نظرة إلى الشرق، وأخرى إلى الغرب
يستطيع الزائر اليقظ الذي يفد على برلين عن طريق الجو، أنْ يميز الحدود التي تفصل بين القطاع الشرقي والقطاع الغربي من نافذة الطائرة التي يستقلها.
فإن برلين الغربية تعج بالسيارات المتزاحمة والمباني الحديثة في حين تخف حركة السيارات في برلين الشرقية، وتتناثر في أرجائها الخرائب التي خلفتها الحرب العالمية الثانية.
وتزداد حدة هذه الفوارق المادية متى هبط الزائر في برلين، وأمعن النظر في كل من المدينتين، فتروعه معالم الرخاء والروح النابضة بالحياة في برلين الغربية، كما يحزنه الفراغ الذي يتسم به الجزء الأكبر من برلين الشرقية.
ومهما يكن من أمر فإن الزائر المدقق لا يجد مناصًا من أنْ يلاحظ مظاهر الاختلافات الروحية والمادية بين المدينتين، وأنْ يفكر في المعاني العميقة التي تتصل بتقسيم المدينة إلى منطقة حرة وأخرى شيوعية.
ومن السهل أنْ يدرك المرء وهو يتجول في القطاع الغربي، الذي يتمتع بالحرية والرخاء، لماذا اختار سكان برلين الغربية أنْ يتمسكوا بحرياتهم بمثل هذا الإخلاص، وبمثل هذه الأغلبية الساحقة؟! ولماذا يسعى الشيوعيون إلى تحطيم هذه الحريات؟! ولعل ما رواه أخيرًا أحد الزائرين الأجانب خير شاهد على ذلك إذ قال: «استيقظت صباح يوم ما في غرفة جميلة مشمسة في فندق معتدل الأجر، وكان طعام إفطارنا، الذي قدم إلينا بسرعة، جيدًا جدًّا، معتدل الثمن، وذهبت إلى كنيسة من كنائس الطوائف الدينية العديدة المحرَّمة في الجانب الآخر من الستار الحديدي، وكانت الكنيسة تعج بالمصلين الغيورين الشاكرين، الذين ارتفعت أصواتهم المتحمسة بالترانيم الدينية المألوفة، ولا عجب فإن في استطاعتهم أنْ يعبدوا الله بالطريقة التي تحلو لهم.»
«وزرت بعد ذلك مسكن بعض الأصدقاء وشاهدت على ستار التليفزيون مناقشة مثيرة، فقد كان من بين الصحفيين الذين اشتركوا في هذا البرنامج شيوعيون من يوغوسلافيا، لقد كانت حرية الصحافة وحرية القول متوفرين في هذا القطاع، أما رجال الشرطة في الخارج فقد كانوا منهمكين في توجيه حركة المرور، لا في السيطرة على حياة الناس؛ لأن الحياة في برلين الغربية تتمتع بكل سمات المجتمع الحر؛ أي بالحرية المادية والاجتماعية والروحية.»
أما القطاع الشرقي فقد حاول الشيوعيون أنْ يجعلوا منه مكانًا يعرضون فيه خير ما لديهم، ولكن التباين شاسع رغم ذلك بينه وبين القطاع الغربي، فليس في القطاع الشرقي أي أثر للمشاريع الخاصة، وليس فيه كذلك أية مبانٍ حديثة جميلة تضم المحال التجارية والفنادق والشقق والمساكن، ولكن يوجد بدلًا من ذلك شارع ستالين، الذي يمتد عدة أميال، ويتألف من مبانٍ ضخمة للفنون الجميلة والمساكن والمحال التجارية، ولكنه يفتقر إلى الحيوية والرونق والروح النابضة بالحياة التي تتسم بها شوارع القطاع الغربي، كما أنَّ ما تعرضه محاله التجارية من السلع لا يغري المرء على الشراء؛ لأن أسعارها مرتفعة جدًّا.
وخلف هذه الواجهة المنمقة المصطنعة التي يمثلها شارع ستالين، يرى المرء أميالًا من الخرائب التي تتألف من المساكن المهدمة والشوارع القذرة والحياة التعسة، ويجثم فوق كل ذلك شبح الدولة البوليسية الرهيب، فقد تقرع بابك في أي يوم قبضة يد رجال البوليس المخيفة، كما أنَّ عجلة الدعاية تدور دون توقف والمحظورات كثيرة، والحياة شاقة مرهقة.
حقيقة أنَّ حالة برلين الشرقية تحسنت من الناحية المادية عما كانت عليه في السنوات التي تلت الحرب، ولكنها تدهورت من الناحية الروحية، ويرجع السبب في احتمال السكان لهذه الحال إلى استطاعتهم التسلل إلى برلين الغربية، أما إذا أغلقت أبواب برلين الغربية في وجوههم، فإن أثر ذلك سيكون خطيرًا جدًّا على سكان برلين الشرقية التعساء؛ لأنه يقضي قضاءً مبرمًا على أملهم الأخير.
