الفصل الثامن

ماذا عسانا أن نفعل بعد ذلك؟

المفهوم والتوجُّه

طوَّرَت الأجزاءُ السابقة من هذا الكتابِ مفهومًا للإنسانية ولمكانها في العالم. يَرقَى هذا المفهوم لاعتباره بديلًا للفلسفة الدائمة، ويمثِّل هذا البديل تفسيرًا للبرنامج الخفي أو غير المتحقق للفلسفة.

أما الأجزاء التالية من الكتاب فتلخِّص سلسلةً من المشاريع التحولية — في السياسة، والدين، والفكر التأملي — التي يُلهِمُها ذلك المفهوم. وهي لا تعرض مخططًا بل اتجاهًا وسلسلةً من الخطوات التالية. وتدعُو مقترحاتُها البرامجية إلى منحِ السلطة والطاقة للمفهوم الذي يُلهِمها؛ وبالتالي فهي تُقدِّم مطالبةً محوريةً مثيرةً للنزاع؛ وهي أن البديل للفلسفة الدائمة، عند فهمها بشكلٍ صحيح، لا يتركنا على غير هدًى. وهو لا يُسلمنا لأي اتجاهٍ قد نستَجمِعه من ظروفنا ومصالحنا المحلية كما كانت موجودةً قبل أن نُباشِر عملَنا الفكري. يدعونا البديل لإعادة بناء المجتمع، والوعي، والفلسفة ذاتها بطريقةٍ معيَّنة. أما الأفكار التي تصف هذا التوجُّه فقد تبدو في بادئ الأمر غيرَ محدَّدة وحتى محيِّرة. وعلى الرغم من هذا فهي تستبعد الكثير وتُجبِرنا على الفعل. وهي تدعو إلى ثورةٍ معيَّنة، ثورةٍ عالمية — هي روحيةٌ بالإضافة إلى كَونها سياسية.

يستكشف هذا الفصل نقطة التحوُّل بين المفهوم والتوجُّه. إن الرغبة في الاعتراف بوجود مثل نقطة التحول هذه لا تشير ضمنًا إلى أي ممَرٍّ غامضٍ من «يكون is» إلى «يجب ought»، وبدلًا من الدخول في النزاع الميتافيزيقي حول «يكون» و«يجب»، والادِّعاء بأننا نستطيعُ الانتقالَ من أحدهما إلى الآخر، فهو يتجنَّب هذا الجدال شبه الفلسفي.

تقوم نقطة التحوُّل بين المفهوم والتوجُّه بتفعيل النشاط السوي والطبيعي للعقل فيما يتعلق بحل المشكلات، عندما يُجعَل ذلك النشاطُ عامًّا وناقدًا لذاته في الوقت نفسه. وبدلًا من أن يُوجه إلى حل مشكلاتٍ معيَّنة في مجالات بعينها، قد تتخذ هذه القوة كموضوعٍ لها كامل حالتِنا في العالم. ولا يمكِنها عملُ ذلك من دونِ تحريرِ المثبِّطات المفروضة بفعل الطرق الخاصة بمجالاتٍ معيَّنة، وبالفرضيات المتعلقة بتقاليدَ بعَينها.

وعلى أي حال، فهذا الدفع إلى ما وراء السياقات والعلامات الإرشادية المحدودة ليس مغالاةً فلسفية تُعارِض تقييداتِ الفِكر، بل هو تعبيرٌ لا يُقاوَم عن الجانب الثاني — المفاجئ والمتجاوز — للعقل؛ وبالتالي، وبقَدْر أي شيءٍ آخر نحن نعمله، عن بِنْيتنا الطبيعية. إن اتصالَه بالحقائق البِنْيوية لإنسانيتِنا لا يُبعِده تمامًا عن الخطَر. وعلى العكس من ذلك، فهو مُفعَم بأخطار الوَهْم والتضليل. والأفضل، على أي حال، أن نصارع هذه المخاطر من أن نُستعبَد بالمخاوف، والولاءات، والعقائد التي — في غياب مثل هذا الصراع — ستَحكُم حياتَنا.

لامبالاة الطبيعة

إن الملمح الأول لحالتنا، والذي يجب أن يصدمنا نحاول تقرير كيف نُوجِّه أنفسنا في العالم الذي نجد فيه أنفسنا، هو لامبالاة الطبيعة بمخاوفنا. بَيْدَ أن هذه الغرابة التي لا يمكن تجاوزُها مُلازِمة للتباين الهائل والمستحيل بين حياتنا الإنسانية وسياقها الطبيعي. نحن نحتل زاويةً صغيرةً جدًّا من الكون، الذي ظهَرنا فيه قبل لحظةٍ فقط. وليس بإمكاننا النظر إلى بدايات ونهايات الزمن. أما حيواتُنا المنفردة، عند النظر إليها بأثَرٍ رجعي، حتى من داخل حقيقة تجربتنا الخاصة، فتنقضي بصورةٍ مفاجئة ومباغتة.

إن غرابة العالم — اندفاعه في تجاوزنا، وقهره لنا، وسحقه لنا باستعراضه لضخامته مقابل ضآلتنا، واستغلاقه عند آفاق الزمن — تفرض نفسَها علينا بطريقةٍ مباشرة ومنيعة في الوقت نفسه. وهي تفعل ذلك من خلال نهائية finality الموت. تبدو حالتُنا كمخلوقاتٍ معرَّضة للموت في صراعٍ يتعذَّر حلُّه مع الخصب اللانهائي للشخصية؛ ففي نهاية المطاف، فإن قوة النفس دائمًا ما تتحدى القيد وتتجاوز السياق، كونها قوةً مؤكدة في المشروع الفلسفي الذي نحن مكتتفون فيه الآن.
قد نُغوى بالنظر إلى الكون باعتباره لا مواتيًا favorable ولا غير مُواتٍ لمساعينا. ومثل وجهة النظر هذه تخدم الميتافيزيقيا المضادة للميتافيزيقيا التي تتلاءم مع المزاج الانكماشي ثقافيًّا لعصرنا. وعلى أي حال، فستكون خاطئة وتُظهِر نفس الجبن الذي تحرَّر منه قليلٌ فقط من الفلاسفة — مثل شوبنهاور العظيم.

في الجانب الأكثر أهمية، فإن الكون غير مُواتٍ لمساعينا، فلا تناسبه معنا، واستسلامه إلى قوة — هي الزمن — تسحق في النهاية المشاريع والارتباطات التي نعرف من خلالها إنسانيتَنا، وتخلق مسافة، وجفاء، ورعبًا لا يمكننا أن نتغلب عليه مطلقًا، أما ردُّها على تجربتنا من الخصب اللانهائي فهو أن تقضي بموتنا.

ومع ذلك، فهذا الصراع بين القيود الجامدة المفروضة على حياتنا والعمق الذي لا ينفَد لتجربتنا، والذي تؤكِّده قدراتُنا على كلٍّ من التمرُّد والتفوق، والمحفور في الجانب الثاني من العقل، يكون فظيعًا فقط لأنه يلقي بظلاله على شيءٍ رائع. وهذه الأعجوبة هي بهجة أن تكون حيًّا في اللحظة، الآن مباشرة — أن نكون بدلًا من أن «لا نكون» وأن نجد أنفسنا مغمورين في العجائب من كل الجهات. وهي بهجة من الشدة، ومن أرجحية أن تتم تقويتها بدلًا من تقويضها بفعل التأمل، بحيث إننا لا نستطيع التفكير بها لفترةٍ طويلة للغاية أو بصورةٍ مباشرة تمامًا. ويعني عمل ذلك أن نخاطر بالتعرُّض للشلَل بفعل بهجة أكثر خطورة من الاعتراف السوداوي بالتباين بين فَنائيتنا وقدرتنا على التجاوُز.

إن من كتَب أنه ليس بوسعنا أن ننظر بصورةٍ مباشرة إلى الموت أكثر من أن ننظر مباشرةً إلى الشمس كان حريًّا به أن يضع الحياة بدل الموت. إن توقُّع الموت يُجبِرنا على مواجهة أوجه قصُورنا المتعلقة بالبصيرة وكذلك بالقوة. إن تجربة الحياة، المتمركِزة والمركَّزة في السعادة اللحظية، سعادة امتلاك الحياة ذاتها، تتسم بالخطورة لأنها تنقلنا إلى ابتهاج لا تضاهيه أي بهجةٍ أخرى. إن التعاطي مع الكوني في الزمن الفوري يمكنه أن يمتص كل انتباهنا ويمنعنا من مقاومة وتحويل العالم وأنفسنا. ما كل فننا، وفلسفتنا، وعلمنا إلا حرب بين هذه الأعجوبة المنتشية وبين أوجه التمييز الكئيبة التي يفرضها علينا تعاطينا مع الزمن — زمن العالم وزمننا الخاص، المتضائل القوة.

وإذا كان بوسعنا أن نحارب لكي نحتل في عقولنا موقعًا تخيليًّا متساويَ البُعد بين الابتهاج بأن نكون أحياء وبين حزننا بسبب الصراع بين لا نفاديتنا ومحدوديتنا، فسنقترب أكثر من حل لغز يتسم بأهميته المحورية بالنسبة إلى وجودنا. وهذا اللغز ليس هو الطبيعة المبهَمة لمكاننا في العالم، والناتجة عن عدم قدرتنا على النظر إلى بداية ونهاية الزمن، بل إنه لغزٌ داخلي بالنسبة إلى كُلٍّ من جوانب تجربتنا. وهو متميز عن القضايا التي يُثيرها عجزُنا عن إدراك كيف تتلاءم مع المخطَّط العام للأشياء. يربط هذا اللغز بين كلٍّ من جوانب وجهة النظر التي طوَّرتُها ودافعتُ عنها في هذا الكتاب — من تصوُّرها للزمن، والطبيعة، والعقل إلى مفهومها للسياسة، والدين، والكفاح الإنساني. والأفضل أن نبدأ بفهمه كتناقضٍ آخر، ليس في أفكارنا ولكن في تجربتنا.

