روح المجالس الثورية
(١) صفات المجالس الثورية الكبرى
المجلس السياسي الكبير، كالبرلمان، جماعةٌ، ويكون فعل هذه الجماعة قليلًا حينما تتناقض مشاعر أحزابها، وقد تعتبر هذه الأحزاب ذات المنافع المختلفة مجلسًا ذا جماعات متباينة خاضعة لزعمائها، وحينئذ لا يتجلى ناموس الوحدة النفسية للجماعات إلا في كل حزب على حدته، والأحوال الاستثنائية وحدها هي التي تجمع بين عزائم تلك الأحزاب.
ولكل من أحزاب المجلس كيان يفنى فيه رجالُهُ، فيستصوبون في المجلس ما لا يعتقدونه وما لا يريدونه، فقد أبدى فرنيو استياءه من اقتراح الحكم بالموت على لويس السادس عشر، ولكنه استحسن ذلك الاقتراح في اليوم التالي.
ويستطيع ذوو النفوذ من الزعماء أن يؤثروا، أحيانًا، في أحزاب المجلس كلها، فيؤلفوا منها جماعة واحدة، ومن ذلك تأثير عدد قليل من الزعماء في أعضاء مجلس العهد وجعلهم يأتون أعمالًا تناقض آراءهم.
أذعنت الجماعات في كل زمن للزعماء الأشداء، فأثبت لنا تاريخ المجالس الثورية مقدار خوف هذه المجالس من زعماء الفتن مع سَلْقِها الملوك بألسنة حِدَاد، فكانت تستحسن في جلسة واحدة أكثر الأمور مناقضة للمعقول خشيةً من الزعماء الجبارين.
وعندما يكسب المجلس صفات الجماعة يصبح مثلها ذا مشاعر متطرفة، أي إنه قد يصير مسرفًا في قوته كما أنه قد يصير مسرفًا في جُبْنِه، ويكون عاتيًا أمام الضعفاء ذليلًا أمام الأقوياء.
فكلٌّ يعلم درجة الخوف الذي استحوذ على البرلمان وقتما دخل عليه الشاب لويس الرابع عشر والسوط بيده، ليلقيَ خُطبته، وكلٌّ يعلم درجة الوقاحة التي أتاها المجلس التأسيسي تجاه لويس السادس عشر حينما كان هذا الملك يشعر بضعفه، وليس ذعر مجلس العهد من روبسپير بأمر مجهول.
صفات تلك المجالس سُنَّةٌ عامَّةٌ، فمن الخطأ العظيم أن يدعوَ الملك — عندما تَهِن قوته — مجلسًا للاجتماع، فقد أدى اجتماع مجلس النواب إلى إعدام لويس السادس عشر، وفقد هنري الثالث عرشه عندما غادر باريس وجمع مجلسًا نيابيًّا في بلوا، فعندما شعر هذا المجلس بضعف الملك عَدَّ نفسه سيدًا فغَيَّر الضرائب وعزل الموظفين وادعى أن لقراراته ما للقانون من القوة.
وشوهد غُلُوُّ المشاعر في مجالس الثورة الفرنسية كلها، فبعد أن انتحل المجلس التأسيسي السيادة بالتدريج أعلن أنه هو الحاكم، واعتبر لويس السادس عشر موظفًا بسيطًا، ثم جاء مجلس العهد فكان في بدء الأمر معتدلًا، ثم أفرط في إظهار سلطانه فسنَّ قانونًا حرمَ به المتهمين حقَّ الدفاع عن أنفسهم وأجاز الحكم عليهم بالشبهات، وقد أدى إمعانه في سفك الدماء إلى اقتتال أعضائه فقتل الجلاد الجيرونديين ثم الإيبريين ثم الدانتونيين ثم الروبسپيريين.
وسرعة التقلب في مشاعر المجالس توضح لنا علة إتيانها نتائج مخالفة لمقاصدها، فقد ساق المجلس التأسيسي المؤلف من الحزب الكاثوليكي والحزب الملكي فرنسة إلى جمهورية مستبدة بدلًا من الملكية الدستورية التي كان يريد إقامتها، كما ساقها إلى اضطهاد الإكليروس بدلًا من إعلاء شأن الديانة التي كان يَوَدُّ الدفاع عنها.
(٢) روح الأندية السياسية
تختلف الجمعيات الصغيرة، ذات الآراء والمعتقدات والمنافع الواحدة، عن المجالس الكبيرة بوحدة مشاعرها وعزائمها، ومن هذه الجمعيات الصغيرة نذكر المجالس الدينية وطوائف المحترفين في العهد السابق والأندية أيام الثورة الفرنسية والجمعيات السرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر ومحافل الماسون ونقابات العمال في الوقت الحاضر.
ويُقتضَى، لإدراك سير الثورة الفرنسية، أن يُبحث عن الفرق بين المجلس المتخالف والنادي المتجانس، فالأندية هي التي سيطرت على الثورة الفرنسية حتى عهد الديركتوار، وقد كانت هذه السيطرة شديدة في دور العهد كما هو معلوم.
وتخضع الأندية لنواميس روح الجماعات على رغم وَحدة عزائمها الناشئة عن فقدان الأحزاب فيها، فهي تستكين للزعماء كما شوهد في النادي اليعقوبي الذي كان يقوده روبسپير.
