ماذا يقولون؟!
في وسط هذا العالم المنقسم على نفسه، والذي يعيش بين الظلمة والنور، لا يزال سكان شطري برلين يحتفظون بروح السخرية اللاذعة، ويحسون إحساسًا عميقًا بأنهم جميعًا ينتمون إلى مدينة واحدة.
فها هي «جردانيف» (٣٧ سنة)، وهي تجلس في حديقة بيتها ببرلين الغربية، بينما ابنتها التي تبلغ من العمر ثمانية أعوام تلعب بجانبها، إنها تقول عندما سئلت عن رأيها في الحياة ببرلين: «إنك تشعر بأنك سجين كالعصفور في القفص، إنني لا أستطيع أنْ أزور برلين الشرقية، إنني خائفة، وقد أكون مخطئة في هذا الخوف، ولكنني أعرف الشيوعيين، فقد كنت هنا عندما دخلت جيوشهم المدينة!»
إنَّ «فراونيف» — التي يملك زوجها الآن محلًّا صغيرًا لبيع الأجهزة الكهربائية — تحس بالأزمة التي أثرت في معاش الأسرة، وهي تقول: «إنَّ الناس ينتظرون ما تأتي به الأيام، وعندما يكون الإنسان في موقف انتظار يحجم عن الشراء، إنني لا أعلم ما سيحدث، ولكني آمل ألا يتخلى الأصدقاء عن برلين، وأنْ يفوا بوعودهم.»
إنَّ ما تحسه أسرة نيف من أسباب الراحة هو موضع حسد كثير من سكان برلين الشرقية، وبعضهم مثل «روزا نيبل» على استعداد للمجازفة بكل شيء حتى يتذوقوا شيئًا منها، ففي صباح أحد الأيام خرجت امرأة بدينة من مسكنها الشعبي في ضاحية بوتسدام (خارج برلين الغربية)، وركبت قطار المترو الذي يبدأ من خارج برلين، ويعبر برلين الغربية، ثم يعود إلى برلين الشرقية، ولو استطاع موظفو الجمارك الشيوعيون أنْ يعرفوا إلى أين كانت ذاهبة لقبضوا عليها بتهمة الخيانة، ولكن فراو نيبل مثل غيرها من آلاف الألمان، اشترت تذكرة لشرق برلين، وأخبرت الحراس أنها ذاهبة لزيارة أقارب لها هناك، وفي منتصف الطريق غادرت القطار في هدوء، وهو يخترق برلين الغربية، وهي تعمل الآن خادمة لدى أسرة أجنبية.
ولكن لماذا تجازف فراو نيبل وتعرض نفسها لخطر القبض عليها في نظير مارك ألماني واحد في الساعة، وهو الأجر الذي تتقاضاه نظير عملها كخادمة، ها هي تجيب على هذا السؤال: «في العام الماضي أرسلت لي أختي من ميونيخ زوجًا من الأحذية له كعب عال، ولكنني لم أستعمله فهو ما زال ملقى بالخزانة؛ لأنني لا أستطيع أنْ ألبسه، ففي بوتسدام، حيث أقطن، تصمم الملابس بواسطة المسئولين من رجال كارل ماركس الذي لم يكن يفهم شيئًا في عالم الأزياء!»
«إنني لا أريد أنْ أبتعد عن بوتسدام ولا عن برلين؛ لأنني ولدت وترعرعت فيها، ولا أزال أحبها بالرغم من وجود الشيوعيين فيها، وها أنا ذا اقتصد الماركات الألمانية حتى أستطيع أنْ أشتري ملابس للربيع من برلين الغربية.»