لا يمكِننا أن نكونَ بشرًا إلا بواسطة مقاومة قيود كل البِنى الراسخة — للحياة، والتنظيم، والفكر، والطبع — التي نَتحرَّك ضمنها؛ فالاستسلام لمثل هذه القيود، وإعطاؤها الكلمة الفصل بدلًا من الاحتفاظ بها لأنفسنا، ينكر صفاتنا المحدِّدة للقوة، والتفوق، والمستقبلية، والتجريبية. هناك معنًى يمكننا أن نكون فيه راضين لفترةٍ ما بمثل هذا الاستسلام. وعلى أي حال، فهو معنًى يفترض انكماشَ التجرية، والوعي، والوعي بالذات؛ تقليص لطاقتنا، وإعتام لأبصارنا، وتضاؤل لأملنا. إنه خَدَر قد نُحاوِل إعادة وصفه كسعادة وحرية، لكنه لا يستحقُّ مثل إعادة الوصف هذه.

إن إعادة وصف انكماش التجربة بهذه الطريقة هو ما تحثُّنا الفلسفة الدائمة على القيام به عندما تنصحنا بالتخلي عن عالم الزمن والاختلاف وتزوِّدنا بأسباب لكي نسحر الإرادة المتململة والتخيُّل التحويلي. إن النتيجة الرئيسية لمثل هذا الاستسلام هي الاعتقاد بأنه يتعيَّن علينا أن نحاول الابتعاد عن المشاكل. وفي مقابل هذا الاعتقاد، تقف المشاريع الثورية لإعادة البناء الاجتماعي والتحول الذاتي التي علَّمَتنا البحث عن المشاكل. إن ما أقترحُه هنا هو وجهة نظر تمنحُنا أسبابًا للبحث عن المشاكل.

من بين الفرضيات المركزية لهذا الكتاب أننا نجد ونَشنُّ هذا التمرُّد ضد حدود الظروف في كلٍّ من جوانب تجربتنا؛ في عجز أي مخطَّط للأصناف، أو أي قائمةٍ بمثل هذه المخطَّطات، لإنهاك فهمنا للتفاصيل؛ في عدم كفاية الطرق والممارسات في كل المجالات والعلوم لقدراتنا على الاكتشاف، والبرهان، والتبرير؛ في مَلَكَاتنا العقلية للَّانهائية التكرارية، والمبادرة اللاصِيَغية، والمقدرة السلبية؛ في مَيل قدراتنا على الإنتاج، والإبداع، والتعاون لتخطِّي ما يمكن أن تسمح به أي طريقةٍ معيَّنة لتنظيمها؛ في الحاجة اللانهائية لتحدي وتغيير الأشكال العملية التي ندرك بها مصالحنا المُدرَكة ومُثُلنا العليا المُعترَف بها، وبعد أن نتحداها ونغيِّرها، بعد ذلك مراجعة هذه المصالح والمُثل العليا ذاتها في ضوء البصيرة المكتسَبة خلال تلك التغيرات؛ في تجاربنا الاعتيادية للضجَر، وصرف الانتباه، والأمل؛ وفي جهدنا لئلا نُسلم أنفسَنا نهائيًّا مطلقًا إلى النسخة المصلبة من ذاتنا التي هي طبعنا.

ستكون مهمةً حزينة وبطولية إذا كان كل ما يُمكِننا فعله هو التمرد. وعلى أي حال، ثمَّة فرضيةٌ أخرى لهذا الكتاب مفادُها أننا نستطيع تغيير مجتمعاتنا وثقافاتنا وأنفسنا بحيث تعبِّر عن، وتستحضر مزيدًا من أفعالنا المتعلقة بالمقاومة والاختراع — ثمَّة حيويةٌ أعظم للمبادرة، والتخيل، والتجربة. وبالتالي نحن نمتلك مبررًا لتمني سعادة تستند إلى تحرُّرنا وإعلاء شأننا، وليس إلى عبوديتنا والحط من قَدْرنا. لن تكون مثل هذه السعادة خَدَرًا؛ بل ستكون يقظة.

وعلى أي حال، فما لم يكن بوسعنا أن نتوقع بعض تأثيرات هذا الفعل هنا والآن، في انفتاحنا على الأشخاص الآخرين وعلى الغريب وما لم يسبق له مثيل، وفي الحقيقة على كامل عالم الزمن والتغيير كما يندفع نحونا، فسنجد أنفسنا عالقين في طاحون دوس treadmill من الإحباط اللانهائي. أما معركتنا ضد التقييد فسيبدو أنها لا تمتلك غرضًا سوى استمراريتها الخاصة. إن الاعتراف بهذا التهديد الذي يحتنك كلًّا من بصيرتنا وسعادتنا، والاقتناع بأننا لا نستطيع أن نتقن هذا التهديد إلا بواسطة الهروب من الانعزال في وعينا الفردي الخاص من خلال حركةٍ خارجيةٍ مقرَّرة باتجاه العالم المحيط بنا، هما الحقيقتان السيكولوجيتان التوءمتان اللتان استغلَّتهُما على الدوام الخدَع المستعبِدة للفلسفة الدائمة.

وإذا كان علينا أن نكافح ضد السياق الراسخ لكي نصبح أكثر ربانية وبالتالي أكثر إنسانية، فكيف يمكننا أن نكون أكثر ربَّانيَّة وأكثر إنسانية الآن، قبل أن ينتهي الكفاح، في تاريخ الإنسانية وكذلك في حياة الفرد؟

وإذا كنا لا نستطيع أن نصبح أكثر ربانية وأكثر إنسانية في هذه اللحظة، أفلن نكون مرغَمين على رفض ابتهاجنا بكوننا على قيد الحياة باعتباره الهذيان الذي يقسِّي به الخيال الإرادة ضد الخوف من الموت؟

إن الأمل الذي تعزِّزه فرضية أننا نستطيع أن نغيِّر علاقتنا بسياقاتنا سيبقى خادعًا ما لم يمكِنَّا تغيير هذه العلاقة في الزمن السيري وكذلك التاريخي، بصورةٍ مستقلة عن قَدَر كل المشاريع الجماعية للتحول. وسيكون خادعًا أيضًا ما لم يكن ذلك التغيير سيمنحنا الناس الآخرين، والعالم ذاته، بصورةٍ أكثر اكتمالًا. إن الأمل الذي هو ليس بخادع بأيٍّ من هذه المعاني يمثِّل جزءًا من الفرضية الضمنية في فكرة المستقبلية؛ إن العيش للمستقبل هو أن تعيش في الحاضر كمخلوقٍ لا يتحدد بالكامل بالسياقات الحالية للحياة والفكر المنظمَين؛ ومن ثم أكثر قدرةً على الانفتاح على الشخص الآخر، وعلى التجربة المفاجئة، وعلى كامل العالم الظاهراتي للزمن والتغيير. وبهذه الطريقة، يمكِننا أن نعتنق بهجة الحياة في اللحظة باعتبارها وحيًا ونبوءة في الوقت نفسه بدلًا من إسقاطها من اعتبارنا على أنها حيلةٌ تمارسها الطبيعة على الروح للتوفيق بصورةٍ أفضل بين مصالحتنا وبين سوء حظنا وجهلنا.

إن الدرس الرئيسي لهذا الكتاب هو أننا نصبح أكثر ربانية من أجل أن نعيش، وليس أننا نعيش لكي نصبح أكثر ربانية. ليس ثواب كفاحنا هو التيقظ على حياةٍ أعظم لاحقًا، بل هو التيقظ على حياةٍ أعظم الآن، أو تسامٍ يتأكد بالانفتاح على الآخر وعلى الجديد. ثمَّة طريقةٌ بسيطة لإدراك مغزى كامل حُجتي، من موضعٍ للأفضلية هذا منتصفه ومركزه، وهي القول بأنها تستكشف عالمًا من الأفكار المتعلقة بالطبيعة، والمجتمع، والشخصية، والعقل والتي ضمنها يصبح هذا الدرسُ ذا مغزًى وذا سلطة.

الهروب الزائف

تتكوَّن مشكلة الحياة الإنسانية بأكملها في هذا؛ كيف يمكِننا الاستجابة لحالتِنا هذه في العالَم من دون السماحِ لأنفسِنا بأن يسحقَنا اليأسُ والاستخفاف، ومن دون تسليمِ أنفسنا إلى المُلهِيات التي تقتُل الزمن بالتقليل من شأننا، وبجعلنا نموت العديد من الموتات الصغيرة ونحن نواصل العيش؟ وكيف يمكِننا، في مواجهة هذا اللغز وهذا الرعب، أن نطهِّر أنفسنا من خلال البساطة، والحماسة، والفطنة، وأن نجعل أنفسنا ربانيين أكثر من خلال الانفتاح على الآخر وعلى الجديد؟

وفي مقابل خلفية التفاوت بين الطبيعة وبين الإنسانية، علينا أن نطوِّر عالمًا إنسانيًّا قادرًا على دعم نفسه. علينا أن نقرِّر ما إذا كنا سنقبل بغرابة الطبيعة شرطًا مسبقًا لهذا المشروع أو الهروب منه وإنكاره.

هناك شكلان رئيسيان من الهروب والإنكار؛ أحدهما يمثل طريقًا مسدودًا، ضارًّا باهتمامنا بالحياة وبمصلحتنا في بناء العالم الإنساني. أما الآخر، فعلى رغم أنه محاصَر بالأوهام التي قد تُصبِح تضليلات، فمن الممكن أن يساعد في ذلك البناء.

يتمثَّل أحد أشكال الهروب في إنكار الحقيقة — أو الحقيقة المطلقة على الأقل — المتعلقة بالاختلاف والتغيير. نحن نؤكِّد الحقيقة المستحوذة والخلود، وتفرُّد الوجود اللاشخصي. إن الاختلافات والتغيُّرات التي تحتل تجربتنا للعالم غير واقعية، أو تتمتع بحقيقةٍ ثانوية وسطحية كإسقاطاتٍ لشيءٍ واقع تحتها.

في فهمنا للعالم، يتطلب هذا السبيل — سبيل إنكار حقيقة الاختلاف والزمن — صومًا للتخيُّل، وهي المَلَكة التي نمثِّل بها خلق الاختلاف من خلال التحول. أما مذهب الأحدية monistic لوحدة وديمومة الوجود، فعلی رغم كونه مزودًا بوجهة نظر تتعلق بكيف يُمكِن للعالم الظاهراتي للاختلاف والتغيير أن يشارك في حقيقة الوجود النهائي والموحد، فهو محصَّن ضد التحدي. وهو محصَّن على الأقل ضد كل التحديات باستثناء تلك الناتجة عن مواصلتنا للعيش والإدراك ككائناتٍ طبيعية في عالم من التغيُّر والاختلاف. وفي حين أنه ينكر متطلب الحياة، فهو نفسُه غير ذي حياة؛ وبابتعاده عن التجربة، فهو غير قادر على التعلم من التجربة.

