الفوضى النفسية أيام الثورة الفرنسية وما نسب إلى الفلاسفة من الشان
(١) مصدر المبادئ الثورية وانتشارها
حياة الإنسان الظاهرة عنوان حياة خفية نشأت عن التقاليد والمشاعر، والحياة الخفية هي التي ترشد الإنسان وتحدِث فيه مبادئ مهيمنة، وإذا أصاب هذه المبادئ وهن فإن مبادئ أخرى تنبُت في مكانها.
والغاية من هذه الملاحظات هو تنبيه القارئ إلى أن ما تأتي به الثورات من الحوادث الظاهرة هو نتيجة نشوء خفيٍّ وقع في النفوس شيئًا فشيئًا، وإلى أن البحث الدقيق في إحدى الثورات يتطلب فحص البقعة النفسية التي نبتت فيها مبادئ هذه الثورات.
يظل نشوء المبادئ التدريجي خفيًّا مدة جيل واحد في الغالب، ولا يمكن إدراك اتساع دائرته إلا بقياس ما عند الطبقات الاجتماعية من الأحوال النفسية في أول الجيل وآخره، ويجب للاطلاع على الأفكار المختلفة التي كان ينظر بها العلماء إلى الملكية في عهد لويس الرابع عشر ولويس السادس عشر أن نقابل نظريات بوسويه بنظريات تورغو السياسية، فهنالك نرى أن بوسويه، الذي كان يقول: إن سلطة الحكومة مستمدة من الله الذي يحاسب الملوك وحده، وإن الملوك غير مسؤولين أمام الناس — كان يُعَبِّر عن إيمان الناس بالملكية المطلقة إيمانًا دينيًّا، ونرى أن ما كتبه الوزراء المصلحون — كالوزير تورغو — كان مشبعًا من روحٍ أخرى تعترف بحق الأمة من دون حق الملوك الإلهي.
والحوادث التي أوجبت هذا التحول كثيرة، منها الحروب والقحط والضرائب والبؤس العام الذي وقع في آخر عهد لويس الخامس عشر، فقد أقامت هذه الحوادث مقام احترام سلطة الملك — التي تزعزعت بالتدريج — ثورة في النفوس مستعدة للظهور عند سنوح أول فرصة.
ومتى بدأ المزاج النفسي في الانحلال لم يلبث أن يتم انحلاله، بهذا نفسر سرعة انتشار كثير من المبادئ بين الناس أيام الثورة الفرنسية، فهذه المبادئ التي لم تكن حديثة لم يظهر تأثيرُها قبل حدوث تلك الثورة؛ لعدم مصادفتها بيئة صالحة، وإن شئت فقل إن المبادئ التي استهوت الناس أيام الثورة الفرنسية رددها البشر كثيرًا في الماضي، فهي التي أوحت إلى الإنكليز خطتهم السياسية فيما مضى، وقد دافع علماء اليونان واللاتين عن الحرية منذ ألفي سنة لاعنين المستبدين معلنين ما للسلطة الشعبية من الحقوق، ومع أن أبناء الطبقة الوسطى تعلموا جميع هذه المسائل كآبائهم في الكتب المدرسية فإنها لم تحرك ساكنهم لبُعد الوقت الذي تستطيع أن تهيجهم فيه، وكيف تؤثِّر في الأمة في زمن تعودت فيه احترام المراتب؟
وتأثير الفلاسفة في حدوث الثورة الفرنسية غيرُ ما يعزى إليهم، فهم لم يكتشفوا شيئًا جديدًا، وإنما أنموا روح الانتقاد التي لا تقاومها المعتقدات عندما تبدأ في الانحلال، وقد نشأ عن نمو روح الانتقاد تدرُّج الناس إلى ازدراء ما كان محترمًا، ومتى اضمحلت التقاليد والحُرُمات سقط البنيان الاجتماعي بغتةً.
أثَّر الفلاسفة في الطبقات المتعلمة، وعجزوا عن التأثير في الشعب الذي يقتدي ولا يبتدع، وكان أكثر المصلحين حماسة في ذلك الزمن من أصحاب الثروة، وكان الأشراف ينشطون إلى مباحث العقد الاجتماعي وحقوق الإنسان ومساواة الوطنيين، ويهتفون للروايات التمثيلية المنتقدة أصحاب الرتب العالية واستبدادَهم وعدم أهليتهم.
ومتى فقد الناس ثقتهم بأركان المجتمع عمهم اضطراب فاستياء، وشعرت طبقات المجتمع بزوال العوامل التي كانت تسيِّرُها.
