تقدم العقائد الثورية بعد الثورة الفرنسية
(١) انتشار المبادئ الديموقراطية البطيء بعد الثورة الفرنسية
تحافظ المبادئ التي رسخت في النفوس على نفوذها أجيالًا كثيرة، ولم تشذ المبادئ التي أعلنتها الثورة الفرنسية عن هذا الناموس، فمع أن دوام تلك الثورة، كحكومة، كان قصيرًا جدًّا نرى تأثير مبادئها قد طال كثيرًا، وعلة ذلك أن هذه المبادئ لما صارت معتقدًا ذا صبغة دينية حولت وجهة مشاعر كثير من الأجيال وأفكارهم تحويلًا أساسيًّا.
استمرت الثورة الفرنسية وقتًا طويلًا، ولا تزال مستمرة، وذلك مع ملاحظة بضع فترات وقعت، ولم يقتصر تأثير ناپليون على قلب العالم وتغيير خريطة أوربة وتجديد أعمال الإسكندر؛ بل كان لحقوق الشعب الجديدة، التي أعلنتها ثورتنا الكبرى وثبَّتها ناپليون في أناظيم وقوانين، تأثير عظيم في كل مكان، وقد عاشت هذه الحقوق الثورية، التي أعان ناپليون على انتشارها، بعد زوال ملكه.
وما وقع بعد الدور الإمبراطوري من الحوادث التي أدت إلى إقامة الملكية أنسى الناس شيئًا من مبادئ الثورة الفرنسية في بدء الأمر، وقد تركت هذه المبادئ أثرًا في نفوس عدد يسير من النظريين الوارثين لنظرية اليعاقبة البسيطة، والمعتقدين أن القوانين تجدد المجتمعات، فأراد هؤلاء استئناف العمل.
أخذوا يذيعون مبادئهم مما ينشرونه من مقالات وكتب، ونشأ عن تقليدهم رجال الثورة الفرنسية عدم بحثهم في مسألة ملاءمة خططهم الإصلاحية لطبيعة البشر، وهاهم أولاء قد أقاموا، مثل رجال الثورة الفرنسية، مجتمعًا وهميًّا ظانين أن تحقيق أحلامهم فيه يجدد النوع الإنساني.
والنظريون في كل جيل — وإن لم يقدروا على البناء — أثبتوا أنهم قادرون على التخريب. قال ناپليون في جزيرة القديسة هيلانة: «لو قامت ملكية من صوان لاستطلاع النظريون أن يحولوها إلى غُبار».
ومن بين أولئك الخياليين، الذين نذكر منهم سان سيمون وفوريه وپيارلير ولويس بلان وكينيه، نرى أن أُوغست كونت وحده هو الذي أدرك وجوب نشوء الأفكار والعادات قبل التنظيم السياسي.
ولا تؤدي خطط النظريين الإصلاحية في الوقت الحاضر إلى انتشار المبادئ الديموقراطية بل تعوق سيرها، فالشيوعية تخوف أرباب المال والطبقات العاملة، وقد رأينا في الفصل السابق أن الخوف منها كان عاملًا أساسيًّا في إعادة النظام الإمبراطوري.
ومع أن ما ألَّفه كتَّاب النصف الأول من القرن التاسع عشر لا يستحق أن يجادل فيه فإنه يثبت ما للمبادئ الدينية والأدبية المحتقرة الآن من الشأن في ذلك الزمن، فالمصلحون في كل زمن سعوا إلى إقامة المجتمعات الجديدة على ما لا تقوم بغيره من المعتقدات الدينية والأخلاقية.
وإلامَ يستند المصلحون في إيجاد تلك المعتقدات؟ يستندون إلى العقل، فما دام العقل هو الذي يصنع الآلات المعقدة فلمَ لا يستعينون به على إيجاد معتقدات دينية أو خلقية؟ لم يخطر على قلب أحد منهم أن المعتقدات المذكورة لا تقوم على أساس العقل أبدًا، حتى إن ذلك خفي على أُوغست كونت نفسه، فقد أسس دينًا وضعيًّا لم ينتحله سوى بضعة أشخاص حتى الآن، ويأمر هذا الدين بتعيين كهنة يديرهم حَبر جديد غير الحبر الأعظم للمذهب الكاثوليكي.
