روح زعماء الثورة الفرنسية
(١) نفسية رجال الثورة الفرنسية، شأن الأخلاق القوية والأخلاق الضعيفة
بما أن الإنسان يميز بذكائه ويسير بخلقه وجب — لإدراك أمره — أن يفرق بين الذكاء والخلق، وللخُلُق المقام الأول في الأدوار العظيمة، والحركات الثورية معدودة من تلك الأدوار بحكم الطبيعة.
وقد وصفنا، في كثير من الفصول السابقة، ما يسود الفتن من مختلف النفسيات، فلا نعود إليه الآن، وهذه النفسيات تغير شخصية الإنسان الموروثة والمكتسبة.
وقد رأينا ما لخلُق التدين من شأن في النفسية اليعقوبية، وما أدخله هذا الخلق إلى قلوب أتباع الإيمان الجديد من تعصب شديد، ورأينا أيضًا أن أعضاء المجالس ليسوا كلهم متعصبين، وأن المتعصبين كانوا أقلية فيها، وأن أكثرية الأعضاء في مجالس الثورة الفرنسية كانوا مطبوعين على الحياء والاعتدال والحياد، وأن الخوف هو الذي كان يدفعهم إلى السِّير مع القساة المتطرفين.
وأصحاب الأخلاق الهينة المحايدة، الذين يتبعون في كل دور أكثر المحرضات تناقضًا، هم الأكثر عددًا في كل زمن، ولا فرق بينهم وبين القساة من حيث الخطر، فقوة هؤلاء تعتمد على ضعف أولئك.
وقد شوهد في الثورات كلها — ولا سيما في الثورة الفرنسية — أقلية حازمة مع ضيق عقل متغلبة على أكثرية كبيرة متصفة بسمو المدارك وفُقدان الخلق، وبجانب الدعاة المتعصبين وضعيفي الأخلاق يظهر أيام الثورات أناس لا يهمُّهم سوى الاستفادة منها، وما أكثر من ظهر أيام الثورة الفرنسية من رجال هذا الفريق الذين لا غاية لهم سوى الانتفاع من الأحوال ليغتنوا، ونعدُّ منهم باراس وتاليان وفوشه وبارير الذين انحصرت سياستهم في خدمة القوي ضد الضعيف.
والواقع أن عدد هؤلاء الطامعين في أوائل الثورة الفرنسية كان عظيمًا، وهذا ما جعل كاميل ديمولان يقول سنة ١٧٩٢: «إن مصدر الثورة الفرنسية هو ما كان عند كل واحد من خلق الأَثَرة وخلق العُجب».
ويتألَّف من الملاحظات السابقة، ومما ذكرناه في فصل آخر عن الأطوار النفسية أيام الانقلابات السياسية، فكر عام في خلق رجال الثورة الفرنسية، وها نحن أولاء نذكر شيئًا عن أشهر زعماء تلك الثورة.
(٢) نفسية النواب أيام بعثتهم
إن المسير لأعضاء مجلس العهد في باريس والزاجر لهم والمحرِّض لهم هو تأثير رفقائهم وتأثير البيئة، ويجب — للحكم في شأنهم — أن نبحث عنهم وحبلهم على غاربهم، أي وهم أحرار لا رقيب عليهم.
بعث مجلس العهد بعض أعضائه إلى المديريات، وألزم الموظفين والقضاة إطاعتهم، فكان هؤلاء الأعضاء مطلَقِين بعيدين من كل رقابة، وكان الواحد منهم أيام بعثته «يسخر الناس في المقاطعة التي ولي أمرها، ويسجنهم، ويضبط أموالهم كما يريد»، وكان يخرج إلى الناس «في عربة يجرها ستة أحصنة، والحرس يحيط بها من كل جانب، ويجلس حول موائدَ فاخرة، ذات ثلاثين «طقمًا» مع موكب من المهرجين والخفراء». وقد «شابهت أبهة كولوديربوا في ليون أبهة سلاطين الترك، فكان لا يقابله أحد إلا بعد ثلاثة طلبات، وكان يتقدم قاعة استقباله حاجز؛ لئلا يمثل أمامه أحد على بعد يقل عن خمسَ عشرة خُطوة»، وليس من الصعب تصور زهو أولئك النواب عند دخولهم المدن والحرس محيط بهم، أولئك النواب الذين كانت إشارة منهم تكفي لقطع الرؤوس.
