المجتمع: الاختراع الأبدي للمستقبل
حتى الآن، لم نصل بالكامل إلى أن نكون تلك الكائنات التي لا تكتفي بتجاوز سياقاتها، لكنها أيضًا تصنع السياقات التي تُقِر وتغذِّي هذه المقدرة على تجاوز السياق. علينا أن نحوِّل أنفسنا إلى مثل هذه الكائنات، وفِعْل ذلك هو مهمة الديمقراطية. وبصورةٍ أكثر عمومية، فهو مهمة اتجاه الإصلاح، في المجتمع وفي الفكر، الذي فيه نقلِّص الفجوة بين أنشطتنا المحافِظة على السياق وتلك المحوِّلة للسياق. وعندما نتوغَّل بما فيه الكفاية في هذا الاتجاه، سنُنتِج الاختراع الدائم للمستقبل— أنماط المستقبل البديلة. إن العمل كأيديولوجيةٍ تشغيلية لمثل هذا المشروع هو المسئولية العملية الرئيسية للبراجماتية المتحرِّرة من أغلالها.
يمكنك تسمية هذا المشروع بالتعاون التجريبي. وهو اليوم متجذِّر بصورةٍ أساسية في الشركات التجارية وفي المدارس — أفضل الشركات التجارية وأفضل المدارس. وعلى أي حال، فمتناوله يمتد إلى الخارج، إلى تنظيم السياسة والثقافة.
إن التعاون التجريبي هو طريقةٌ مشجِّعة على الابتكار لتنفيذ المهام العملية التي تتسِم بالخواص التالية، ضمن ملامحَ أخرى.
تتمثَّل الخاصية الأولى في تخفيف المقارنة بين الأدوار الإشرافية والتنفيذية. يُعاد تعريف المهام في أثناء تنفيذها، في ضَوء الفُرص والقيود المكتشَفة حديثًا.
أما العلامة الثالثة فهي القدرة على نقل تركيز الجهد الجديد، بقَدْر ما يمكِن أن تسمح به القيود العملية، إلى حدود العمليات التي لا يمكِن تَكْرارها بسهولة لأننا لم نتعلم حتى الآن كيف نُخضِعها لصيغةٍ ما، وأيًّا كانت الخطوات المفاهيمية أو العملية التي يمكِننا تَكْرارها بصورة صِيَغية، فبوسعنا أيضًا — من حيث المبدأ — أن نجسِّدها في ماكينةٍ ما. نحن نُسرع الحركة بين ما يمكِن تَكْراره وما ليس في الإمكان تَکْراره بعدُ، باستخدام التضمين الميكانيكي للأول؛ لتوفير الزمن والطاقة للأخير.
هذه الخصائص الثلاث الأُولى تجعل من الممكن بالنسبة إلى التعاملات العملية بين الأطراف المكتنفة في التعاون التجريبي أن تجسِّد العلاقات بين الأجزاء المكوِّنة للمنطق العملي ذاته. إن التفكيك وإعادة التركيب التجريبي للمهام يُترجمان إلى تنظيم عمل كل اختلافات التحليل والتجميع. يرقى التعاون التجريبي لاعتباره نوعًا من الجهد المبذول لتحويل المجتمع مرآةً للتخيُّل.
يقترح الملمحان التاليان لهذه الممارسة طبيعة الاستعدادات الاجتماعية الأكثر أهميةً لطرق عملها.
وهناك إشارةٌ خامسة تتمثَّل في مَيْل المجموعات المكتنفة في التعاون التجريبي إلى إعادة ترجمة مصالحها وهُوياتها الجماعية في أثناء تقدُّمها — ولتوقع إعادة ترجمتها — بدلًا من أخذها كما هي.
