثاني ضمنيةً أو تبدو شاذةً وهامشية؛ فتأتي إلى صدر مخاوفنا الواعية ومفهومنا للذات؛ ولكانت العلاقة بين جانبَي العقل ستتغيَّر بفضل التغير في خصائص المجتمع والثقافة.
وبالتالي، فإن العقل يظل مشروعًا غير مُنجز؛ غير مُنجز ليس فقط باعتباره المنتج المتداعي للتاريخ الطبيعي الذي هو عليه، بل غير مُنجز أيضًا لأنه لا يُوجَد مقياسٌ يُمكِن بوساطته قياس العلاقة بين أجزائه، والذي لا يعتمد على ما نفعَل بأنفسنا في التاريخ.
من مفهوم العقل إلى تعيين الاتجاه
إن هذا المفهومَ حول العقل، عندما يُرى مقابلَ خلفيةٍ من رؤية الحالة الإنسانية التي استكشفناها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب، يُساعِدنا على فهم أي نزاعٍ بين طائفتَين من وجهات النظر المتعلقة بالطبيعة البشرية اللتَين تحارَبَتا، ولا تزالان في حالة حرب، على مدار التاريخ.
وعند القيام بذلك، فهي تأتي بنا إلى عتبة الأسئلة: ماذا نفعل بحياتنا، وكيف ننظِّم مجتمعاتنا؟
قامت طائفةٌ منفردة من الأفكار المتعلقة بالطبيعة البشرية بممارسةِ تأثيرٍ لا نظيرَ له في تاريخ الفكر. وهي تُشكِّل جزءًا مما وصفتُه في فِقرة سابقة على أنه الفلسفة الدائمة، وهي الخاتمة الحاسمة لتلك الفلسفة — أي مغزاها الكامل، وفي إحدى الصِّيَغ أو الأخرى، فقد ظلَّت المذهبَ السائدَ للإمبراطوريات الزراعية-البيروقراطية التي كانت، جنبًا إلى جنبٍ مع الأديان العالمية، بمنزلة الأنصار الرئيسيِّين للتاريخ قبل القرون القليلة الماضية من الثورة العالمية.
ووفقًا لهذه الأفكار، يعمل وضوحُ تجربة الإحساس على حَجْب الطبيعة الحقيقية للواقع بدلًا من كَشْفها. ويتَّسِم العالَم الظاهر للتغيير والتمييز بكونه وهميًّا، ويؤدي استسلامُنا لأوهامه إلى استعبادِنا وجَعلِنا نُعاني، مما يُحرِّض تمرُّد الرغبة ضد التوهُّم ويسجنُنا في عالمٍ حزينٍ من الشرود والخُيلاء.
أما المرغوب فهو تحقيق التحرُّر من التوهُّم، واللامبالاة بالمعاناة، والإحسان من علٍ، لكُل من يعاني حولنا. ولتحقيق هذه الغاية، علينا أن نوطِّد الترتيبَ الصحيح ضمنَ الذات وضمنَ المجتمع. وهذان الترتيبان — المتعلقان بالنفس وبالمجتمع — سيدعم كلٌّ منهما الآخر.
ضمن الذات، يجب أن تُخضَع الشهوات الحسية للعواطف المرتكِزة على الفعل، وأن تُخضَع هذه بدَورها لفهم الحقيقة العميقة والكونية، فيما وراء التغير والاختلاف. وضمن المجتمع، يجب أن يُخضَع مَن يعملون لأولئك الذين يُحاربِون ومن يُحارِبون إلى أولئك الذين يحكُمون، ويفكِّرون، ويصلُّون.
إن العلامة الاجتماعية للنجاح في هذا المسعى لترتيب العالم ستكون نظامًا تراتبيًّا في المجتمع، والذي يقترن بالسلطة بصورةٍ مباشرة، أما العلامة الأخلاقية للنجاح فستكون التحكُّم في اللامبالاة والصفاء الذي سنضع من خلاله حدًّا للقلق والإحباط الملازمَين لتعاطينا مع العالَم الوَهْمي للتغيير والاختلاف، وسيكون مَن حقَّقوا هذا التحرُّر من الصفاء محسنين على مَن يبقَون محتَبَسين في شِراك العالم الظاهراتي، ولكونه نفسه متحررًا من الخطر؛ لأنه يُعطى، من بُعد، من قِبل الأحرار إلى غير الأحرار، سيُعبِّر هذا الإحسان عن — ويَدعَم — سعادة المنيع — المنيع على معاناة التبعية والإحباطِ لأنه منيعٌ على وَهْم الزمن والاختلاف.
