برلين لا تتبع الشرق
إنَّ برلين لا تقف وحدها، وهناك وحدات مكونة من قوات الحلفاء لحماية حريتها، ومن المؤكد أنَّ هذه القوات لا تعتبر جيشًا إذا قورنت بالفرق السوفييتية الموجودة بالشرق، ولم يعلن الشيوعيون يومًا بأنهم يشعرون بتهديد هذه الوحدات لهم، ولكنها تقف في طريق خططهم؛ نظرًا لأنها تمنعهم من الاستيلاء على برلين، وهذا هو السبب في مطالبتهم بضرورة انسحابها.
ووجود وحدات من الدول الغربية في برلين يستند إلى حقوق واضحة المعالم، وفي نفس الوقت تحمي هذه الوحدات حرية الاتصال بالجمهورية الاتحادية، وهي مواصلات تمتد مائة ميل عبر المنطقة السوفييتية، والحقيقة أنَّ هذه الحقوق التي بدأت عقب الحرب لا صلة لها مطلقًا بحكومة الاتحاد السوفييتي، وهذه الحكومة لا تملك التنازل عن هذه الحقوق لطرف ثالث، أو لأية حكومة أخرى في المنطقة.
وعلاوة على هذا كله اعترف السوفييت بهذه الحقوق في اتفاقيات الدول الأربع الموقعة في ١٢ سبتمبر و١٤ نوفمبر سنة ١٩٤٤، وفي إعلان ٥ يونيو سنة ١٩٤٥، وفي اتفاقية انتهاء حصار برلين بتاريخ ١٢ مايو ١٩٤٦، وما يهم سكان برلين اليوم هو بقاء وحدات الدول الغربية، فإنهم يشعرون أنَّ هؤلاء الجنود الأصدقاء والحلفاء هم درعهم الوحيد.
وقد حاول الاتحاد السوفييتي أنْ ينقض هذه الالتزامات، وطالب بسحب الوحدات، وعرض عقد اتفاقية جديدة مع الدول الأربع، وأخذ يهدد بتمزيق الاتفاقيات القائمة الخاصة ببرلين، بينما لا يزال الغرب يحتفظ بوحداته هناك، فكيف يمكن ضمان احترام أية اتفاقية أخرى بعد انسحاب هذه الوحدات؟
•••
إنَّ العالم كله يتطلع إلى برلين ويؤيدها، فهي موضع عطف الأصدقاء الطيبين في أنحاء كثيرة من العالم.
ولكن هناك مع ذلك شعور بالقلق حول مصير هذه المدينة.
فلقد تعرضت لسيل من الدعاية الجارفة يتدفق من شيوعيي ألمانيا الشرقية، ومع ذلك فإن هذا السيل من الدعاية وهذا التهديد، لم يؤثرا في روحها المعنوية إذ سبق أنْ تعرضت لأكثر منهما وأشد.
وقد كان الهدف الأول لجماعة أولبريشت سكرتير الحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية، هو زعزعة ثقة الألمان في الاستقرار الاقتصادي، ونشر الشعور بعدم الأمن، وعرقلة إعادة بناء برلين الحرة. وهذا الهدف مصيره الفشل لا محالة بفضل الصداقة القائمة بين برلين وبين الذين أنقذوها بالفعل من عواقب الحصار السابق، الذي فرض عليها بواسطة الجسر الذي أقاموه فوق برلين؛ أولئك الذين قرروا الوقوف إلى جانبها بالرغم من كل ما يترتب على وقوفهم من أخطار ومشاكل.
وقد أعلن الرأي العام في العالم كله تأييده لمدينة برلين، وهو ما تقدره المدينة وتحمل له أعظم الجميل، وقد برزت مسألة برلين لتحتل مكان الصدارة بين مشاكل العالم الأخرى عقب الخطابين اللذين ألقاهما الرئيس السوفييتي نيكيتا خروشوف، وسلك فيهما نفس السبيل الذي سلكه البروفسور كروبر في أوائل سنة ١٩٥٨، وتلقفه منه أولبريشت بعد ذلك، فقد قال: إنَّ برلين كانت جزءًا لا يتجزأ من منطقة الاحتلال السوفييتية منذ نهاية الحرب العالمية، وأنها لذلك تتبع ألمانيا الشرقية، بل إنها عاصمتها.
ولا بدَّ لنا أنْ نذكر أنَّ خروشوف لم يعد بأن يتخلى الاتحاد السوفييتي عن حقوقه فيما يختص ببرلين؛ بل إنه اعترف بحق الدول الغربية في البقاء في برلين وممارسة سيادتها فيها، وفي أوائل سنة ١٩٤٨ وعقب «فركشة» مجلس الرقابة وفصل العملة، تقدمت حكومة موسكو بزعامة ستالين بمزاعم ومطالب مماثلة، ولم يكن الرد على هذه المزاعم والمطالب من اختصاص عمدة برلين، بل كان من اختصاص الدول صاحبة الشأن.
