روح الجماعات الثورية
(١) صفات الجماعة العامة
لا تأتي الثورات — مهما كان مصدرها — بشتى النتائج إلا بعد دخولها في نفوس الجماعات، وهي لهذا السبب تعتبر نتيجة روح الجماعات.
ومع أنني بحثت مطولًا في كتاب آخر عن روح الجماعات فإن الضرورة تقضي عليَّ بأن أذكر هنا سننها الأساسية، وعلى ذلك أقول:
إن المرء — وهو جزء من الجماعة — يختلف جدًّا عنه وهو منفرد، فشخصيته الشاعرة تفنى في شخصية الجماعة غير الشاعرة، وليس من الضروري أن يتصل المرءُ بالجماعة اتصالًا ماديًّا ليكتسب نفسية الجماعة، بل يكفي في الغالب، لتكوين هذه النفسية ما ينشأ عن بعض الحوادث من الانفعالات والمشاعر العامة.
ولروح الجماعة التي تظهر وقتيًّا مزاج خاص يتصف بتغلب اللاشعور الخاضع لأحكام منطق خاص يسمى منطق الجماعات.
ونعد من الأوصاف الأخرى للجماعات غلوها في سرعة التصديق وسرعة الانفعال وعدم التبصر وعجزها عن التأثر بالمعقول، فلا يمكن إقناعها إلا بالتوكيد والعدوى والتكرار والنفوذ، وليس للحقائق والتجارب تأثير فيها، ويمكن حملها على تصديق كل شيءٍ لعدم وجود ما هو مستحيل عندها.
وما تتصف به الجماعات من سرعة التأثر والانفعال يجعلها مفرطة في مشاعرها التي تكون ضارة أو نافعة، ويعظم هذا الإفراط في أيام الثورة، فأقل تحريض يدفع الجماعات وقتئذ إلى القيام بأقسى الأعمال، ويزيد في الثورات أيضًا ما تتصف به الجماعات في الأحوال العادية من سرعة التصديق فتعتقد صحة ما لا يمكن تصديقه من الأقاصيص، ومن ذلك رواية أرثور يانغ أن الشعب قبض، عندما كان يزور أيام الثورة الفرنسية المنابع القريبة من كلرمون، على دليله لاعتقاده أنه جاء لينسف المدينة كما أمرته الملكة، ثم أخذ الناس، بعد ذلك، يتناقلون أشنع الأحاديث عن بيت الملك عادِّين إياه من الغيلان والعفاريت.
والإنسان، وهو جزء من الجماعة، يهبط كثيرًا من سلم الحضارة فتصدر عنه عيوب الشراسة ومزاياها، أي أنواع الظلم والاستبداد وأنواع الحماسة والبطولة، فالجماعة وإن كانت من الجهة العقلية أدنى من الرجل المنفرد قد تكون أسمى منه شعورًا وخلقًا، ويسهل عليها أن تقترف إثمًا كما يسهل عليها أن تضحي بنفسها.
وتتلاشى الأخلاق الشخصية في الجماعات لما لها من التأثير في أفرادها، فيصيح فيها البخيل متلافًا والملحد معتقدًا والصالح مجرمًا والنذل بطلًا، وما أكثر أمثلة هذه التحولات أيام الثورة الفرنسية.
والإنسان يبدي، وهو مجتمع، سواء أمن المحلفين كان أم من أعضاء الپرلمان، ما لا يخطر بباله وهو منفرد من حكم في قضية أو رأي في قانون.
ومن أهم النتائج التي تنشأ عن تأثير الجماعة في أفرادها: توحيد مشاعرهم وعزائمهم، ومن هذه الوحدة النفسية تكتسب الجماعات قوة عظيمة، والباعث على تكوين هذه الوحدة النفسية هو انتشار المشاعر والحركات والأعمال بين الجماعة بالعدوى على الخصوص.
وكيف تحدث تلك الإرادة والمشاعر المشتركة؟ إنها تحدث بالعدوى، ولكن تكوين هذه العدوى يتطلب مصدرًا، وهذا المصدر هو الزعيم الذي سنتكلم، قريبًا، عن تأثيره في الحركات الثورية، فالجماعة بلا زعيم تعجز عن السير والحركة.