في تنظيم الفعل، يؤدي الجهد المبذول للإنكار والهروب من عالم الزمن والاختلاف إلى قمع الإرادة. إن العيش ككائنٍ حيٍّ معرَّض للموت وكذاتٍ مقاومة للسياق في عالمٍ ليس مصمَّمًا على مقياسنا أو في مصلحتنا يعني أن نكبَّل إلى عجلةٍ من الرغبة التي لا تشبع. يُمكِننا أن نسعى إلى الهروب من الديالكتيك المؤلم للرغبة والجشع بأن نلقي على أنفسنا تعويذةً من الرضا والاستكانة. وبعد ذلك، فنحنُ نتخلى عما نفترض أنه الأغراض العقيمة للرغبة.

تتمثَّل النتيجة، على أي حال، في انكماش التجربة. أما العنف الذي يُمارِسه هذا التشذيب القَسْري لطبيعتنا فيخون ذاتَه بطريقتَين تتمِّم كلٌّ منهما الأخرى نزَق الإكراه وألَم الضجَر. نحن نمُر بالتخلي الزائف عن الرغبة كتشويه وسترة حجر straitjacket حتى في وسط نجاحنا الظاهر في جعل الإرادة سلبية؛ ولا يُمكِننا إلا بواسطة المقاومة وإعادة البناء أن نعيش وأن نطوِّر إنسانيتنا. نحن نبقى متململين تحت نِير تكاسُلنا المتبجِّح والمفروض قَسرًا، ونستشعر الحياة الأكبر التي تخلَّينا عنها باعتبارها ضجرًا. وعندما تتحطَّم التعويذة التي حاولنا أن نُلقِيَها على أنفسنا، نحن نُسلم أنفسنا بتعاسةٍ إلى الإلهاء وصرف الانتباه، بالسعي لتنويع تجربتنا عندما توقَّفنا عن تمنِّي تحويل عالمنا.
هناك طريقةٌ مألوفة أخرى للهروب من، وإنكار، لامبالاة العالم العظيم للطبيعة بمخاوفنا الإنسانية، وهي الاعتماد على شراكةٍ سرية بيننا وبين القوى التي تحكُم ذلك العالم. إذا تخيَّلنا تلك القوى باعتبارها قوًى محدودةً على صورتنا الخاصة، يمكن إسعادُها والانتصارُ عليها، فقد ننجح في تبليد إحساسنا بغرابة العالم عن مخاوفنا. وعلى أي حال، فلن نعمل ذلك إلا بواسطة تحريف تلك القوى الطبيعية المؤلهة deified واعتبار أنها مطَّلعة على مخاوفنا وخاضعة لتقييداتنا. إذا افترضنا أن الشريك هو الوجود المطلَق — اللاشخصي، والوحدوي، والبعيد — فلن يكون بوسعنا تمني تلك الشراكة، بل القبول، والعبادة، والاستسلام فقط. وبعد ذلك فلن نتغلب على غرابة العالم عنا إلا بواسطة إنكار تفرُّدنا وقمع قدراتنا على النقد والمقاومة.

هناك، على أي حال، بديلٌ أدَّى دورًا حاسمًا في التاريخ الأخلاقي والديني للإنسانية. قد نعتقد أن تجربتنا الإنسانية قد وُضعَت ضمن سياقٍ أكبر، من الخلق والحب، والمُبعَد بصورةٍ جذرية عن شئوننا برغم أنه مفهومٌ بالنسبة إلينا من خلال القياس التمثيلي مع إحساسنا بالشخصية واللقاء الشخصي. تُشير نقاط القياس التمثيلي إلى تجربة الارتباط الإنساني في ظرفٍ مُتَناهٍ والتفوُّق الإنساني على الظرف المتناهي.

إن الموضوع الرئيسي لهذا الشكل المختلف من الطريقة الثانية للهروب والإنكار هو اختراق وتحويل العالم من قِبل الروح؛ إذ إن الروح تظهر في اللاتناهيات بداخلنا، أما ما قد يبدو، كعقيدةٍ ميتة، كرفض للإقرار بغرابة العالم فقد يصبح حينئذٍ، كإيمانٍ حي، أملًا حيًّا؛ الأمل في أن العالم، عالمنا في البداية وبعد ذلك العالم بأكمله، قد يتغير بمرور الزمن وفي أنه سيفقد غرابته؛ وأنه سيُرفَع، وكما يقولون، يُسترد.

إن الصلة التناظُرية بين الحقيقة الإلهية والإنسانية تقي هذا المتغاير للاستجابة الثانية لِلَامبالاة الطبيعة من أن يكون مجرد هروب وإنكار، وتوضِّح اتصاله التاريخي بالمشاريع التحولية العظيمة — قضية الديمقراطية، وممارسات التجريبية، وتعهُّد الشخصية selfhood والذاتية في الرجل العادي والمرأة العادية — الذي جلَب الأمل والثورة للإنسانية طَوالَ مائتَي سنة. تتمثَّل النتيجة في توجيهنا مرةً أخرى إلى العالم الاجتماعي وإلى إعادة بنائه، ولكن ليس إرشادنا إلى الطريق؛ الاتجاه والخطوات القادمة.

إن مفهومًا للبشرية يدرك تصادفنا ومحدوديتنا، لكنه يُقِر أيضًا بتفوُّقنا على الظروف وتوجُّهنا إلى المستقبل، يُمكِنه أن يبدأ بتنوير بحثنا عن اتجاهٍ ما. على أي حال، فلا يمكنه أن يعمل ذلك إلا بعد أن رفَضْنا إخفاء غرابة ولامبالاة الطبيعة بمخاوفنا، إن غرابة العالم هي الوجه الآخر لإنسانيتنا، وهي تمهِّد الساحة لعملنا. وهذا العمل هو دعم عالمٍ ما، عالمنا، قادر على إنتاج معانيه الخاصة مقابل خلفية تتكون من فراغٍ هائل وبلا معنًى.

كيف يُمكِننا أن نبدأ هذا العمل؟ لتحقيقِ أيِّ غايات وبأي روح؟ وإذا فَشِلنا في الكفاح من أجل إحساس بالاتجاه، فإن الروتينات الراسخة للمجتمع والثقافة ستُملي الاتجاه علينا، وحينئذٍ سنُختزل للتصرف كأننا أولئك الأناسي الآليُّون automata الذين لسنا إياهم في الحقيقة. وعند الإذعان باستعبادنا الخاص، فلن نبدأ الجهد اللازم لجعل أنفسنا عظماء وأحرارًا. ونتيجةً لذلك، لن نكونَ قادرين على وَهْب أنفسِنا بعضنا لبعض، أو حتى على أن نتعاون بشكلٍ أكثر انفتاحًا، اللهم إلا إلى الحد الذي تُخبِرنا به النصوص المقدَّرة سلَفًا لمجتمعنا وثقافتنا بكيفية العمل معًا.

الإرادة والتخيُّل

يمكِننا أن نبدأ بتشكيل انطباع حول الطريق إلى الأمام بتدبُّر الدَّور الذي يجب أن تؤدِّيَه الإرادة والتخيل في فتحه. يقوم التخيُّل بعمله المتمثل في إزاحةٍ displacement مزدوجة؛ إزاحة المسافة وإزاحة التحوُّل، وهو يُمكِّننا من إدراك الموقف بجعلنا نتركه؛ بتمثيله باعتباره غائبًا في البداية، وبعد ذلك كأنه تغير. ومن خلال هذا العمل المضاعَف، فهو ينوِّر الإرادة ويلهمها. وتوفر الإرادة الاهتمام العملي— الاهتمام بالمقاومة وإعادة البناء — الذي يمكِن من خلاله للتخيُّل أن يشرع في العمل.

يتمثل ناتج العمل المشترك بين الإرادة والتخيل في منحنا عالمًا يمكِننا أن نجعله خاصًّا بنا؛ عالم ليس غريبًا على مخاوفنا بشكلٍ يتعذَّر إصلاحه. وعلى رغم هذا، فهذا الاتحاد السعيد بين الإرادة والتخيل يبدأ في التلاشي حالما توقَّف التخيل عن أن يُلقيَ بظلاله على أعمالنا ويصل إلى ما وراء الظواهر التي يمكِن أن تمسَّها هذه الأفعال. ومن خلال التجرية، التي تصبح ممكِنة بفعل أدوات العلم، يمكِننا أن نعزِّز، بشكلٍ متقطع ولفترةٍ ما، منطقة الحقيقة التي يمكِن أن تصل إليها الإرادة والتخيل، بالعمل معًا.

وعلى أي حال، فالتخيل محكوم عليه بتجاوز الإرادة، حتى لو تضخَّمَت الإرادة بفعل الأدوات التي نبتكرها. ومع مغادرته لمسرح الأحداث والإرادة تسير وراءه، يفقد قدرته على سلب الحقيقة حولنا من غرابتها. وهو يتوقف عن المساعدة في صياغة العالم الإنساني، الكافي بالنسبة إلى ذاته، وضمن قدرتنا على التعامل معه باعتباره جزءًا مُسقَطًا من أنفسنا أو كخلفيةٍ مُواتيةٍ لمساعينا.

يمثل زواج الإرادة والتخيل خاصيةً جوهرية ومحورية لطبيعتنا الأولى، بنيتنا الطبيعية، حتى قبل أن تُعاد صياغتها من قِبل الطبيعة الثانية التي نتلقاها من المجتمع والثقافة. وهي تتعامل مع كامل تأثيرها في ضوء الصفة الثنائية الجانب للعقل؛ لأن يكون في الوقت نفسه معياريًّا وصِيَغيًّا، ومُجملًا، ومتجاوزًا، ومفاجئًا. وهو يزوِّدنا بتلميحٍ أول حول الطريق الذي يتعيَّن اتباعُه في التعامل مع اللامبالاة والضخامة اللاإنسانية للطبيعة. يتمثل الاتجاه في فتح مجازة، مختَرَقة ومُعاد تشكيلُها بواسطتنا، والتي يمكِننا داخلها أن نكون ونصبح أنفسنا، ثابتي العزم، وغير مفتونين، وغير مروَّعين.