سيتمثَّل مبدؤه الأساسي في تزاوُج التعاطُف بالبصيرة؛ التعاطُف مع معاناةُ الآخرين الذين لم يتحرَّروا ويتمتَّعوا بالصفاء بعدُ، والتبصُّر بالحالة العامة للوقوع في شَرك العالَم المتلاشي للتغيُّر والاختلاف. أما رسالتُه للجميع فستكون: ابتعِدوا عن المشاكل.
تمثَّلَت المبادئ الفلسفية الأساسية لهذا المشروع في منظومةٍ ميتافيزيقيةٍ من الأنماط البَدْئية الخفية للحقيقة، والأكثر حقيقيةً من العالَم الظاهراتي للتحوُّل والزمن. ووفقًا لهذه المنظومة الميتافيزيقية، هناك أنواعٌ طبيعية سرمدية — أو حتى حقيقة وحيدة من الوجود غير المتمايز — تَستبطِن الظواهر. إن صعود الاستقصاء هو من وحي هذه النماذج البَدْئية، وعن طريقِ إبطالِ آنيَّة وفتنة تجربة الإحساس، نحن نستعدُّ لأن نُلقيَ على أنفسِنا التعويذة التي ستسمح بكلٍّ من الصفاء والإحسان. وعند الحد الفاصل، نحن نتَشارَك تجريةَ إلَهٍ لا شخصي في عالَمٍ سرمدي.
طَوال القرنَين الماضيَين، اكتسبَت طائفةٌ معارضةٌ من المعتقدات حول الإنسانية والمجتمع تأثيرًا منقطع النظير في جميع أنحاء العالم. وهي تتقبَّل حقيقة العالَم الظاهراتي للزمن والاختلاف، وتتعامل مع التاريخ باعتباره حقيقيًّا، ولا يتكرَّر، وحاسمًا؛ أي المسرح الذي يجب فيه تحقيقُ أو تعطيلُ آمالنا الإنسانية، وهي تتصارع مع مقتضيات انحراف التوازن بين الزمن التاريخي الذي تُثمِر فيه هذه الآمال أو تُحبَط، وبين الزمن السِّيَري الذي يتعيَّن علينا أن نعيش فيه حياتنا.
وهي تُنكِر الجهدَ المبذولَ للعثور على السعادة في الصفاء وعلى الصفاء في المنعة، كما تُوصِي بالبحث عن المشاكل؛ فالفرد يشكِّل نفسه، ويُصبِح أكبَر وأكثَر حرية، عن طريق الكفاح ضد قیود زمانه ومجتمعه. ولتحقيق هذه الغاية، على أي حال، عليه خلع درعه، وقبول أي تعرُّضيةٍ مضاعفة كسعرٍ للتحوُّل وتحويل الذات.
ليس هناك نظامٌ تراتبيٌّ موثوق سواء في الذات أو المجتمع. يتكون التقدُّم من تدمير مثل هذا النظام، ومن تحسين وتهذيب قُدرات الأشخاص العاديين. وهذا التدمير خَطِرٌ ومؤلِم، لكن ليس هناك بديلٌ له يتوافَق مع صعودنا إلى قدْرٍ أكبر من السلطة، والبصيرة، والتحكُّم في الذات.
واهَمُّ وقائعِ هذا الصعودِ هي تلك التي تسمَح لنا بتهدئة الصراع بين أحوال تفرُّدنا؛ الانخراط في عالَمٍ معيَّن من دون أن نُسلم إليه قُدراتِنا على المقاوَمة والتفوق؛ والارتباط بالأشخاص الآخرين، وخصوصًا من خلال الابتكار — التعاون الودي ومن خلال الحب الشخصي، بحيث إننا بالارتباط بهم لا نتوقَّف عن أن نكونَ وأن نُصبِح أنفسَنا.
إن الشكلَ الأسمى للتعاطي من دونِ استسلامٍ هو العيشُ للمستقبل والكفاح حول اتجاهه كطريقةٍ معيَّنة للحياة في اللحظة الحالية ككائنٍ غيرِ متشكِّل بصورةٍ كاملةٍ ونهائية بالترتيبات والمعتقَدات الراسخة، أما الشكلُ الأسمى للاتصالِ من دون قمع الذات فهو الحب بين الأنداد، الذي يُمنَح ليس كإحسان من بُعد ومن عَلٍ ولكن كتخيُّل وقَبول بين أنداد يُمكِنُهم رفض، وخيانة، ومن ثم إلحاق الأذى بعضهم ببعض.