ويجب الاطلاع على سنن روح الجماعات؛ لتفسير حوادث الثورة الفرنسية، وإدراك سير المجالس الثورية وتطور أعضائها، وبما أن القوى اللاشعورية كانت دافعة لهؤلاء الأعضاء فإنهم كانوا يقولون ويفعلون في الغالب خلاف ما كانوا يريدون.
ومع أن فريقًا من أقطاب السياسة أدرك سنن روح الجماعات نرى أكثر الحكومات قد جهل أمرها، ولا يزال يجهله، وقد سهل هذا الجهل سقوط أكثر الحكومات، وتتضح الأخطار الناشئة عن جهل روح الجماعات عند الاطلاع على السهولة التي أسقطت بها فتنة صغيرة بعض أولياء الأمور، ولا سيما لويس فيليپ، فقد جهل القائد الذي كان يقود سنة ١٨٤٨، جنودًا كافية للدفاع عن ذلك الملك أن اختلاط الجماعة بالجند يؤدي بالتلقين والعدوى إلى شلل هؤلاء وعدم قيامهم بواجباتهم، فنشأ عن هذا الجهل خلع مليكه.
(٢) كيف تحدد روح العرق تقلبات الجماعات
يمكن تشبيه الشعب بالجماعة؛ لأنه يتصف ببعض صفاتها، إلا أن روح العرق الذي ينتمي إليه الشعب يحدد تقلبات هذه الصفات، ففي روح العرق ثبات لا عهد لروح الجماعة المتقلبة بمثله.
ومتى حصلت للشعب روح وراثية مستقرة مع الزمن تتغلب هذه الروح على روح الجماعة.
ويظهر الشعب — أحيانًا — كالجماعة بمظهر المتقلب، ولكن لنعلم أن وراء تقلبه وحماسته ومظالمه وهدمه غرائز ثابتة متأصلة تدعمها روح العرق، وقد أثبت تاريخ الثورة الفرنسية وتاريخ القرن الذي بعدها كيف تتغلب الروح الثابتة على روح التخريب في نهاية الأمر، وما أكثر المرات التي جدد فيها الشعب حالًا بناء ما هدمه من الأنظمة!
ولا يسهل التأثير في روح الشعب كما يسهل في روح الجماعات، فوسائل التأثير في روح الشعب تسير معوجة بطيئة كالجرائد والمحاضرات والخطب والكتب، ويمكن ردها إلى العناصر التي وصفناها سابقًا وهي: التوكيد والتكرار والنفوذ والعدوى.
وقد تنال العدوى النفسية شعبًا بأسره فجأة، ولكنها لا تسري في الغالب من فريق إلى آخر إلا بالتدريج، فهكذا انتشر الإصلاح الديني في فرنسة، والشعب، وإن كان يهيج أقل من الجماعة، قد تثيره بغتة بعض الحوادث كشتمه وتهديده بالغزو، وقد شوهد ذلك غير مرة أيام الثورة الفرنسية، ولا سيما حين توعد دوك دوبر نسويك الأمة الفرنسية جاهلًا نفسيتها، فهذا الدوك لم يضر بذلك لويس السادس عشر وحده، بل أضر نفسه؛ إذ أوجب سوق جيش لمقاتلته.
لقد اشتعلت قلوب الروس حينما جاوز ناپليون حدودنا، وكان ذلك الشعور ينمو كلما أوغل ناپليون في البلاد، وصار الشيوخ الذين أضاعوا أموالهم يقولون: سنجد ما نسدُّ به خَلَّتنا، وكل شيء أفضل عندنا من صلح مخزٍ، وأصبحت النساء اللاتي لهنَّ أزواج في الجيش لا ينظرن إلى ما يحيق بهم من الأخطار ولا يخشين إلا الصلح الذي هو قضاء على روسية بالموت، وكل ذلك لم يخطر ببال القيصر، ولو أراده القيصر لم يقدر عليه.
استخدم الفرنسيون في موسكو بعض الفلاحين في جيشهم ووسموهم في أيديهم كما تُوسمُ الخيل لكيلا يفرُّوا، وقد سأل أحدهم عن هذه السِّمة فقيل له إنها تدل على أنه جندي فرنسي فصرخ قائلًا: يا عجبًا أأكون من جنود إمبراطور فرنسة! ثم أخذ فأسًا وقطع بها يده ورماها على أرجل الحضور قائلًا: خذوا سمتكم هذه!