هناك ثلاثة مجالاتٍ كبرى يمكِننا، بل ويجب علينا، أن تتخذ هذا الاتجاه من خلالها؛ فهمنا للعالم، وعلاقتنا بالناس الآخرين، وكفاحنا مع ذواتنا الخاصة المتصلِّبة؛ طبائعنا، وروتيناتنا، وتصوُّراتنا المألوفة. وفي كلٍّ من هذه المجالات، فإن الجهد المبذول لمنح أنفسنا عالمًا يمكِننا أن نقبلَه، والذي فيه يمكِننا أن نتقبل أنفسنا وبعضنا البعض، يتعارض مع تناقضاتٍ معندة. في كل حالة، فإن توليفة نوايانا مع ظروفنا تدفعنا للتصرف بطريقتَين متباعدتَين ومتضاربتَين ظاهريًّا.

إن ما نحقِّقه بالتحرك في أحد هذَين الاتجاهَين غير كافٍ جذريًّا ما لم يقترن مع ما يمكِننا أن نحصل عليه بالتصرف وفقًا للآخر. نحتاج إلى نتائجِ كِلا الاتجاهَين لكي نكون ونُصبح أنفسَنا، ولجعل أنفسِنا أعظم وأكثر حرية. وعلى أي حال، فنحن لا نعلم كيف ولا ما إذا كان بوسعنا امتلاكهما معًا، والتوفيق بين ما يبدو متعارضًا بصورة يتعذر حلها. ونتيجةً لذلك، فإن حزنًا هائلًا، ناتجًا عن التنافُرات الدائمة للتجرية، يلقي بظلاله على حياتنا، بأي معنًى وبأي وسيلةٍ يحق لنا تمنِّي أن نستطيع التغلُّب على هذا الحزن؟

العالم الظاهر والحقيقة الخفيَّة

من أجل أن نعيش ونعمل بصورة ناجحة، علينا أن نُصارِع العالم الظاهر. إن ما يوجِّهنا أكثر من مجرد دافعٍ للقيام بنجاحٍ بتقييم فرص العمل والعقبات التي تعترضه. هو أيضًا الرغبة في «المحافظة على المظاهر»، لتحسين ولتعميق الآنيَّة الرؤيوية لعالم التغيير والاختلاف الذي نعيش فيه.

وإذا كانت ظواهر العالم الظاهر في أحسن الأحوال استعارة جُعلَت مفيدةً من قبل الأدِلَّاء للمبادرة الناجحة التي كنا قادرين على الاستنتاج منها، فستمُر حياتُنا بين الظلال، مثل عرقٍ من الرجال والنساء غير المدعومين بأيٍّ من الحواسِّ الخمس، والذين لا توجِّهُهم سوى الحواسيب. سترشدهم هذه الحواسيب إلى كيفية استخدام الأشياء وإلى كيفية التحرُّك بينها. لكنها، على أي حال، لن تُخبر أولئك الأشخاص الصُّم والعُميان بكيف يبدو أثاث الكون هذا في الحقيقة. سنبقى مسجونين داخل وَهْم، لا يجعله محتمَلًا سوى عجزنا المشترك عن الهروب منه وفائدته المثبتة في جهودنا لتنوير السلوك وحل المشكلات. سنتلمَّس طريقنا الأعمى خلال عالم تمَّ تعديلُه، لكن لا يمكِن تصوُّره. وحدَه جهلُنا بحالتنا، والتهاءاتنا العقيمة، وجهودنا نصف المستيقظة لتأجيل الموت، يمكِن حينئذٍ أن تبلِّد إحساسنا بغرابة العالم وتروِّضنا على منفانا الميئوس منه بداخله.

بَيْدَ أن الجهد لتحقيق أو لاستعادة الآنيَّة الرؤيوية — أي فهم العالم الظاهر، بكل ثروته من الاختلاف والتغيير، في العقل — ليس كافيًا، على أي حال؛ فهو ليس كافيًا لتمكيننا من التصرف بشكلٍ تحوُّلي؛ فهو يترك الباب المفضي إلى بحثنا السببي عن الحقيقة وتبايناتها التحولية مغلقًا؛ حتى أنه ليس بكافٍ لدعم هدفه الخاص المتمثل في المحافظة على المظاهر؛ وينحَط السعي وراء الآنيَّة الرؤيوية إلى الاتحاد بين التصوُّرات المألوفة وبين الأصناف المألوفة ويستبدل الرؤية بحملَقة.

من أجل كلٍّ من البصيرة السببية والقوة التحوُّلية — تمثِّل الأولى القاعدة التي لا غنى عنها للأخيرة — سنبدأ الاستقصاء العلمي للعالم. ويحملنا هذا الاستقصاء إلى ترتيبات وأحجام الحقيقة المبعدة عن سياق الحياة الإنسانية، والتي يمكن للتخيل بداخلها أن يبقى مرتبطًا بالفعل. أما الآن فالاستقصاء يترك الفعل بعيدًا وراءه، وبهذا التجاوز يبدأ رسم صورٍ للعالم الذي لم يعُد يستطيع البقاء في علاقةٍ تشارُكية مع تجربتنا المتعلقة بالحقيقة الظاهرة، أو أنه لا يبقى في مثل هذه العلاقة التشارُكية إلا بواسطة تخمين سلسلةٍ طويلة من الصِّلات بين تلك الصور وهذه التجربة، موضحًا، في نهاية سلسلة التخمين والتجريب، كيف يمكِننا أن ندرك العالم بطريقةٍ ما، في حين أنه موجود في الحقيقة بطريقةٍ أخرى.

ولكل هذه الأسباب، فإن الجهد المبذول لفهم المزيد والمزيد عن العالم سببيًّا — بما في ذلك العالم البعيد عن ساحة أفعالنا وحياتنا — ليس بالمسعى الذي يمكِننا رفضه. وهو يهدِّد، على أي حال، بإبعادنا أكثر وأكثر عن تبرير العالم الظاهر، برفع الشبَح الذي قد تبدو تجربتُنا الظاهراتية، تحت ضوئه، مجازًا أو هَلْوسة. وكلما زاد اختراقنا للخلفية السببية لهذه التجرية، وتمثيلنا لها في لغة الرياضيات المقاومة للزمن، زاد بُعدنا عن الحقيقة المعايشة للزمن، والاختلاف، والفعل.

وبالإضافة إلى ذلك، تُحدِّق إحدى الخصائص البارزة للعالم، والتي تكشَّفَت لأعيُننا بفضل اسقصاءاتنا السببية، بكل محاولاتِنا لشَق طريقِنا للعودة إلى العالم الظاهر — عالم تجربتنا الحية — وتسخير اكتشافات العلم لمشروع التحسُّن هذا. وهذه الخاصية هي اللغز المتعلق بالوقائع المضادة التي عرضتُها أولًا عند دفاعي عن فرضية عدم وجود ترتيبٍ مغلَق للطرق المحتمَلة لسَير الأمور، خلال مناقشتِنا السابقة لحقيقة الزمن.

ولفهم إحدى طرق سير الأمور، علينا أن نكون قادرين على تخيلها وقد تحوَّلَت بفعل مدًى من الشروط، بَيْدَ أن هذه التحولات المتوقَّعة أو الحقيقية تطرح مشكلة ثبات قوانين الطبيعة؛ فالتغير الذي تسمح به قوانين الطبيعة قد يغيِّر تلك القوانين. وفي الحقيقة، إذا كان الزمن حقيقيًّا، فستتغير القوانين عاجلًا أم آجلًا.

إن الكفاح للوصول إلى بصيرةٍ متعلقة بالواقع المضاد — أي محاولة رؤية ما قد تُصبِح عليه الأشياء بطول حدٍّ خارجي للخطوات القادمة المحتمَلة حول ما تكون عليه الأشياء الآن — يُظهِر لنا ما يبدو في بادئ الأمر أنه أحجية تتعلق بالفهم. عندما نتخيل حالةً مختلفةً لسير الأمور، ليس من الواضح دائمًا ما إذا كان الموقف المتعلق بالواقع المضاد لا يقوم إلا بتوضيح نتيجةٍ بديلة للقوانين التي نحتكم إلى قوتها التفسيرية أم إذا كان يُلمح إلى أو يؤذِن بتغيُر في تلك القوانين. ومثل التغيُّرات الكونية، فإن القواعد التي تتغيَّر بواسطتها تتغير هي أيضًا. وهكذا، فما يبدو في بادئ الأمر مجرد لغز يتعلق بالفكر يتضح، وفقًا لمذهب حقيقة الزمن، أنه مصدَر للثورة والتغيُّر في العالم نفسه.

إما أن القوانين لا تحكُم كل شيء (الطريقة التي تتشكل أو تتسلسل بها القِطَع المعيَّنة من الحقيقة، أو الثوابت الاعتباطية ظاهريًّا للطبيعة)؛ ومن ثَم فإن بعض ما تفشَل في السيطرة عليه يمكِنه أن يغيِّرها، أو أنها تحكُم كل شيء، لكن بعض ما يحدث تحت حكمها يمكِنه أن يغيِّرها، على أي حال. إن النتيجة العملية لمفترق الطرق هذا هي تقليل قوة التفريق بين القول بأن القوانين تحكُم ولا تحكُم كل شيء؛ وحتى إذا كانت تفعل ذلك، فهي ليست محصَّنة ضد العالم الزماني؛ فهي أقلُّ شبهًا بإلهٍ ساميٍّ Semitic God مُتعالٍ على الطبيعة منها بآلهة الإغريق والرومان الواقعين في شَرك صراعات وتقلُّبات هذا العالم.

