جيوش الثورة الفرنسية
(١) مجالس الثورة والجيوش
لو اقتصرَ ما نعلمه عن مجالس الثورة، ولا سيما مجلس العهد، على ما يقع فيها من الانشقاق وعلى ضعفها وعلى ما تأتي به من الاضطهاد لكانت ذكراها سيئة، غير أن لذلك الدور نفوذًا مؤثِّرًا ناشئًا عن انتصار الجيوش التي فتحت بلاد بلجيكة والبلاد الواقعة على ضفة الرين اليسرى حينما ترك مجلس العهد مقاليد الحكم.
إذا نظرنا إلى حكم العهد في مجموعه أصبح من العدل أن يُعزى إليه ما نالته جيوش فرنسة من النصر، وأما إذا فرقنا بين أقسامه ظهر لنا أنه لم يكن لمجلس العهد سوى نصيب صغير في الوقائع الحربية، وأن الجيوش المرابطة في الثغور والمجالس الثورية كانتا قسمين مستقلين أثَّر أحدهما في الآخر تأثيرًا قليلًا ونظر كلٌّ منهما إلى الأمور نظرًا متباينًا.
وقد اتضح لنا أن مجلس العهد كان ضعيفًا، وأنه كان يبدِّل رأيه على حسب تحريضات الشعب فكيف استطاع أن يسيطر على الجيوش وقد كان منقادًا لا قائدًا!
أوجب انهماكُ مجلس العهد في المنازعات ترك أمور الحرب إلى لجنة كان يسيِّرها كارنو وحده، وأهمُّ ما قامت به هذه اللجنة هو أنها أمدت الجيوش بالميرة والعَتاد، وقد نشأ فضل كارنو عن قيادته ٧٥٢٠٠٠ جندي كانوا مرابطين في المراكز الحربية وعن إيعازه إلى القواد بالهجوم وعن توطيد دعائم النظام في الجيوش.
ولم يفعل مجلس العهد في الدفاع عن البلاد غير أمره بالنفير العام، ولا تستطيع حكومة أن تفعل غير ذلك تجاه أعداء فرنسة الكثيرين، وأما مداخلة هذا المجلس في أمر الجيوش فكانت يسيرة إلى الغاية، وقد خرجت هذه الجيوش وحدها ظافرةً بفضل عددها وحماستها وخططٍ رسمها لها قوَّادٌ شباب مستقلون عن مجلس العهد.
(٢) مكافحة أوربة للثورة الفرنسية
نرى، قبل بيان العوامل النفسية التي ساعدت على نجاح جيوش الثورة، أن الإلماع إلى روح المقاتلة التي تأصلت في أوربة واستفحلت ضدَّ الثورة الفرنسية لا يخلو من فائدة.
نظر ملوك الأجانب في أوائل الثورة الفرنسية إلى المصاعب التي كانت تلقاها الملَكية الفرنسية المزاحمة لهم بعين الرِّضى؛ لأنه لمَّا ظن ملك بروسية أن فرنسة ضعفت فكَّرَ في توسيع مُلكه على حسابها، فاقترح على إمبراطور النمسة أن يساعدا لويس السادس عشر رجاءَ الحصول على ولاية فلاندر وألزاس، فعقدا في فبراير سنة ١٧٩٢ معاهدة ضد فرنسة، إلا أن الفرنسيين سبقوا في الهجوم فشهروا الحرب بتأثير الحزب الجيرونديِّ.
ومع أنه لم يُقتل في المعركة سوى ثلاثمئة فرنسي ومئتي بروسي فإنها كانت ذات نتائج عظيمة؛ لأن رَدَّ جيشٍ اشتهر باستحالة قهره أورث قلوب الكتائب الثورية الفتية شجاعةً كبيرةً، فأخذت هذه الكتائب تهاجم العدوَّ على طول الجَبهة، ولم تمض بضعة أسابيع حتى طَرد جنود فالمي النمسويين من بلجيكة، فاستقبلهم الناس فيها كمنقذين.
وقد اتسع نطاق الحرب كثيرًا أيام مجلس العهد، ونشأ عن ضمِّ مجلس العهد بلاد بلجيكة إلى فرنسة، في سنة ١٧٩٣، حربٌ ضِدَّ إنكلترة استمرت اثنتين وعشرين سنة.
اجتمع مندوبو إنكلترة وپروسية والنمسة في أنڤرس، وتعاهدوا على تقسيم فرنسة على أن تنال پروسية مقاطعة ألزاس ومقاطعة لورين وأن تنال النمسة مقاطعة فلاندر ومقاطعة أرتوا وأن تنال إنكلترة مرفأ دنكرك، وقد اقترح سفير النمسة أن تُقمع الثورة الفرنسية بالإرهاب «وباستئصال شأفة قادة الأمة الفرنسية»، وهذا ما اضطرَّ فرنسة إلى أن تحارب من سنة ١٧٩٣ إلى سنة ١٧٩٧ على طول ثغورها، أي من جبال البرانس حتى الشمال.
