روح المجلس التأسيسي
(١) المؤثرات النفسية أيام الثورة الفرنسية
أثَّرت، في تكوين الثورة الفرنسية وفي دوامها، عناصر نفسية وعاطفية ودينية واجتماعية، تابع كل واحد منها لمنطق خاص، ونشأ عن عدم التفريق بين هذه المؤثرات أن فسر كثير من المؤرخين ذلك الدور تفسيرًا سيئًا.
كان عمل العقل الذي اتخذ للتفسير والإيضاح ضعيفًا، فهو — وإن أعد الثورة الفرنسية — لم يبدُ تأثيره إلا في أوائلها، أي أيام كان أمرُها قبضة أبناء الطبقة الوسطى الذين وضعوا لوائح إصلاح الضرائب وإلغاء امتيازات الأشراف، إلخ.
وعندما تغلغلت تلك الثورة في الشعب تقهقر عنصر العقل أمام عناصر العاطفة والاجتماع، ودفع عنصر التدين الجيوش إلى التعصب وأوجب انتشار المعتقد الجديد في العالم.
وربما كان العامل الديني أهم تلك المؤثرات، فلا يمكن إدراك الثورة الفرنسية إلا إذا اعتبرنا تكوينها مثل تكوين الثورات الدينية كثورة الإصلاح الديني مثلًا.
حاول الفلاسفة، زمنًا طويلًا، إثبات ما للمعتقدات من القيمة العقلية الضعيفة، والآن أخذوا يفسرون شأنها تفسيرًا أتم وأحسن، فاضطروا إلى الإقرار بأنها ذات تأثير كافٍ لتغيير عناصر الحضارة.
تسخِّر المعتقدات الناس غير مستعينة بالعقل، وعندها من القدرة ما يكفي لتحويل الأفكار والمشاعر نحو غرض واحد، ولا تضاهي قوة العقل المطلق قوتها، فليس هو الذي يلقي الحمية في قلوب الناس.
ويوضح لنا اللباس الديني الذي لبسته تلك الثورة قوة انتشارها وما لها من النفوذ في الحال والماضي، والمؤرخون الذين اعتبروا هذا الحادث العظيم دينًا جديدًا قليلون، وأظن أن توكفيل هو أول من انتبه لذلك، فقد قال: «إن الثورة الفرنسية ثورة سياسية سارت على نمط الثورات الدينية، وتوغلت مثلها في البلاد بالدعوة الإرشاد».
وإذا ثبت لدينا ما في الثورة الفرنسية من عنصر ديني سهُل علينا إيضاح ما أوجبته من هياج وتخريب وعُدوان وعدم تسامح وحروب وفناء، فقد أثبت التاريخ أن هذه الأمور من عادتها أن تنشأ عن المعتقدات.
وعنصر التدين هو دِعامة المعتقدات، ولا يلبث أن ينضم إليه ما ينشأ عن عنصر العاطفة من مشاعر وأهواء ومنافع، ثم يأتي العقل فيكتنف ذلك كله ليسوِّغ حوادث لم تنشأ عنه قط.
فقد كان كل إنسان أيام الثورة الفرنسية يُلبس المعتقد الجديد ثوبًا عقليًّا مختلفًا باختلاف رغائبه، فرأت الأمم فيها إلغاء ما كابدته من سلسلة مراتب واستبداد ديني وظلم سياسي، وظن الكاتب — مثل غوتيه — والفلاسفة — مثل كانت — أنهم اكتشفوا فيها انتصار العقل، وأتى الأجانب — مثل هومبولت — بلاد فرنسة ليستنشقوا فيها نسيم الحرية ويشاهدوا جنازة الظلم والاستبداد.
غير أن هذه الأوهام لم تدم طويلًا، فقد انكشف الغطاء بسرعة عن حقيقة تلك الرواية المحزنة.
(٢) انقضاء العهد السابق، اجتماع مجلس النواب
تتكون الثورات في عالم الفكر قبل أن تنشب، والثورة الفرنسية التي أعدتها الأسباب المذكورة آنفًا بدأت تظهر في أيام لويس السادس عشر حين كان أبناء الطبقة الوسطى يكثرون من طلب الإصلاح.
واطلع لويس السادس عشر على ما في الإصلاح من فوائد، ولكنه عجز، لضعفه، عن إلزام الأشراف والإكيروس بالإصلاح، كما أنه عجز عن تأييد وزرائه المصلحين كمالزرب وتورغو.