إن الأسس الأكثر ألفةً لهذه المجموعة من الممارسات اليوم هي الشركات والمدارس المتقدمة الكثيفة الاستخدام للمعرفة؛ فمنها نتوقع التجديد والثروة على نحوٍ متزايد. وتَعِدُ الشبكة العالمية التي بدأَت تشكيلها بأن تصبح القوة المهيمنة في الاقتصاد العالمي. وبرغم ذلك، تبقى مثل هذه الطلائع مرتبطة — على نحوٍ ضعيف — ببقية الاقتصاد والمجتمع؛ فحتى في أغنى البلدان، تبقى الأغلبية الواسعة من الناس مُبعَدة عنها ولا تمتلك فرصةً مأمولة للالتحاق بها. وفيما يتعلق بحيويتها، تعتمد الطلائع على الظروف الخاصة — على سبيل المثال، تقاليد العمل الخاصة بالحِرَف المستقلة أو المواهب التعليمية الرفيعة، وتنظيم المجتمع، والحكومة الجيدة — التي تفتقر إليها معظم أجزاء العالم.
إن الأداتَين العظيمتَين المتوافرتَين لتعويض النتائج غير المتساوية والاستبعادية للانقسامات بين هذه الطلائع وبين الحاميات الاقتصادية والاجتماعية التي تحيط بها — إعادة التوزيع التعويضية من خلال الضريبة والنقل والدعم السياسي للملكية والشركات الصغيرة المرتكزة على العائلة — غير كافيتَين؛ فهما تُوهنان انقسامًا لا يمكِنهما إعادة صنعه أو استبداله. ويتمثَّل عملهما في أنسنة ما يُفترَض أن يكون حتميًّا. وهما تتركان المجتمع منقسمًا؛ فتُحرم الجماهير الواسعة من الرجال والنساء العاديين الترتيبات والهبات التي يمكِن أن تطوِّر وتستغل طاقاتهم.
ما المطلوب للتغلب على هذا الانقسام، بدلًا من مجرد مقاومة بعض نتائجه، بصورةٍ ضعيفة وانتقائية؟ نحتاج إلى الاعتراف بأن هذه التجريبية المتقدمة هي ببساطة النسخة الأحدث والأكثر تطرفًا من مدًى أوسعَ من القدرات التعاونية والتجريبية؛ فقد أصبح النجاح العملي للأمم يعتمد بصورةٍ متزايدة على امتلاكها وتوليدها.
تبدو بعض البلدان ناجحةً في كُلٍّ من الترتيبات المرتكزة على السوق وتلك التي توجِّهُها الحكومة. وهي تُظهِر قدرةً على التحرك بين هذه الترتيبات وَفْق ما تتطلب الظروف أو تقترح، كما لو كانت النماذج المؤسَّساتية التي تتبنَّاها، وتنبذها، وتدمجها هي الأقنعة العديدة التي يمكِن ارتداؤها وفق المناسبة. أما البلدان الأخرى فقد أساءت تدبير كلٍّ من المقاربات الموجَّهة من قِبل الحكومة وتلك المرتكزة على السوق، ولم تتمكَّن من معالجة حالات فشلها في أحد هذيَن الاتجاهَين بالتحرك في الآخر.
إن النزاعات المؤسَّساتية والأيديولوجية المألوفة خلال القرنَين الأخيرَين، بتركيزها من دون هوادة على الدولة والسوق كركنَين أساسيَّين متعارضَين للتنظيم الاقتصادي والنمو الاقتصادي، تفشل في التقاط أمرٍ مهم يتعلق بمتطلبات تحقيق نجاحٍ عملي من الحياة الاجتماعية. وما تفشل في التقاطه يتحول إلى جدال حول شروط وفوائد الاختراع الدائم للمستقبل.
