حكومة مجلس العهد
(١) شأن الأندية والجمعية الثورية أيام مجلس العهد
بيَّنَّا آنفًا تأثير زعماء الأندية والجمعية الثورية في المجلس التأسيسي والمجلس الاشتراعي، وقد عظُم أمر هذا التأثير في مجلس العهد، فلم يكن تاريخ مجلس العهد بالحقيقة سوى تاريخ الأندية والجمعية الثورية التي تغلبت عليه، ولم تستعبد الأندية مجلس العهد وحده، بل استعبدت فرنسة جميعها، فكانت أندية المديريات التي كان يسوسها نادي العاصمة تَرقُب القضاة الموظفين وتنفذ الأوامر الثورية.
وعندما كانت الأندية، أو الجمعية الثورية، تستصوب بعض الأمور كانت ترسلها إلى مجلس العهد ليوافق عليها، فإذا خالفها المجلس ساقت إليه وفودها، أي سلطت عليه عصابات مسلحة من الرعاع حاملة أوامر لا مناص من إجازتها، وقد بلغ شعور الجمعية الثورية بقوتها مبلغًا دفعها غير مرة إلى مطالبة مجس العهد بطرد من كانت تمقته من النواب.
وكان أعضاء مجلس العهد من المثقفين، وكان أكثر أعضاء الجمعية الثورية والأندية من صغار التجار والمحترفين والعمال وغيرهم، ممن يمتثلون أمر الزعماء كدانتون وكاميل ديمولان وروبسپير، وكان تأثير الجمعية الثورية في باريس أشدَّ من تأثير الأندية، فقد جمعت لنفسها جيشًا ثوريًّا، وكانت تقود ثماني وأربعين لجنة من الحرس الوطني لا تطلب غير القتل والتخريب والنهب، والنظام الذي أذلت هذه الجمعية الثورية به باريس كان هائلًا، ومنه تفويضُها إلى السكَّاف شالاندون أن يرقُب جزءًا من العاصمة ويبعث إلى المحكمة الثورية، أي إلى المقصلة، كل من يرتاب منه.
نعم، ناهض مجلس العهد الجمعية الثورية قليلًا، ولكنه لم يقاومها زمنًا طويلًا، وبلغ الصراع بينهما غايته عندما بعث إيبر، الذي هو روح الجمعية الثورية، إلى مجلس العهد الذي أراد أن يسجنه عصابات قوية؛ لتطلب طرد من طلب سجنه من الجيرونديين، وقد أبى مجلس العهد ذلك، فحاصرته الجمعية الثورية في ٢ من يونيه سنة ١٧٩٣ بجيشها الثوري الذي قاده أنريو، فارتعد هذا المجلس فرقًا، فسلم إليه سبعة عشر عضوًا، فعندئذ أرسلت الجمعية الثورية إليه وفدًا ليشكره هازئًا.
وخضع مجلس العهد للجمعية الثورية القوية خضوعًا تامًّا بعد سقوط الجيرونديين، فقد أكرهته هذه الجمعية على جمع جيش ثوري يجوب البلاد ويقتل الناس بالشبهات، ولم يتخلص مجلس العهد من ربقة الجمعية الثورية والنادي اليعقوبي إلا في أواخر أيامه، أي بعد سقوط روبسپير، فأغلق هذا النادي وقصَلَ رقاب أعضائه النافذين.
ومع ما في هذا العقاب من شدة فقد استمر الزعماء على تحريض السوقة ضد مجلس العهد، وتكرر حصاره في شهر جرمينال وشهر بريريال (أي الشهر التاسع والشهر السابع من السنة الجمهورية)، فأكرهه العصاة على استصواب إعادة الجمعية الثورية ودعوة مجلس جديد، ولكنه ألغى هذين القرارين بعد خروج العصاة من ردهة المجلس، ولما خجل مجلس العهد من جبنه خصص كتائب لنزع السلاح من الضواحي، فسجنت هذه الكتائب عشرة آلاف شخص، ثم قصل رقاب ستة وعشرين زعيمًا من زعماء الفتنة وستة نواب تواطأوا عليها.
إن مجلس العهد الذي كان يهدد أمراء أوربة وملوكها بالحكم عليهم من قبله كان أسيرًا لعصابة من المرتزقة.
(٢) الحكومة أيام مجلس العهد
ألغى مجلس العهد الملكية في سبتمبر سنة ١٧٩٢ وأعلن الجمهورية مع تردد فريق كبير من أعضائه العالمين أن الولايات ملكية، وهو — لاعتقاده أن هذا الإعلان يحوِّل العالم المتمدن — وضع تقويمًا جديدًا ظانًّا أن السنة الأولى من تاريخه تكون فجرًا لعالم يسود العقل، وكانت محاكمة لويس السادس عشر التي أوحت بها الجمعية الثورية فاتحة تلك السنة.
