لماذا يعارضون الجلاء؟
في ٢٧ نوفمبر من عام ١٩٥٦ قدم خروشوف رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي مذكرته المشهورة، التي طالب فيها أمريكا وبريطانيا وفرنسا بسحب قواتها من برلين، وبذلك — كما ذكر في مذكرته — تنتهي بقايا عهد الاحتلال في ألمانيا. وهنا يتساءل كثير من الناس: لماذا يعارض الألمان في خروج قوات الاحتلال؟
والإجابة على هذا السؤال بسيطة: فإن الألمان قد وطدوا العزم على معارضة هذا القرار؛ لأنه لا يمكن أنْ يعني انتهاء عهد الاحتلال في برلين، بل على العكس إنَّ معناه أنَّ برلين الغربية — أي ذلك الجزء من المدينة الذي بقي حرًّا — سيخضع للحكم الشيوعي، كما تخضع له برلين الشرقية وجميع المنطقة الشرقية.
إنَّ نظرة بسيطة للخريطة تكفي لأن تزيد الأمر وضوحًا، فبرلين تقع في وسط جزء من ألمانيا يحكمه الشيوعيون، وتحيط بها من جميع الجهات فرق سوفييتية مجهزة بالأسلحة الثقيلة والأسلحة الذرية، والجلاء معناه انسحاب فرق الدول الغربية مائة ميل نحو الغرب داخل الجمهورية الاتحادية الألمانية، بينما يسحب السوفييت قواتهم ستة أميال فقط خارج حدود مدينة برلين، وبذلك يكون واضحًا أنَّ برلين الغربية ستصبح بلا حول ولا قوة أمام الضغط السوفييتي.
واليوم تنقسم برلين إلى قسمين مختلفين: ففي برلين الغربية تسود الحرية، وللشعب برلمان منتخب، ولها مجلس بلدي ومحافظ وإدارة تخضع لحكم القانون، ومحاكم مستقلة، وعندما أعلنت نتيجة انتخابات المجلس البلدي في ٢٧ ديسمبر من عام ١٩٥٨ لم يفز الحزب الشيوعي بمقعد واحد، ولم يحصل إلا على اثنين في المائة من مجموع الأصوات.
وعلى العكس من ذلك نجد برلين الشرقية خاضعة للحكم الشيوعي، ولم تجر فيها انتخابات، ويشغل الوظائف الرئيسية فيها موظفون انتخبهم ووافق عليهم الشيوعيون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهم يحكمون مستندين إلى القوة والرقابة «والعدالة» الاستبدادية والبوليس السري، وبالاختصار على القوة العسكرية.
وما يريده السوفييت هو أنْ تخضع برلين الغربية لنفس النظام السائد في الشرق، وفعلًا حاولوا ذلك في عام ١٩٤٨ عندما حاصروا مدينة برلين، ولم يتم إنقاذ المدينة إلا بمساعدة الدول الغربية وشعب ألمانيا الغربية، والعمليات التي قام بها السلاح الجوي في المحافظة على برلين وإطعام أهلها.
ويعلم سكان برلين حق العلم أنَّ القوات الغربية والتابعة لألمانيا الغربية هي حماهم الوحيد وأفرادها أصدقاؤهم وحلفاؤهم، ولذلك لا يريد سكان برلين منهم أنْ ينسحبوا، بل إنهم يطالبون ببقائهم، وبزيادة قوتهم.
أما بالنسبة للألمان في المنطقة الشرقية أيضًا فإن برلين هي محط آمالهم من أجل الحرية، وميناء سلامتهم وملجؤهم الأخير، ففي كل أسبوع يهرب الآلاف إلى الغرب حتى بلغ مجموعهم عدة ملايين خلال العشر سنوات الأخيرة، إنهم لا يستطيعون تحمل الحياة والاضطهاد في ظل النظام السائد هناك.
ولكل هذه الأسباب يطالب الشيوعيون بانسحاب القوات من برلين، فإنها لا تدافع عن حرية سكان برلين الغربية فحسب، بل تحافظ أيضًا على اتصالات المدينة بالجمهورية الاتحادية، فإذا قدر لهذه القوات أنْ تنسحب فسيكون باستطاعة الشيوعيون أنْ يخنقوا المدينة اقتصاديًّا في أي وقت.
ولما كانت برلين الغربية بمثابة جزيرة فإنها لا تستطيع البقاء دون أنْ تتبادل السلع مع الغرب علاوة على أنها تعتمد على المساعدة الاقتصادية التي تقدمها حكومة بون، ولذلك فبعد انسحاب القوات الغربية لن يكون الشيوعيون في حاجة إلى أنْ يدخلوا المدينة، بل عليهم فقط أنْ يعوقوا أو يعترضوا طرق المواصلات مع الغرب، فتضطر المدينة فورًا إلى الخضوع لأوامر السوفييت، ويعلم جميع الألمان سواء كانوا في برلين، أو في الجمهورية الاتحادية، أو في المنطقة الشرقية هذه النوايا جيدًا، وهذا هو السبب في أنهم يريدون بكل ما فيهم من عزم الإبقاء على صلاتهم بالغرب بأي وسيلة من الوسائل.