لماذا ينتقلون من الشرق إلى الغرب؟
يتطلع مئات الألوف من الألمان في منطقة ألمانيا الشرقية إلى برلين، لا باعتبارها عاصمة لألمانيا، وإنما باعتبارها البوابة التي تؤدي إلى الحرية والانتقال إلى العالم الحر.
فلقد بلغ عدد من تركوا منازلهم وأراضيهم ومتاعهم في ألمانيا الشرقية، وفروا إلى برلين الغربية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أكثر من نصف تعداد سكان برلين، وقدره ثلاثة ملايين ونصف مليون ألماني.
وقد أصبح هذا السبيل الحيوي إلى الحرية مهددًا في المدة الأخيرة، ذلك أنَّ مدينة «برلين» لا يمكن أنْ تقبل مطالب الشيوعيين الخاصة بعدم قبول ألوف اللاجئين الذين يجتازون الحدود في طريقهم إلى الحرية.
فعلى الرغم من القيود الجديدة التي فرضت على الحدود، والتي تفصل بين القطاعين الشرقي والغربي من المدينة، فإن الفرار عبر برلين لا يزال أسهل منه في أية منطقة أخرى على طول الستار الحديدي الذي يفصل ألمانيا الشرقية عن ألمانيا الغربية، وما على اللاجئ — إذا لم يكن يحمل متاعًا — إلا أنْ يدفع ما يوازي قرشين ليمر ببساطة من برلين الشرقية إلى برلين الغربية، ومعنى مروره على هذه الصورة — بطبيعة الحال — أنْ يتخلى عن كل ما يملكه من متاع وممتلكات شخصية في الشرق.
وتواجه ألمانيا الشرقية اليوم مشكلة جديدة، هي مشكلة تزايد عدد المهاجرين من المتعلمين والفنيين من سكانها إلى ألمانيا الغربية، فلقد بلغ عدد من هاجروا منها نحو ٢٠ في المائة من سكانها، وعدد الأطباء الذين هاجروا منها إلى ألمانيا الغربية في سنة ١٩٥٨ بلغ ١٢٠٠ طبيب؛ أي أكثر من ١٠ في المائة من مجموع الأطباء كلهم، وعدد من هاجر منها من المدرسين وأساتذة الجامعات ٣٥٠٠ أستاذ، وذكر المسئولون في ألمانيا الغربية أنَّ الهجرة إلى ألمانيا الغربية كبدت ألمانيا الشرقية خلال السنوات العشر الماضية خسارة في الأطباء والعلماء والمدرسين تبلغ ربع عددهم هنالك.
وتدل الإحصائيات الأخيرة على أنَّ نسبة الهجرة في السنوات الأخيرة زادت كثيرًا عما كانت عليه في الماضي، فقد زادت نسبة المهاجرين من الأطباء في سنة ١٩٥٨ إلى ثلاثة أمثال ما كانت عليه في سنة ١٩٥٧، وزادت نسبة المهاجرين من الأساتذة في سنة ١٩٥٨ عن ضعف ما كانت عليه في العام الذي سبقه، فإذا عرف أنَّ الأطباء والمدرسين يعاملون في ألمانيا الشرقية معاملة أفضل بكثير مما يعامل غيرهم، ويتناولون مرتبات أكبر مما يتناول زملاؤهم في ألمانيا أدركنا المغزى العميق الكامن وراء هجرتهم.
ولقد اعترفت صحافة ألمانيا الشرقية نفسها بهذه الحقيقة، وقالت: إنَّ الهجرة — ولا سيما هجرة المحترفين والعلماء — تثير الكثير من الصعوبات في وجه الحكومة، ونقلت صحيفة «نيوزايت» التي تصدر في برلين الشرقية عن طبيب من ليبزيج وزعيم سياسي، هو الدكتور جيروهوسل أنَّ نسبة الأطباء إلى السكان في ألمانيا الشرقية لا تتجاوز ١ إلى ٣ آلاف أو ٤ آلاف، وكانت النسبة الطبيعية هي ١ إلى ١٦٠٠ أو ١٩٠٠ في حين أنها في ألمانيا الغربية ١ إلى ٧٠٠، وتعتقد وزارة الشئون الألمانية في حكومة ألمانيا الغربية أنَّ في المنطقة الشرقية من ألمانيا عددًا كبيرًا من المستشفيات الخاصة، لا يجد العدد الكافي من الأطباء للعمل في الوقت الحاضر.