ولم يلبث المحامون العاطلون من العمل والأطباء المبتذلون والكهنة المعتزلون والأغبياء الخاملون وغيرهم ممن لم يبتسم لهم ثغر الدهر أن صاروا مساوين لأكبر من عرَفهم التاريخ من الجبابرة، وكانوا، بضربهم الرقاب وإغراقهم الأحياء وقتلهم الناس بالرصاص، يشعرون بارتقائهم من مستوى وضيع إلى درجة أعاظم الملوك.
نظر فوشه من نافذته، والنظارة في يده، إلى ذبح ٢١٠ من سكان ليون، وكان كولود ولابورت وفوشه يقصفون أيام القتل بالرصاص، وقد نهضوا عند سماعهم إطلاق الرصاص هاتفين فرحًا محركين قلانسهم.
ونذكر من نواب البعثة السفاكين الكاهن لوبون الذي خرب أراس وكانبري عندما أصبح ذا سلطة قوية، فمثله ومثل كاريه يثبتان ما يؤول إليه أمر الإنسان عندما يتخلص من التقاليد والقوانين، وقد بلغ حبه سفك الدماء واقتراف المظالم مبلغًا أدى إلى نصبه المقصلة قريبة من نوافذ بيته؛ ليتمتع هو وزوجته وأعوانه بمنظر الذبح، وقد أقام على قائمة المقصلة مقصفًا ليشرب منه الثائرون، وكان الجلاد يركم في الطريق أجساد القتلى عارية على أوضاع مضحكة؛ ليضحك منها الثائرون، وانحصر دفاع ذلك الكاهن في قوله: «لم أفعل ما فعلته إلا لتنفيذ ما أُمِرت به».
أشرت آنفًا إلى خُيَلاءِ هؤلاء النواب الذين أصبحوا فجأة ذوي سلطة فاقت سلطان أشد المستبدين، ولكن الإشارة إلى ذلك لا تكفي لإيضاح قسوتهم، فلهذه القسوة أسباب مختلفة: منها أنهم إذ كانوا رسل إيمان قوى لم يرحموا ضحاياهم، وأنهم، بتخلصهم من زواجر التقاليد والقوانين، أطلقوا الأعنة لما تركته الهمجية الأولى فيهم من غرائز وحشية.
إن حب القتل للقتل نفسه خلق عام، وهذا الخلق هو علة الكلف بالصيد، وذلك أننا لا نزال نأتي أعمالًا كانت ضرورة العيش تُكرِه أجدادنا الهمج على إتيانها، ونعجز عن كسر سلاسل العبودية المقيدة لنا منذ القديم، وعدم التلذذ بقتل الحيوانات التي لا نرِقُّ لها حينما يستولي علينا حب الصيد، فنقتل بالرصاص أو بالحبائل أودعها وأجملها، ومنها الطيور المشنفة الآذان بتغاريدها من غير أن نشعر بشفقة تكدر صفاء لذتنا بمشاهدتها مضرجة بالدماء راقصة من الألم محاولة الفرار على أرجلها المكسورة أو محركة أجنحتها المهيضة، وسبب ذلك هو الخلق الموروث الذي لا يقدر على مقاومته أفضل الناس.