ولم ينشأ عن هذه الأفكار السياسية والدينية والخُلُقية غير تحويل الجماعات عن المبادئ الديموقراطية، أقول ذلك والمبادئُ الديموقراطية آخذة في الانتشار السريع، وإنما يقع هذا الانتشار بتأثير طرق الحياة الجديدة، لا بتأثير النظريين، فقد أوجبت مبتكرات العلم تقدم الصناعة، وتأسيس مصانع عظيمة، وتغلُّب مقتضيات الاقتصاد على عزائم الحكومات والشعوب شيئًا فشيئًا، وفسُح المجال في الوقت الحاضر للمذهب الاشتراكي والمذهب النقابي، أي لمظهري الأفكار الديموقراطية.
(٢) النصيب المتفاوت لمبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة
يمكن تلخيص ميراث الثورة الفرنسية في ثلاث كلمات: الحرية والمساواة والإخاء، وقد رأينا أن تأثير مبدأ المساواة وحده كان عظيمًا.
وقد اختلف الناس في فهم تلك الألفاظ، ومن الأمور المعلومة أنه نشأ عن الاختلاف في تفسير الألفاظ الواحدة حروب كثيرة.
كانت كلمة الحرية تدل عند رجال العهد على حقهم في الاستبداد المطلق، والآن تدل عند الشاب المتعلم على تحرير النفس من كل احترام لما يضغطها من تقاليد وقوانين وأفضليات، وهي تدل عند يعاقبة الوقت الحاضر على حقهم في اضطهاد خصومهم.
يذكر الخطباء السياسيون كلمة الحرية من وقت إلى آخر في خطبهم، وقد عدلوا عن ذكر كلمة الإخاء؛ لدعوتهم اليوم إلى تطاحن الطبقات، لا إلى التوفيق بينها، وما وجد حقد يفرق بين طبقات الأمة وأحزابها السياسية مثل الحقد الذي ينفثون سمومه، وبينما يتزعزع مبدأ الحرية ويتقلص مبدأ الإخاء نرى مبدأ المساواة ينمو، وقد بقي هذا المبدأ على رغم ما وقع في فرنسة من الانقلابات السياسية منذ قرن، وقد بلغ من الاتساع مبلغًا صار به أساسًا لحياتنا السياسية والاجتماعية وقوانيننا وعاداتنا وتقاليدنا، ولو من الجهة النظرية على الأقل.
فمبدأ المساواة هو ميراث الثورة الفرنسية الصحيح، وليس الاحتياج الحاضر إلى المساواة أمام القانون وفي المناصب والأموال إلا طور الاشتراكية، أي طور الديموقراطية الأخير، وكلما عم هذا الاحتياج عظُم سلطانه وإن خالف سنن الحياة والاقتصاد، وهو صورة جديدة لما بين العقل والمشاعر من الصراع الذي قلَّما يخرج العقل منه ظافرًا.
(٣) ديموقراطية الكتاب والديموقراطية الشعبية
يمكن رد جميع المبادئ التي قلبت العالم إلى ناموسين: النشوء البطيء والتكيف على حسب اختلاف النفوس.
ويشبه المذهب ذوات الحياة، فهو لا يعيش إلا إذا تحول، وبما أن الكتب لا تذكر هذا التحول فيكون ما تقرره هو طور الماضي، أي صورة الموت هي التي ترسم فيها، لا صورة الحياة.