وساد الجيرونديون — الذين كانوا على شيء من الاعتدال، إذا قيسوا بغيرهم — مجلس العهد في البداءة فانتُخب رئيسه وكتابه منهم، ولم يكن لروبسپير، الذي صار بعدئذ سيد مجلس العهد المطلق، سوى نفوذ ضئيل في ذلك الحين، فلم ينل سوى ستة أصوات في انتخاب الرئاسة مع أن بيسون انتُخب رئيسا ﺑ ٢٣٥ صوتًا.
ولم تلبث سلطة المونتانيار الصغيرة في البداءة أن عظمت فلم يبقَ للمعتدلين مكان في مجلس العهد، فقد جعل المونتانيار مجلس العهد الذي هم أقلية فيه يتهم لويس السادس عشر، فتم لهم بذلك انتصار على الجيرونديين وقضاءٌ على الملكية وفصل بين النظام الجديد والنظام القديم.
وقد برعوا في تدبير تلك التهمة، إذ جعلوا المديريات تمطر مجلس العهد بعرائض طالبة فيها محاكمة الملك، وأرسلوا إليه بعثة من الجمعية الثورية الپاريسية لهذا الغرض، وأذعن مجلس العهد، فاتهم الملك من غير مقاومة سائرًا على سُنة المجالس الثورية التي تخضع أمام الإنذار والوعيد فتفعل خلاف ما تريد.
دفع الخوف الجيرونديين، الذين لم يريدوا قتل الملك وهم منفردون، إلى الحكم عليه بالقتل وهم مجتمعون، وقد وافق خال لويس السادس عشر، دوك دورليان، على ذلك طمعًا بنجاة نفسه، ولو كان عند لويس السادس عشر قدرة يكشف بها المستقبل كالقدرة التي نعزوها إلى الآلهة لرأى وهو صاعد في المقصلة أن نصيب أكثر الجيرونديين، الذين لم يستطيعوا أن يدافعوا عنه لضعفهم، سيكون مثل نصيبه.
ولو نظرنا إلى قتل الملك من حيث فائدته لرأينا أنه عمل جنوني قامت به الثورة الفرنسية، فقد أحدث حربًا أهلية وأقام أوربة ضدنا وأوجب منازعات في مجلس العهد أدت إلى انتصار المونتانيار وطرد الجيرونديين.
وبلغت مظالم المونتانيار مبلغًا أوجب عصيان ستين مديرية في الغرب والجنوب، وقد كاد هذا العصيان، الذي كان يقوده كثير من النواب المطرودين، ينجح لو لم ينشأ عن اشتراك الملكيين فيه خوف الناس من رجوع العهد السابق، ودام هذا العصيان دوام الثورة الفرنسية، وكان غاية في التوحش، فكان الشيوخ والنساء والأطفال يُقتلون، وكانت القرى والمزروعات تحرق، وقد قتل في أثنائه في ڤانده وحدها ما يزيد عن نصف مليون نفس.
اعتقد ذوو الإيمان القويم من أعضاء مجلس العهد أنهم بصوغهم مبادئ الثورة الفرنسية في قالب قانون يُدهِشون خصومهم فيهدُونهم ويُخمدون ثائرهم.
وكان مجلس العهد يحتوي عددًا غير يسير من الفقهاء وأرباب الأعمال، وقد أدرك هؤلاء أنه يستحيل على مجلس كثير العدد كمجلس العهد أن يدير حكومة فقسموه إلى لجان مستقلة كلجنة الأشغال العامة ولجنة الاشتراع واللجنة المالية واللجنة الزراعية واللجنة الفنية … إلخ، ثم أخذت هذه اللجان تهيئ لوائح قانونية ليوافق عليها المجلس في جلساته العامة، والفضل يرجع إلى هذه اللجان في جعل أعمال المجلس غير هادمة تمامًا، فقد أتت أمورًا كثيرة النفع كإنشاء المدارس العالية والمقياس المتري، وكان أكثر أعضاء مجلس العهد يفرون إلى هذه اللجان؛ ليجتنبوا المخاصمات السياسية التي قد تؤدي إلى هلاكهم.
وكان على رأس لجان الأشغال المذكورة لجنة السلامة العامة التي أُسست في شهر أبريل سنة ١٧٩٣، فكان عدد أعضائها تسعة، وقد أدارها في بَدء الأمر دانتون ثم انتقلت إدارتها في شهر يوليه من تلك السنة إلى روبسپير، وتدرجت إلى ابتلاع جميع السلطات فأدار فيها كارنو أمور الحربية وكانبون أمور المالية وسان جوست وكالوديربوا دفة السياسة.