وإننا — حذرًا من بطش القوانين — لا نسلط هذا الخلق الموروث إلَّا على الحيوانات في الأوقات العادية، فمتى بطل عمل هذه القوانين لم نلبث أن نسلطه على الإنسان أيضًا، وبهذا ندرك علة تلذذ رجال الهول بذبح الناس. وما قاله كاريه عن فرحه عند مشاهدته وجوه ضحاياه ساعة هلاكهم ذو معنى، فالوحشية عند كثير من أهل الحضَر غريزة مزجورة غير مندثرة.
(٣) دانتون وروبسپير
كان دانتون وروبسپير أكثر رجال الثورة الفرنسية نفوذًا، وكان دانتون خطيب أندية محرضًا ذا صولة مهيجًا للشعب، وكانت نتائج خطبه القاسية تحزنه في الغالب، وكانت درجته رفيعة أيام كان خصمه في المستقبل — روبسپير — في الصف الأخير، نعم، جاء وقت أصبح دانتون فيه روح الثورة الفرنسية، ولكن بما أنه كان عاطلًا من خلق العناد والثبات فقد تغلب تعصب روبسپير المستمر على جهوده المتقطعة فساقه إلى المقصلة.
ولا يزال أمر روبسپير غامضًا، ومن الصعب اكتناه نفوذه الذي ملك به حق الحياة وحق الموت.
لا جرم أن أمر روبسپير لا يكتنه بقول تاين إنه معجَب بنفسه غارق في بحار المجردات، أو بقول ميشله إن مبادئه علة نجاحه، أو بقول معاصره ويليم: «إن سر قبضه على زمام الحكم هو اعتماده على أهل النقائص ومقترفي الجرائم».
ويستحيل أن يكون نجاحه قد نشأ عن فصاحته، فقد كان يقرأ بصعوبة خطبه التي لم تكن غير كلمات مجردة باردة مبهمة، وكان في مجلس العهد خطباء يفوقونه بلاغة كدانتون والجيرونديين الذين أبادهم جميعًا.
إذن، ليس عندنا إيضاح كاشف لسلطة هذا الحاكم المطلق الذي لم يكن له نفوذ في المجلس الوطني فأصبح بالتدريج سيد اليعاقبة ومجلس العهد وأهم رجال فرنسة، ولا شك في إعانة الأحوال له كثيرًا، فقد عده الناس سيدًا لا غُنية لهم عنه، وهذا هو سبب ارتقائه السريع، وأظنه كان ذا سحر شخصي لا عهد لنا به اليوم، وبهذا يمكن إيضاح ما ناله من النجاح عند النساء، فكان المجلس أيام إلقائه خطبه «يكتظ بالنساء، وكان عدد اللائي يجلسن على مقاعد الاستماع لا يقل عن سبعمئة، وكنَّ يصفقن له هائجات النفس، وعندما كان يخاطب اليعاقبة كان شهيق الحنو والهُتاف يسمع من كل جانب، وكان الضوضاء يهز أركان ردهة الاجتماع».
وقد أرسلت إليه أرملة دوشالابر الفتاة التي كان دخلها السنوي أربعين ألف فرنك رسائل غرام دعته فيها إلى الزواج.
ولم يكن خلُق روبسپير سبب ميل الناس إليه، فقد كان سوداوي المزاج ضعيف الذكاء عاجزًا عن فهم الحقائق غائصًا في بحر من المجردات ماكرًا مداجيًا معجبًا بنفسه إعجابًا لم يفارقه طول حياته، معتقدًا أن الله أرسله؛ ليوطد دعائم الفضيلة، وأنه هو المسيح الذي أرسله الله لإصلاح كل شيء.
وكان يزعُم أنه من أرباب البيان، فكان ينقح خطبه طويلًا، وقد أدى حسده الخطباء والأدباء إلى قتلهم، وكان يستخف بزملائه، فلما خلا باراس إليه ساعة تزينه بصق نحوه كأنه لم يكن حاضرًا، ولم يجبه عن أسئلته تكبرًا، ولم يكن ازدراؤه أبناء الطبقة الوسطى والنواب أقل من ذلك، والجمهور وحده هو الذي كان صاحب الحظوة عنده، قال: «لا مناص من الخضوع للجمهور عندما يتصرف في أمور السلطة، فكل ما يفعله الجمهور فضيلة وحقيقة، وليس فيه ما يعد ظلمًا أو ضلالًا أو جرمًا».