تتسم بعض أنظمة التعاون بكونها أكثر تقبُّلًا للإبداع — الثقافي والتقني والاجتماعي والتنظيمي — من غيرها. وهي تُلطِّف التوتُّر الموجود حتمًا بين مقتضيات التعاون والإبداع، والذي يتسم بكونه مركزيًّا ومتغلغلًا في كل الأنشطة العملية، بما في ذلك إنتاج وتبادُل السلع والخدمات. وما التعاون التجريبي الذي وصَفْناه في جزءٍ سابق إلا خطوة في اتجاهٍ ما، ومجموعةٌ ثانوية من مجموعةٍ مفتوحة أكبر من الممارَسات التي تقلِّل التدخل بين أولويات التعاون والإبداع المعتمِدة بعضها على البعض الآخر بشكلٍ متبادَل.
هناك بعض طرق تنظيم المجتمع والتعليم تحبِّذ التحرك في هذا الاتجاه بينما تثبِّطه طرقٌ أخرى. ومن خلال المساعدة على التوفيق بين مقتضيات التعاون والإبداع، فهي تمكِّن المجتمعات أيضًا من تغيير اتجاهها — وفقًا للظروف — بين التوجُّهات المختلفة المؤسَّساتية وتلك المتعلقة بالسياسات، مع قَدْرٍ مماثلٍ من النجاح. ليس هناك مجتمعٌ محكوم عليه بالبقاء في مستواه الحالي من الوضع غير المواتي نسبيًّا، والمتمثِّل في امتلاك ونَشْر القدرات التي تُتيحُها مثل هذه الممارَسات. من الممكِن أن يقوم كلُّ مجتمعٍ بإعادة تنظيم نفسه لإتقانها بصورةٍ أكثر اكتمالًا، وكذلك جَنْي فوائدها.
لنتدبَّر الحالاتِ الثلاثَ التالية، وكلٌّ منها غنيٌّ في المحتوى والنتيجة المؤسَّساتية، التي تساعد المجتمعات على تحقيق مثل هذه السيادة، والتي تنشُر على طول تجربتنا الاجتماعية قوةً من المراجعة والتجاوز. وهي تمثِّل في الوقت نفسه متطلَّبات وخصائص تجريبية ديمقراطية معممة. وهي ليست مجرد القاعدة الاجتماعية لتقوية ونشر التعاون المشجِّع على الابتكار؛ فهي أيضًا الأدوات المفضَّلة لجوابٍ سياسي للمشكلة، التي ناقشناها في الفصل السابق من هذا الكتاب، والمتعلقة بالصراع بين المتطلبات المُمكنة لتأكيد الذات. والتي بفضلها يمكِننا أن نتمنى أن نطوِّر أشكالًا من الحياة الاجتماعية تسمح لنا بالارتباط بالآخرين بصورةٍ أفضل من دون أن نتبرأ من أنفسنا، وبالمشاركة في مجتمع وفي ثقافةٍ ما من دون الاستسلام لهما.
ثمَّة شرطٌ أوَّل يتمثل في تجنُّب التفاوت المتطرف للفُرص، والاحترام، والاعتراف، بالإضافة إلى الإصرار المستمر على المساواة في الموارد أو النتائج. ومن الأقَلِّ أهميةً أن يكون الفرد قادرًا على تحسين حظه (أو رؤية أطفاله يُحسِّنون حظوظَهم) من كَون بِنية التقسيم والتراتُب الاجتماعي لا تُقدِّر سلفًا وبصرامة كيف يمكِن للناس أن يعملوا معًا. وما يهم هو أن يكون النص الاجتماعي والثقافي الموجه لمقاربة التعاون قابلًا للمراجعة. إن وجود مجالٍ للمناوَرة في مهمة العمل الجماعي هو ما يهمُّ أكثر.