وقبض الفرنسيون في موسكو على عشرين فلاحًا لخطفهم بعض الفرنسين، فصفوهم وقرأوا عليهم حكم القتل باللغة الروسية، وكان الفرنسيون ينتظرون أن يطلبوا العفو، ولكنهم بدلًا من ذلك طلبوا إليهم أن يمهلوهم لِيصَلِّبُوا، ثم قتلوا الأول بالرصاص منتظرين أن يخاف الآخرون فيسألوا العفو ويعدوا بتحسين سلوكهم، ثم قتلوا الثاني والثالث ومن بقيَ من العشرين بالرصاص من غير أن يستمطر واحد منهم رحمة العدو.
وتكون الروح الشعبية مشبعة من خلق التدين، فالشعب يعتقد وجود كائنات علوية، كالآلهة والحكومات وأعاظم الرجال، قادرة على تحويل الأمور كما تريد، ويورث هذا الخلق عند الشعب ميلًا شديدًا إلى العبادة فيحتاج إلى معبود سواء أرجلًا كان أم مذهبًا، وعندما تخيفه الفوضى يتطلب مسيحًا منقذًا.
والشعوب تنتقل كالجماعات من العبادة إلى الحقد، إلَّا أن انتقالها هذا يقع بالتدريج في الغالب، فقد تلعن اليوم من عبدته أمس، ويشاهد هذا الانتقال في مختلف البلدان، كما دلَّ على ذلك تاريخ كرومويل الذي أسقط أسْرَةً مالكة ورفض تاج الملك، فكرومويل الذي دُفنَ كما يدفن الملوك لم يمض على موته سنتان حتى انتُزع جسده من قبره وقطع الجلاد رأسه معلقًا إياه على باب الپرلمان.
(٣) شأن الزعماء في الحركات الثورية
ذكرنا أن الجماعات والمجالس والأمم والأندية تعجز عن السير حينما تكون عاطلة من سيد يقودها، وبينتُ في كتاب آخر — مستعينًا بعلم وظائف الأعضاء — أن روح الجماعة اللاشاعرة ترتبط بروح زعيمها، فهو الذي يمنحها إرادة واحدة ويُلزمها الطاعة المطلقة.
يؤثر الزعيم في الجماعة بالتلقين على الخصوص، ويتوقف نجاحه على طريقة تلقينه، وقد أثبتت التجارب الكثيرة أن تلقين الجماعة سهل جدًّا.
والجماعة تكون بحسب أنواع التلقين، هادئة أو هائجة أو مجرمة أو باسلة مغامرة، وهذه الأحوال، وإن جاز أن تكون ذات مظهر عقلي، ليس فيها من العقل سوى الظاهر، فالمشاعر والخيالات هي التي تؤثر في الجماعة، ولا تتأثر الجماعة بالمعقول أبدًا.
ويدلنا تاريخ الثورة الفرنسية على سهولة اتباع الجماعات ما يأتي به الزعماء من التحريض المتناقض، فهي قد هتفت لفوز الجيرونديين والإيبريين والدانتونيين ورجال الهول كما هتفت لسقوطهم.
والزعماء لسيرهم سرًّا، لا يلاحظ شأنهم بعد تقادم العهد إلا بصورة مبهمة، فيجب لاستجلاء هذا الشأن أن يبحث عنه في الحوادث الحديثة التي تثبت سهولة تحريك الزعماء للناس، ولا نشير هنا إلى اعتصابات موظفي البريد والمعدنين التي قد يقال إن سببها هو استياؤهم، بل نشير إلى الحوادث التي لا منفعة للجماعة فيها، كالهرج الذي أوجبه بعض زعماء الاشتراكية في باريس يوم أُعدم في إسبانية الفوضويُّ فيرير الذي لم يسمع الناس شيئًا عنه في فرنسة، فقد كفى تحريض بعض الزعماء في باريس لسوق جيش شعبي إلى السفارة الإسبانية بقصد إحراقها، ولما دُفع المهاجمون عنها اقتصروا على تخريب بعض المخازن لإنشاء بضعة متاريس.
وقد أتى الزعماء في ذلك الحين دليلًا آخر على تأثيرهم، فلما أحسوا أن حرق سفارة أجنبية أمر خطأ أشاروا على الجماعة في يوم آخر بإقامة مظاهرة سلمية فأطاعتهم كما فعلت وقتما أمروها بالتمرد، ولا شيء أحسن من هذا المثال لإثبات شأن الزعماء وإطاعة الجماعات.