وهناك كثيرون من سكان برلين الشرقية يفضلون أنْ يهاجروا إلى الغرب ليعيشوا هناك، ويبلغ عدد الألمان الشرقيين الذين يهاجرون كل أسبوع حوالي ٣٠٠٠، منهم العلماء وربات البيوت والتجار، وهم ينتقلون سرًّا إلى برلين الغربية، وعندما يدخلون معسكر المهاجرين في مارين فيلد يوجهون جميعًا نفس التهم للبوليس الشيوعي الذي ينشر الجواسيس في كل مكان.
فيقول «جونتر كيوبن» وقد التوى وجهه النحيل ليرسم ابتسامة باهتة على شفتيه:
«إنني أعتقد أنَّ الشيوعيين قبضوا عليَّ كضحية فدائية لثأر خاص.»
ثم يصف كيف دخل رجال الفوبو مسكنه ذات مساء من أيام الصيف الحارة، وكيف أخذ البوليس يستجوبه عدة أسابيع دون أنْ يقول له ما ارتكب من ذنب، وهو يعتقد أنهم اختاروه عفوًا دون عمد، ثم حكموا عليه بالسجن مدة ٢٥ عامًا، وأرسلوه إلى روسيا، ثم اختاروه عفوًا أيضًا، وأعادوه إلى ألمانيا بعد خمس سنوات كأسير من أسرى الحرب، ولم يعرف الرجل لماذا سجن، ولماذا أطلق سراحه؟!
وصل كيوبن إلى ألمانيا الغربية في سنة ١٩٥٦، وهو الآن يعيش في مسكن مكون من غرفتين ومعه زوجته السمراء الجميلة وثلاثة أطفال، وهو يأمل أنْ يستأنف وظيفته الأصلية كمستشار صناعي في ألمانيا الغربية.
ولكن هناك آخرون لم يكن حظهم أسعد من هؤلاء، فها هي «إيفاهوفمان» الأخصائية الاجتماعية (٦٢ سنة) تقول: «إنني أرى بعض اللاجئين، وقد طردوا من بيوتهم يأتون إليَّ في برلين بملابسهم الممزقة لكي يطلبوا الحرية، ولكن معظمهم لا يجدون أعمالًا هنا، غير أننا إذا قارنا هذه الحال بما كانت عليه برلين سنة ١٩٤٥ فإننا نجد أنَّ المشكلة ما تزال خطيرة، فإنه بالرغم من الحديث عما نسميه معجزة ألمانيا الاقتصادية ما زال عدد العاطلين في برلين كبيرًا إذ يبلغ ٧٪ من الأيدي العاملة.»
وتستطرد «فراويلين هوفمان» قائلة: «كما أنَّ لدينا كثيرات من أنصاف العذارى، فكثيرات من الفتيات اللاجئات تركن أسرهن وهربن إلى برلين وهن وحيدات، وقد يحدث أنْ تقابل إحداهن رجلًا يغرر بها، ومع ذلك فإن نسبة المواليد في برلين أقل منها في أية مدينة كبرى في العالم، إنَّ الناس يخشون نتائج كثرة الأولاد.»
«إنَّ ما نريده نحن في برلين هو السلام! وإذا قامت الحرب فلن يشعر أحد بالأمن لا في فرانكفورت، ولا في نيويورك، ولا في برلين، ومع ذلك فإن عدد الذين يهربون من برلين قد زاد إلى ثلاثة أضعاف في العام الماضي.»
ويقول أحد الخارجين واسمه ولفجانج هرنز: «إنني أكره الانتقال؛ لأنه يشبه الهرب، ولكني لا أريد أنْ أصاب بالإفلاس في سبيل المبدأ، إنَّ عملائي لا يثقون في أحد، وأنت لا تستطيع أنْ تنتظر من الناس أنْ يطلبوا بضائع دون أنْ يضمنوا بشكل من الأشكال أنها ستسلم إليهم.»