وكان روبسپير مولعًا بالاضطهاد، ولم يكن قيامه بأمر الرسالة علة قطعه كثيرًا من الرؤوس، بل كان ذلك ينشأ أيضًا عن اعتقاده أنه محاط بالأعداء والمؤتمرين، قال مسيو سوريل: «كان خوفُه من زملائه أشد كثيرًا من خوفهم منه».
ونعُد حكمَه المطلق الذي استمر خمسة أشهر مثالًا واضحًا لسلطان بعض الزعماء، فإذا أهلك جبار قابض على زمام جيش أيًّا شاء فليس في ذلك ما يعسر فهمه، وأما إذا استطاع رجل وحده أن يرسل عددًا كبيرًا من أقرانه إلى المقصلة فهذا أمر لا يسهل إيضاحه، وعلى نسبة إرسال روبسپير أشهر النواب، ككاميل ديمولان وإيبرت ودانتون وغيرهم، إلى المحكمة الثورية، ومنها إلى المقصلة، كانت قدرته تعظُم، وقد سقط أكثر الجيرونديين صيتًا أمامه، ثم اختلف والجمعية الثورية فقصل رقاب رؤسائها، وأقام مقامها جمعية ثورية جديدة منقادة لأوامره.
وأراد روبسپير أن يتخلص ممن لا يروقونه بسرعة فجعل المجلس يوافق على قانون شهر بريريال (الشهر التاسع من السنة الجمهورية) الذي يسمح بقتل الناس بالشبهات، والذي به قطع روبسپير في باريس وحدها ١٣٧٣ رأسًا في تسعة وأربعين يومًا، وكف زملاؤه عن النوم في بيوتهم فرَقًا منه، وصار عدد من يحضر الجلسات من النواب لا يزيد على المئة.
وزيادة اعتماده على نفسه وعلى جبن أعضاء مجلس العهد أوجبت هلاكه، فلما أراد أن يحملهم على سن قانون يجوِّز سوق النواب إلى المحكمة الثورية ومنها إلى المقصلة من غير أن يأذن المجلس في ذلك ائتمر كثير من أعضاء حزب المونتانيار وحزب الپلين به ليسقطوه، فاتهمه تاليان، الذي أحس دنو أجله وأنه ليس لديه ما يخسره، بالبغي والطغيان، فأراد روبسپير أن يدافع عن نفسه فخنق صراخ المؤتمرين صوته فكفى لانتكاسه تكرير كثير من الأعضاء الحاضرين — بتأثير العدوى النفسية — كلمة «ليسقط الظالم»، وأمر المجلس باتهامه حالًا.
كان تأثير كلمة «عدم استحقاق حماية القانون» في الرجل الفرنسي كتأثير كلمة الوباء، فالذي كانت تقال فيه تلك الكلمة كان يحرم مدنيًّا ويعدُّه الناس نجسًا.
قُطِع رأس روبسپير في اليوم العاشر من شهر ترميدور (الشهر الحادي عشر من السنة الجمهورية)، وقطع معه رؤوس عصابته البالغ عددها ٢١ رجلًا ومنهم سان جوست ورئيس المحكمة الثورية ورئيس البلدية، وقطع في غد ذلك اليوم رؤوس سبعين يعقوبيًّا، وقطع بعد يومين رؤوس ١٣ يعقوبيًّا، فانقضى بذلك دور الهول الذي دام عشرة أشهر.