إن المساواة في الفرص ستكون قليلةً للغاية؛ فقد تكون متوافقة، على سبيل المثال، مع مريتوقراطية تمنع القرارات الواسعة النطاق فيما يتعلق بقرارات الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي تُخضِع المجتمع لحكم نخبةٍ مريتوقراطية. أما المساواة في الظروف، حتى عند اختزالها لمبدأ احتمال أوجه التفاوت الذي يفيد الوضع الأسوأ، فستكون أكثر من اللازم؛ فستمنح أولويةً غير مستحقَّة لهدفٍ هو في الحقيقة ثانوي. إن المغزى هنا هو أن نجعل أنفسنا، بشكلٍ منفرد وبصورةٍ جماعية، أكبر وأكثر حرية، بإبعاد أوجه التفاوت المتطرفة والمتحصنة لأنها تعترضُ سبيل المبادرات التي نَرفع من خلالها أنفسنا إلى الأعلى.
لا يجوز السماح بوجود تراكُم لأوجه التفاوت المتحصِّنة — سواء فيما يتعلق بالفرص والموارد أو بالاحترام والاعتراف — والذي تتمثَّل نتيجتُه في إنكار أي مجموعة أو صنف من المناسبات ووسائل العمل والارتباط (مبدأ الوكالة). وبالإضافة إلى ذلك، يجب ألا تُترك أي قدرةٍ فرديةٍ منتقصة للعمل والوكالة من دون جهدٍ تعويضي من قِبل المجتمع للاهتمام بالضعف وبالضعفاء، ليس فقط بانتقالات المال، ولكن أيضًا بالرعاية الشخصية. يجب جعل الناس مسئولين عن الاهتمام بعضهم ببعض (مبدأ التضامن)، وعلينا أن نرفع شبكة التقسيم والتراتُبية الاجتماعية التي تُلقي بثقلها على علاقاتنا بعضنا ببعض.
هناك شرطٌ ثانٍ يتمثَّل في تحسين قدرات الرجال والنساء العاديين، سواء بوقايتهم ضد القمع الحكومي أو الاجتماعي، أو بمنحهم مُعدَّاتٍ تعليمية واقتصادية. يجب ألا يعتمد منح مثل هذه المُعدَّات على تقلُّد وظائفَ معيَّنة أو أداء أدوارٍ بعينها. ومن الممكِن أن يتضمن، على سبيل المثال، المطالبة بالتعليم المستمر، في كُلٍّ من القدرات العملية والمفاهيمية العامة والمهارات المتخصِّصة، بالإضافة إلى حدٍّ أدني من رأسمال الموارد الأساسية أو ميراثٍ اجتماعي.
ستحتاج أي مجموعة من الترتيبات المتعلقة بضماناتِ حماية القدرات وبمصادر تحسينِ القدرات إلى أن تُعفَى من جدول أعمال السياسة القصيرة الأمد؛ على سبيل المثال، عَبْر أن تكون متحصِّنة دستوريًّا. وعلى أي حال، فبعض أشكال الاستثناء ستكون مصلبةً للمجتمع بصورةٍ أكبر بكثير من غيرها؛ علينا أن نفضِّل تلك التي تصلِّبه بأقلِّ قَدْرٍ ممكِن، تاركين الانفتاح الأوسع للتجريب والاختراع.
أما الشرط الثالث فهو أن نُوسِّع — في الحياة الاجتماعية — تعرُّضيَّة كُلِّ الترتيبات والممارَسات للتحوُّل التجريبي (مبدأ المراجعة).
قد يختلف أحد الأنظمة الاجتماعية والثقافية عن الآخر في الدرجة التي يمنع بها نفسه من التحدي والتغيير، مما يُطيل المسافة بين الخطوات العادية التي نقوم بها ضمن إطارٍ مؤسَّساتي وأيديولوجي لا ندركه على نحوٍ جيد، وبين الحركات الاستثنائية التي نتحدى بواسطتها ونغيِّر قطعًا من الإطار. وكلما ازداد مثل هذا النظام تجذُّرًا، وكلما زاد إخفاؤه لنفسه كشيءٍ طبيعي بدلًا من شيءٍ صنعناه بأنفسنا؛ زاد كونُه قَدَرًا مزيفًا. تتمثل النتيجة العملية في تكبير درجة اعتماد التغيير على الأزمة، مما يستعبدنا لخلقنا الجماعي الخاص.