وإذا كنا لا نستطيع غلقَ فضاء تشكُّل الطرق المحتملة لسير الأمور وإخضاعها جميعًا للنظام الخاص بمجموعةٍ مغلَقة وسرمدية من القوانين، لا يمكِن أن نكون متأكِّدين من أننا سنكون قادرين على شق طريقنا عائدين من رحلتنا المتعلقة بالاستقصاء السببي إلى استرداد العالم الظاهراتي في آنيَّته الرؤيوية. لكننا لن نكون سعداء؛ لأن وعينا بالعالم سيبقى منقسمًا بين شِعر التجربة وعِلم الطبيعة. ستتطلب منا قدرتُنا على التصرف بنجاح في العالم أن نتمسك بكلٍّ من تلك التجربة وهذا العلم، لكن الحقيقة فيما يتعلق بالعالم وبكل الحالات فيه ستبدو منقسمة بين الاثنَين إلى الأبد. وبدلًا من أن يبدو كامل فهمنا وكأنه أكثر من مجموع الأجزاء، قد يبدو كلٌّ من الأجزاء أقلَّ من النصف، فيما يبقى معناه غير مؤكَّد بسبب علاقته غير المحدَّدة بالنصف الآخر.

ثمَّة جانبٌ من حياتنا العقلية، والذي نتمتَّع فيه بمثل هذه التسوية. وعلى أي حال، فإن وجوده هناك بدلًا من طمأنتنا يجب بالأحرى أن يثيرنا ويزعجنا لدرجة أكبر. ويجب أن يعمل ذلك بكلٍّ من اقتراح ما نفتقر إليه في بقية تجربتنا الواعية والإشارة ضمنًا إلى أن التسوية سراب، لا يمكِن أبدًا إدراكه. وهذا الجزء من تجربتنا هو ضربٌ من الأحلام. تقوم الأحلام عادةً بدمج خاصيتَين اثنتَين تُراوِغنا توليفتهما في حياتنا اليقظة؛ البصيرة المتعلقة بالواقع المضاد والأنيَّة الرؤيوية.

في الحُلْم، تختلف بعض الأشياء عن كيف التقيناها في عالم الاستيقاظ. وعلى أي حال، فنحن نعلم كما لو أننا فهمنا بسهولة تلك القواعد المتغيِّرة التي تحدث وفقًا لها الأشياء المتغيِّرة في العالم المتغيِّر. وإذا كانت بعض ظواهر عالم الأحلام تختلف عن ظواهر عالم اليقظة، فإن القوانين التي أُنتجَت فيها والتي فيها تستمر يجب أيضًا أن تختلف. ثمَّة فرضية لعمل الحُلم مفادها أننا نعلم بالفعل كيف هي تختلف؛ وهذه المعرفة ضمنية في ذلك العمل.

وفي الحُلم، يمكِن للعالم الظاهر أن يبدو لنا في كامل تألُّقه، من الحضور والخصوصية الحاملة للاقتناع. إن خفة اليد المتعلقة بالواقع المضاد والخاصة بعمل الحُلم تمنحنا التفاصيل؛ فنمتلك في قبضتنا، بآنيَّة لا تُقاوَم، حقيقة يبدو أيضًا أننا نفهم طرق عملها. وعلى رغم امتلاكنا، أو ما يبدو كامتلاكنا، لهذه التوليفة عندما نحلُم، فإننا نفقدها عندما نصحو. أما فهمنا فيبقى منقسمًا على نفسه، وغير سعيد. لا يمكِننا أن نحلم من دون التغلب على هذا الانقسام، عن طريق التخلي عن قدراتنا الموقِظة.

الصراع بين المتطلبات الممكِنة للتحكُّم في الذات

إن المجال الثاني الذي يتعين علينا فيه أن نباشر مهمة صنع عالم لأنفسنا يمكِنه أن يدعم المعنى والقيمة في وسط الطبيعة الهائلة والجامدة لعلاقتنا بالناس الآخرين. وهنا أيضًا، نجد أن المهمة يبدو أنها تتطلب منَّا التحرك في اتجاهاتٍ متباعدة ومتناقضة.

نحن نحتاج بعضنا إلى بعض. وحاجتنا هذه متغلغلة؛ فهي تشمل كل المراحل من الإعالة المادية للحياة الفردية بواسطة تقسيم العمل وتكاثُر النوع عن طريق الجنس وتربية الأطفال، إلى تبادل الاعتراف والقبول. أما الشخصية فلا تُوجَد، وتتطور، وتزدهر إلا من خلال مضاعفة الارتباطات مع الناس الآخرين.

وعلى أي حال، فكل تشابُكٍ في مثل طقم الروابط التشكيلية هذا يشكِّل تهديدًا بدَوره. وهو تهديدٌ متعلق بالإخضاع؛ بأن سعر الاتصال قد يتمثل في الاعتمادية والاستسلام. وهو أيضًا تهديد يتعلق بفقدان التوجه الذاتي؛ بأن تكلفة الاتصال ستتمثل في أن نعيش حياتنا في ظل إرشاد المخطوطات الجماعية التي تُخبرنا بكيف، في أدوارنا المفترضة، نفكِّر، ونَشعُر، ونتحدث، ونتصرَّف.

نحن نحتاج إلى الآخرين، ونحتاج لأن نكون منفصلين عنهم، لتحقيق التحكُّم في الذات وفي الوقت نفسه تخيُّل وتقبُّل الناس الآخرين، وأن يتخيَّلونا ويتقبَّلونا هم أيضًا. نتحرك بصعوبة ذهابًا وإيابًا، بين البُعد والقُرب، ونتساءل عما إذا كان بوسعنا أن نتمنَّى شيئًا أفضل من المسافة المتوسِّطة.

نحن نواجه صراعًا بين الظروف الممكِّنة لبناء الذات. وهذا الصراع يجعلنا أقلَّ حرية وأقلَّ عظمة، فهو يحطُّ من قَدْرنا ويستعبدنا. وهو يُعرِّض للخطر الجهد المبذول لوقف رعب الطبيعة اللامبالية في تجربتنا للمجتمع. ولاحتواء هذا الصراع، إن لم يكن لتخليص أنفسنا منه، علينا أن نصبح أعظم وأكثر حرية.

هناك اثنتان من حوادث تجربتنا تستجيبان، بصورةٍ أوضحَ من أي حوادثَ أخرى، لفكرة التغلب على هذا الصراع بين الظروف الممكِّنة لتوكيد الذات. وهما الحب الشخصي والتعاون المشجِّع على الإبداع.

إن الحب الشخصي الذي يحقِّق هذه النتيجة ليس الغريزة الجنسية ولا حب الله للإنسان فلا يمكن أن يُعطى، كإحسان، من حماية الأعلوية، من الأسمى أو الأكثر قوةً إلى الأضعف والأكثر تبعيَّة. ولا يمكِنه حتى أن يكون إسقاطًا رومانسيًّا للذات أو إضفاءً للمثالية على الشخص الآخر، للتلاؤم مع احتياجات النفس الخاصة، وهو لا يسمو فوق الروتين والتكرار، كفاصلٍ مناهض للمؤسسات من الشعور الصافي؛ فهو يسعى إلى النجاة من تكرار وروتين اللقاء، ومن ثَم تحويلهما.

يعمل التعاون المشجِّع على الإبداع، الذي يتحرك نحو هذا الهدف، على تلطيف التوتُّر بين ضرورات التعاون والابتكار. يمثِّل هذا التخفيف بوابةً للتقدُّم العملي للإنسانية، ومن خلال الاعتراف بضرورة كلٍّ من التعاون والابتكار، وبأن كلًّا منهما يعرِّض الآخر للخطر، فنحن نحاول تصميم شكل التعاون الأكثر ملاءمةً للابتكار الدائم.

ولتحقيق هذه الغاية، يجب ألا نسمح لأي مخطَّطٍ راسخ للتقسيم والتراتُبية الاجتماعية أن يفرض سلفًا تلك الطرق التي يمكِن للناس من خلالها أن يعمَلوا معًا. يجب أن يُتقِنَ الفردُ المهارات العامة، ويجب أن يسيطر على الأدوات والفرص التي لا يعتمد امتلاكها على شغل أي وظيفةٍ بعَينها. أما الدافع التجريبي — الذي هو في الوقت نفسه تدريجي في طريقته وثوري في طموحاته — فيجب أن يُنشر خلال كل أجزاء المجتمع والثقافة.

وعند فهمهما بهذه الطريقة، فإن كلًّا من الحب الشخصي والتعاون المشجِّع على الإبداع يتطلب أن نتعلم التعامل بعضنا مع بعض ورؤية أنفسنا ككائناتٍ اصلية متجاوزة للسياق، وليس كموظَّفين متخصِّصين ضمن خطةٍ جماعية نقوم بتنفيذها بإذعان، حتى من دون أن نقصد. في تجربتنا الحقيقية، كما تطوَّرَت في التاريخ، نجدهما في أحسن الأحوال استثناءات، أو حالاتٍ مقيدة، أو مُثُلًا تنظيمية. وعلى رغم أنهما قد يُرياننا ما الذي يستحق أن يثمَّن أكثر من غيره، لكنهما ليسا — على الأقل ليس بعدُ — مادة التجربة العادية؛ فهما نافذتان على عالم بدأنا لفَورنا بصُنعه، ومرآتان للإنسانية التي عبَّرنا عنها بالكاد.

ولفهم الاتجاه الذي يشيران به علينا، يجب أن نرى كيف يرتبط الصراع بين المتطلبات الممكنة لتوكيد الذات بتعقيدٍ أساسيٍّ آخر في تجربتنا، والذي لعب دورًا رئيسيًّا في وصف حالتنا الذي وضَّحناه في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب. وهذا التعقيد الآخر هو علاقتُنا بالطبقات الاجتماعية والثقافية التي نطوِّرها ونسكنها. وهذه الطبقات تجعلنا من نحن؛ وبالتالي فليس بوسعنا فصل أنفسنا عنها بالكامل. وعلى أي حال، هناك دائمًا فينا أكثر مما هو فيها؛ فهي لا تستَنفِدنا أبدًا. ومهما كان مدى تحصُّنها ضد التحدي والمراجعة، ومهما كانت ناجحةً في اختزالنا إلى وكلاء لها، فنحن دائمًا ما نحتفظ في النهاية بالقدرة على تحديها وإزعاجها. وهي متناهية فيما يتعلق بنا؛ أما نحن فلانهائيون فيما يتعلق بها.