أوجبت المجاعات شقاء الناس وزيادة الضرائب فدُعي الأعيان؛ ليعالجوا الأزمة المالية فرفضوا المساواة في الضرائب، ولم يسلموا إلا بإصلاح زهيد لم يرضَ پرلمان باريس أن يسجله فانفض، وشاطرته پرلمانات الولايات رأيه فانفضت أيضًا، هنالك استصرخت هذه الپرلمانات الرأي العام على مطالبة الحكومة بدعوة مجلس النواب الذي لم يجتمع منذ قرنين.
وافقت الحكومة الرأي العام على ذلك، فانتخب الناخبون، وعددهم خمسة ملايين، منهم ١٠٠٠٠٠ ناخب من الإكليروس و١٥٠٠٠٠ ناخب من الأشراف، ١٢٠٠ نائب، ومن هؤلاء النواب ٥٨٧ كانوا يمثلون الطبقة الثالثة، ومنهم ٣٠٠ كانوا يمثلون الإكليروس.
وقد بدت اختلافات روحية بين أولئك النواب منذ الاجتماعات الأولى، فلما ستر نواب الأشراف والإكليروس — في الاجتماع الأول — رؤوسهم أمام الملك على حسب امتيازاتهم وأراد نواب الطبقة الثالثة تقليدهم احتج أولئك على هؤلاء، ولما دعا نواب الطبقة الثالثة نواب الأشراف والإكليروس المجتمعين في رَدْهَتين بعيدتين إلى اجتماع مشترك لكي يفحصوا وثائق النيابة رفض الأشراف ذلك، فعندئذ اعتبر نواب الطبقة الثالثة أنفسهم ممثلين ﻟ ٩٥ في المئة من مجموع الأمة بناء على اقتراح الشماس سيابس، وهكذا لاحت بوادر الفتنة.
(٣) المجلس التأسيسي
أخذ مجلس النواب يقول ويفعل قول الآمر الناهي وفعله منذ البداءة، ثم ادَّعى أن وضع الضرائب من خصائصه، فاعتدى بذلك على حقوق الملك.
وقد كانت مقاومة لويس السادس عشر ضعيفة، فاكتفى بإغلاق ردهة مجلس النواب، فاجتمع النواب في ردهة (جودوپوم) حيث أقسموا أنهم لا يتفرقون قبل أن يسنوا دستورًا للمملكة، ثم انضم إليهم أكثر نواب الإكليروس، وقد نقض الملك قرار المجلس فأمر النواب بالانصراف، وعندما دعا رئيس الحجاب المركيز (دو دروبريزي) النواب إلى العمل بأمر الملك صرح رئيس المجلس «بأن الأمة وهي مجتمعة لا تتلقى أمرًا من أحد»، وخاطب ميرابو رسول الملك قائلًا: «إن المجلس الذي اجتمع بأمر الأمة لا تفضه إلا قوة الحراب» حينئذ أذعن الملك، وفي اليوم التاسع من يونيه سمى النواب مجلسهم المجلس التأسيسي، وهكذا اعترف الملك بسلطة جديدة كانت مجهولة في الماضي، أي بسلطة الأمة التي يمثلها نوابها، فطُويت بذلك صحيفة الملكية المطلقة.
ولما أحس لويس السادس عشر أنه في خطر دائم أقام في أطراف فرساي كتائب من مرتزقة الأجانب، فطلب إليه المجلس أن يسرحها، فامتنع وعزل نيكر، وأقام في مكانه المرشال دوبروغلي المشتهر بحزمه، وعند ذلك قام كاميل ديمولان وغيره من الخطباء يعظون الجماعة ويدعونها إلى الدفاع عن الحرية، ثم قرعوا النواقيس تهييجًا للناس، وجنَّدوا ١٢٠٠٠ جندي، واستولوا على مستودع البندقيات والمدافع، وساقوا عصابات مسلحة في ١٤ من يوليه إلى الباستيل فسلم هذا الحصن بعد دفاع استمر بضع ساعات.
إن الاستيلاء على الباستيل حادث عظيم، لا في تاريخ فرنسة وحدها، بل في تاريخ أوربة كلها، وقد فتح دورًا جديدًا في تاريخ العالم.
في هذا القول البسيط شيء من المبالغة، فقيمة ذلك الحادث أنه أعطى الشعب، أول مرة، مثالًا واضحًا على وهن سلطة الملك التي كانت مخيفة، ومتى تزلزل مبدأُ السلطة انحل سريعًا، وما الشيء الذي لا يطلب من الملك العاجز عن الدفاع عن حصنه الخاص حيال حَملات الشعب؟ هكذا أصبح السيد، ذو الحول والقوة في الماضي، لا يقدر على شيء.