من مصلحتنا أن نتحرَّك في الاتجاه المعاكس، بتَبنِّي الممارَسات والمؤسَّسات التي تقصِّر المسافة بين حركاتنا المحافِظة على السياق وتلك المحوِّلة للسياق، وتقليل اعتماد التحول على الصدمة وتبديل طبيعة بِنَى المجتمَع والثقافة. ينطبق هذا الاهتمام بقوة وأسبقية خاصة على ترتيباتنا السياسية؛ فهي تضع الشروط التي نُراجِع بناءً عليها كل الترتيبات الأخرى، ونُراجع شروطها الخاصة بالمراجعة والتنقيح.
من بين علامات النجاح في إنجاز هذه الشروط الثلاثة، وأكثرها مباشرةً فيما يتعلق بالثالث، أننا سنكون قد قلَّلنا اعتماد التغيير على الأزمة، ووصَلْنا بالمجتمع والحياة ذاتها إلى مستوًى أعلى من الوعي والشدة من دون تحريض الكارثة.
ليست هذه مجرد الشروط المفضَّلة للقدرات المميزة التي أطلقتُ عليها اسم التجريبية أو التعاون المشجع على الابتكار؛ كما يجب ألا نثمِّنَها لمجرد أنها تعزِّز التقدم المادي، وتساعد على رفع أعباء الفقر، والعجز، والكدح التي تستمر في إرهاق كاهل البشرية. على أحد المستويات، هي تشكِّل جزءًا من أساس تقدُّمنا في إعطاء جوابٍ سياسي وجماعي للصراع الأساسي بين المتطلبات المُمكنة لتأكيد الذات. وعلى مستوًى آخر، فهي تدعَم الثقافة العامة لديمقراطيةٍ مُحبةٍ للاستطلاع، والتي تمتلك داخلَها مخاوف وطموحات البراجماتية المُتحرِّرة أفضل فرصة للازدهار. وهي ترفع الإنسانية البسيطة إلى أعلى، مما يزيد قدرتَنا على اكتشاف الضوء في العالم الغامض للأمور العادية، واكتشاف العبقرية البنَّاءة في قدرات الرجال والنساء العاديين.
وعلى أي حال، فهي لن تعمل ذلك تلقائيًّا، وبالضرورة فهي لن تفعل ذلك إلا إذا اقترنَت هذه الترتيبات والشروط مع تطويرِ مؤسَّسات، وممارَسات، وروح سياسةٍ ديمقراطية مُفعمَة بالطاقة. وسيتم تنظيم مثل هذه السياسة لتفضيل الحل السريع للطريق المسدود، والاشتباك المستدام للمواطنين، والاختبار الموسَّع، في أماكنَ وقطاعاتٍ بعينها، لبدائل الحلول السائدة في الحياة الوطنية، وتعميم ضَربٍ من الميراث الاجتماعي الذي يضمن الوصول إلى الهبات والحصانات المحسِّنة للقدرات، والتحطيم الموجه لأي حالاتٍ من الضرر والاستبعاد المتجذِّر الذي لا يستطيع الناسُ الهروبَ منه بواسطة أنواع المبادرة الاقتصادية والسياسية المُتوافِرة لديهم.
يجب أن يحدث تعميقُ الديمقراطية الآن على مقياسٍ عالمي. في عالمٍ من الديمقراطيات، تتمثل قيمة الاختلاف بين الأمم وقيمة السيادة الوطنية في تطوير القدرات والإمكانات المحتمَلة للإنسانية في الاتجاهات المختلفة. ليس الأمر أنه ليس هناك شكلٌ طبيعي للحياة الإنسانية فقط؛ فليست هناك أيضًا صيغةٌ مؤسساتية وثقافية محدَّدة لأي ديمقراطية، أو اقتصاد للسوق، أو ثمَّة مجتمع مدني حُر؛ وبالتالي، يجب على الدول القومية والمجتمعات الإقليمية للعالم أن تصبح أدواتٍ للتخصُّص الأخلاقي ضمن الإنسانية.