وقد أثبتُّ في كتاب آخر كيف تتحول النظم واللغات والفنون عندما تنتقل من أمة إلى أخرى، وبينت درجة اختلاف سنن هذه التحولات عما يرد في الكتب، والذي يجعلني أشير إلى ذلك الآن هو أنني أريد أن أوضح علة عدم مبالاتي في البحث عن الديموقراطية بما يجئ في مذاهبها من النصوص، وعلة كوني أقتصر على التنقيب عن عناصرها النفسية وعن تأثيرها في طبقات الناس الذين ينتحلونها.
يتحول المبدأ الأول بسرعة عند ذوي النفسيات المختلفة، ولا يلبث هذا المبدأ أن يصبح عُنوان أمور كثيرة التباين، ويطابق هذا الرأي المعتقدات الدينية والسياسية، فعندما يبحث في الديموقراطية مثلًا يجب تحقيق مدلول هذه الكلمة عند مختلف الأمم، وتحقيق الفرق في الأمة الواحدة بين ديموقراطية الكتاب والديموقراطية الشعبية.
ويسهُل علينا، عند وضعنا هذه الملاحظة موضع الاعتبار، أن نحقق أن ما يرد في الكتب والجرائد من الأفكار الديموقراطية لم يكن غير نظريات خالصة يضعها الكتَّاب ولا يعلم الشعب من أمرها شيئًا ولا يفيده العمل بها، فإذا حاز العامل نظريًّا حق اختراق الحواجز التي تفصله عن الطبقات القائدة بالمسابقات والفحوص فإن أمل وصوله إلى ذلك عمليًّا ضعيف جدًّا.
وليس لديموقراطية الكتاب غاية سوى إيجاد فريق من الناس تتألف منهم طبقة الأمة القائدة، وإننا نأسف على تأدية هذه الديموقراطية إلى إقامة حقوق مطلقة تخص جماعة مستبدة قصيرة النظر مقام ما للملوك من الحقوق الإلهية، فالحرية لا تكون بإحلال استبداد محل استبداد.
وأما الديموقراطية الشعبية فلا تسعى إلى إنشاء فريق من القادة، وهي — لشدة اهتمامها بالمساواة وتحسين أحوال العمال — ترفض مبدأ الإخاء ولا تبالي بالحرية، ولا تتصور شكلًا للحكومات غير الشكل الاستبدادي، وذلك ما يبدو لنا من هُتافها للحكومات المستبدة التي ظهرت منذ نشوب الثورة الفرنسية، ومن الطريقة القهرية التي تسير عليها نقابات العمال.
والفرق النفسي بين ديموقراطية العمال وديموقراطية الكتاب ليس بالأمر الخفي؛ فالفريقان لا يتكلمان لغة واحدة، ويصرح رجال النقابات بأن الاتفاق لا يمكن أن يسودهما.
حقًّا إن الاتفاق بينهما لا يمكن أن يكون، وهذا هو السبب في عدم ظهور مفكرين عظام يدافعون عن الديموقراطية الشعبية منذ زمن أفلاطون.
(٤) التفاوت الطبيعي والمساواة الديموقراطية
مشكلة التوفيق بين المساواة الديموقراطية والتفاوت الطبيعي من أصعب مشاكل الوقت الحاضر، وليست أماني الديموقراطية مجهولة لدينا، فلنبحث عن جواب الطبيعة عن هذه الأماني.
اصطدمت المبادئ الديموقراطية، التي زعزعت العالم منذ عصر البطولة اليونانية، بما نشأ عن الطبيعة من التفاوت، والمؤلفون الذين قالوا مع هلفيسيوس إن التفاوت بين الناس صادر عن التربية قليلو العدد؛ فالطبيعة لا تعرف المساواة، وقد وزعت أمور العبقرية والحسن والصحة والقوة والذكاء توزيعًا مختلفًا، ولا تقدر النظريات على تحويل هذا الاختلاف، فستظَلُّ المذاهب الديموقراطية محصورة في مجال الألفاظ حتى اليوم الذي ترضى فيه نواميس الوراثة بتوحيد أهليات الناس.