ومما لا شك فيه أنَّ هذا النقص في عدد الفنيين والمدربين يعتبر عقبة كبيرة في سبيل تحقيق برامج التنمية، التي وضعتها حكومة ألمانيا الشرقية.
وثمة أمر آخر يزعج حكومة ألمانيا الشرقية، وهو سمعتها التي تسير من سيئ إلى أسوأ فيما يختص باستمرار الهجرة، فقد ذكر اللاجئون الذين وصلوا أخيرًا أنَّ أسباب هجرتهم تعود إلى المساوئ الاجتماعية والسياسية، أكثر مما تعود إلى التذمر من الحالة الاقتصادية، وأنَّ هذا السيل من المهاجرين الذي زاد عن ثلاثة ملايين ونصف مليون مهاجر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، دليل على أنَّ الحياة فيما يصفونه بأنه «جنة العمال» غير مرضية ولا مقبولة، وهي في الوقت نفسه دليل صارخ على أنَّ الحكومة فشلت في أنْ تحقق للناس المطالب الأساسية التي ظلت الشيوعية تعد بها الجموع، وقد وصفت الهجرة المتواصلة بأنها «نتيجة وعي الرأي العام الذي لا يمكن لأحد أنْ يتجاهله».
ويذكر اللاجئون أسبابًا شتى لهجرتهم إلى العالم الحر، فيقول معظمهم: إنَّ المسألة ليست مسألة نقص في الغذاء والكساء على الرغم من قلة الغذاء والكساء، ولكنها ذلك الضغط الذي يتعرضون له في كل ما يعملون، وعدم وجود الفرصة التي تتيح للمرء حق الاختيار، وتكيف حياته وآماله وفق ما يشاء ويهوى.
ويذكرون من بين هذه الأسباب أيضًا الوسائل البوليسية المطبقة في ألمانيا، والشعور بالقلق فيما يختص بمستقبل ألمانيا الشرقية.
ويقولون: إنَّ الخوف من تشديد القيود على الحدود والضغط المتزايد لنبذ الدين، والقلق على مصير الأطفال في مجتمع شيوعي، والشك في إمكان زيارة الأقارب في المنطقة الغربية، والمشاكل الأخرى كتخفيض الأجور، وزيادة ساعات العمل مقابل نفس الأجر، كل هذه من بين أسباب الهجرة إلى الغرب.
وتقول حكومة ألمانيا الشرقية: إنَّ ألمانيا الغربية تشجع الهجرة من الشرق، ولكن الواقع غير هذا، فإن إذاعات ألمانيا الغربية تحض الألمان على ألا يهاجروا «إلا إذا كان لديهم من الأسباب ما يدفعهم إلى الخوف على مصيرهم وحياتهم»، أما الأسباب التي لا تمانع ألمانيا الغربية من أجلها في أنْ يهاجر إليها من يريد من سكان ألمانيا الشرقية، فهي أنْ يكون المهاجر عرضة للاعتقال، أو أنْ تكون حياته هناك معرضة للخطر، أو أنْ يكون ممن لا يطيقون الخضوع للشيوعية، أو ذا كفاءة أو مهارة خاصة، أو أنْ يكون مهاجرًا يريد أنْ ينضم إلى أقاربه.
ومع ذلك كله فإن الهجرة مستمرة بالرغم من أساليب الإرهاب التي تتبعها ألمانيا الشرقية ضد المهاجرين، والمهاجرون أنفسهم يعترفون بأنه ليس من السهل على الإنسان أنْ يصبح لاجئًا، فيغادر بلادًا أحبها، وكانت له فيها ذكريات ومصالح، ويترك أصدقاءه وأحباءه ليبحث عن مسكن جديد وعمل جديد، ولكنه في ذلك غير مخير، ولعل خير ما ذكر في هذا هو ما قاله أحد المسئولين في ألمانيا الغربية من أنَّ الإنسان لا يستطيع أنْ ينظر نظرة عابرة إلى هذه الهجرة المستمرة على أوسع نطاق.