ويكون تأثير الزعيم في النادي — أي في الجماعة المتجانسة — أصعب مما في الجماعة المتباينة، فلكي تسير الجماعة المتخالفة يكفي أن يهتزَّ عدد قليل من أوتارها، وأما الجماعة المتجانسة — كالنادي مثلًا — حيث تكون المشاعر والمنافع واحدة فيجب لسوقها مداراة هذه المشاعر والمنافع، وبهذا قد يصبح الزعيم مرؤوسًا.
وللجماعات المتجانسة قوةٌ عظيمة في خفائها، فقد كفى أيام الكومون أي سنة ١٨٧١، بضعة أوامر خفية لإحراق أجمل أبنية باريس كدار البلدية وقصر التويلري وديوان المحاسبة وبيت جوقة الشرف، والمصادفة هي التي أنقذت وقتئذ قصر اللوڤر وما فيه من الآثار الفنية، والآن يُصغى باحترام إلى الأوامر التي يصدرها زعماء العمال المستترون على رغم مخالفتها للصواب، ولم يكن الانقياد لأندية باريس وللجمعية الثورية المتمردة أقل من ذلك أيام الثورة الفرنسية، فكانت — بأمر واحد منها — تسوق رعاعًا مسلحين إلى المجلس الاشتراعي لإملاء مطالبها عليه، وسنرى، عند بحثنا في تاريخ مجلس العهد، وقوع مثل هذه الغارات كثيرًا وانقياد هذا المجلس، الذي وصفته الأقاصيص بشدة البأس، لأوامر عصابة من الغوغاء.
تدلنا الملاحظات السابقة على ما لروح الجماعة من التأثير في إدارة أعضائها، فإذا كانت الجماعة متجانسة كان هذا التأثير عظيمًا، وإلا كان أقلَّ من ذلك، وقد يصبح عظيمًا لتغلب الجماعات النافذة في المجلس المتخالف على الجماعات الضعيفة الالتحام أو لانتشار بعض المشاعر بالعدوى بين أعضاء هذا المجلس.
وأحسنُ مثال نورده على تأثير الجماعات هو القرار الذي تنزَّلَ فيه الأشراف عن امتيازاتهم الإقطاعية في الليلة الرابعة من شهر أغسطس (أيام الثورة الفرنسية)، وسبب ذلك أن الناس وهم في الجماعة غيرهم وهم منفردون، فلو سئل كل شريف عن رأيه وهو منفرد لأجاب أنه لا يتنزل عن حقوقه أبدًا.
وقد أورد ناپليون، وهو في جزيرة القديسة هيلانة، أمثلة عجيبة على تأثير المجالس في أعضائها فقال: «كنا نصادف في ذلك الوقت أشخاصًا كانوا يسيرون على غير ما سُمع عنهم، خذ مونج مثلًا ترَ أنه صعد في منبر اليعاقبة لما اختيرت الحرب وصرح بأنه يهب ابنتيه مقدمًا للجنديين الأولين اللذين يجرحهما العدوُّ، وكان يود أن يقتل جميع الأشراف، مع أنه كان من أكثر الناس دماثة وأشدهم ضعفًا، ولو اضطر إلى ذبح فروجة ما فعل ذلك وما سمح لأحد أن يفعله أمامه».
(٣) اشتداد المشاعر التدريجي في المجالس
لو أمكننا أن نقيس بعض مشاعر الجماعات ببعض قياسًا رياضيًّا لاستطعنا أن نرسمها على خط منحنٍ يصعد من طرفه الأول ببطء ثم بسرعة ثم يهبط إلى طرفه الثاني عموديًّا، ويمكن أن تسمى هذه المعادلة معادلة تحوُّل مشاعر الجماعات المحرضة تحريضًا مستمرًّا.
ولو كانت سنن علم النفس مشابهة لسنن الميكانيكا لجاز لنا أن نعتبر أن علة ثابتة المقدار مستمرة التأثير تزيد المشاعر سرعة، فمن المعلوم أن قوة ذات مقدار ثابت واتجاه مستمر كالجاذبية المؤثرة في أحد الأجرام تحدث في الجرم حركة زائدة السرعة فتكون سرعة الجِرْم الساقط في الفضاء بتأثير الجاذبية عشرة أمتار في الثانية الأولى وعشرين مترًا في الثانية التالية وثلاثين مترًا في الثانية الثالثة.
غير أن هذا المقياس الذي قد تقاس به سرعة المشاعر التابعة لمؤثرات مستمرة لا يوضح لنا سبب توقف هذه المؤثرات بغتة عن التأثير، ويمكن إدراك هذا التوقف بقياسه على سُنن وظائف الأعضاء، فمن قواعد علم وظائف الأعضاء أن للذة والألم حُدودًا لا يمكن تعدِّيها، وأنه ينشأ عن كل تشديد على الأعضاء شلل في الحس، وأن أعضاءنا لا تحتمل غير مقدار محدود من الفرح والألم والمجهود، وأن اليد التي تشدد على مقياس القوة لا تلبث أن تستنفد قوتها فتضطر فجأة إلى الكف عن إمساكه.
ويجب، في البحث عن علة اختفاء بعض المشاعر بغتة في المجالس، أن نسلِّم أيضًا بوجود أحزاب ذات مشاعر ردعتها قوة الحزب المتغلب عن النموِّ، وقد تشتد مشاعر هذه الأحزاب عندما يضعُف الحزب المتغلب لسبب من الأسباب، وذلك كما وقع للمونتانيار بعد شهر ترميدور (الشهر الحادي عشر من السنة الجمهورية).