مشكلة اللاجئين
زرت في برلين أحد معسكرات اللاجئين، حيث يستقبل جميع الذين يفدون من برلين الشرقية، أو من المنطقة الشرقية بوصفهم من اللاجئين الذين يرغبون في الحياة والاستقرار ببرلين الغربية، أو بغيرها من مدن الجمهورية الألمانية الاتحادية.
وشهدت استجواب بعض اللاجئين الذي يتم في هذا المعسكر، فيسأل اللاجئ أولًا عن تاريخه، ثم عن أسباب هربه من الشرق إلى الغرب، وتطلب منه المستندات الدالة على صدق أقواله، وتقوم بالاستجواب لجان متعددة تتكون كل لجنة منها من ثلاثة أشخاص.
والقاعدة التي تسير عليها هذه اللجان، هي قبول جميع اللاجئين بصفة عامة؛ وذلك لأنهم من الألمان، ومن حقهم طبعًا أنْ يستوطنوا بلادهم، ولكن اللجان تحاول قدر الإمكان أنْ تكتشف أمر الجواسيس، الذين ينتقلون إلى الغرب بوصفهم من اللاجئين، وهم في الحقيقة من العملاء والجواسيس، الذين يعملون لحساب جهات معادية للدولة، كما تحاول اللجان اكتشاف أمر المجرمين الذين هربوا من الشرق بعد ارتكاب الجرائم؛ خوفًا من المحاكمة أو من العقاب.
ولهذا الغرض أقيمت معسكرات اللاجئين، فهي بمثابة مراكز الانتقال المؤقتة التي يقيم فيها القادمون من الشرق لفترة محدودة، إلى أنْ يتم توزيعهم على مختلف المدن في الولايات الألمانية، وينقل اللاجئون من برلين إلى هذه المدن بواسطة الطائرات على حساب الدولة.
ولذلك فإن معسكرات اللاجئين في برلين ليست معسكرات للاجئين من نوع معسكرات اللاجئين الفلسطينيين في غزة، أو اللاجئين الهنود في باكستان، وإنما هي معسكرات انتقال من شرق ألمانيا إلى غربها، وقد سألت عما إذا كانت المعسكرات تضم بعض المدارس لتعليم الأولاد الذين يفدون مع والديهم، فقيل لي: إنه ليس هناك مدارس بداخل المعسكرات، ولكن إذا طالت إقامة المهاجرين أو اللاجئين بالمعسكر أرسل الأولاد إلى المدارس القريبة.
ويفد أكبر عدد من اللاجئين إلى غرب ألمانيا من ولاية سكسونيا، التي يعيش فيها أكبر عدد من السكان، وقد صدر ببرلين في عام ١٩٥١ قانون خاص لتنظيم حركة اللاجئين، وبلغت جملة عدد اللاجئين من ألمانيا الشرقية إلى نهاية عام ١٩٥٨ نحو ٣ ملايين لاجئ، وزعوا على برلين الغربية ومدن ألمانيا الغربية الأخرى.
وكان من الطريف السؤال عن حرف اللاجئين والمهن التي ينتسبون إليها، وهذا هو نصيب كل مهنة من اللاجئين:
الصناعة والأعمال اليدوية | ١٩٫٣٪ |
التجارة | ١١٫٨٪ |
الطب (وما يتصل به) | ٥٫٨٪ |
الزراعة | ٤٫٥٪ |
الموظفون | ٤٫٤٪ |
المثقفون والأدباء | ٢٫٦٪ |
الفنيون | ٢٫١٪ |
أرباب المعاشات | ٦٫٨٪ |
نساء بدون صناعات | ١٠٫٣٪ |
أطفال | ٢٠٫٣٪ |
طلبة | ٢٫٢٪ |
مهن أخرى متنوعة | ١٠٪ |
١٠٠ |
ويتمتع اللاجئون السياسيون إلى غرب ألمانيا بمزايا لا يستهان بها، عندما يثبت لولاة الأمور صحة الأسباب التي هاجروا من أجلها إلى الغرب.
ومن هذه المزايا حقهم في الحصول على عمل قبل غيرهم، ومنها الإعفاء من الضرائب لفترة محدودة، وحقهم في الحصول على مسكن قبل غيرهم …
ومن المزايا التي يحصل عليها اللاجئ إذا كان من موظفي الحكومة، حقه في الحصول على وظيفة مماثلة لوظيفته القديمة في حكومة ألمانيا الغربية.
وقد ضعف إقبال اللاجئين في عام ١٩٥٩، ويقول المسئولون، إنهم يتوقعون أنْ يكون الرقم الإجمالي لعدد اللاجئين في عام ١٩٥٩ أقل من مجموعهم في عام ١٩٥٨.
وليست هناك سياسة موضوعة لتوزيع اللاجئين على بلدان ألمانيا الغربية، كما أنه ليس هناك أي إلزام على اللاجئ لقبول الاستقرار في مكان معين، ولكن يوزع اللاجئون بوجه عام حسب مقدرة الولايات المختلفة على استيعابهم، وطبقًا لإمكانياتهم في الصناعة، وقد أرسل أكبر عدد من اللاجئين إلى ولاية وستفاليا.
وترحب ألمانيا الغربية باللاجئين عمومًا، وتفتح أبوابها لهم، ولكنها تجني أعظم الفائدة من أصحاب المهن ورجال الصناعة، ولذلك فإنها تسهل لهم الاندماج في ميدان الأعمال.