لكي نكون أحرارًا، ولنقترب بصورةٍ أكثر اكتمالًا من التحكُّم في أنفسنا، علينا أن نكون قادرين على التعاطي معها، حتى بعزيمة لا تلين وبإخلاص. وعلى أي حال، فعلينا أيضًا أن نحتفظ — لو أمكَن من خلالها، لكن إذا لزم الأمر ضدها — بقدراتنا النشِطة على النقد والتفوُّق.

في التجربة التاريخية، ليست الأشياء مرتَّبةً لتسهيل هذا الإنجاز؛ فالتعاطي قد يكون استسلامًا، وقد تكون المواجهة انعزالًا. إن الاضطرارَ للاختيارِ بين مثل هذا الاستسلام ومثل هذا الانعزال يعني أن يحُطَّ من قَدْرنا وأن نصبح غير أحرار؛ ومن ثَم فهذا الاختيار هو صراعٌ آخر بين المتطلبات الممكنة للتحكم في الذات.

سيتَمثَّل الحل في تشكيل الممارسات والروتينات التي تقلِّل المسافة بين النشاطات العادية التي نُعيد من خلالها صُنع العالم الاجتماعي والنشاطات الاستثنائية التي يمكِننا من خلالها، قليلًا قليلًا وخطوةً فخطوة، أن نغيِّره. وبعد ذلك يمكِننا أن نكون داخل وخارج عوالمنا في الوقت نفسه. وحينئذٍ سنتعلم كيف نتعاطى من دون استسلام.

إن المشكلتَين العظيمتَين لتجربتنا في المجتمع — علاقة الذات بالآخر وعلاقة الذات والإنسانية بالسياق — تأتيان معًا. إن قضاءنا على كل الطبقات الاجتماعية والثقافية المحدَّدة — وهو قضاءٌ يكشف بقية اللاتناهي بداخلنا — يمسُّ ويحوِّل علاقاتنا بعضنا ببعض، ويسبب هذه البقية قد نكون قادرين، في الحب الشخصي أو في التعاون المشجِّع على الإبداع، على الاعتراف بعضنا ببعض، ولوَهْبِ أنفسِنا بعضنا إلى بعض ككائناتٍ أصليةٍ مُتجاوِزة لأدوارها وسياقاتها. وبسبب هذه البقية فإن أنماطنا لوَهْب الذات والمراوغة تكون عاجزةً عن أن تتحدَّد بأي صيغةٍ كانت.

ثمَّة علامة على الطريقة التي تقوم فيها المشكلة المتعلقة بالتجاوز — أي بعلاقتنا بسياقاتنا — بتحويل المشكلة المتعلقة بالاتصال — أي بعلاقتنا بالناس الآخرين — وهي جشَعُنا، بما في ذلك رغبتُنا التي لا تشبع في الاعتراف والقبول. نحن نطلب من الناس الآخرين — من أولئك الذين نحب وكذلك ممن لا نحبهم — ما لا يستطيع إنسانٌ أن يمنحَه لآخر؛ تأمينًا غير مشروط بأن هناك مكانًا لكلٍّ منا في العالم، ليس فقط ككائنٍ حي معرَّض للموت، ولكن أيضًا كروحٍ مُتجاوِزة للسياق. لا شيء ولا أحد يكفي هنا.

إن جشَعَنا هو تعبيرٌ عن ضخامتنا؛ وبالتالي فهو يتعلق أيضًا بمراوغتِنا — لأنفسنا وكذلك للآخرين. عندما قال هيرقليطس١ بأن روح الشخص الآخر هي قارَّةٌ مظلمة لا يمكِن زيارتُها أو استكشافُها؛ فقد فشل في إدراك أن التخيُّل، بما في ذلك تخيُّل تجربة الناس الآخرين، قد يكون له تاريخ، لكنه تعرف على نتائج ضخامتنا بالنسبة إلى استتارنا.

ليس هذا الجشَع بالشيء الذي يمكِننا أن نتغلَّب عليه أبدًا من دون ممارسة العنف مع إنسانيتنا، فإذا اخترنا أن نَسحَر أنفسَنا لإسكات رغبةٍ لا تشبع ونقدِّم بعضنا لبعض إحسانًا هادئًا وبعيدًا بدلًا من حُبٍّ محفوف بالمخاطر، كما أوصت به التعاليم القديمة والشاملة للتنظيم التراتُبي في الذات والمجتمع، فلن نقلِّل الجشَع إلا بواسطة إخفات الحياة. نحن نسمِّم علاقاتنا بعضنا ببعض بأن يُنكِر بعضُنا على بعض الاعتراف باللانهائية بداخلنا. ليس بوسعنا أن نكُف عن أن نكونَ نَهِمِين — بأن نطلب اللامشروط من المشروط — من دون أن نتوقَّف عن أن نكون بشرًا.

وعلى رغم هذا، فإن العلاقة بين مشكلتَي الاتصال والتجاوز تُعَد اكتشافًا تاريخيًّا وإنجازًا سياسيًّا، وليس مجرد حقيقةٍ سرمدية تتعلق بالطبيعة الإنسانية، والتي يساهم في تقدُّمها كل اختراعٍ ديني يؤكِّد سُمو الروح، وكل صراعٍ اجتماعي يزعزع التقسيمات والتراتُبيات الراسخة للمجتمع، وكل نبوءةٍ سياسية تتعلق بالتعاون من دون إجبار وإخضاع؛ وكل تعزيزٍ لقدرتنا على تخيُّل التجربة الخفية للناس الآخرين. وكما يُمكِن للجانب الثاني من العقل — أي قدراته المتعلقة بالمبادرة اللاصِيَغية، واللانهائية التكرارية، والمقدرة السلبية - أن يأتي، بدرجةٍ قد تقلُّ أو تزيد، إلى طليعة تجربتنا العقلية وَفْق طريقة تنظيم المجتمع والثقافة، فإن عالم المجتمع والإيمان قد يترتَّب بحيث يعرض ويثير، أو ليُخفِيَ ويقمَع، جشَعَنا هذا.

وبالتالي فبالإمكان إعادة اختراع كل ما يتعلق بنا، ليس من خلال تحديثٍ مفاجئٍ وعام ولكن عَبْر الشد المستمر على الحدود؛ الطريقة التي تكون بها ضَجِرين ومُدمِنين، أو متكبِّرين ومتباهين. يمكِننا صياغة فكرة أن نشعر بالضجَر عن طريق صياغة فكرة أن نكونَ نهِمِين. وقد نكتشف أن طبيعة غرورنا؛ أي اعتمادنا على آراء الناس الآخرين فينا — أو تباهينا — أي ادعائنا باللامبالاة بمثل هذه الآراء — والتي تحوَّلَت بفعل الطلب المتزايد على أن يتم الاعتراف بنا ليس لشيء بعينه — أي الأداء المتعلق بطُموحٍ مشرِّف أو بدَورٍ مألوف — ولكن من أجل شيءٍ عام — أي رثاء نفسٍ تصحو على لاتناهيها الخاص عن طريق الصراع ضد سياقها. ومثل كل شيءٍ آخر، فإن العلاقة بين مشكلتَي الاتصال والتجاوز تُمارَس ضمن حدود الزمن. ومثل كل شيءٍ إنساني، فهي تُمارَس في التاريخ.

أما الآن، على أي حال، فنحن نجيء إلى عتبة جانبٍ آخر من الانقسام الذاتي الذي يسبِّب تعاستنا. نحن لسنا بعدُ، على الأقل ليس بعدُ بالكامل، هذه الكائنات القادرة على التعاطي من دون استسلام ووَهْب أنفسنا بعضِنا لبعض في الحب الشخصي، أو العمل بعضِنا مع بعض في التعاون المشجِّع على الإبداع، كما تفعل الكائنات الأصلية المطلَقة التي قد نتمنى جميعًا أن نكونها. نحن لسنا هؤلاء الناس حتى الآن. علينا أن نُعيد صنع المجتمع والثقافة بحيث يُمكِننا أن نُصبِح أولئك الناس بصورةٍ أكثر اكتمالًا؛ بحيث يمكننا أن نُدرِك، في جزءٍ أكبر من تجربتنا، أشكال التجربة المجسدة بصورةٍ استثنائية في الحالات المقيدة للحب الشخصي والتعاون المشجِّع على الإبداع. وبهذه الطريقة، يمكِننا أن نصنع عالمًا مأمونًا للإنسانية وأن نسمُوَ بأنفسنا؛ ومن ثَم يمكِننا أن نجعل أنفسنا أكثر ربانية.

إن الالتزام بهذا الاتجاه، والمفهوم الذي يرى إنسانًا ما يقوِّي هذا الالتزام، يعيش في المشاريع الكبرى للديمقراطية والتمكين التي تمتَّعَت منذ مدةٍ بسلطة لا نظير لها في كل أرجاء العالم. وعلى الرغم من هذا، فإن التصميمَ على إعادة تشكيل المجتمع باسمهما يبقى أبعدَ ما يكون عن أن يكون غير مثير للجدل. وعلى العكس من ذلك، فهو يتعرَّض للمقاومة في كل مناسبة. وحتى بين مؤيديه، فإن تضميناته المتعلقة بإعادة تنظيم الحياة الاجتماعية مثيرة للخلاف. وقد شكَّلَت الخلافات الناتجة مادة الصراعات الأيديولوجية طوال القرون القليلة الماضية. ولن تنتهي هذه الصراعات، لكنها ستتغيَّر في المحتوى ببساطة، ومن ثم تُظهِر أنفسها في أشكالٍ غير مألوفة.

وللتقدم في حل مشكلات الذات والآخر، بالإضافة إلى تلك المتعلقة بالذات والسياق، علينا أن نعيد بناء عالمنا — العالم الاجتماعي. وعلى أي حال، فإعادة البناء هذه ستُصبح معركة؛ سيكون طريق التقدم دائمًا جداليًّا ومحلًّا للنزاع. قد تكون المعركة سلميةً كما قد تكون عنيفة. وحتى في أشكالها السلمية ستكون مفعمةً بالأذى والخطر. ونتيجةً لذلك، فستُثير الخوف. قد نتمنى تقليل أخطارها عن طريق القيام، من خلال الديمقراطية والتجريبية، بتنظيم شكلٍ من الحياة الاجتماعية مفتوحٍ على المراجعة الذاتية المنظمة. وعلى أي حال، فسنظل حينها معادين بعضنا لبعض، حتى في شجاراتنا حول الطريقة التي يجب بها ترتيب التحوُّل الذاتي الجمعي، وكذلك حول الغايات التي يجب أن تستهدفها، والقيم التي يجب أن تعلق أو تُحتوى من أجلها، وكلما زاد نجاحُنا في تقليل اعتماد التغيير على الأزمة، ازداد العمق الذي قد تُصبِح عليه عداواتنا.