إن الإنسانية، بصورةٍ منفرِدة وكذلك بشكلٍ جماعي، في الشخص وكذلك في النوع، تمتلك في داخلها لاتناهيات. نحن نطلب اللانهائي من المتناهي؛ وهو تطمين بأن كل شيءٍ على ما يُرام من شخصٍ آخر، حتى أن نطلُب العالَم من سيجارة. وعلى سبيل المثال، فإن تجاربنا المتعلقة بالإدمان والوساوس تمثِّل مغامراتٍ في التجاوُز الزائف؛ الارتباط المتنافر والاعتباطي ظاهريًّا من الاشتياق اللانهائي إلى وجودِ أشياءَ متناهيةٍ للغاية. أما تجاربنا المتعلقة بالضجَر والقلَق فتَشهَد على تملمُلِنا في أغلالنا، إلى حدِّ ثقل مقدراتنا غير المستخدمة وقدراتنا الخفية. ويمثِّل جشَعُنا وصمةَ عارٍ للاتناهينا.
ستَعني الحرية، وحتى التأليه، أن تُضخم في تجربتنا فرصة التعاطي من دون استسلام، والتواصل من دون أن نكُف عن أن نكون أو نُصبح أنفسنا. يتطلب تقدُّم ذلك المشروع أن نُعيد تشكيل المجتمع والثقافة؛ فلا يكفي استبدالُ بعضِ المؤسَّسات والممارَسَات بأخرى. علينا أن نغيِّر علاقة هذه البِنَى الاجتماعية والثقافية بحريتنا المُتحدِّية للبِنَى، بخَلْق البِنى التي تُضاعِف فُرصَ ووسائلَ مراجعتها، وبهذه الطريقة تَحرِمُها مظهَرَها الكاذب للطبيعية. ويتعيَّن علينا اليوم أن نُعيد اختراعَ الأشكالِ المؤسَّساتيةِ والفرضياتِ الأيديولوجية للتعدُّدية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية — للديمقراطيات، واقتصاديات السوق، والمجتمع المدني الحُر. علينا أن نجعلَ التكرارَ في المجتمع وفي الثقافة وكذلك في الحياة الداخلية للعقل تابعًا لخَلْق الجديد.
وإذا نجحنا في ذلك، فسنكون قادرينَ بصورةٍ أفضلَ على أن نُوجَد داخلَ عالَمٍ اجتماعيٍّ وثقافي معيَّن، وأن نكون خارجَه في الوقت نفسه. وسنطوِّر بسرعةٍ أكبر القدرات، والأدوات، وحتى البصائر التي يُمكِننا من خلالها تعجيلُ النمو الاقتصادي والابتكار التقني، وتخفيف أعباء الفقر، والكد، والعجز الذي يستمر في الإلقاء بثقله على كاهل الحياة الإنسانية. وسنَصهَر، تحت حرارة الضغط والتحدِّي المتكرِّر، كلَّ الأنظمة الثابتة للتقسيم والتراتُبية الاجتماعية، ونمنعها من أن تعملَ كشبكةٍ لا مفَر منها يجب أن تتطوَّر بداخلها علاقاتُنا العملية والعاطفية بعضِنا مع بعض.
هناك سببٌ وجيه وعميق لهذه الآمال. ليس صحيحًا أن هناك علاقةً ثابتة بين الترتيبات المؤسساتية أو الفرضيات الثقافية وبين قدرتنا على مقاومتها وتحويلها، تتفاوَت مثل هذه الترتيبات والفرضيات في النوعية — في نوعية علاقتها بنا، وبقدرتنا على معارضتها وإعادة تشكيلها — وكذلك في محتواها المتميِّز. وليس صحيحًا، كما اعتقد التحرُّريُّون والاشتراكيون في القرنَين التاسعَ عشرَ والعشرين، وجود توافُقٍ مسبقٍ بين مصلحتنا العملية في التقدُّم الاقتصادي ومصلحتنا الأخلاقية في تحرير، وتمكين، وتنوير الفرد.
إن سبب الاعتقاد بوجود مثل منطقة التداخُل المحتمَل هذه هو انجذابُ كلٍّ من مجموعتَي المصالح إلى التعبيرات الاجتماعية للجانب الثاني من العقل؛ قدراته المتمثلة في المبادرة اللاصِيَغية، واللانهاية التَّكرارية، والمقدرة السلبية. وكلما ازدادت حريتُنا في أن نُعيدَ تعريف المهام العملية في اثناء تنفيذها، وفي تطويرِ نظامٍ للتعاون يتَّسِم بكَونِه مضيافًا لأقصى درجةٍ مُمكِنةٍ للإبداع الدائم، وفي تخفيف حدَّة المقارَنة بين النظام والفوضى أو التصميم والارتجال، كانت فرصتُنا أفضل في تنشيط النمو الاقتصادي والابتكار التقني. نحن نحلُّ علاقاتِنا بعضِنا ببعضٍ من المخطوطات الراسخة للمجتمع والثقافة، ونحوِّلها إلى تمثيلٍ جماعي للاستقصاء التجريبي.
