أنا عائد من برلين!
لم أشهد في حياتي، وفي مختلِف أسفاري، مدينةً كهذه؛ فقد ظلت الدول الكبرى شهورًا تتنازع من أجلها في جنيف، ووزراء خارجية الدول الأربع الكبرى يتركون مهام وظائفهم في عواصم بلادهم، ويتخصَّصون لدراسة مشكلة هذه المدينة دون أنْ يُوفَّقوا إلى حلٍّ حتى الآن، والشعب الألماني كله — سواء في ألمانيا الشرقية أو ألمانيا الغربية — يغلي كالمِرْجَل من أجل هذه المدينة.
ولكن ما هي حقيقة هذه المشكلة؟! وما الذي يُغضِب حكومة ألمانيا الغربية، ومن ورائها حلفاؤها في الغرب؛ أمريكا وبريطانيا وفرنسا، من اقتراح سحب جميع القوات الأجنبية من برلين، وتسليم السلطة فيها للألمان؟!
وما هي حقيقة الدوافع التي حفَّزت روسيا إلى القيام بهذه الحركة والتقدم بهذا الاقتراح؟!
وما الذي ينطوي عليه اقتراح جعل برلين مدينةً حرَّة تحت إشراف الأمم المتحدة؟!
هذه هي الأسئلة التي تمر بذهن كل مَن يزور ألمانيا، بل كل مَن يصل إلى برلين بالذات، فقد نسي الناس أصل المشكلة لطول ما تردَّد من الحديث عن المشكلة نفسها، وعن الاجتماعات والاقتراحات والمذكرات والجهود التي تُعقَد وتُقدم وتَعِد وتُبذَل من أجل حل المشكلة!
ويخطئ مَن يظن أنَّ جروميكو ممثِّلًا للاتحاد السوفييتي، أو هيرتر وكوف دي مرفيل وسلوين لويد ممثِّلي حلفاء الغرب، قد عقدوا الاجتماعات الطويلة في جنيف ليقرِّروا مَن الذي يفوز بمدينة برلين، وهل تكون من نصيب الشرق أم من نصيب الغرب؛ فالنزاع لا يدور من أجل مدينة برلين في حد ذاتها، وإنما يدور من أجلها باعتبارها قطعة هامة على لوحة الشطرنج العالمي، ومَن يمكنه الفوز بهذه القطعة الغالية سيكون في مركز استراتيجي أقوى من مركز الطرف الآخر؛ ولذلك فمن غير المنتظر أنْ يتساهل أحد الطرفَين المتنازِعَين.
ولذلك قد يبدو غريبًا بالنسبة إلينا، نحن الذين جاهَدْنا السنوات الطوال من أجل الخلاص من الاحتلال، قد يبدو غريبًا لنا حقًّا أنْ نسمع عن أي شعب يرفض عرضًا يتقدَّم به أحد المحتلين لعاصمته متضمنًا سحْبَ جميع القوات المحتلة من هذه العاصمة! ليس فقط مجرد الرفض، بل إنَّ هذا الشعب — في ألمانيا الغربية — يطالِب مُلِحًّا بضرورة بقاء جيوش الاحتلال إلى أنْ يتم حل المشكلة الألمانية بأجمعها؛ إنه يطالب بحلٍّ كُلِّيٍّ للمشكلة، ولا يريد تجزئة الحلول.
وزيارة برلين هي التي توضِّح فعلًا سرَّ هذا النزاع القائم حول المدينة؛ ففيها وحدها دون سائر مدن العالم يجتمع نظامان من الحكم يختلفان تمام الاختلاف عن بعضهما؛ فبرلين الشرقية تخضع لنظام الحكم السائد في ألمانيا الشرقية وهو النظام الشيوعي، وبرلين الغربية تخضع لنظام الحكم السائد في ألمانيا الغربية وهو نظام الجمهورية الاتحادية، والنظامان يتصارعان صراعًا شديدًا في هذه المدينة حتى لقد حوَّلها هذا الصراعُ إلى قنبلة قد تنفجر في أي لحظة من اللحظات فتهدِّد السلام العالمي.
وكل ما يرجوه الساسة في العالم كله ألَّا يتعقَّد الموقف الدولي إلى درجةٍ تجعل من برلين سراجيفو ثانية أو ممرًّا بولنديًّا جديدًا، وسراجيفو مدينة صغيرة في يوغوسلافيا أُطلِقت فيها الرصاصات الأولى التي أشعلت نار الحرب العظمى — أو العالمية الأولى — في عام ١٩١٤، وقد استمرت هذه الحرب إلى ١٩١٨.
أما الممر البولندي فقد كان هو الآخَر جزءًا صغيرًا من الأراضي البولندية، يفصل بين ألمانيا وبين ذلك الجزء من أراضيها في الشرق الذي يطل على بحر البلطيق؛ ومن أجل الاستيلاء على هذا الجزء الصغير، الذي كان يُطلَق عليه اسم الممر البولندي، أشعل هتلر نار الحرب العالمية الثانية في عام ١٩٣٩، وقد استمرت هذه الحرب حتى عام ١٩٤٥.
ولقد ردَّدها جروميكو فعلًا في أحد الاجتماعات، وهو يطالب الحلفاءَ الثلاثة بضرورة العثور على حلٍّ لهذه المشكلة المستعصية، فتمنَّى ألَّا تصبح برلين سراجيفو أخرى!