وهو ليس بالطريق الذي يمكِننا أن نُقسِم على التخلي عنه على نحوٍ صحيح. وإذا تراجعنا عن هذا الصراع، ليس فقط فيما يتعلق بالأفكار لكن أيضًا مع الناس الآخرين، فسنَفشَل في تخفيف حدة التوترات التَّوءَمية بين الشروط الممكنة لتوكيد الذات — أي التوتُّرات المتعلقة بعلاقتنا مع الأفراد الآخرين وبعلاقتنا بالسياق الجماعي للترتيبات والمعتقدات. ثمَّة علامة على هذا الفشل وهي أن ولاءاتِنا وارتباطاتِنا ستتلوث بالخضوع، الذي يُخفِي ويُضعِف سلطات إعادة اختراع الذات والمواجهة المتأصلة في طبيعتنا الأولى، والتي يجب أن تُصبِح محوريةً بالنسبة إلى طبيعتنا الثانية. على الحد الأقصى، سيتم تنظيم المجتمع والثقافة للمزج بين الإخضاع، والتبادل، والولاء في العلاقة نفسها؛ وهنا فإن إضفاء الصبغة العاطفية على التبادُل غير المتكافئ سيُصبِح الصيغة المميزة للحياة الاجتماعية.

ليس المصدر النهائي للانقسام والتعاسة في هذا المجال من تجربتنا هو أن الشروط الممكنة لصراعنا المتعلق بالتحكم في الذات بالطرق التي وصفتُها. يمكِننا أن نواجه هذا الصراع وأن نقلِّله بمرور الزمن. إن النجاح في تقليله يزوِّد حتى معيارًا للتقدم. يكمُن مصدر الانقسام والتعاسة في السعر الذي يتعيَّن علينا أن ندفعه كثمن لهذا الحل. إن السعر هو الحاجة للاقتتال مع الناس الآخرين حول الطريق إلى الأمام. إن الصراع مع هذه المشكلات هو أن يصارع بعضُنا بعضًا، عندما يكون جزءٌ مما أردنا، واحتجنا، هو التسوية، منذ البداية. كيف لنا أن نُعيدَ التشكيل من دون قتال أو أن نحاربَ من دون إيذاء؟

الذات والطبع

إن المجال الثالث الذي نُواجِه فيه مهمة بناء عالمٍ إنساني يكفي للكائنات المعرَّضة للموت التي هي أيضًا روح متجسدة، هو علاقتنا بذلك الشكل من الذات المتصلِّب في طبعٍ راسخ، وفي روتيناته المتعلقة بالسلوك والإدراك. علينا أن نقبلَ التكرار، وعلينا أيضًا أن نشنَّ حربًا لا هوادة فيها ضده.

علينا أن نَقبَل التكرار، وتصنيفه ضمن طبعٍ ما، لأن التكرار وتصنيفه يمثِّلان مبادئ الاقتصاد والتكامل التي لا غنى عنها لتطوير ذاتٍ ما. إن رفض التكرار والتعبير عنه في نسخةٍ مستقرة من الذات لا يعني قبول المرء لنفسه؛ فهو تمهيد الساحة لتناقضٍ غير قابل للحل بين الطموح الروحي والحياة العادية. وعن طريق الرومانتيكية والطريق السلبي،٢ ستظل الروح تطفو إلى الأبد فوق العالم الممل، والذي يجب فيه للتكرار أن يكثر من أجل أن تكون الجِدة ممكنة.

وبعد ذلك سنعيش حياتنا تحت ظل خطأ ما؛ سنفترض على نحوٍ خاطئ أننا لا يمكِن أن نكون أحياء بالكامل إلا في الفترات الفاصلة التي يكون بإمكاننا فيها رفع اليد الميتة للمؤسسات والممارسات، وللروتينات والإلزامات، ونحن نعلم أن هذه اليد سرعان ما ستسقُط ثانية. نحن نفشَل في إدراك أننا غير محدودين باستبدال بعض المؤسَّسات والممارَسات بأخرى؛ فبوسعنا أن نبتكر المؤسسات والممارسات التي، بتقليل المسافة بين الخطوات العادية التي نُعيد إنتاجها بها والخطوات الاستثنائية التي نغيِّرها بها، تجعلنا أعظم وأكثر حريةً وبشرًا أكثر اكتمالًا. وبصورة أكثر عمومية، يمكِننا أن نغيِّر موضع التكرار في الحياة الفردية والاجتماعية، ونحوِّله، بتكلفةٍ عالية وبواسطة خطواتٍ بطيئة ومؤلمة، إلى شرط للابتكار والتفوق.

ومن خلال اختزال أنفسنا إلى نسخةٍ روتينية من أنفسنا، نتوقف عن أن نكون بشرًا أكثر اكتمالًا. نحن نجعل أنفسنا أقِلَّة؛ ومن ثَم نبدأ في الاحتضار. نحن نُنكِر خاصية التفوق على كل تصميمٍ محدود، والذي هو شرط الروح المتجسدة. ونتيجةً لذلك، نفقد سيطرتَنا على الوسائل التي يمكِننا من خلالها أن ندرك على نحوٍ صحيح، وأن نحلَّ ولو بدرجةٍ أقلَّ بكثير، المشكلات الناتجة عن علاقتنا بالآخرين وبسياقاتنا. وللعثور على شيءٍ أفضل من المسافة المتوسطة في علاقتنا بالآخرين، علينا أن نكون قادرين على التجريب على أنفسنا؛ فللسعي من أجل التغيير في علاقتنا بالسياقات الجماعية للترتيب والإيمان، علينا أن نكون قادرين على السعي من أجل التغيير في علاقتنا بطبائعنا وعاداتنا الخاصة. ليس بوسعنا التأثير في عالمنا إذا ظَلِلْنا نحن أنفسنا غير متأثرين.

وبالتالي، لدينا هنا مصدرٌ ثالث للانقسام والتعاسة في تجربتنا، وعقبةٌ أخرى تعترض التحكُّم في الذات. إن القول بأنه يتعيَّن علينا أن نعتنقَ طبائعَنا وعاداتِنا، وأن تكون قادرين، من خارجها أو فيما وراءها، على زعزعتها وتحويلها، ليس بحل، بل هو مجرَّد اسمٍ لحلٍّ ما. وسيكون من الأهمية بمكانٍ تكوين فكرةٍ معيَّنة حول الذات باعتبارها أمرًا سياقيًّا، لكنها تسمو في الوقتِ نفسِه على السياق. وعلى أي حال، فسيكون من الضروري أيضًا أن نعيشَ بطريقةٍ معيَّنة، واضعين أنفسَنا بصورةٍ متعمدة تحت ظروفٍ تُضعِف سبل حماية العادة وتُزعزع مراوغات الطبع، مع توافر متفائل وصبور لما قد يأتي ووعي بأن ما يأتي قد لا يعدو كونَه إحباطًا وأسًى.

من الممكِن أن يدعم هذا العمل المتمثِّل في إعادة اختراع الذات بواسطة تنظيمٍ للمجتمع يمنَح المعدَّات والحماية للجميع، ويخفِّف قيود الاعتمادية والعجز ويُوهن ارتباكات الخوف. ويمكن أن تُلهمه ثقافةٌ أرست في القلب منها مثالًا من التعرضية المضاعفة التي تُقبل من أجل التحوُّل الذاتي والسُّمو الذاتي. وعلى أي حال، فليس بوسعنا الانتظار حتى يُنجز هذا العمل في الزمن الطويل للتاريخ؛ لأننا نعيش مرةً واحدة فقط، هي الآن.

الزمن التاريخي والسِّيري

هذه الأسباب الثلاثة للانقسام والتعاسة في تجربتنا تسمح باستجابة وتتطلبها. تتمثَّل الاستجابة في إعادة تنظيم المجتمع والثقافة في اتجاهٍ معيَّن. أما النتيجة، على أي حال، فليست حلًّا، على الأقل ليست حلًّا مُقنعًا، للفرد الذي يجب أن يعيش حياته ضمن المدى القصير للسنوات المقسومة له؛ ومن ثَم فهي في أحسن الأحوال حلٌّ للجنس البشري خلال المدى البعيد للتاريخ.

وكون المشكلة الوجودية تسمح بوجود حلٍّ سياسي — إلى حد كونها يُمكن أن تُحل أصلًا — يظهر بأوضح صورة فيما يتعلق بثاني المجالات الثلاثة التي ناقشناها في هذا الفصل. كيف يمكِننا أن نبدأ بالتغلُّب على الصراع بين المتطلبات الممكنة لتوكيد الذات؛ أن نرتبط بالآخرين، ومع ذلك ألا ندفع — مقابل هذا الارتباط — ثمنًا يتمثل في الإخضاع وتَبدُّد الشَّخْصية depersonalization؛ أن نكون قادرين على التعاطي مع مجتمعٍ وثقافةٍ بأعيُنهما ومع ذلك ألا نُسلم إليهما قُدراتِنا للمقاوَمة والتفوق؟ وكيف نتصارع مع الناس الآخرين، كما يتعيَّن علينا أن نقوم به، حول الأشكال التي يجب أن يتخذَها مثل هذا التغيير من دون خَسَارة فُرصنا للتوصل إلى تسويةٍ معهم؟ لا يتأتَّى ذلك إلا بواسطة تغيير شروط خلفية الحياة الاجتماعية.

في بادئ الأمر، لا يبدو أن هناك أيَّ أجوبة يمكِن للفرد تقديمها، ضمن مدى حياته الخاصة، ردًّا على هذه الأسئلة، إلا أجوبة سياسية فقط، إلى حد وجود أجوبةٍ أصلًا. تتطلب هذه الأجوبة السياسية مراجعةً تراكميةً لشروط حياتنا معًا. وفي الجزء القادم من هذا الكتاب، سأناقش خصائصَ ومتطلباتِ مثل هذه الممارَسة المستمرة والمعممة للمراجعة الاجتماعية.