وكانت القوانين، التي وافق مجلس العهد عليها، بتأثير الوفود التي كانت تستولي عليه، ظاهرة الخطَل خلافًا للقوانين السديدة التي اقترحتها اللجنة الفنية، ونذكر من تلك القوانين المختلة قانون الكمية الكبرى الذي وافق مجلس العهد عليه في شهر سپتمبر سنة ١٩٧٣، فلم ينشأ عن هذا القانون الذي أمر بتسعير الأقوات سوى قحط دائم وهدم قبور الملوك في دير سان دني ومحاكمة الملكة وتحريق مقاطعة ڤانده وتأليف المحكمة الثورية إلخ.
وبينما كان مجلس العهد يفكك عرى فرنسة ويخرِّبها كانت جُيوشنا تحرز نصرًا مبينًا، فقد استولت على الضفة اليسرى من نهر الرين وعلى بلجيكة وهولندة، ثم أقرت معاهدة بال هذه الفتوحات، وقد قلت سابقًا، وسأعود إلى هذا القول قريبًا، إنه يجب التفريق التام بين أعمال جيوش الجمهورية وأعمال مجلس العهد، وليس هذا على المعاصرين بالأمر العسير.
أرجو ألا تتحكم في أمة جماعة من الفجرة السفهاء كالتي تحكمت في فرنسة منذ بدء انقلابها الحديث.
(٣) نهاية مجلس العهد، منشأ حكومة الديركتوار
وضع مجلس العهد — الذي لم يغير إيمانه بتأثير القوانين — دستورًا جديدًا في أواخر أيامه؛ ليحل محل دستور سنة ١٧٩٣، الذي لم يعمل به قط، وجاء في هذا الدستور الجديد أنه يقوم بالسلطة الاشتراعية مجلسان: مجلس شيوخ مؤلف من ٢٥٠ عضوًا ومجلس شبان مؤلف من خمسمئة عضو، وأنه يعهد في السلطة التنفيذية إلى جماعة (الديركتوار) المؤلفة من خمسة أعضاء يرشحهم مجلس الخمس مئة ويعينهم مجلس الشيوخ، وقد قضى مجلس العهد أن يكون ثلثا أعضاء المجلس الجديد من أعضائه، إلا أن القرار لم ينفذ، فلم يوالِ اليعاقبة سوى عشر مديريات، وحكم مجلس العهد على جميع المهاجرين إلى البلاد الأجنبية بالنفي المؤبد، وذلك ليُقصي الملكيين عن الانتخابات.
لم يؤثر إعلان هذا الدستور في الجمهورية خلافًا لما كان ينتظر، فهو لم يقلل شيئًا من الفتن الشعبية، ومن أهمها الفتنة التي توعدت مجلس العهد في ١٥ من أكتوبر سنة ١٧٩٥، فقد ساق الزعماء جيشًا إليه فعزم على الدفاع حياله فاستحضر كتائب وسلم قيادتها إلى باراس وعهد إلى بوناپارت، الذي أخذ يظهر من عالم الخفاء، في أمر تشتيته، وقد تم ذلك التشتيت على يده بسرعة فلما أطلق الرصاص على العصاة بالقرب من كنيسة سان روك فرُّوا تاركين بضع مئات من القتلى، وهذا العمل الحازم الذي لم يكن لمجلس العهد عهد بمثله صدر عن سرعة حركات الجيش، وكان قمع تلك الفتنة آخر أعمال مجلس العهد المهمة؛ إذ صرح هذا المجلس في ٢٦ من أكتوبر سنة ١٧٩٥، بأن نيابته انتهت، مسلِّمًا الأمور إلى حكومة الديركتوار.
أظهرنا كثيرًا من الدروس النفسية المستنبطة من أعمال حكومة العهد، وأهمها عجز الضغط والظلم عن التغلب على النفوس طويلًا، فلم يكن عند حكومة من وسائل القهر والاستبداد مثل ما كان عند حكومة العهد، ولكن مجلس العهد — على رغم المقصلة الدائمة والمفوضين المرسلين إلى الولايات مع الجلًّاد والقوانين الصارمة — كان يضطر إلى مكافحة الفتن والمؤامرات على الدوام، وكانت المدن والمديريات وضواحي باريس تتمرد من غير انقطاع على رغم قصل ألوف الرؤوس.
حارب مجلس العهد — الذي ظن أنه الآمر الناهي — قوى خفية رسخت في النفوس رسوخًا لم تؤثر فيه جحافل الضغط والإكراه، وسبب ذلك: أنه لم يدرك شيئًا من أمر تلك القوى التي تمَّ لها النصر في نهاية الأمر.