وانهيار البُنيان اليعقوبي في ذلك الشهر من الحوادث النفسية الغريبة التي وقعت أيام الثورة الفرنسية، ولم يخطر على قلب أحد من المونتانيار الذي أسقطوا روبسپير أن دور الهول سينتهي بسقوطه، نعم، قضى تاليان وباراس وفوشه وغيرهم على روبسپير كما قضوا سابقًا على إيبرت ودانتون والجيرونديين وغيرهم، ولكنهم لما علموا أن الجماعة أرادت بهتافها لقتل روبسپير زوال دور الهول ساروا كأنهم يريدون ذلك، ثم إن حزب الپلين المؤلف من أكثرية المجلس والذي قتل روبسپير كثيرًا من أعضائه ثار على ذلك الدور الذي هتف له زمنًا طويلًا على رغم مقته إياه، ولا أشد هولًا ممن زال الخوف عنهم بعد استيلائه عليهم، فقد اضطهد حزب الپلين حزب المونتانيار وألقى في قلوب أعضائه الرعب انتقامًا.
ولم يصدر تذلل زملاء روبسپير في مجلس العهد عن ميلهم إليه، ولكن هذا الحاكم المطلق أخافهم كثيرًا، فكانوا يُخفون حقدًا شديدًا خلف ما كانوا يظهرونه نحوه من الإعجاب والحماسة، ويظهر ذلك من مطالعة التقارير التي نشرها بعد قتله كثير من النواب في أعداد جريدة المونيتور الصادرة في ١١ و١٥ و٢٩ من أغسطس سنة ١٧٩٤، فلم يشتم عبد سيده بعد سقوطه مثلما شُتم روبسپير وعصابته في تلك التقارير، وقد جاء فيها: «أن أولئك الغيلان جددوا عهد مذابح ماريوس وسيلا»، وقد وُصف روبسپير فيها بالعاتي الذي كان يبحث عن سلامة نفسه في قتل الناس بالشُبهات، والذي كان لا يُحجم عن أن يأمر — مثل كاليغولا — الشعبَ الفرنسي بأن يعبُد حصانه لو وجد إلى ذلك سبيلًا.
إلا أنه فات هذه التقارير أن تذكر أن سلطة روبسپير لم تستند إلى جيش قوي كسلطة ماريوس وسيلا التي أشير إليها؛ بل إلى سكوت مجلس العهد عنه، فلولا جبن أعضاء هذا المجلس ما استمرت سلطة روبسپير يومًا واحدًا.
حقًّا إن روبسپير من جبابرة التاريخ، ولكنه كان جبارًا بلا جنود، ويمكن تلخيص مبادئه في أنه كان مشبعًا، أكثر من كل إنسان، من العقيدة اليعقوبية على رغم منطقها الضيق وتصوفها الشديد، ولا نزال نرى مادحين له، فقد نعته مسيو هاميل بالشهيد، واقترح أن يقام له تمثال، وإني لأشترك في ثمنه مختارًا؛ لأنني أعد الآثار الدالة على عمى الجماعات وعلى تذلل المجالس أمام زعيم يعرف كيف يقودها لا تخلو من فائدة، فسوف يذكرنا تمثال روبسپير بهتاف الإعجاب والحماسة الذي أتاه مجلس العهد نحو التدابير التي كان يهدده بها.
(٤) فوكيه تنفيل، دوما، بيوفارين، مارا
إن ذكرى النائب العام في المحكمة الثورية، فوكيه تنفيل، من أشد الذكريات شؤمًا، وقد أوردتُ غير مرة ذكر هذا النائب، الذي اشتهر في بدء الأمر بحلمه ثم أصبح سفَّاكًا تشمئز منه النفوس، لأبين ما يطرأ على بعض الأخلاق من التحولات أيام الثورة، فقد كان فوكيه تنفيل أيام سقوط الملكية فقيرًا منتظرًا كل شيء من نشوب ثورة اجتماعية ليس عنده ما يخسره فيها، فلما جاء مجلس العهد قلده مقاليد أموره، فأصبح في يده مصير ألفي متهم، منهم الملكة ماري أنتوانيت والجيرونديون ودانتون وإيبرت وغيرهم، وكان يقصل رقاب جميع المتهمين المرفوعة أسماؤهم إليه، وعندما تزول سلطة أحد حُماته السابقين، ككاميل ديمولان أو دانتون أو غيرهما، يطلب قتلهم من غير تردد.