نحن نُواجِه تناقُضًا مزدوجًا في بناء مثل هذا النظام العالمي؛ فمن ناحية، نحن نحتاج إلى الاختلاف من أجل التماثُل. إن تطويرَ إنسانيةٍ مشتركة يتطلب تقوية، وليس إضعاف التجارب الوطنية، ودون الوطنية، وفوق الوطنية المتباعدة. إن الخطر الذي يجب أن نخشاه أكثر من غيره ليس الاختلاف الحقيقي، المفتوح للتجريب والمساومة، بل الرغبة العاجزة والغاضبة في الاختلاف في مواجهة اضمحلال الاختلاف الفعلي بين الأمم. ومع اقتراب الأمم من أن تكون متشابهةً في التنظيم والتجربة، فقد تكره بعضها البعض لدرجة أكبر بسبب الاختلاف الذي ترغبه والاختلاف الذي فقدَته؛ وبالتالي فإن منحَها أدوات الأصالة الجماعية يمثِّل إحدى أكبر مصالح الإنسانية.
وللبَدْء من حيث نحن، على أي حال، تتمثَّل مهمتُنا الأُولى في تطوير مؤسَّسات وممارَسات الديمقراطية المفعَمة بالطاقة، واقتصاد سوقٍ مدقرط، ومجتمعٍ مدني منظم ومستقل، وهباتٍ تعليمية واقتصادية للفرد تمكِّنه من المقاومة بالإضافة إلى العمل. إن الإصلاحات القادرة على إحداث هذا التأثير قد تبدو متشابهة في تشكيلةٍ واسعةٍ من البلدان التي قد تُفعَل فيها. ومع ذلك، فمن بين تبريراتها أن تسهِّل التباعد اللاحق والأكثر تطرفًا، على أساس الحقوق والهبات الفردية، والسياسة الديمقراطية، والتجريب المعمم.
ليس هذا برنامجًا للتعددية المفرِطة لأشكال الحياة؛ فهو يعتنق قيمة الانفتاح لكنه يُنكِر وَهْم الحياد؛ وبالتالي فهو يُنكِر التمييز غير المشروط بين الحق والخير. وهو يرغب في نظامٍ عالمي من شأنه جعل العالم أكثر أمنًا للديمقراطية والتجريبية، ويحتوي، ويوازن، وفي النهاية يقوِّض كل القوى المهيمِنة. وهو يعرض نظامًا للتجارة العالمية، يختار — كهدفه التنظيمي — التوفيق بين المسارات البديلة للتنمية الوطنية ضمن اقتصادٍ عالمي مفتوح بدلًا من تحقيق الحد الأقصى من التجارة الحرة. وهو يرفُض مبدأً لبناء اقتصادٍ عالمي يترك السلع ورأس المال حرةً في أن تجوب العالم، وبرغم ذلك يسجُن العمال داخل الأمم أو ضمنَ مجتمعات الدول القومية المتجانسة نسبيًّا.
وهو يُصِر على أن رأس المال والعمال يجب أن يفوزا معًا، في خطواتٍ صغيرةٍ متزايدة، بالحق في عبور الحدود الوطنية. وهو يرى أن حرية انتقال العمال هذه هي الأقوى من بين جميع قوى المساواة، وأنها تمثِّل ركنًا أساسيًّا للحرية الفردية؛ ضمان أن يكون الفرد قادرًا على الهروب من الأمة التي اتُّفق وأن وُلد فيها وأن ينضم إلى أمةٍ أخرى.