وقد أخذت علامات التمرد تظهر على مرتزقة الأجانب بعد الاستيلاء على الباستيل، فرضي لويس السادس عشر بتسريحهم، ثم استدعى نيكر ثانية وذهب إلى دار البلدية فاستصوب الأمور التي وقعت، واستحسن الراية الجديدة ذات الألوان الثلاثة، الأزرق والأبيض والأحمر، التي أتى بها قائد الحرس الوطني لافايت، والتي كانت تجمع بين راية الملك وراية مدينة باريس.
ويدُلنا الاستيلاء على الباستيل على الوقت الذي شرع الشعب يقبض فيه على ناصية الحكم، فقد أخذت مداخلة الشعب المسلح تظهر بعد ذلك الاستيلاء في مذاكرات المجالس الثورية.
وقد عجب كثير من مؤرخي الثورة الفرنسية لهذه المداخلة وحدَّثوا عنها باحترام، فلو بحث هؤلاء بحثًا سطحيًّا، على الأقل، عن روح الجماعات لرأوا أن الشعب لم يفعل غير ما أراده بعض الزعماء، وأن من الخطأ قوَلهم: إن الشعب استولى على الباستيل، وهجم على التويلري، واحتل مجلس العهد إلخ. فالقول الحق هو: أن بعض الزعماء جمعوا — بواسطة الأندية — عصابات من الشعب ساقوها إلى الباستيل والتويلري إلخ، وأن هذه الجماعات نفسها هي التي هجمت أيام الثورة الفرنسية على أشد الأحزاب اختلافًا ودافعت عنها على حسب أهواء الزعماء، ولم يكن للجماعات غير رأي رؤسائها.
وعَقَبَ الاستيلاءَ على الباستيل تخريبُ حصون أخرى بفعل التلقين، فاعتبر الفلاحون كثيرًا من القصور باستيلات صغيرة وطفقوا يحرقونها مقتدين بسكان باريس، وكان غضبهم يشتد كلما وجدوا في تلك القصور صكوكًا إقطاعية.
والمجلس التأسيسي، الذي أظهر غطرسة أمام الملك، كان كثير الجبن تجاه الشعب، فقد وافق في الليلة الرابعة من شهر أغسطس بالإجماع على اقتراح الشريف الكونت دونواي القائل بإلغاء حقوق الأمراء الإقطاعيين راجيًا بذلك ختام المشاغبة، وقد تمت هذه الموافقة الإجماعية التي ألغيت بها امتيازات الأشراف دفعة واحدة وأعضاء المجلس يتعانقون باكين من شدة الفرح، ويتضح لنا مثل هذا العارض الحماسي عند النظر إلى فعل العدوى النفسية في الجماعات، ولا سيما في المجالس التي استحوذ عليها الخوف.
ولو أقلع الأشراف عن امتيازاتهم قبل ذلك ببضع سنين لاجتُنبت الثورة الفرنسية، ولكن ما العمل وقد وقع ذلك بعد أوانه، ولا يفيد ترك الحقوق كرهًا غير زيادة رغائب من تركت لأجلهم، فيجب في عالم السياسة كشف عواقب الأمور ومنح المطاليب طوعًا قبل أن يحل الوقت الذي تمنح فيه كرهًا.
تردد لويس السادس عشر مدة شهرين في الموافقة على قرار المجلس التأسيسي الذي أصدره ليلة ٤ من أغسطس، ثم ذهب إلى فرساي فساق إليه الزعماء عصابة لا تقل عن سبعة آلاف شخص، فكسرت هذه العصابة حواجز القصر الملكي وقتلت بعض الحراس، وجيء بالملك وأسرته إلى باريس بين جماعة تصرخ وأناس يحملون على رؤوس حرابهم هامات قتلى الحرس.
عظمت شوكة الشعب وأصبح الملك قبضته، أي تحت رحمة الأندية وزعمائها، ودامت هذه الشوكة الشعبية عشر سنين فكانت ركن الثورة الفرنسية الرَّكين.
وعلى رغم إعلان المجلس التأسيسي مبدأ سيادة الشعب جاوزت الفتن الشعبية حدَّ ظنونه فرأى أنه، بوضعه دستورًا يضمن للناس سعادة أبدية، يعودُ الجميع إلى النظام.
