النفسية الثورية والنفسية المجرمة
(١) النفسية الثورية
قلنا إن عنصر التدين هو من عناصر الروح اليعقوبية، وهذا العنصر من مقوِّمات نفسية أُخرى، أي النفسية الثورية.
تشتمل المجتمعات في كل زمن على عدد من النفوس المضطربة المتقلبة الساخطة المتأهبة للتمرد الراغبة في الفتنة للفتنة نفسها، ولو أن قوة سحرية حققت آمالها بلا قيد ولا شرط ما عدلت عن التمرد.
وتنشأ هذه النفسية في الغالب عن عدم الامتزاج بالبيئة، أو عن الغلوِّ في التدين أو المرض.
ويسهل إغواء هؤلاء العصاة الذين أضلت بعض الوساوس نفوسهم الدينية، فهم على رغم العزيمة الظاهرة التي تدلُّ عليها أعمالهم ضعفاءُ عاجزون عن مقاومة أقلِّ المحرضات، والقوانين والبيئة تردعهم في الأوقات العادية فيظلون غير مؤثرين، ولكن متى بدت أدوار الفتن فإن هذه الزواجر تضعف، فيطلقون عنان غرائزهم غير مبالين بالغاية التي نشِبت الثورة من أجلها.
وقد تكون الروح الثورية غير خطرة، فهي إذا صدرت عن العقل، بدلًا من العاطفة أو التدين، أصبحت عامل تقدم وارتقاء، فعندما يصير حكم التقاليد والعادة ثقيلًا على الحضارة تتخلص منه بفضل أناس من ذوي العقول المستقلة الثورية كغَلِيله ولاڤوازيه وداروين وپاستور الذين أعانوا على تقدم العلوم والفنون والصناعة في العالم.
ويجب أن يكون في كل أمة عدد من هؤلاء الأعاظم الذين لولاهم لظل الإنسان عائشًا في الكهوف، وتتطلب الجرأة الثورية التي تُظهِر ما عند صاحبها من الاكتشافات استقلالًا ذهنيًّا يتخلص به من الأفكار الجارية بين الناس، وحصافةً يدرك بها ما تحت المتشابهات السطحية من الحقائق.
(٢) النفسية المجرمة
قُدِّر على المجتمعات المتمدنة كلها أن تشتمل على جماعة من المنحطين وشذاذ الآفاق والمذنبين والأشرار واللصوص والقتلة الذين يتألف منهم فريق المدن الكبيرة المحرم، والوازعون لهم أيام السلم إنما هم الشُّرَط، أي رجال البوليس، ولكن لا رادع لهم أيام الثورات، فيسهل عليهم فيها أن يقتلوا ويسلبوا، ومنهم يجمع رجال الثورة جنودهم، وهم — لعدم طمعهم في غير القتل والنهب — لا يبالون بالغاية التي يدافعون عنها ولا يتأخرون ساعة عن الانضمام إلى الحزب المتقهقر حينما يكون حظهم من القتل والسلب عنده أكثر.
ويضاف إلى هؤلاء المجرمين الذين هم داءُ المجتمعات العضال، الفريق الذي يأتي المنكر وقتما يستحوذ عليه الخوف من النظام السائد والذي لا يلبث أن ينضم إلى زمر العصاة حينما يعتري هذا النظام وهن، ويتألف من هذين الفريقين جحفل مخل بالنظام، وعليه يعتمد الثوريون والقائمون بالفتن الدينية والسياسية.
قلنا في فصل آخر إن هذه الفئة المجرمة كانت عظيمة النفوذ أيام الثورة الفرنسية، وقد قص علينا بعض المؤرخين — وهم خاشعون — خبر الأوامر التي كانت تحملها إلى مجلس العهد وهي مسلحة بحراب على رؤوسها هامات مقطوعة، ولو بحثنا عن العناصر التي كانت تتألف منها هذه الفئة التي ادعت أنها وكيلة الشعب لرأينا أن أكثريتها من اللصوص والأشرار وأن أقليتها من ذوي النفوس الساذجة الذين يسيرون حسبما يحرضهم الزعماء، وإلى أولئك اللصوص والأشرار تُعْزَى المذابح الكثيرة كمذابح شهر سبتمبر وقتل الأميرة لانبال.
حقًّا إنها أرهبت جميع المجالس التي قامت منذ المجلس التأسيسي حتى مجلس العهد وعاثت في فرنسة مدة عشر سنين، ولو أن معجزة قضت عليها لكان سير الثورة الفرنسية غير ما وقع، فقد ضرَّجتها بالدماء منذ فجرها حتى غروبها، وليس للعقل سلطان عليها، وهي للعقل من القاهرين.