- أولًا: ففَوق المساواة هو يثمِّن العظمة — تحسين قدرات وتجربة الإنسانية العادية والإكثار ضمن الإنسانية من الشخصيات وأشكال الحياة القوية والمتباينة. أمَّا الأشكال المتغايرة البطولية والأرستقراطية للتحكُّم في الذات — خداع الذات وهزيمة الذات بالإضافة إلى تلك القمعية — فيجب أن يُعاد اختراعُها خلال عملية «دقرطتها». تعمل أوجُه عدم المساواة المتطرِّفة والمتجذِّرة على بناء حاجزٍ يعترض هذا الانتشار للسلطة، والفُرص، والشدة. وعلى أي حال، فإن السعي إلى تسويةٍ جامدة للظروف يمثِّل بديلًا مؤسفًا لهذا الاستغلال للطاقة ومثل هذا التوسيع للشخصية.
- ثانيًا: هو يرفُض تقييد طموحاته إلى تخفيف، من خلال الاستحقاقات الاجتماعية وإعادة التوزيع التعويضي، تأثيرات الترتيبات الاجتماعية الراسخة في عدم المساواة والاستبعاد. وهو يُصِر، بنيَّة إعادة البناء، على إعادة دخول مناطق إعادة تنظيم السياسة والإنتاج التي سرعان ما تخلَّت عنها الديمقراطية الاجتماعية للقرن العشرين. وبهذا المعنى، فهو يتشارك تصميم الليبراليين الكلاسيكيين على دفع مشروعهم إلى الأمام من خلال إصلاح الممارَسات والمؤسَّسات. وعلى أي حال، فهو يُصِر على عدم كفاية، ليس البرنامج المؤسَّساتي الليبرالي الكلاسيكي فقط، ولكن أيضًا وصف المؤسَّسات والتغيير المؤسَّساتي الذي تَشَارَكَه الليبراليون والاشتراكيون. ويرى أن مهمته تتمثل في تخطيط اتجاهٍ ما، يتحدَّد بالتغيير التراكُمي والتدريجي، بدلًا من تزويد مخطَّط — أو توجيه — يُصبِح بعيد المدى بفعل استمرارية تجارِبه وليس بفعل فجائية وسَعَة تأثيره.
وبالإضافة إلى ذلك، فهو يضغط على كُلٍّ من جانبَي العلاقة الديالكتيكية بين إصلاح مؤسَّساتنا ومراجعة مفاهيمنا، مما ينقلنا إلى وجهةِ نظرٍ أخرى للديمقراطية، ويشكِّل جزءًا من وجهةِ نظرٍ أخرى حول أنفسنا.
لا يمكِننا تحقيق ديمقراطيةٍ متعمِّقة ضمن عولمةٍ مُعادٍ توجيهُها إذا واصَلْنا الاعتقادَ بأن خلق الاختلاف هو المشكلة وليس الحل، أو القبول بفكرة أن السياسة الصغيرة تُساعِد الناس الكبار. ولا يمكِننا، على أي حال، أن نصل إليها من خلال التفاني النظري لبرنامجٍ شامل للإصلاح المؤسَّساتي. ولا يمكِننا أن نحقِّقه سوى من خلال إعادة التفسير المقنعة للمصالح المُعترَف بها.
إن المصلحة الأقوى في كل أنحاء العالم، في أفقر البلدان وكذلك في تلك الغنية، هي مصلحة الحشود الهائلة من الناس الذين يتطلعون إلى قَدْرٍ متواضعٍ من الازدهار والاستقلالية، والذين يحلُمون بكُلٍّ من عملٍ صغير وذاتٍ أكبر. هل يمكِن إعادة توجيه هذا الاشتياق عن طريق تحويل أدواته المعتادة في مؤسَّسات المجتمع وخُرافات الثقافة؟ يمثِّل هذا في كل مكانٍ السؤال الأهم الذي يُواجِه التقدُّميين.