أجراس الحريَّة
عندما شن الاتحاد السوفييتي في أوائل نوفمبر من ١٩٥٨ هجومه الأول على موقف برلين الغربية، تنبأ أندريه سميرنوف، سفير موسكو في الجمهورية الألمانية الاتحادية بأن الألمان وسكان برلين سيعيشون في سلام مقيم، لقد تحققت نبوءة سميرنوف ولو أنها لا ترضي رجال الكرملين؛ ذلك لأن شعب برلين ذلك الشعب الذي يحتفظ بهدوء أعصابه التي يضرب بها المثل، يعتقد أنَّ برلين يمكنها الاعتماد على حماية العالم الحر.
وربما يبدو لأول وهلة أنَّ هذا الكلام متناقض؛ لأن حرية برلين الغربية لم تتعرض في يوم واحد لخطر أعظم من الخطر الذي تتعرض له اليوم، فاليوم يؤمن كل برليني، أينما كان سواء كان يسير في شوارع العاصمة، أو يركب القطار الذي يسير تحت الأرض، أو يشرب البيرة التقليدية في الحانة الواقعة عند منعطف الطريق، أو يشهد احتفالًا رسميًّا، يؤمن أنَّ الضمانات التي تقدمها الدول للمحافظة على سلامة المدينة ضد اعتداء الشيوعيين لا يمكن أنْ تكون كلمات جوفاء.
وكان أشد أثرًا من هذه التصريحات السياسية وأكثر تشجيعًا ما قامت به بعض المؤسسات الصناعية الكبرى من أعمال تدل على حقيقة شعورها، ففي نفس الوقت الذي نشرت فيه المذكرة السوفييتية الخاصة ببرلين افتتح فندق هلتون الجديد بصالاته وحجراته الفخمة ومطاعمه، وهو يعد أعظم وأحدث فندق في ألمانيا، ولقد لاحظ أهالي برلين في فخر كيف أنَّ هذا الفندق قد بني في مدينتهم وأنَّ كونراد هلتون حضر بنفسه حفل الافتتاح وبصحبته عدد كبير من موظفيه طاروا من نيويورك خصيصًا لهذا الغرض.
كما أنَّ كثيرين من رجال الصناعة في الجمهورية الاتحادية وغيرها من الدول حضروا لزيارة هذه المدينة بقصد تقديم مقترحات جديدة لإصلاح الاقتصاد، وأخيرًا وليس آخرًا أعلنت الحكومة الاتحادية في ١٩ ديسمبر الماضي أنها بسبيل إعداد برنامج إضافي لمشروع الإنعاش الأوروبي، وقد رصدت أموال هذا البرنامج للمشروعات الإنتاجية، وخلق وظائف جديدة للعمل، ولنقل عدد من مشروعات ألمانيا الغربية إلى برلين.
ولقد كانت كل هذه الإجراءات دافعًا لسكان برلين على الإحساس بالأمن والطمأنينة، فلم تخطر بذهن أحدهم فكرة تخزين سلعة ما خوفًا من عواقب حصار جديد، كما أعلنت وكالات شركات السياحة أنَّ عددًا كبيرًا من الألمان، قد حجزوا أماكنهم للقيام برحلات صيفية إلى إيطاليا وجبال الألب وبحر الشمال وغيرها من المراكز السياحية.
وكان السوفييت قد أعلنوا أنَّ انتخابات برلمان برلين الغربية التي حدد لإجرائها يوم ٧ ديسمبر سنة ١٩٥٨ يجب أنْ تعتبر بمثابة استفتاء على اقتراح خروشوف الخاص باعتبار برلين مدينة «حرة»، ولكن إذا بهم يعلنون فجأة تغيير موقفهم بعد أنْ ظهر أنَّ الشيوعيين قد حصلوا على ١٫٥ في المائة فقط من عدد الأصوات في برلين الغربية، ثم عادوا بعد ذلك فأعلنوا أنَّ ناخبي برلين الغربية لم يستطيعوا فهم نصوص المذكرة السوفييتية في هذا الوقت القصير، ولذلك فإن الانتخابات التي تمت لا يمكن أنْ تعتبر بمثابة استفتاء!
إنَّ وجهة النظر السائدة في برلين الغربية، هي أنَّ الشيوعيين يجب أنْ يتمسكوا بوعدهم، وأنه يجب إجراء استفتاء عام يشمل برلين كلها، وبالرغم من أنَّ هناك عقيدة بأن الشيوعيين سيعترضون على هذا الاقتراح خوفًا من هزيمة جديدة، فإن القطاع الغربي يتساءل عن الطريقة التي سيتجنب بها حزب الاتحاد الاشتراكي الشيوعي هذه الهزيمة، لا شك أنَّ الحزب سيلجأ إلى أساليب جديدة من الدعاية التي اشتهر بها!
لقد سئمنا الأمريكان والجواسيس، إنَّ برلين ستبقى مدينة حرة.
من أجل السلام والاشتراكية والرخاء.
ومع هذا فإن الأسعار في برلين الشرقية لا تؤيد هذه الشعارات، فإن ثمة الرطل من فاكهة الأناناس يكلف المشتري ٦ ماركات شرقية، وهو ما يعادل أجر ثلاث ساعات من العمل، بينما يبلغ ثمن الرطل من البرتقال ٢ مارك شرقي، ويتقاضى محل الملابس الذي تديره الدولة ٨٢ ماركًا شرقيًّا ثمن زوج من القفازات المبطنة بصوف الغنم، وهكذا الحال في سائر البضائع التي لا تصل إلى متناول يد العامل نظرًا لارتفاع سعرها.
أما فيما يتعلق «بالرخاء الاجتماعي»، فليس هناك أدنى صعوبة في معرفة أي قطاع من الاثنين يشعر بالطمأنينة والثقة أكثر من الآخر.
إنَّ الموظفين في برلين الشرقية قد أصيبوا بشيء من توتر الأعصاب، وهم يشهدون ويلمسون الاستقرار والثبات في برلين الغربية، وهم ما زالوا يطالبون «ببذل مجهودات جديدة لتحقيق مشروعاتنا الاقتصادية»، ويفخرون «بتقدم ظافر» للاشتراكية في سنة ١٩٥٩، ولكن شعب برلين الشرقية كله ينتظر أنْ يسمع جرس الحرية عندما يدق في صالة البلدية ببرلين الحرة، فإن صدى أجراس الحرية يومئذ سوف يتردد في جميع أنحاء ألمانيا؛ ليحمل إلى أهلها بشائر الحرية والوحدة.