حقيقة مأساة برلين
لا بدَّ أنَّ الناس خارج ألمانيا يشعرون بحيرة عندما يسمعون أو يقرءون عن ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، وعن برلين الشرقية وبرلين الغربية، فمن الصعب عليهم أنْ يلموا بحقيقة المأساة التي أحاطت بتقسيم ألمانيا وتقسيم عاصمتها، فإن ٥٥ مليونًا من الألمان في الجمهورية الاتحادية، ومليونين ونصف تقريبًا في برلين الغربية يناضلون من أجل إعادة توحيد ألمانيا على أساس مبدأ تقرير المصير، وهم يتولون هذا النضال السياسي باسم ١٧ مليون ألماني يعيشون داخل الجمهورية الديمقراطية الألمانية في الشرق، ممن لا يستطيعون التعبير الحر عن وجهة نظرهم.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، وهو إعادة توحيد ألمانيا على أساس مبدأ تقرير المصير، اتفقت عليه أهم الأحزاب السياسية الألمانية اتفاقًا إجماعيًّا؛ ففي برلين كون الحزب الديمقراطي الاشتراكي مع الديمقراطيين المسيحيين حكومة عقدت العزم على أنْ تقاوم أي هجوم ضد العاصمة الألمانية، وليست هذه المقاومة قائمة على استخدام السلاح، ولكنها مقاومة تقوم على قوة الإقناع، واستخدام الدروس التي استخلصت من فصول التاريخ الألماني، سواء منها الفصول الزاهرة أو الفصول الحالكة السواد.
وينص دستور ألمانيا الغربية على أنَّ: «برلين جزء من الجمهورية الاتحادية الألمانية، وأنَّ القوانين الأساسية في الجمهورية الاتحادية الألمانية مقيدة لبرلين»، وليس معنى هذا أنه في السنوات الماضية كانت برلين الغربية والجمهورية الاتحادية قد كفتا عن احترام اتفاقيات الدول الأربع المحتلة بالنسبة لبرلين وكل ألمانيا، ولكن هذه القوانين كان الغرض منها مساعدة ألمانيا الغربية لبرلين الغربية، وذلك بجانب المعونة المادية التي تقدمها الدول الغربية، وفي أثناء النمو الاقتصادي ببرلين الغربية قبلت العاصمة الألمانية بدورها أنْ تتسلم هذه المعونة لا بصفة إحسان، ولكن كمساهمة مؤقتة في انتشالها، وفي نفس الوقت بذلت جهودها في سبيل تقليل مقدار هذه المعونة.
وقد كان من نتائج الحرب تحول برلين إلى جزيرة في بحر أحمر يحيط بها من كل جانب، إذ يبلغ الحد بين برلين الغربية وقطاع برلين الشرقي مع المنطقة الشرقية في ألمانيا ١٥٠ كيلو مترًا طوليًّا، وعلى كل من يرغب في السفر إلى برلين أنْ يقطع هذه الطرق، التي اتفق عليها الحلفاء بعد عام ١٩٤٥، ويبدو سخف هذا الموقف واضحًا في أنَّ الممرات الهوائية الثلاثة المؤدية إلى برلين يمكن لجميع الخطوط الجوية التابعة للدول الثلاث استخدامها، ولكنها محرمة على الخطوط الجوية الألمانية، ومن بين المطارات الثلاثة الواقعة في ألمانيا الغربية يستخدم مطار واحد هو مطار تمبلهوف للأغراض المدنية، أما نقل البضائع بين ألمانيا الغربية وبرلين فقاصر على نقطة واحدة عند الحدود، تمر بها السكك الحديدية وأربع طرق للسيارات وممرين مائيين للسفن.
وتفرض السلطات الشيوعية ضرائب على من يستعمل هذه الطرق تصل سنويًّا إلى ملايين الماركات، وقبل الحرب كان يدخل برلين من ناحية الغرب فقط ٤٠ قطارًا للبضاعة في كل يوم، أما اليوم فلا تزيد هذه القطارات على ١٣، والفحم من السلع الرئيسية التي تستوردها برلين من ألمانيا الغربية، أما المواد الخام والمنتجات التي لم يتم صنعها، فإنها تدخل المدينة عن طريق السكك الحديدية أو الطرق البرية أو المائية.
وبالرغم من هذا كله أثبتت برلين أنها مصدر إنتاجيٌّ مهم لألمانيا والاقتصاد الدولي، فقد ارتفعت نسبة العمل والإنتاج ارتفاعًا مطردًا، بالرغم من أنَّ برلين مضطرة إلى قبول عدد كبير من اللاجئين الذين هربوا من المنطقة الشرقية، وفي نفس الوقت تستعد المدينة لليوم الذي ستصبح فيه مرة أخرى عاصمة ألمانيا المتحدة.