كان سن القوانين ثم نقضها ثم تجديدها شغل المجالس أيام تلك الثورة، وكان ذلك ناشئًا عن اعتقاد أعضاء هذه المجالس أن القوانين قادرة على تحويل المجتمعات، ومن هذه القوانين البلاغ الذي نشره المجلس التأسيسي ولخص فيه مبادئه في حقوق الإنسان ريثما يضع دستور البلاد.
ولم يؤثر الدستور والبلاغات والخطب في الفتن الشعبية، وقد عانى المجلس التأسيسي الذي دبَّ الشِّقاق فيه استبداد الحزب المتطرف المستند إلى الأندية، فقد كان أصحاب النفوذ من الزعماء — كدانتون وكامبل ديمولان ومارا وإيبر — يهيجون الرَّعاع بخطبهم وجرائدهم فيتسلطون بذلك على المجلس التأسيسي.
ولم تتحسن مالية البلاد في أثناء هذه الفتن، فأمر المجلس التأسيسي في ٢ من نوفمبر سنة ١٧٨٩ أن يعالجها بالاستيلاء على أملاك الكنيسة، وقُدِّرت محاصيل هذه الأملاك والزكاة التي كانت تأخذها الكنيسة من المؤمنين بمبلغ مئتي مليون وقُدِّر ثمنها بمبلغ ثلاثة مليارات، وكانت محاصيل هذه الأملاك توزع على بضع مئات من الأساقفة وإكليروس البلاط، فجعلت هذه الأملاك — التي سُمِّيت فيما بعد الأملاك الوطنية — ضمانًا للأوراق النقدية، وصدر في المرة الأولى من هذه الأوراق أربعمئة مليون فأقبل عليها الجمهور في البداءة، ولكن مقدارها زيد في دور العهد ودور الديركتوار فبلغ ٤٥ مليارًا فأصبحت ورقة الليرة لا تساوي سوى بضعة سنتيمات.
ولويس السادس عشر الضعيف أغرته حاشيته فحاول، عبثًا، ألا يوافق على قرارات المجلس التأسيسي، وتألفت في المدن والقرى بلديات ثورية يخفرها حرس وطني محلي، وكانت المدن المجاورة تتفق على الدفاع عن نفسها عند الحاجة، وأرسلت هذه المدن في ١٤ من يوليه سنة ١٧٩٠، حرسًا وطنيًّا مؤلفًا من ١٤٠٠٠ رجل إلى حي شاندومارس في باريس حيث أقسم الملك يمين الإخلاص للدستور الذي سنَّه المجلس الوطني.
وعلى رغم هذه اليمين تعذر الائتلاف بين مبادئ الملكية الوراثية والمبادئ التي أعلنها المجلس، فالتجأ الملك إلى الفرار، فقُبِضَ عليه في فارين، وسيق إلى باريس أسيرًا، فأُسكِن قصر التويلري، ومُنِع من التصرف في سلطته، وأخذ المجلس التأسيسي على عاتقه القيام بأمور الحكومة، وما وُجد ملك في موقف حرج كموقف لويس السادس عشر، الذي تخلى الجيش عنه بعد فراره، ولو كان له دهاء ريشليو ما كفاه لخروجه من هذا المأزق.
لا شك في أن أكثرية الأمة الفرنسية كانت ملكية أيام المجلس التأسيسي الذي هو مَلَكي أيضًا، وكان من المحتمل أن يظل الملك قابضًا على زمام الحكم لو رضي بنظام ملكي دستوري، ولم يكن عليه إلا أن يأتي بعمل قليل ليتفاهم هو والمجلس، ولكن هذا العمل كان يتعذر على رجل مثله، ولو رضي بتعديل النظام الملكي الذي انتقل إليه عن الآباء لانتصبت أمامه أشباح أجداده وحالت دون هذا، أضف إلى هذا أنه كان يستحيل عليه أن يتغلب على أسرته وعلى الإكليروس والأشراف والبطانة، أي على الطبقات التي استند إليها النظام الملكي والتي كانت ذات قوة تضاهي قوة الملك تقريبًا، والقوة هي التي كانت تُكره الملك على الإذعان، واستغاثته بالأجنبي تدلنا على أن اليأس بلغ فيه منتهاه حينما رأى تداعي أركانه الطبيعية كلِّها.