مع اقتراب المجتمع من إصلاحه وإعادة تخيُّله في الاتجاه الذي تُشير به هذه الممارَسة لاكتشاف الذات ومراجعة الذات، نكسب فرصةً أفضل للتعاطي من دون أن نستسلم، ولأن نرتبط بالناس الآخرين من دون التخلي عن توكيد الذات. ونتيجةً لذلك، لدينا أيضًا احتياجٌ أقلُّ للتشاجُر — التشاجر مع الآخرين — لكي نُصبِح أنفسنا.

إن تمكُّننا من مواجهة الأسباب الأخرى للانقسام والتعاسة في تجربتنا عن طريق إعادة تشكيل المجتمع والثقافة قد يبدو أقلَّ وضوحًا، ومع ذلك فهو بوسعنا.

ومن أجل أن يمتلك الفرد فرصةً أفضل لصياغة مجموعةٍ من روتينات السلوك والإدراك، والتي يمكِنه إعادة تنظيمها على الرغم من ذلك، عليه أن يعيش في مجتمعٍ يجعله آمنًا وقادرًا في الوقت نفسه، والذي يوسِّع فُرصَه للتجريب مع احتمالات الحياة، والذي يمنعه من تمثيل المتحدِّث بلسان نصٍّ لم يكتبه مطلقًا، وبالكاد يفهمه. عليه أن يعيش في ثقافة تنقلب ممارساتُها وخطاباتُها على أنفُسها، وتقصِّر المسافة بين إعادة إنتاج الموجود وإعادة تنظيمه.

ومن أجل أن يحافظ العقل على سيطرته على العالم الظاهر مع تحرير نفسه من اتحاد المدركات المألوفة مع المقولات المألوفة، يجب أن يعيش الفرد في ثقافة تُلغي بالتدريج تلك المقارنات الصارمة بين العلم والفن كجزء من جهدٍ أكثر عمومية لجعل الاختلافات بين طرق الاستقصاء نسبية، والتي تستخدم علمها وفنها لتعميق وصَقْل، وليس لقمع وتدمير، تجربتنا مع حقيقة الزمن والاختلاف. عليه أن يعيش في مجتمعٍ ملتزم بإثارة وتزويد قدرات التخيل لدى جميع أفراد الشعب، وليس في نخبة من الرؤيويين visionaries وحدَهم.

وعلى أي حال، فإن الحلول المتعلقة بمشكلات انقسامنا وتعاستنا، والتي تتطلب إعادة التشكيل الطويلة المدى للمجتمع والثقافة، ليست حلولًا على الإطلاق، بمعنًى ما؛ فهي تحدث في الزمن التاريخي، أما نحن فنعيش في الزمن السِّيَري ونموت قبل أن تصبح أكثَر واقعية.

إن المقارنة بين الزمن التاريخي والسِّيَري — بين ما يمكن أن يحققه النوع والفرد — تُهدد بأن تُعيد ترسيخ التفاوت — ضمن العالم الإنساني — بين الطبيعة اللامبالية والإنسانية الهشَّة. ما الخير الذي يصيبنا عندما نطوِّر عالمًا، هو عالمنا الخاص، قادرًا على إثبات معانيه الخاصة على الخَواء، إذا لم يكن بوسعنا أن نفعل ذلك إلا على مقياسٍ زمني ليس هو مقياس الحياة الإنسانية؟ وإذا حاولنا تحويل أنفسنا إلى تلك الأدوات القُربانية sacrificial لمشروعٍ جماعي من التحوُّل، فنحن نخاطر بأن نصبح ليس فقط أعداءً لأنفسنا ولكن أيضًا أخطارًا تُحدِق بالإنسانية. أما الذات الحقيقية المتجسدة، بمصالحها الحَرونة وقيود الرؤية المفروضة عليها، فستقاوم، مستخدمة لمصلحتها الخاصة ادعاء الشهامة القُربانية.

يكمُن الجواب، إلى حد وجود جوابٍ أصلًا، في ترجمةٍ هي أيضًا نبوءة. يجب أن يترجم الفردُ الأملَ الجماعي إلى طريقةٍ للعيش في الزمن الحاضر. وعلى سبيل المثال، عليه أن يتعلم أن يتخيل وأن يُعامل الآخرين ككائناتٍ متجاوزةٍ للسياق وباعتبارهم الكائناتِ الأصليةَ المطلَقة التي يمكِنهم أن يُصبحوها. وفي وسط قتاله، عليه أن يسمح لنفسه بأن يُفتن ببعض هؤلاء الآخرين. عليه أن يثور ضد تقييدات العلم والفن، التي تتطلب وتؤذِن بتخيل ما لا تستطيع تقديمه حتى الآن؛ التسوية بين الآنيَّة الرؤيوية وبين التقصِّي السببي. عليه أن يتعامل مع التكرار كتحريضٍ على فعل ما لا يمكِن تكراره حتى الآن. وفي كل هذه الطرق، عليه أن يعيش للمستقبل — المستقبل الطويل للإنسانية ومستقبله الخاص القصير— كطريقٍ محدَّد للعيش في الحاضر ككائنٍ لا يتحدَّد بالكامل بالظروف الحالية لوجوده.

نبوءات الفن

لدينا علامة على أن هذا الاتجاه لتغيير الوجود الفردي والجماعي ليس مجرد وَهْمٍ تأملي؛ وأن له أساسًا في نفس حقائق الوجود التي تمثِّل أيضًا مصادر انقسامنا الذاتي وتعاستنا؛ وهذه العلامة هي موقع الفن في حياتنا.

يمثِّل الفن وعدًا بالسعادة. ووفقًا لمحتواه ولمستوى أمله، فهو وعد بنوعَين مختلفَين من السعادة؛ سعادة التمام wholeness وسعادة الوضوحية resolution.

إن قطعةً فنيةً تراجيدية لا تُرينا طريقةً للتغلب على انقسامنا الذاتي، لكنها تُخبرنا بكيف، من خلال كِبَر الرؤية والعمل، يمكِننا أن نتمسَّك بكلا الجانبَين لكلٍّ من الانقسامات التي تكتنف تجربتنا. يمكِن لكلٍّ منا أن يُقاوِم أن يصبح نصف إنسان؛ يمكِن لكلٍّ منا أن يبقى كاملًا. أما القطعة الفنية الكوميدية فتَعِدنا بأكثر من التمام؛ التغلُّب على الانقسامات، ومصالحتها في حياةٍ متحوِّلة. وإذا كان بديل الفلسفة الدائمة الذي أجادِل لأجله في هذا الكتاب مبرَّرًا، فإن الكوميديا هي في الحقيقة أعمق أو أكثر حقيقيةً من التراجيديا.

وعلى أي حال، فلنَنسَ ما يتعلق بمحتوى القِطَع الفنية المحددة ولتنظر إلى شكلها فقط، وإلى ممارسة صُنع الفن والتعاطي معه، بأي صورةٍ كانت. سترَونَ إذن أن الفن بطبيعته ذاتها، وبغَض النظر عن الطبيعة التراجيدية لمحتواه، يجسِّد الأمل الأكبر — الأمل المتعلق بالوضوحية — ويحوِّل هذا الأمل إلى أحد أشكال الرؤية. وهو مُفعَم بالأمل حتى عندما يبدو يائسًا. وكل نوعٍ من الفن، وفقًا للوسط الذي يُنتَج فيه، مُفعَم بالأمل على نحوٍ مختلف.

تمثِّل الموسيقى نبوءةً تتعلق بقدرتنا على قَبول أنفسنا بتقبُّل التكرار وفي الوقت نفسه أن نجعل أنفسنا أحرارًا وعظماء بتحدي التكرار؛ وهي تعويذة، وابتهاج، وإثارةٌ ناتجة كليًّا عن ديالكتيك بين المتكرر والمتباعد في الصوت. يتوقف التكرار في الموسيقى عن أن يكون سجنًا؛ فيصبح، كما يجب أن يكون عليه في تجربتنا، شرط الجديد. وما يبدو كاستكشافٍ بعيد للتناغُم والتناشُز يعبِّر عن أملٍ يُعَد محوريًّا بالنسبة إلى إنسانيتنا.

وتمثِّل الفنون البصرية نبوءةً على قدرتنا على مصالحة تخيُّل العالم الظاهر للاختلاف وتتغيَّر مع اكتشاف البِنية الخفية، في حين أن موضوعها الجامع هو عمق السطح. إن التعلق بسطح الأشياء أو خصائصها المُدركة وكذلك استقصاء هذا السطح، بتمثيل ما هو غائب وتخيُّل أنه تحول، هو ما نأمل في الحصول عليه من الفنون البصرية.

أما الفنون المنطوقة والمكتوبة فهي نبوءة على قدرة كلٍّ منا على الارتباط بالناس الآخرين من دون التخلي عن تجربته المتميزة وصوته الفريد. وحتى عندما تكون تراجيديةً في المحتوى، وتبدو يائسةً من الوضوحية، فهي تزوِّدنا بنوعٍ من الوضوح في صنعها.

إن ارتباط المؤلف أو المتحدث بالقُراء أو المستمعين يؤكِّد الأمل في أن تواصُلَهم يمكن أن يصبح أكثر من تبادُل الإسقاطات الذاتية وأوجه سوء الفهم المتبادلة؛ فبوسعه هو وهُم تجنُّب الاحتباس في الوعي الخاص بكلٍّ منهم.

ليس هناك مفهومٌ للحياة الإنسانية، يفشَل في فهم هذه النبوءات، ويمكِنه أن يُشبِه الحقيقة، وليس هناك مشروعٌ لتحويل الحياة الإنسانية يمكِنه أن يمتلك سلطةً تفشل في اقتراح كيف يمكِننا أن نبدأ في التعامل معها.

١  Heraclitus: هرقليطس (٥٤٠–٤٨٠ق.م.)؛ فيلسوفٌ إغريقي قال بأن النار هي الجوهر الأول ومنها نشأ الكون. (المترجم)
٢  via negativa: الطريق السلبي؛ مقاربة فلسفية للاهوت تؤكِّد على أنه لا تُوجَد مفاهيم أو أوصافٌ متناهية يمكِن استخدامها بصورةٍ كافية من قِبل الله، ولكن تعبيرات سالبة فقط. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