نعم، لم تكفِ روح النقد في الكتاب والأشراف لزعزعة أثقال التقاليد، ولكن تأثيرها دُعم بمؤثرات قوية أخرى، وقد قلنا آنفًا إن الحكومة الدينية والحكومة المدنية في الدور السابق كانتا موصولتين إحداهما بالأخرى وصلًا وثيقًا، فكان صدم الأولى يصيب الثانية بحكم الضرورة، والآن نقول: إن التقاليد الدينية عافتها نفوس المتعلمين قبل أن يتزعزع المبدأ الملكي، وذلك بسبب تقدم العلم الذي أوجب انتقال النفوس من عالم اللاهوت إلى عالم العلم.
فالناظر كان يشعر — بفعل هذا النشوء — بأن التقاليد التي قادت الناس قرونًا كثيرة ليست ذات قيمة، وأن من الضروري تبديلها، ولكن أين كان يبحث عن عصا السحر القادرة على إقامة بنيان اجتماعي جديد مقام البُنيان السابق؟
وقع الإجماع على وصف العقل بالقدرة التي خسِرتها الآلهة والتقاليد، وهل كان يُشَك في قدرته على تحويل المجتمعات وهو الذي كثرت اكتشافاته؟ هكذا عظم شأن العقل في النفوس وتضاءل شأن التقاليد.
والمبدأ، الذي أسند تلك القدرة إلى العقل، وأوقد نار الثورة الفرنسية، وَسَيَّرها من أولها إلى أخرها، هو الذي استعان به الناس على تحطيم قيود الماضي وإقامة مجتمع جديد.
ويلَخَّص ما هبط ببطء إلى الشعب من نظريات الفلاسفة أن جميع ما عُدَّ في الماضي محترمًا أصبح غير جدير بالاحترام، وأنه لم يبقَ محل لإطاعة السادة السابقين وعدم تعدي الحدود.
كانت مجاوزة الناس للحدود أول نتيجة لهذه النفسية الجديدة، وقد ذكرت مدام فيجيلبران أن العوام كانوا في متنزه لونشان يرتقون إلى مرقى العربات قائلين: «ستكونون في العام القادم خلفنا ونكون نحن في العربات».
كان صغار الإكليروس حاقدين على كبارهم، وكان أشراف الولايات حاقدين على الأشراف المقربين، وكان صغار الأمراء الإقطاعيين حاقدين على كبرائهم، وكان سكان القرى حاقدين على سكان المدن.
ثم استولت تلك الحالُ النفسية، التي انتقلت من الأشراف والإكليروس إلى الشعب، على الجيش أيضًا، قال نيكر حين افتتاح مجلس النواب: «لسنا واثقين بالجيوش»، وأما الضباط فأصبحوا من أنصار المذهب الإنساني، وأخذوا يشتغلون بالفلسفة، وأما الجنود فكانوا لا يطيعون وإن لم يشتغلوا بالفلسفة، وذلك لدلالة مبادئ المساواة في مداركهم السخيفة على بُطلان الرئاسة والطاعة.
إن الذي قضى على الملكية هو تخلي الجيش عن الملك، وانتحال الجيش مبادئ الطبقة الثالثة.
(٢) تأثير فلاسفة القرن الثامن عشر في تكوين الثورة الفرنسية، نفورهم من الديموقراطية
يجب ألَّا يُعدَّ الفلاسفة، الذين ظُن أنهم نفخوا في الناس روح الثورة، أشياعًا للحكومة الشعبية، وإن قاتلوا بعض الأوهام والعادات السيئة، فقد كانوا يمقتون الديموقراطية التي بحثوا عن شأنها في تاريخ اليونان؛ لعلمهم ما تجر وراءها من التخريب والاضطهاد، وهي التي عرِّفت في زمن أرسطو: «بأنها حكومة تناط فيها القوانين وكل أمر بعوام يعتبرون أنفسهم من الجبابرة ويسيرون كما يريد بعض المشاغبين».
عندما يقرأ الإنسان تاريخ مجالس أثينة وانقسام أحزابها وفتنها واضطهاد أشرافها وقتلِهم ونفيهم، كما كان يريد أحد الخطباء المشاغبين، يحكم بأن ذلك الشعب الفخور كان، بالحقيقة، عبدًا لفئة من الثرثارين المحتالين الذين كانوا يقلبونه كأنه ريشة في مهب الريح، ولو بُحِث في تاريخ مكدونية الملكية ما وُجدت فيه أمثلة ظلم واستبداد كما وجد في أثينة.
كان الناس أحرارًا في ظل القوانين فصاروا يرون الحرية في مخالفة القوانين، وأصبحوا يُسَمُّون ما هو حكمة سخافة وما هو مبدأ عُسرًا، وكان ما يدخل بيت المال يجمع من الأفراد فأصبح بيت المال ملكًا للأفراد، فالجمهورية إذن ليست سوى هيئة مستمدة قوتها من قوة بعض الناس.
يظهر في الحكومة الشعبية — أي الجمهورية — جبابرة صغار فيهم ما في الجبَّار الكبير من النقائض، ومتى أصبح أمرُهم لا يطاق قبض على زمام الحكم جبَّار واحد فخسر الشعب كل شيء.