وعندما افتتح مستر هلتون الأمريكي فندقه الجديد في برلين في أواخر العام الماضي عد ذلك تعبيرًا عن الثقة التي تملأ نفوس أهل برلين في إعادة بناء مدينتهم، حتى تأخذ مكانها بين المدن العظمى في أوروبا، وعندما أعيد بناء مجلس الرايشستاج، وهو مبنى البرلمان الألماني السابق الذي أحرقه هتلر، لم يكن هذا مجرد تعبير عن الذكريات العاطفية، ولكنه كان تعبيرًا عن الرغبة في توحيد ألمانيا على أساس السلم والحرية.
إنَّ برلين الغربية اليوم هي ملتقى عالمين مختلفين، وليس لها رغبة في إملاء أسلوب حياتها وعقائدها السياسية على الشعوب الأخرى، ولكنها قد انحازت إلى الديمقراطية الغربية، فالحرب قد انتهت منذ أربعة عشر سنة، ولكن برلين لا تزال مقسمة، ولقد دفعت هذا الثمن نظير حقبة سوداء في تاريخ ألمانيا، ولكنها تستعد بشجاعة لأن تصبح مرة أخرى عاصمة كل ألمانيا وأحد مراكزها الصناعية.
إنَّ الجمهورية الاتحادية تؤمن ببرلين، وعلى أساس هذه العقيدة وسعت الشركات الهندسية الكهربائية العالمية، مثل شركات كروب وسيمنس وبورسج فروعها في برلين.
ولقد قام المهندسون العالميون في سنة ١٩٥٧ بتخطيط رسوم المعرض الدولي، الذي أصبح اليوم رمزًا لبرلين الحديثة فقد زاره ١٫٤ مليون من الناس من ٧٤ دولة مختلفة، وقد جاء ٣٥٪ من هؤلاء الزائرين من برلين الشرقية أو من المنطقة الشرقية لألمانيا، وهذا دليل على الدور الهام الذي تقوم به برلين الغربية في عرض أساليب الحياة الغربية.
ومن السهل في الوقت الحاضر أنْ ينتقل المرء من برلين الغربية إلى برلين الشرقية، وفي مراكز مراقبة الحدود يسأل المسافر إذا كانت لديه سلعة تجارية، كما تفحص بطاقة تحقيق شخصيته، وفي حوانيت برلين الشرقية لا يستطيع الزائر الذي حضر من الغرب أنْ يشتري شيئًا؛ لأنه محرم عليه أنْ يحصل على المارك الشرقي وهو عملة الجمهورية الديمقراطية الألمانية، ولكنه يقابل بالحفاوة في مكتبات المنطقة السوفييتية ومكاتب الدعاية وفي مسارح برلين الشرقية.
أما بالنسبة لسكان ألمانيا الشرقية، فإن زيارتهم لبرلين الغربية قد تنطوي على خطر، إذ قد تكون سببًا في أنْ توجه إليهم تهمة «الهرب من الجمهورية»، وبوليس الشعب يراقب بدقة حدود برلين ومحطات السكك الحديدية والقطارات، والطرق المؤدية إلى المدينة، زد على ذلك أنه من الصعب — طبقًا لأوامر البرخت — على سكان ألمانيا الغربية أنْ يزوروا أقاربهم في المنطقة الشرقية، وعليهم أنْ يحصلوا على تصريح كتابي قبل أنْ يسمح لهم بالدخول إليها، ففي هذا الجزء من ألمانيا الذي يتحكم فيه البرخت وجروتفل لا نجد أثرًا لحرية التنقل، التي تضمنها ألمانيا الغربية لجميع الألمان على حد سواء.
ففي وسط المنطقة التي يحتلها السوفييت تقع عاصمة ألمانيا المناضلة من أجل كيانها الحاضر، والتي تستعد للقيام بواجباتها في المستقبل، ولو قدر لها أنْ تنجح فسوف تحتاج علاوة على مواردها الخاصة، إلى مساعدة الجمهورية الاتحادية، وكل الأمم الأخرى التي تتمسك بمبدأ حق الإنسان في تقرير مصيره.
وسكان ألمانيا الغربية وكلهم ثقة في هذه المعونة يباشرون أعمالهم، ويأملون أنْ يكون من المستحيل أنْ ينتصر الظلم في مدينتهم على الحق مرة أخرى، ففي مدينة مجزأة وفي أرض ممزقة، يعلم أهل برلين الغربية أنَّ الاتحاد والحرية لا ينفصلان.