مقدمة المترجم (٢)
إن علم الاجتماع من العلوم التي عُنِيَ العلماء في الوقت الحاضر باستجلاء قواعدها، ومن أكابر هؤلاء العلماء مؤلفُ «حضارة العرب»: الدكتور غوستاڤ لوبون.
ألَّف هذا العلامة، بعد سياحات كثيرة قام بها في أقطار الأرض، كُتبًا ذات قيمة في مدنيات بعض الأمم، ثم وَضع ثَلاثة كتب بَسطَ فيها ما استنبطه في تلك الأثناء من العبر وما ظهر له من سُنن الاجتماع وهي: «السُّنن النفسية لتطور الأمم» و«روح الجماعات» و«الآراء والمعتقدات»، ثم عرَض ما جاء في هذه الكتب من الآراء الكلية على مسائل أخرى فأخرج للناس «روح الاشتراكية» و«روح الثورات والثورة الفرنسية»، وقد نقلتُ هذين المؤلفين إلى العربية، فقدَّمت طبع الثاني لصغر حجمه، وسأطبع الأول بعده إن شاء الله تعالى.
نقل المرحوم فتحي باشا زغلول كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» بعنوان «سر تطور الأمم» وكتاب «روح الجماعات» إلى العربية، فأرجو أن أعرض على القراء، عما قليل، ترجمة كتاب «الآراء والمعتقدات» فتكون قد اجتمعت عندهم كتب غوستاڤ لوبون الثلاثة الأساسية وكتابان من كتبه التحليلية.
ولا أرى أن أشير إلى ما في مؤلفات الكاتب المشار إليه، ولا سيما «روح الثورات والثورة الفرنسية»، من الفوائد العلمية والحقائق التاريخية، فالأمر أصبح مشهورًا لا يحتاج إلى بيان، وإنما أنقل العبارات الآتية على سبيل الذِّكر:
قد أثرت أفكار غوستاڤ لوبون السياسية الصائبة في نفسي تأثيرًا جعلني في الوقت الحاضر أعتمد عليها، فالفصلُ الذي بحث فيه عن أوهام رجال الثورة الفرنسية حسنٌ من كلِّ الوجوه، وهذه الأوهام هي اعتقادُ صلاح الإنسان، وأن من الممكن فصل الأمم عن ماضيها، وتحويل المجتمع بوضع القوانين، ولا يخفى ما أدت إليه هذه الأغاليط الكبيرة من النتائج.
أشارك غوستاڤ لوبون في ما ذكره عن علل نجاح ناپليون بوناپارت، فالنصر وحده، وهو الذي دلَّ على ناپليون، لم يجعله سنة ١٧٩٥ معبود فرنسة، وإنما الذي سَهَّلَ نجاحه هو نفور الناس من الظلم والاضطهاد والأزمة المالية والطمع في الأملاك العامة.
أُعْجَبُ بغوستاڤ لوبون كخصم للقدَر التاريخيِّ الذي شبَّ على اعتقاده أبناء جيلي، فهذا القدَرُ من الأمور المختلة.
إن ما أتى به غوستاڤ لوبون من البحث الدقيق في مؤلفاته في الفلسفة وعلم الحياة والتاريخ مكَّنه من إيضاح بعض الأمور العظيمة التي ظلت غامضة حتى الآن، وقد استطاع أن يوضحَ قواعد الحركات الثورية في كتاب مبتكر جديد بحث فيه عن روح الثورات والثورة الفرنسية.
أوضح في هذا الكتاب وجه الشَّبه بين السنن النفسية للحوادث الكبيرة التي حوَّلت مصير الأمم كثورة الإصلاح الديني والثورة الفرنسية، كما أنه أوضح فيه شأن الشعوب الضعيفَ في الحركات الثورية ومناقضة عزائم أعضاء المجالس وهم منفردون لعزائمهم وهم مجتمعون والتأثيرَ الكبيرَ للعاطفة والدين في سيْر أبطال الثورة الفرنسية.