ولم يكن شأن فوكيه تنفيل في الأوقات العادية أكبر من شأن قاضٍ هادئ مجهول أمره، فمن حسنات المجتمع المنظم تقييده لأمثاله الذين لا يردعهم سوى الزواجر الاجتماعية.
قُطع رأس فوكيه تنفيل وهو لا يعلم علة عقابه؛ لأنه لم يكن ما يسوغه من الوجهة الثورية، وهل فعل سوى تنفيذ أوامر رؤسائه بنشاط؟ لا يجوز تشبيهه بأولئك النواب الذين أرسلوا إلى الولايات ولم تكن مراقبتهم في الإمكان، فقد فحص مفوضو مجلس العهد جميع أعماله واستصوبوها حتى اليوم الأخير، ولو لم يشجعه رؤساؤه على قسوته وعلى طريقته السريعة في الحكم على السجناء ما استمرت سلطته، وبقضاء مجلس العهد على فوكيه تنفيل قضى على دوره الرهيب.
وبجانب فوكيه تنفيل نذكر دومًا الذي أظهر قسوة عظيمة كانت تصدر عن خوفه الشديد، فقد كان دومًا لا يخرج إلا مُسلَّحًا، وكان يمتنع عن مواجهة الناس، ولا يكلم الزائرين إلا من كوَّة، وكان يسيء الظن بالناس، ومنهم زوجته التي دفعه سوء ظنه بها إلى سجنها ثم إلى قتلها.
ومن الذين ظهروا في دور العهد واشتهروا بهمجيتهم نذكر بيوفارين الذي هو عنوان الوحشية الحيوانية.
«فقد كان يظل في ساعات الغضب والضيق هادئًا قائمًا بعمله الرهيب، وكان يحضر رسميًّا مذابح سجن الأبيئي ويهنئ الجزارين، ويجزل لهم الأجر، ثم يدخل بيته كأنه راجع من النزهة، وكان — وهو رئيس النادي اليعقوبي ورئيس مجلس العهد وعضو في لجنة السلام العامة — يجر الجيرونديين والملكة وسيده السابق دانتون إلى المقصلة، وقد استصوب ضرب مدينة ليون بالمدافع وإغراق مدينة نانت، وهو الذي رتب لجنة أورانج الظالمة، وكان يحرِّض فوكيه تنفيل على أعماله، وكثيرًا ما كان يجيء اسمه على رأس مراسيم أحكام الموت التي كان يمضيها قبل زملائه غير راحم أو متأثر أو هائج، وكان يسير في طريقه عندما كان هؤلاء يترددون أو يتمهلون متفوهًا بكلمات ضخمة هازًّا ذؤابته كالأسد، ولما أحدق الخطر بروبسپير وسان جوست وكوتون تركهم وانضم إلى الحزب المعارض ليضرب رقابهم، ولكن لماذا؟ إن المرء ليحار في الجواب، وهو الذي لم يطمع بشيء ولم يبتغ مالًا ولا سلطانًا».
أظن أن الجواب ليس صعبًا، فالعطش إلى القتل عند بعض المجرمين يوضح لنا سر سلوك بيوفارين، وأكثر المجرمين يقترفون القتل للقتل نفسه، وهم، كالصيادين، يُصمون الصيد قضاءً لما في نفوسهم من شهوة الإتلاف الغريزية، والخوف من الشرطي والمقصلة يردعهم، وهم المفطورون على تلك الغرائز السفاكة، عن اقتراف الجرائم في الأزمنة العادية، ولكنهم عندما يحل الوقت الذي يطلقون فيه أعنتهم يتأخرون عن الإجرام.