وهل يجوز أن نفرض أن المجتمعات تستطيع أن تصنع المساواة التي أنكرتها الطبيعة؟ استمر بعض النظريين على القول إن التربية قادرة على إحداث مساواة عامة، ولكن التجارب التي وقعت في عدة سنين أثبتت ضعف نظرهم.
ويستحيل على الاشتراكية — عند انتصارها — أن تقيم دعائم المساواة بقضائها على أفاضل الناس، ولا يصُعب إدراك مصير أمة أهلكت صفوتها في زمن تتقدم فيه الأمم المجاورة بما عندها من خيار الرجال.
وليس أمر الطبيعة مقتصرًا على عدم إقرارها بالمساواة، بل إنها أوجبت تقدم العالم بما أدت إليه من التفاوت الزائد، وهذا التفاوت هو الذي أوجد، من خلايا الأدوار الجيولوجية، أناسًا غيَّرت اكتشافاتهم وجه الأرض.
ويشاهد مثل ذلك في المجتمعات، فالديموقراطية التي تصطفي أذكياء الشعب تؤدي — في نهاية الأمر — إلى وجود أريستوقراطية ذهنية مخالفة لحلم النظريين بخفض عناصر المجتمع الراقية إلى مستوى عناصره الدنيا.
والآن يشاهد الناس أنه كلما حاولت القوانين والنظم مساواة الأفراد زاد تقدم الحضارة تفاوتهم، فقد كان الفرق الذهني بين الأمير الإقطاعي والفلاح ضئيلًا في العهد السابق، ولكنه أصبح عظيمًا بين العامل والمهندس في هذه الأيام، وهو آخذ في الزيادة.
وصارت الأهلية عاملًا أساسيًّا للرقيِّ، فذوو الأهلية من كل طبقة يصعدون، والعاطلون منها يقفون أو ينزلون، وما تفعل القوانين في مقتضيات الزمن التي لا مفر منها؟
ومن العبث أن يزعم فاقدو الأهلية أنهم أصحاب القوة لكثرة عددهم، فالقضاء على ذوي الأدمغة العالية التي تفيد العمال بمباحثها يوقع العمال في الفاقة والفوضى.
وما لصفوة الناس من الشأن العظيم في المدنيات الحديثة واضح لا يحتاج إلى إثبات، فعند الأمم المتمدنة والأمم المتأخرة طبقة متوسطة متماثلة، وإنما الذي يجعل الأمم المتمدنة أعلى من الأمم المتأخرة هو ما عند الأمم المتمدنة من صفوة لا نظير لها عند الأمم المتأخرة، وقد أدركت الولايات المتحدة ذلك فأغلقت أبوابها دون عمال الصين الذين يتصفون بأهلية كالتي عند عمال أمريكة ويزاحمونهم في ميدان الصناعة بأجور بخسة.
يزيد النفور بين العوامِّ والخواص كل يوم، ومع أن الاحتياج إلى الخواص لم يشتد في وقت اشتداده في زماننا، فإن الصبر على هذا الاحتياج لم يصعُب في دور مثل صعوبته في الدور الحاضر.
ونعدُّ الحقد الشديد على صفوة الناس من صفات الاشتراكية، وينسى أنصار الاشتراكية أن مبتكرات العلم والفن والصناعة هي سرُّ قوة البلاد وسعادة من فيها من ملايين العمال، وأن هؤلاء العمال مدينون لأصحاب العقول السامية الذين أتوا بتلك المبتكرات، فلو أن معجزة جعلت الناس ينتحلون الاشتراكية قبل قرن، وقضت هذه الاشتراكية على صفة المخاطرة وإنعام النظر والمبادرة وكل باعث على العمل لأدَّى ذلك إلى الوقوف وفقر العامل، والباعث على القول بالمساواة في البؤس هو ما يغلي في صدور بعض ذوي السُّخف من الشهوة والحسد، ولن يعدل البشر عن تقدم الحضارة إرضاءً لمثل هذه الأهواء الدنيئة.