وهرتز هذا شاب عمره ٣٦ عامًا، من سكان برلين، وهو يتجر في الملابس الجاهزة والأحذية المصنوعة يدويًّا، وهو يعيش في رخاء في برلين الغربية، وقد استطاع أنْ يصمد إبان حصار برلين الأخير، حيث عاش معتمدًا على البطاطس ومسحوق اللبن، واستطاع أنْ ينجح في عمله التجاري، وهو حياكة ملابس السيدات، ولكن الأزمة مع ذلك أطاحت بثروته.
ولقد هبطت طلبات التصدير في برلين بنسبة ٩٪، ولم يخرج من رءوس الأموال سوى ٢٪، فسارعت بون عاصمة ألمانيا الغربية إلى سد النقص. إنَّ حكومة ألمانيا الغربية تقدم لبرلين إعانة تصل أحيانًا إلى نصف ميزانية المدينة التي تبلغ في مجموعها نحو ٧٠٠ مليون دولار.
ويحاول كثيرون من سكان برلين أنْ يبعدوا عن أذهانهم الأخطار الاقتصادية والحربية.
فتقول بربارا جاهنل (٢١ سنة)، وهي فتاة شقراء جميلة تدرس اللغة الإنجليزية في جامعة فورد المجانية، وثلث طلبتها من برلين الشرقية: «لو نظرت إلى الخريطة ورأيت صغر حجم برلين لأصابك شعور غريب، إنَّ كل طلبة الجامعة مغرمون بالمسائل السياسية، ولكنهم قلما يتحدثون عن شعورهم بالنسبة للحياة في برلين.»
بل إنَّ كثيرين من الطلبة يشاركون غيرهم من سكان برلين في الترفيه عن أنفسهم واللهو والمتعة، فسباق السيارات يجذب جمهورًا ضخمًا إلى ميدان أفوس للسباق، ويقام سباق الدراجات لمدة ستة أيام في نفس الميدان الذي كان يخطب فيه جوبلز للدعاية للنازي وهتلر. والألمان يقبلون على اليانصيب، كما استؤنفت حياة الليل في سان باولو حيث تعرض الراقصات أجسامهن العارية، وتتنافس مسارح الأوبرا وغيرها في شرق برلين وغربها، وفي برلين الغربية وحدها عشرة صحف، ولذلك فإن الاهتمام كبير بالحياة الفكرية.
وفيما يختص بمستقبل برلين، فإن أهلها لا يختلفون في هذا الشأن.
إنَّ «فراو نيبل» الخادم تقول: «إنَّ أصدقاءنا لن يتخلوا عنا»، ويقول اللاجئ «كبوبين»: «إذا وقف الغرب ثابتًا وكانت عزيمته كاملة، فلن يحدث شيء.»
ولكن فوق هذا كله يجب على سكان برلين أنفسهم أنْ يصمدوا، وها هو عمدة برلين ويلي برانت الاشتراكي المتحمس، الذي يشد أزرهم، ويبث فيهم روح الشجاعة، يعلن أنَّ المشروع الخاص بتحويل برلين إلى «مدينة حرة» سوف يحول برلين إلى مدينة «بدون حرية» إذا لم تجد من يدافع عنها!
إنَّ برانت — سواء كان في سباق الدراجات أو حفلة سياسية — عنيف كجندي يشترك في حرب العصابات، وهو خطيب لبق كأي أديب محترف، ولو أنه يؤمن بالمفاوضات إلا أنه يعلن عداءه لكل من يتنكر للمبادئ.
إنَّ هناك كثيرين جدًّا في كل أنحاء العالم يشدون من أزر العمدة برانت، وهم يعرفون ما يجب عليهم عمله إذا وقع هجوم ضد برلين الغربية، ويداوم جنود الحلفاء السهر والحراسة على الحدود، وهم على استعداد لمواجهة الموقف، إنَّ سيارة البوليس الحربي تقوم بدوريتها يوميًّا بجانب حدود برلين الغربية، وهي ترقب أي بادرة تدل على الخطر وتبعث بالإشارات اللاسلكية إلى الرئاسة باستمرار.