وهناك بالنسبة للوضع في برلين بألمانيا المقسمة، سلسلة من الاتفاقيات الدولية تعتبر خطأ جزءًا من اتفاقية بوتسدام، وأهم هذه الاتفاقيات المعقودة بين الدول الغربية والاتحاد السوفييتي، اتفاقية لندن الموقعة في ١٢ سبتمبر سنة ١٩٤٤، والاتفاقية التي عدلتها في ٥ يونيو سنة ١٩٤٥، فلقد نص صراحة في اتفاقية لندن على أنَّ منطقة برلين ستكون موضع احتلال مشترك من جانب الدول الأربع، وفضلًا عن ذلك فقد اتفق على أنْ تحتل قوات الاتحاد السوفييتي المنطقة الشرقية باستثناء منطقة برلين التي اتفق على أنْ تخضع لنظام خاص للاحتلال.
وتلت ذلك كله الاتفاقيات التي وقعت في شهر مايو من عام ١٩٤٩ لإنهاء الحصار المفروض على برلين الغربية، والتي أعقبتها القرارات التي اتخذها مؤتمر وزراء الخارجية الذي عقد في باريس في صيف ١٩٤٩، والذي ركز مهمته في إعادة حركة المرور إلى برلين.
فالمعاهدات المذكورة هنا هي الأساس الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي الحر في برلين الغربية، وهي الأساس الذي تبقى هذه المدينة بموجبه تحت سلطة الدول المتحالفة، وهي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع الحر الذي حقق الكثير من الفوائد للشعب في ظل برلمان المدينة الذي انتخب بحرية، وفي ظل حكومة مسئولة أمام ممثلي الأمة، ولا يستطيع أحد أنْ يخلي نفسه من مسئوليات المعاهدات والاتفاقيات الدولية دون أنْ يخرق القانون، وعلى أولئك الذين يظنون أنهم قادرون على تجاهل الحقوق أنْ يدخلوا في حسابهم ما يترتب على ذلك من آثار خطيرة.
وثمة عامل هام آخر فيما يختص بالموقف القانوني والفعلي، وهو البيانات الخاصة بأمن برلين، ولا سيما تصريح ٣ أكتوبر سنة ١٩٥٤، وهو التصريح الذي أعلنت فيه الدول الثلاث أنها تعتبر أمن برلين وسلامتها ورفاهية سكانها، والمحافظة على وضعها الراهن من الأمور الأساسية للسلام، فقد تضمن التصريح المذكور أنَّ الدول المتحالفة سوف تحتفظ بقواتها المسلحة في منطقة برلين ما دامت مسئوليتها تتطلب ذلك، وستعتبر أي هجوم على برلين — أيًّا كان مصدره — هجومًا على قواتها وعليها نفسها.
هذا التصريح ما زال قائمًا، ويبدو أنَّ أولبريشت كان في حاجة إلى توتر جديد في الموقف بقصد تحويل الأنظار عن إفلاس سياسته في المنطقة الشيوعية، وهو الإفلاس الذي يتجلى في تدفق سيل اللاجئين الدائم إلى الغرب، رغم ما يبذله من محاولات لكي يمنعه، بنشر الخوف والرعب في النفوس. ولن تتمكن قوة على ظهر الأرض من أنْ تحول دون الاتصال بين سكان ألمانيا المقسمة، ودون أنْ يعملوا على أساس أنَّ برلين تضم شعبًا واحدًا بالرغم من الحدود التعسفية التي تحاول أنْ تفصل بينهم.
إنَّ حل المشكلة الألمانية لن يحقق للشعب الألماني مطلبًا قانونيًّا مشروعًا من مطالبه فحسب؛ بل سيكون في مصلحة جميع أولئك الذين يتمنون الاستقرار لأوروبا والسلام للعالم، وإذا كان الوصول إلى هذا الحل يستغرق بعض الوقت فلا أقل من أنْ تترك خطوط التموين الممتدة إلى برلين حرة من التعقيد حتى تخف حدة التوتر بدلًا من أنْ تزيد.
إنَّ هناك ثلاثة ملايين ونصف مليون برليني من بينهم مليونان وربع مليون برليني غربي، لا يطلبون أكثر من مجرد الحياة في حرية وإتمام أعمالهم الإنشائية بسلام، إنهم لا يملكون سلاحًا، ولكنهم يملكون حقًّا في الحياة، وأعصابًا قوية، وهم يتمسكون بأن برلين لم تكن أبدًا تابعة لألمانيا الشرقية، وهي لا تتبعها الآن ولن تكون تابعة لها في المستقبل.