لذلك وجب اجتناب ما تجر إليه الديموقراطية من المغالاة في المساواة المؤدية إلى الحكم المطلق فإلى غزو الأجنبي للبلاد.
والحكومة الإنكليزية الدستورية المانعة للملكية من التحول إلى حكومة مستبدة هي مَثَل مونتسكيو الأعلى، غير أن تأثير هذا الفيلسوف في الثورة الفرنسية كان ضعيفًا جدًّا.
وأما واضعو دائرة المعارف فلم يمارسوا السياسة قط، وربما استثنينا منهم أولباك الذي كان، مثل ڤولتير وديدرو، ملكيًّا متمذهبًا بمذهب الحرية، فهؤلاء الثلاثة الذين كانوا يدافعون عن الحرية الشخصية على الخصوص ويقاتلون عدوة الفلاسفة، الكنيسة، لم يكونوا اشتراكيين أو ديموقراطيين، ولهذا السبب لم تنتفع الثورة الفرنسية بشيء من مبادئهم.
أرى الديموقراطية لا تلائم إلَّا بلادًا صغيرة، فالبلاد الصغيرة التي تتمتع بالحكم الديموقراطي — وإن وقع فيها كثير من الزلات، كما في أديار الرهبان — لا تقع فيها ملاحم كملحمة سان بارتلمي، ولا مذابح كمذابح إيرلندة وصقلية ومحكمة التفتيش، ولا يحكم فيها بالأشغال الشاقة على من يغترف من البحر ماء لا يؤدي ثمنه، وتكون تلك الجمهورية غير ذلك إذا تألفت من الشياطين في ناحية كبيرة من نواحي الجحيم.
إذن، كانت أفكار هؤلاء الذين ظُنَّ أنهم هيأوا الثورة الفرنسية قليلةَ الهدم، ومن الصعب أن يعزى إليهم تأثير كبير في سيرها.
ويمكننا أن نشك في ميول روسو الديموقراطية، فهو يرى أن خططه في تجديد المجتمع على أساس السيادة الشعبية لا تلائم غير عدد قليل من البلدان، وعندما طلب منه البولونيون أن يرسم لهم دستورًا ديموقراطيًّا نصحهم بأن ينتخبوا ملكًا وراثيًّا.
وأكثر نظريات روسو انتشارًا هي نظريته التي فصَّلها في كتاب العَقْد الاجتماعي وادعى فيها — مع كثير من رجال عصره — أن الرجل الفطري كان كاملًا لم تفسده المجتمعات، وأن المجتمعات إذا تغيرت، بما يسن من القوانين، عادت سعادة الأجيال الأولى، وأن الناس كلهم متماثلون في كل زمان ومكان، وأنه يجب أن تسن قوانين واحدة وأنظمة واحدة، ويظهر أن اعتقاد الناس في ذلك الحين كان كاعتقاد روسو، فاسمع ما قاله هلفيسيوس: «تُشتق فضائل الأمة ونقائصها من قوانينها، وهل يشك في أن الفضيلة عند الأمم جميعها هي نتيجة حكمة القابضين على زمام الأمور؟»
(٣) مبادئ الطبقة الوسطى الفلسفية أيام الثورة الفرنسية
مع أنه يصعب تعيين مبادئ الطبقة الوسطى الفلسفية والاجتماعية أيام الثورة الفرنسية يمكن ردُّها إلى بضع قواعد ملخصة في بيان حقوق الإنسان.
ويظهر أن فلاسفة القرن الثامن عشر لم يؤثروا في أبناء الطبقة الوسطى كثيرًا؛ إذ لم يستشهد هؤلاء أيام الثورة الفرنسية بأولئك إلا قليلًا، وإنما كان سحر خواطر اليونان والرومان لهم يدفعهم إلى مطالعة كتب أفلاطون وپلوتارك، ولهذا السبب كانوا يودون نشر دستور إسپارطة وعاداتها وتقشفها وقوانينها.
ولم يقل أبناء الطبقة الوسطى الذين قاموا بالثورة الفرنسية — وهم الذين عدَّهم الناس من المبتدعين الجاسرين السائرين على نهج الحكماء — إنهم ابتدعوا شيئًا، بل أعربوا عن رغبتهم في الرجوع إلى ماضٍ بعيد، ولم ينظر عقلاؤهم إلى ما كان في القرون الخالية بعين الجدِّ، فقد فكروا في انتحال نظام إنكلترة الدستوري الذي امتدح مونتسيكو وڤولتير منافعه ونسجت الأمم على منواله في نهاية الأمر من غير ثورة، حقًّا كان يطمع أولئك في إصلاح النظام الملكي، لا في هدمه، غير أن المناهج التي سُلِكت أيام الثورة اختلفت عما اقترحوه من الطرق والأساليب.