شأن الحكومات في الثورات
(١) ضعف مقاومة الحكومات في الثورات
عانى كثيرٌ من الأمم الحديثة، كفرنسة وإسبانية وبلجيكة واليابان وتركية والپرتغال، أمرَ الثورات، وتوصف هذه الثورات في الغالب بحدوثها بغتة وبسهولة قلبِها للحكومات.
وسبب حدوثها بغتة هو سرعة العدوى النفسية الناشئة عن طرق النشر والإذاعة في الوقت الحاضر، ومما يقضي بالعجب ضعف مقاومة الحكومات لها، فذلك يدلُّ على عجزها عن الاطلاع على حقائق الأمور وكشف عواقبها.
لم يكن إسقاط الحكومات بسهولة أمرًا حديثًا، فقد شوهدت غير مرة حكومات قُلِبت بسهولة، ومنها حكومة استبدادية أسقطتها مؤامرات البلاط، ومنها حكومات مطلعة على الرأي العامِّ بواسطة الصِّحافة وبواسطة موظفيها.
ومن أمثلة ذلك السقوط الفجائي: خلع شارل العاشر بعد نشر مراسيمه بأربعة أيام، فهذا الملك، الذي لم يتخذ وزيره بولينياك وسيلة للدفاع عنه، بلغ من اعتقاده سكونَ باريس ما ذهب معه إلى الصيد، وقد تشتَّت شمل جيشه، لسوء قيادته أمام هَجمات عُصاة قليلين.
وخَلْعُ لويس فيليپ بثورة صغيرة يقضي بالعجب، فهذا الخلع لم ينشأ عن استبداده، وإنما نشأ عن عجز قواده عن الدفاع عنه، وذلك خلافًا لما قاله المؤرخون الذين لا يعتقدون إمكان سقوط حكومة منظمة يؤيدها جيش كبير على يد نفر من العصاة، والذين يعزون خلع لويس فيليپ إلى أسباب بعيدة من الحقيقة.
حقًّا وُجد في باريس جيش مؤلف من ٣٦٠٠٠ جندي لم يُنتفع به لعجز قادته وضعفهم، فلما أكثر هؤلاء القادة من إعطاء الأوامر المتناقضة ونَهَوا الجيش عن ضرب القوم اختلطت الجماعات بالجنود فتمَّ النصر للثورة من غير كفاح واضُطرَّ الملك إلى التنزل عن العرش.
وقد أشار الجنرال بونال — مستعينًا بمباحثنا في روح الجماعات — إلى أن إخماد الفتنة التي أدت إلى خلع لويس فيليپ كان ممكنًا، فبيَّن أنه لو بقيَ شيٌ في رؤوس القواد من العقل لاستطاعت ثُلة من الجيش أن تردع العصاة عن الاستيلاء على مجلس النواب، ولنادى هؤلاء النواب الذين كانوا من أنصار الملكية بكونت دو پاري ملكًا وأنابوا أُمَّه عنه.
يُثبِت لنا ذلك ما للعوارض الصغيرة الثانوية من الشأن في تكوين الحوادث العظيمة، ويغنينا عن الإسهاب في بيان سنن التاريخ العامة، فلولا الفتنة الصغيرة التي أوجبت خلع لويس فيليپ ما قامت الجمهورية سنة ١٨٤٨ وما ظهرت الإمبراطورية الثانية وما حدثت واقعة سيدان وما أغار الأجنبي علينا وما أضعنا الألزاس على ما يحتمل.
ولم يَمُدَّ الجيش في الثورات التي ذكرتها يد المعونة إلى الحكومات، ولم يثُرْ عليها، وقد يقع عكس ذلك، فالجيش هو الذي قام بالثورات في الپرتغال وتركية، وعلى يده تتم الثورات الكثيرة في الجمهوريات اللاتينية الأمريكية، وإذا قام الجيش بالثورة أصبح القائمون بأمور الدولة تحت إمرته، وقد وقع ذلك في أواخر الدولة الرومانية عندما كان الجنود هم الذين يخلعون الأباطرة.
ولا تتمُّ الثورة بغير معاضدة الجيش أو بمحايدته على الأقلِّ، بيد أنها تبدأ في الغالب من غير أن يتدخل، ذلك كما حدث في ثورة سنة ١٨٣٠ وثورة سنة ١٨٤٨ وثورة سنة ١٨٧٠ التي قضت على الإمبراطورية حينما شعر الناس في فرنسة بالعار الذي أصابهم من استيلاء الألمان على مدينة سِيدان.
وتقع أكثر الثورات في العواصم، ومنها تسري بالعدوى إلى البلاد جميعها، وليس ذلك قاعدة ثابتة، فقد ثار أهل ڤانده وبريتانية والجنوب على باريس أيام الثورة الفرنسية الكبرى كما هو معلوم.