وأما نفسية مارا فأكثر غموضًا، لا لأنه كان فيه — عدا ميله إلى القتل — عوامل أخرى كعزة نفسه المكلومة وطمعه وعقائده إلخ؛ بل لأنه كان ولوعًا بالمراتب السنية ولعًا بلغ حدَّ الجنون، وكان متعصبًا لبعض المبادئ تعصبًا جاوز حدَّ الجمود.
كان مارا ذا مزاعم علمية في الدور السابق، وكان يحلم فيه بالمناصب والمعالي، ولكن لم يعر أحد ترهاته أذنًا صاغية، ولم ينل سوى وظيفة حقيرة عند أحد الأمراء الإقطاعيين، فلما اشتعلت الثورة الفرنسية أراد الانتقام من المجتمع السابق الذي كان يجحد فضائله فأصبح على رأس أشد الطغاة، وقد أنشأ — بعد أن مجد مذابح سپتمبر جهرًا — جريدة وشى فيها بأناس كثيرين طالبًا قتلهم، وهو، لو لم تقتله شارلوت كورداي بخنجرها، ما تفلت من ساطور المقصلة حتمًا.
(٥) مصير رجال العهد الذين ظلوا أحياء بعد انتهاء الثورة الفرنسية
وجِد بجانب رجال العهد الذين كانت لهم نفسية خاصة رجال آخرون، كباراس وفوشيه وتاليان وميرلان دوتيونفيل، لم يكونوا من ذوي المعتقدات أو المبادئ، ولم يبالوا بغير الإثراء.
اغتنى أكثر اليعاقبة (مثل شابو وبازير ومرلن وباراس وبورسول وتاليان وبارير)، فصاروا أصحاب قصور وأطيان، ومن لم يغتنِ منهم في البداءة أثرى في النهاية، وقد وُجد في لجنة السنة الثالثة وحدها رجال أصبح أحدهم في المستقبل أميرًا، وصار ثلاثة عشر رجلًا منهم من الكونتات، وخمسة رجال منهم من البارونات وسبعة رجال منهم أعضاء في مجلس الشيوخ الإمبراطوري وستة رجال منهم أعضاء في مجلس الشورى، ونعد بجانبهم خمسين ديموقراطيًّا كانوا أعضاء في مجلس العهد فصاروا في أقل من خمس عشرة سنة أرباب مخازن وعربات وأوقاف وفنادق وقصور، ومن هؤلاء الخمسين نذكر الدوك أورتان والكونت روينول، ولما مات فوشه كان ميراثه خمسة عشر مليونًا.
وهكذا أُعيدت امتيازات العهد السابق التي انتهكت حرمتها، ولكن لم يتم الوصول إلى هذه النتيجة إلا بتخريب فرنسة وإحراق ولايات بأسرها وقتل نفوس كثيرة وإيقاع كثير من الأُسَر في الغم الشديد وإقلاق أوربة وموت مئات الألوف من الناس في ميادين الحرب.
نختم هذا الفصل الذي بحثنا فيه عن نفسية كثير من زعماء الثورة الفرنسية بما يأتي:
إذا كان علم الأخلاق — وهو الباحث في القواعد التي يجب على المجتمعات أن تحترمها لتعيش — يقضي على علمائه أن يكونوا أشداء في أحكامهم على بعض الأشخاص، فإنه ليس في علم النفس ما يجعل علماءه أشداء مثلهم، فغاية علم النفس هي إدراك الأسباب، ولسرعان ما يزول النقد تجاه هذا الإدراك.
والروح البشرية آلة سريعة الانكسار؛ ولذلك قلما تستطيع الحوادث التي تمثل على مسرح التاريخ أن تقاوم القوى المحركة لها، وبما أن هذه القوى المهيمنة مؤلفة من الوراثة والبيئة والأحوال فإنه لا يستطيع أن يقول متيقنًا ما يُصبح سيره لو كان في مكان من يحاول أن يفسر أعمالهم من الرجال.