•••
ويلاحظ أنَّ مدينة برلين تحيط بها من كل جانب منطقة ألمانية تخضع للسيطرة الشيوعية، والوصول إليها خاضع لرحمة السلطات التي تسيطر على المنطقة الشرقية، ولم يستطع الحصار السوفييتي لبرلين الغربية من ١٩٤٨ إلى ١٩٤٩ أنْ يصل إلى هدفه من إخضاع هذا الجزء من برلين لإدارة السوفييت، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت برلين جزيرة الأمل لكل أفراد الشعب الديمقراطي، الذي هاجر من «ديمقراطية الشعب».
وحتى نهاية ١٩٥٦ سجل ٩١٥٠٠٠ لاجئ ألماني أسماءهم في برلين الغربية؛ لكي يعتبروا لاجئين، بقي منهم حوالي ١٥٠٠٠٠ في برلين الغربية، بينما رحل الآخرون إلى الجمهورية الاتحادية الألمانية بطريق الجو.
ففي نهاية الحرب العالمية الثانية أصبحت برلين — العاصمة الألمانية التي كانت مركزًا صناعيًّا وإداريًّا مهمًّا يسكنها ٤٫٥ ملايين من السكان — أصبحت مدينة مهزومة مخربة فقدت مليونًا واحدًا من سكانها، ووضعت المدينة تحت الإدارة المشتركة للحلفاء المنتصرين، وبقيت كذلك حتى عام ١٩٤٨.
وبعد الانقسام الذي تم في مجلس الحلفاء للرقابة، تكونت من القطاعات الأمريكية والبريطانية والفرنسية برلين الغربية الحرة.
ويبدو من مظاهر أيامنا هذه أنَّ المصائب التي تتكرر يوميًّا، تعتبر بمرور الزمن شيئًا عاديًا، وطرد ملايين من الشعب الألماني منذ عام ١٩٤٥ أكبر دليل على ذلك، فبسبب الكراهية والتعصب الجنسي طرد ١٦ مليونًا من المواطنين الألمان، أو مواطنين أجانب من أصل ألماني منذ ١٩٤٥، كما تم ترحيل الملايين، ومات كثيرون في طريقهم إلى المنفى، فوصل أربعة ملايين منهم في بادئ الأمر إلى المنطقة السوفييتية في ألمانيا، ووصل ثمانية ملايين إلى الجمهورية الاتحادية الألمانية، وفي الفترة الواقعة بين ١٩٤٥ و١٩٥٨ هرب مليون من الأربعة ملايين الذين وضعوا مؤقتًا في المنطقة السوفييتية، وما لبث أنْ لحق بهم ثلاثة ملايين من المواطنين الألمان من المنطقة التي يحتلها السوفييت، ففي ألمانيا الغربية اليوم تسعة ملايين من المطرودين، وأكثر من ثلاثة ملايين لاجئين من المنطقة الشرقية في ألمانيا، وقد استمرت هذه الحركة منذ نهاية الحرب ولا تزال مستمرة.
إنَّ السلطات الشيوعية تشعر بالأثر السيئ لهذه الحركة على حالتها الاقتصادية والسياسية، ولذلك فقد أنشأت نقط مراقبة قوية للحدود بين منطقتها، وبين الجمهورية الاتحادية، وقد أحكم نظام المراقبة باستمرار وخفضت تصاريح الخروج، وأقفلت منطقة الحدود في بعض الظروف.
ونظرًا لأن كل هذه الإجراءات لم توقف فرار أفراد الشعب المضطهد، فقد أدخلت تشريعات خاصة تعاقب كل محاولة للفرار أو الاستعداد له.
وبالرغم من هذا كله بقيت برلين الغربية جزيرة الأمل لجميع الألمان في المنطقة الشرقية؛ وذلك لأن برلين الشرقية لا يمكن فصلها طبيعيًّا عن الجزء الغربي للمدينة، وبذلك يستفيد من فرصة الهرب هذه نسبة هائلة من رعايا المنطقة الشرقية، الذين يبحثون عن الحرية، فينتقلون من برلين الشرقية إلى برلين الغربية، ومنها ينتقلون إلى الجمهورية الاتحادية الألمانية بطريق الجو.
ومن المدهش أنَّ المستوى المهني والاجتماعي لحركة الهجرة الهائلة هذه يتغير باستمرار، وهذه التغيرات تعكس الاتجاهات الاقتصادية والشيوعية، فإن فرض الزراعة الجماعية في عام ١٩٥٣ مثلًا نتج عنه زيادة في نسبة الفلاحين بين اللاجئين، أما القرار السياسي الذي ينص على زيادة ملكية الحكومة، أو اشتراك الحكومة في التجارة وفي الحرف والصناعة، فقد كان له أثره المباشر في زيادة عدد اللاجئين الذين ينتمون إلى هذه المهن، كما زادت مجهودات الحكم الشيوعي، التي بذلت في التأثير على النشاط في الجامعات والمدارس من نسبة عدد المدرسين والطلبة اللاجئين، وتصل نسبة العمال الهاربين من دولة «العمال والفلاحين» في بعض الأعوام إلى ٥٠٪. أما الظاهرة التي تسترعى النظر في سنة ١٩٥٨، فقد كانت هرب نسبة كبيرة من الطبقة المستنيرة.
كما أنَّ هناك ظاهرة مدهشة حقًّا، وهي أنَّ نسبة الشبان والشابات الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨–٢٥ سنة، تبلغ في الغرب ثلاثة أضعاف نسبة عددهم بين سكان المنطقة الشيوعية.
وطالما بقيت برلين حرة، فإنها ستظل جزيرة الأمل في نظر هؤلاء اللاجئين، فهذه المدينة هي المنقذ إلى الحرية؛ إلى حياة تحترم حقوق الإنسان، كما نص عليها ميثاق الأمم المتحدة.