(٢) كيف تؤدي مقاومة الحكومات إلى انتصارها على الثورات
ظهر لنا من أكثر الثورات التي ذكرناها أن الحكومات الضعيفة تنهار عندما تُمَس، غير أن الثورة الروسية السابقة أثبتت لنا إمكان انتصار الحكومة التي تعرف كيف تدافع عن نفسها.
لم تحدث ثورة أكثر خطرًا على حكومة من هذه الثورة، فبعدما غُلبت روسية في الشرق الأقصى وشعر الناس بشدة النظام الاستبدادي تمردت فيها الطبقات الاجتماعية، ومنها جزء من الجيش والأسطول، وأضرب موظفو الخطوط الحديدية والبريد والبرق عن العمل فانقطعت وسائل النقل والمراسلة في تلك الإمبراطورية العظمى.
ثم أخذت الدعوة الثورية تشيع بين طبقة الفلاحين الذين هم معظم الأمة الروسية، وقد كان هؤلاء يعيشون عيشة بؤس وشقاء لإكراههم — كما يقتضيه نظام مير — على الفلاحة من غير أن تكون الغلة لهم فعزمت الحكومة على استمالتهم بتحويلهم إلى مُلَّاك، فوضعت قوانين أكرهت بها سادتهم على بيعهم جزءًا من أراضيهم، ثم أنشأت مصارف لتقرضهم مالًا يؤدون به ثمن ما يشترون على أن يدفعوا ديونهم إلى تلك المصارف أقساطًا سنوية من المحاصيل.
وبعدما استمالت الحكومة الروسية الفلاحين على هذا الوجه استطاعت أن تقاتل — من غير رحمة — العصاة المتمردين الذين كانوا يُحرقون المدن ويلقون القنابل بين الجماعات فأبادت من قبضت عليهم منهم سائرةً على السُّنَّة الضرورية لحفظ المجتمع من الثائرين الذين يريدون نقضه.
ثم رأت الحكومة الروسية التي خرجت من هذه المعامع ظافرة أن تجيب فريق الأمة المهذب إلى مطاليبه الحقة فأنشأت مجلسًا اشتراعيًّا يسن القوانين ويرقب النفقات.
يثبت لنا تاريخ الثورة الروسية كيف أن حكومة تداعت أركانُها الطبيعية استطاعت أن تتغلب على أشد الصعوبات بثباتها ودرايتها، فلقد أصاب من قال: «إن الحكومات لا تُقْلَب بل تنتحر».
(٣) ثورات الحكومات، مثال تركية والصين
الحكوماتُ تقاوم الثورات عادة ولا تقوم بها، غير أن هنالك حكومات قامت بإصلاحات فُجائية من فصيلة الثورات، وما اتصفت به الروح القومية في البلاد من الثبات أو التقلب يوضح لنا سر نجاح هذه الحكومات أو حبوطها في ذلك.
فالحكومة تنجح عندما تكون الأمة التي ترغب أن تكرهها على أنظمة جديدة مؤلفة من قبائل وحشية خالية من القوانين الثابتة والتقاليد الراسخة، أي من روح قومية قوية، ومن أمثلة ذلك روسية أيام بطرس الأكبر الذي حاول أن يفرنج الروس، واليابان مثال آخر للثورات التي قامت بها الحكومات، ولكن طرق اليابان الفنية هي التي تغيرت، لا روحها القومية.
ويتطلب النجاح في تلك المساعي وجود ملك عبقري مستبد قوي، وذلك لأن الملك المصلح يرى الأمة جمعاء قد وقفت في وجهه فيكون وقتئذ هو الثائر وهي المحافظة خلافًا لما يقع عادة.
والحبوط في تلك الثورات هو الأصل، سواء أمن علية القوم كان القائمون بها أم من سفلتهم، فروح الأمة الراسخة منذ زمن طويل لا تتبدل وإنما الأمور التي أبلاها الزمان هي التي تتحول.
قامت الصين في الوقت الحاضر بتجربة دلتنا على أن من المستحيل أن تجدِّد حكومة نظم الأمة فجأة، فالثورة التي اشتعلت فيها ونشأ عنها سقوط الأسرة المالكة هي نتيجة استياء الشعب من الإصلاحات التي أرادت الحكومة الصينية أن تلزمه بها لتحسن حالة البلاد، وقد أوجب تحريم الأفيون والقمار وإصلاح الجيش وفتح المدارس فيها أن زيدت الضرائب زيادة أقلقت الرأي العام كالإصلاحات نفسها.
فاستفاد من هذا السُّخط بضعة صينيين درسوا في المدارس الأوربية فحرَّضوا الشعب على الثورة؛ ليعلن النظام الجمهوري الذي لا يفقه صيني من أمره شيئًا.