وبالطريقة نفسها، فنحنُ نُقوِّض التراتُبية والتقسيم المتحصنَين والمطبعَين في المجتمع من خلال حركةٍ مزدوجة؛ فمن ناحية، نحن نُنكِر المناعة من الضغط على الترتيبات والمبادئ التي تعتمد عليها كلُّ هذه التراتبيات والانقسامات ضمن الإنسانية. ومن الناحية الأخرى، نحن نطوِّر قدرات الفرد — الاقتصادية والسياسية والعقلية؛ وبمعنًى آخر، فنحن نُضفِي تعبيرًا عمليًّا على هدف جعل الشخص ربانيًّا أكثر.
وبالتالي، فإن الأساسَ العميقَ للأمل في أن يُمكنَنا أن نتقدم في منطقة التقاطُع بين شروط التقدُّم المادي ومتطلَّبات الانعتاق الفردي هو الدَّور الذي يجب أن يُمارَس في تعزيز كُلٍّ من هاتَين الطائفتَين من المصالح عن طريق التعبيرات الاجتماعية عن السمة الثانية للعقل. وعند تنظيم المجتمع والثقافة لوضع ملَكَات الإجمال، والتجاوز، والمفاجأة الخاصة بالعقل في قلب التجربة الاجتماعية، نحن نُنتِج تقارُبَ المصالح الأخلاقية والمادية الذي اعتقد التحرُّرِيُّون والاشتراكيون الكلاسيكيون على نحوٍ خاطئ أنه أمرٌ مقدور.
إن الأشكال المؤسساتية والمفاهيم الأيديولوجية للديمقراطية، واقتصاد السوق، والمجتمع المدني الحر — الصاعدة حاليًّا في العالم والراسخة في البلدان الأكثر ثراء — تمثِّل مجموعةً فرعيةً من مجموعةٍ أكبر بكثير من الخطوات المقبلة المُمكِنة التحقيق، والتي سنحتاج إلى اتخاذها من أجل خدمة هذه المصالح وتحقيق هذه المُثُل العليا. إن العولمةَ نفسَها ليست موجودةً على أساس القبول أو الرفض؛ فنحن لسنا مُضطَرين إلى أن نختار بين امتلاكِ مزيدٍ منها في شكله الحالي وقَدْرٍ أقلَّ منها في ذلك الشكل نفسه، بل في وسعنا أن نأخذ مزيدًا منها وفقًا لشروطٍ مختلفة.
أنا أسأل نفسي في هذا الكتاب: بناءً على أيِّ فرضياتٍ حول العالم والعقل، والنفس والمجتمع، تستمر هذه المعتقدات — وهي مجرد ترجماتٍ وتطوُّراتٍ لعقيدةٍ سيطرَت بالفعل على العالَم وأضرمَت فيه النار — في أن تكونَ ذات مغزًى؟ وضمن أي توليفة أكبر من الأفكار يمكِننا أن نرسِّخها، ونطوِّرها، ونصحِّحها؟
إن الأفكار التي اعتمد عليها هذا المذهب ذات مرة، مثل القصص التطوُّرية العظيمة للتقدُّم الاجتماعي التي ورثناها عن القرنَينِ التاسعَ عشرَ والعشرين، ضلَّلَتنا، بصورةٍ كارثية أحيانًا؛ لأن تبريرها للأمل والتغيير ملوَّث باستغاثاتٍ إلى الضرورة الكاذبة. لقد عَجزَت عن أن تفعل للمشاريع الحديثة للتحوُّل الاجتماعي والأخلاقي ما عَمِلَته الفلسفة الدائمة للمحاولة القديمة لتحقيق الصفاء عَبْر المنَعة وترسيخ منظومةٍ تراتُبية في الذات وفي المجتمع. ويتمثَّل طموحُ هذا الكتاب في إظهار أننا نستطيع أن نجد مغزًى في هذه المشاريع التحوُّلية، وهو معنًى أكبر يُنير حالتَنا في اثناء الحياة الفردية، وكذلك في تاريخ الجنس البشري. إن الوصول إلى هذا الفهم الأكبر لها سيُساعِدنا على أن نُنقِذَها، ونُعيدَ تفسيرها؛ ومن ثَم نُعيد توجيهَها.