وقد أضاعت فرنسة في البداءة فتوحاتها السابقة، وحلت بها نوازل كثيرة؛ فاستولى الإسپان على مدينة بيربنيان ومدينة بايون، واستولى الإنكليز على مدينة طولون، واستولى النمسويون على مدينة ڤلنسيان؛ فاضطر مجلس العهد سنة ١٧٩٣ إلى الأمر بتجنيد كل فرنسي تترجح سنه بين الثامنة عشرة والأربعين، وساق إلى الحدود تسعة جيوش مؤلفة من ٧٥٠٠٠٠ جندي تقريبًا، وقد مُزِجت كتائب الجيش الملكي السابقة بكتائب المتطوعين وكتائب المجندين.
انكسر الحلفاءُ ورفع الحصار عن موبوج بعد انتصار المارشال جوردان في فاتيني، ثم أنقذ أوشُ مقاطعة لورين فأخذت فرنسة تهاجم فاستردت بلجيكة وضفة الرين اليسرى، ثم كسر المارشال جوردان النمسويين في فلوروس ورماهم خلف الرين مستوليًا على كلونيا وكوبلنز، واحتل هولندة، فاضطر ملوك الحلفاء إلى طلب الصلح معترفين لفرنسة بفتوحاتها.
ومن دواعي انتصار فرنسة أن أعداءنا لم يعيروا قضيتنا ما تستحقه من الاهتمام، فكانوا منهمكين في تقسيم پولونية منذ سنة ١٧٩٣ حتى سنة ١٧٩٥، وكان كل منهم يريد أن يحضر القسمة لينال أكثر من غيره، وهكذا استفدنا كثيرًا من تردد الحلفاء وسوء ظن بعضهم ببعض، ولو زحف النمسويون في صيف سنة ١٧٩٣ على باريس لكنا كما قال القائد تيابول: «خسِرنا مئة وربحنا واحدًا، فهم الذين أنقذونا بمنحهم إيانا وقتًا كافيًا لجمع الجنود واختيار الضباط والقواد.»
ولم يبقَ لنا بعد معاهدة بال عدو ذو شأن في أوربة سوى النمسة، فساقت حكومة الديركتوار جيشًا إلى مقاطعة ميلانه الإيطالية التابعة للنمسة، وفوضت إلى بوناپارت أن يهاجمها، وقد أكره بوناپارت دولة النمسة على طلب الصلح من فرنسة، وذلك بعد وقائع دامت حَولًا كاملًا، أي من شهر أبريل سنة ١٧٩٦ إلى شهر أبريل سنة ١٧٩٧.
(٣) العوامل النفسية والعوامل الحربية التي أوجبت انتصار جيوش الثورة الفرنسية
يجب — لإدراك السبب في انتصار جيوش الثورة الفرنسية — أن نذكر مقدار ما كان عند جنودها الحفاة العُراة من الحماسة الشديدة ومن الصبر على المكاره ومن إنكار النفس، فهم لما أُشبعوا من المبادئ الثورية شعروا بأنهم رسل دين جديد أوحِيَ به لتجديد العالم، وقد منحهم إيمانهم بطولة وبسالة لم تزعزعهما قارعة، فأنقذوا الوطن من العدو وصاروا يحاربونه حرب استيلاء يوم حلت حكومة الديركتوار محل مجلس العهد ولم يبق في فرنسة جمهوريون سوى الجنود، ويذكرنا تاريخهم بتاريخ قبائل جزيرة العرب التي آمنت بما جاء به محمد؛ فتحولت إلى جيوش مخيفة فتحت جزءًا كبيرًا من العالم الروماني القديم بأسرع ما يمكن.
استقبل كثير من البلاد المحتلة غزاة فرنسة كمحررين لها، فقد أُهرع سكان سافوا إلى رؤية الجنود الفرنسيين، واستقبل الناس في مايانس هؤلاء الجنود بحماسة، وغرسوا أشجار الحرية، وأسسوا مجلس عهد شبيه بمجلس باريس.
وكلما كانت جيوش الثورة الفرنسية تصطدم بأمم أذلها الملوك المستبدون ولم يكن لها خيال تذُب عنه كان النصر يحالفها، ولكن النصر كان يتعذر عليها عند اصطدامها بأناس أولي خيال وثيق كخيالها، فخيال الحرية والمساواة القادر على استمالة الشعوب العاطلة من العقائد المتينة والرازحة تحت استبداد أمرائها لا يؤثر بحكم الطبيعة في أناس ذوي خيال قوي رسخ في نفوسهم منذ عهد طويل، وبهذا ندرك سر محاربة سكان بريتانيه وڤانده، الذين كانوا ذوي مشاعر دينية وملكية متأصلة فيهم، جيوشَ الجمهورية وانتصارهم عليها سنين كثيرة، وقد عمت فتن هاتين المقاطعتين عشر مديريات فجمعتا ٨٠٠٠٠ مقاتل.