ولا يدوم هذا النظام طويلًا، فلم يكنِ الباعث الذي أحدثه باعثَ تقدم، بل باعثًا رجعيًّا، فكلمة جمهورية عند الصيني، الذي تخرج على الطريقة الأوربية، مرادفة لكلمة التحرر من سلطان القوانين والأنظمة والتقاليد، وهو يظن أنه بقصِّه ضفيرته وبوضعه خوذة على رأسه وبإقامته الجمهورية يستطيع أن يرُخي لشهوات نفسه أعِنتها.
وسترى الصين قريبًا ما يكون أمر بنيانها الجديد الذي لم يقم على دعائم الماضي، فالعلم لم يكتشف بعد عصا السحر القادرة على إبقاء مجتمع فوضى، فستضطر الصين بعد أن تغوص بضع سنين في بحار الفتن التي تسفك بها الدماء إلى الاعتصام بسلطة مستبدة أشد من السلطة التي قلبتها؛ إذ لا احتياج إلى إكراه الناس على النظام إذا كان وراثيًّا، وأما إذا هَدمَت الشهوات الأنظمة التي أقامها الأجداد فلا يتجدد بناؤها إلا باستبداد شديد.
وقامت تركية أخيرًا، كالصين، بتجربة قد تكون دليلًا على صحة ما بيناه، فقد استطاع منذ بضع سنين شبان درسوا في مدارس أوربية أن يخلعوا السلطان الذي أصبح استبداده لا يطاق، وأعانهم على ذلك كثير من الضباط ظانين أنهم قادرون على تأسيس نظام نيابي في بلاد متأخرة ذات أديان مختلفة مثل بلادهم.
لم يأتِ هؤلاء حتى الآن عملًا مشكورًا، وقد رأَوا — على الرغم من انتحالهم الحرية — أنهم مضطرون إلى حكم البلاد بأساليب قريبة من أساليب العهد الذي قضوا عليه.
ولا يجوز أن يلاموا على ذلك، فما يفعلون في تحويل أمة ذات تقاليد قديمة راسخة وذات عواطف دينية قوية؟ وكيف لا يبقى الإسلام دين الدولة في بلاد اتحد فيها الشرع المدني والشرع الديني وقام فيها المبدأ الوطني على الإيمان بالقرآن؟ يصعُب هدم ذلك؛ ولذا رجعت تركية إلى نظام استبدادي ذي مسحة دستورية كنظامها السابق.
بتلك التجارب يُستشهد في القول: إنه يتعذر على الأمة أن تختار نُظُمَها قبل أن تغير روحها.
(٤) العناصر الاجتماعية التي تبقى بعد أن تقلب الثورات الحكومات
ما نقوله عن ثبات الروح القومية يدلنا على ما للنظم التي قامت منذ زمن بعيد من القوة، نعم، يقدر المؤتمرون على خلع الملك، ولكنهم يعجزون عن فعل شيء لا يلائم المبادئ التي يمثلها الملك، فلما خلع ناپليون لم يخلفه وارثه الممثل لمبادئ غير ثابتة في النفوس، بل ورثه ابن الملوك الممثل لمبدأ قديم.
ومهما يكن الوزير ماهرًا بارعًا في خدمة بلاده فقد لا يقدر على خلع ملكه، ولو أراد بسمارك ذلك ما استطاع، مع أنه كفى لسقوط بسمارك، وهو الذي صنع الوحدة الألمانية وحده، إشارة صغيرة من سيده.
على أننا إذا فرضنا وجود أسباب مختلفة تُلاشي الحكومة والمبدأ الذي تمثله، كما وقع أيام الثورة الفرنسية، فإن العناصر التي يتألف منها نظام المجتمع الحقيقي لا تزول كلُّها في الوقت نفسه، فلو اقتصر ما نعلمه عن فرنسة على ما وقع فيها من الانقلابات منذ عصرٍ لقلنا إنها فوضى، والواقع أنها تبدو للناظر ذات حياة اقتصادية صناعية سياسية مستمرة بعيدة من الانقلابات والأنظمة.
فبجانب الحوادث العظيمة التي يهتم بها التاريخ أمور صغيرة تخص الحياة اليومية ولا تعبأ الكتب بذكرها، وهي تابعة لعوامل مهيمنة لا تقف أبدًا، ويتألف من مجموعها لُحمة حياة الأمة.
إذن مَنْ قادة الأمة الحقيقيون؟ لا ريب هم الملوك والوزراء في الأحوال العظيمة، ولكن لا شأن لهؤلاء الرجال في الأمور الصغيرة التي تتألف الحياة اليومية منها، فالقوى الحقيقية التي تسيِّر البلاد هي عناصر الإدارة غير الشخصية التي لا يؤثر فيها ما يصيب نظام الحكم من التحولات، ولهذه الإدارة، ذات التقاليد المحافظة المنصفة بالدوام والخفاء، قوة تنحني أمامها القوى الأخرى، وقد بلغ تأثيرها مبلغًا أوشك أن يكون لها به دولة خفية أقوى من الدولة الرسمية، وسيأتيك تفصيل ذلك.