ولعل هذا من الأسباب الرئيسية التي يحاول الشيوعيون من أجلها القضاء على الحرية في برلين الغربية؛ ذلك لأن برلين هي البوابة الوحيدة في الستار الحديدي، الذي يمتد من رأس الشمال عبر أوروبا الوسطى وآسيا.
ورغم أنَّ سكان برلين قد اعتادوا على ما في مدينتهم من تباين وتناقض في مظاهر الحياة، فإن الزائرين الذين يفدون من دول أخرى سرعان ما تستلفت أنظارهم الخرائب الشاسعة، التي خلفتها الحرب الماضية، والتي ما زالت قائمة في برلين الشرقية، كما أنَّ واجهات العرض في المحال التجارية — فيما عدا المحال الموجودة في شارع ستالين — تكاد تكون خالية من السلع، أو أنها تعرض سلعًا لا تغري المرء كثيرًا على الشراء، وفي كثير من الأحوال توضع المعروضات بقصد الزينة فحسب لا للبيع.
وأثمان السلع التي لا تعد من الضروريات الحيوية في برلين الشرقية وغيرها من مدن ألمانيا الشرقية، ومعظم دول أوروبا الشرقية التي تسير في فلك الاتحاد السوفييتي، خيالية فهي في كثير من الأحوال تزيد على أربعة أضعاف الأثمان، التي تباع بها في برلين وغيرها من مدن جمهورية ألمانيا الاتحادية، التي أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة منذ عام ١٩٥٥.
فليس من المستغرب إذن أنْ تجتذب شوارع برلين الغربية التي تعج بالحركة والتجارة سكان برلين الشرقية، الذين يفدون إلى القطاعات الغربية بأعداد كبيرة؛ ليشتروا ما يريدون من السلع التي لا يوجد مثلها في محالهم التجارية، التي تديرها الدولة، أو السلع التي يوجد مثلها، ولكنها من صنف أقل جودة.
وتعد برلين الغربية من وجهة نظر الزائرين من المنطقة الشيوعية مدينة عظيمة الأهمية؛ لأنها تكذيب واقعي للدعاية التي يسمعونها باستمرار من محطات الإذاعة في القطاع السوفييتي، أو يقرءونها في صحفهم المحلية، والمحال التجارية في برلين الغربية مفتوحة للجميع سواء قدموا من برلين الشرقية، أو من أي مدينة أو دولة أخرى في العالم، ولكن سكان برلين الشرقية يدركون وهم يشترون ما يريدون أنَّ الأمور تختلف عن ذلك في قطاعهم، حيث يتعين عليهم أنْ يبرزوا بطاقات تحقيق الشخصية؛ لأن معظم المواد الغذائية والملابس لا تباع إلا لسكان برلين الشرقية الأصليين لا الزائرين.
ويفسر الشيوعيون الرسميون ذلك بأن الغرض من هذه القيود، هو منع التهريب في حين أنَّ الاعتقاد الشائع هو أنَّ السلع في ألمانيا الشرقية خاضعة لنظام الحصص؛ وذلك لأن السلع الموجودة لا تكاد تفي إلا بالحد الأدنى من حاجات السكان فقط.
ومهما يكن من أمر فإن المشترين الوافدين من برلين الشرقية، ويمكن تمييزهم بسهولة بواسطة ثيابهم، يشاهدون باستمرار في المحال التجارية ببرلين الغربية.
وتشترك ربات المنازل القادمات من برلين الشرقية في عادة واحدة تكاد ترمز — كغيرها من الأمور — إلى التناقض المادي بين قطاعي برلين، كما تصور في نفس الوقت خلجات النفس البشرية في كل مكان. فإن هؤلاء النسوة يأتين إلى برلين الغربية لشراء الأحذية، ثم يتجولن بها في أنحاء المدينة طول النهار حتى إذا حل موعد عودتهن واجتزن الحدود إلى برلين الشرقية، لا تبدو أحذيتهن جديدة، وإلا صادرها بوليس الحدود في المنطقة السوفييتية.
إنَّ الزائرين وهم يغادرون المدينة، وأذهانهم ممتلئة بمثل هذه الذكريات، يتجولون بأبصارهم وهم في الطائرات التي تحملهم بعيدًا عن مدينة برلين، فيشاهدون الاختلاف واضحًا بين القطاعين.
فإذا حدث أنْ غادر هؤلاء الزوار برلين أثناء الليل، فإن آخر نظرة يلقونها على عاصمة ألمانيا السابقة تظل عالقة بذاكرتهم، إذ تبدو شوارع برلين الغربية — وخاصة شارع كورفر ستندام — كأشرطة من النور، يتلألأ فيها بريق لافتات النيون وأضواء السيارات التي تجتازها، أما فيما وراء شارع ستالين بالقطاع الشرقي، فإن أحياء برلين الشرقية بأجمعها تبدو مظلمة ساكنة، لا يستطيع النظر العثور عليها إلا بعد البحث عن آثار وميض ضعيف عارض من أنوار الشوارع.