أصبحت ڤانده قاعًا صفصفًا بعد حرب أهلية استمرت سنتين، وهلك فيها ٩٠٠٠٠٠ نفس تقريبًا، ولم يبق طعام ولا مأوى للذين ظلوا أحياء فيها بعد تلك المذابح.
وإذا صرفنا النظر عما عند جيوش الثورة الفرنسية من الإيمان الذي يتعذر معه قهرهم رأينا أنهم فاقوا غيرهم بقادتهم النوابغ الذين أنجبت بهم ساحات القتال، فلما هاجر أكثر قادة الجيش الذين هم من طبقة الأشراف إلى البلاد الأجنبية سنحت لأصحاب الأهلية الحربية فرصة أبدوا فيها مواهبهم فتدرجوا في بضعة أشهر إلى جميع المراتب، ومن هؤلاء أوش الذي كان في سنة ١٧٨٩ عريفًا فصار قائد فرقة ثم قائد جيش في الخامسة والعشرين من عُمره، وقد كانت بسالة هؤلاء القواد تمنحهم روحًا هجومية لا عهد لجيوش الأعداء بها، وهم لعدم تقيدهم بالتقاليد وعدم تطبعهم بالعادات أبدعوا فنَّا حربيًّا ملائمًا لمقتضيات الزمن.
ولا تقدر الجنود غير المجربة على الحركة إزاء كتائب اتخذت الجندية مهنة لها، وتدربت على الطرق المستعملة منذ حرب السنين السَّبع، إلا أن قيام جموع كثيرة بالهجَمات ذلل ذلك، فالعدد الكبير هو الذي كان يمكن القواد من القيادة، وهو الذي كان يسد الفراغ الناشئ عن طريقة الهجوم المذكورة المؤثرة مع ما فيها من قسوة.
وكانت الجموع الكثيفة عند هجومها على العدو بالحِراب تَهْزِمُ كتائبه المتعودة طرقًا تُدارَى بها حياة الجند، وجَعَل بطء إطلاق الرصاص في ذلك الوقت فنَّ فرنسة الحربي أسهل استعمالًا، فبه تم النصر لها، غير أنه أهلك كثيرًا من أبنائها، فمنذ سنة ١٧٩٢ حتى سنة ١٨٠٠ قُتِلَ في ساحة الحرب ما يقرب من ثلثهم (أي ٧٠٠٠٠٠ من مليوني مقاتل).
ولْنُثَابِرْ على استخراج النتائج من الحوادث التي بحثنا عنها في هذا الكتاب بحثًا نفسيًّا:
دَلَّنا البحثُ عن الجماعات الثورية في باريس وفي الجيوش على ما لهذه الجماعات من مختلف الأطوار، ويَسْهُل شرحُ هذه الأطوار، فقد أثبتنا أن الجماعات إذ كانت عاجزة عن التعقل فإنها تَسيِرُ كما تُحَرَّض، ورأينا أيضًا أنها ذات بسالة متناهية وأن مزية محبة الغير تكون نامية عندها في الغالب، وأنه يَسْهُلُ علينا أن نَجِدَ فيها ألوفًا من الرجال مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل أحد المعتقدات.
وصفاتٌ نفسية مثلُ هذه تؤدِّي إلى أعمال متباينة بحسب الأحوال، والدليلُ على ذلك ما ورد في قصة مجلس العهد وجيوشه، فقد أثبتت هذه القصة أن جماعات مؤلفة من عناصر متقاربة سارت في باريس وفي الثغور سيرًا مختلفًا اختلافًا يجعل الإنسان يظن أنها لم تكن من شعب واحد.
فكانت الجماعات في باريس مضطربة قاسية سفاكة للدماء متقلبة في رغائبها تقلبًا يستحيل معه أن يستقيم أمر أية حكومة، وكانت الجماعات في الجيوش خلاف ذلك، أي لما اختلطت هذه الجماعات بالجنود، أي بفريق الأمة الذي شب على حب النظام من فلاحين وعمال، وتمَّ ترويضها بالتعليم الحربي واجتذابُها بالحماسة السارية، أوجب ذلك كله صبرها على ضنك العيش، واستخفافها بالمهالك، وساعد على تأليف فئة عجيبة انتصرت على أشدِّ جيوش أوربة سطوة.
ويستدل بمثل هذه الأمور على تأثير النظام، فهو يحوِّل الرجال، ولا تلبث الأمم التي تتحرر منه أن تصبح قبائل بربرية، ولا تزال هذه الحقيقة تغيب عن بال أولياء الأمور، ويؤدي جهلهم سُنن الجماعات إلى العمل بما تضعه هذه الجماعات من الخطط بدلًا من قيادتها.