ولما رأى زعماء الأندية أن المجلس التأسيسي ملكي من كل وجه سلطوا عليه الشعب الذي لم يلبث أن طلب منه أن يجمع مجلسًا جديدًا ليحاكم لويس السادس عشر، وعزم المجلس التأسيسي على الدفاع حيال ذلك، فساق — بقيادة لافايت — كتيبة من الحرس الوطني إلى حي شاندومارس لتشتيت الجماعة المحتشدة هناك.
إلا أن المجلس التأسيسي لم يُصر على المقاومة طويلًا، فقد نشأ عن شدة جبنه أمام الشعب انتزاعه كل يوم شيئًا من امتيازات الملك وسلطته، حتى صار الملك موظفًا بسيطًا.
نعم، ظن المجلس التأسيسي أنه قادر على القيام بأعباء السلطة التي انتزعها من الملك، ولكن ذلك كان فوق طاقته، فالسلطة الكثيرة التجزئة لا عمل لها.
لم يلبث المجلس التأسيسي، الذي ظنَّ أنه قبض على مختلف السلطات وأنه يتصرف فيها على طريقة لويس الرابع عشر، أن عجز عن العمل، وكلما ضعفت قدرته تفاقمت الفوضى، ولم يكفَّ الزعماءُ طرفة عين عن تهييج الشعب، فأصبحت الفتنة شاملة للبلاد كلها، واستولى على المجلس كل يوم فئة من المشاغبين المتجبرين فتملي عليه رغائبها متوعدة منذرة.
ولم تكن تلك الفتن الشعبية، التي أطاعها المجلس على رغمه، غريزية، بل كانت صادرة عن الأندية والجمعية الثورية، وكان النادي اليعقوبي أقوى الأندية، ولسرعان ما أَسَّسَ في الولايات خمسمئة فرع له، واستمر سلطانه أيام الثورة الفرنسية كلها، وتسلط على فرنسة جميعها بعد تسلُّطه على المجلس التأسيسي، ولم يزاحمه غير الجمعية الثورية التي انحصر نفوذها في باريس، ولما صار الشعب غير راضٍ عن المجلس التأسيسي، لضعفه وعجزه، أسرع هذا المجلس في إتمام الدستور الجديد لينفضَّ بعد ذلك، وكان هذا المجلس سخيفًا في قراره الأخير الذي صرَّح فيه أنه لا حق لأعضاء المجلس التأسيسي أن يكونوا أعضاء في المجلس الاشتراعي القادم، فقد حُرِم أعضاءُ المجلس الاشتراعي تجربة سلفهم بذلك.
تم وضع الدستور في ٣ من سبتمبر سنة ١٧٩١، وفي ١٣ منه وافق عليه الملك الذي أعاد إليه المجلس سلطته، وقد نص هذا الدستور على حكومة نيابية فعهد في السلطة الاشتراعية إلى نواب ينتخبهم الشعب وعهد في السلطة التنفيذية إلى ملك يحق له أن يرفض قرارات المجلس، ثم قسم المملكة إلى مديريات بدلًا من تقسيمها السابق إلى ولايات، وألغى الضرائب القديمة مقيمًا في مكانها ما هو معمول به حتى الآن من ضرائب مقررة وغير مقررة.
وقد ظن المجلس التأسيسي الذي غير تقسيم المملكة وقلب نظامها الاجتماعي القديم أنه قادر على تحويل نظامها الديني أيضًا، فأراد أن يستولي على نفوذ البابا في البلاد، وذلك بأن يجعل الشعب منتخبًا لرجال الإكليروس، وقد أدى هذا القانون المدني الإكليروسي إلى اضطهادات دينية استمرت حتى العهد القنصلي، ونشأ عنها امتناع ثلثي القساوسة عن حلف يمين الإخلاص.
أتت الثورة الفرنسية في دور المجلس التأسيسي، الذي استمر ثلاث سنين، بنتائج عظيمة، وربما كان أهمها نقل ثروة أصحاب الامتيازات إلى أبناء الطبقة الثالثة، فأدى ذلك إلى ظهور أنصار ملتهبين حماسة للنظام الجديد، وبعد أن أدرك أبناء الطبقة الثالثة الذين حلوا محل الأشراف، والفلاحون الذين اشتروا الأملاك الوطنية، أن إعادة النظام السابق تحرمهم جميع تلك الفوائد دافعوا عن الثورة الفرنسية أشد دفاع، وبلغت قوتهم — وهم الذين تغلبوا على كل معارضة — مبلغًا أصبحوا به قادرين على الذود عن المثل الأعلى الجديد وعن منافعهم المادية، وسنرى أن تأثير هذين العاملين أعان على قيام الإمبراطورية.