نتائج النشوء الديموقراطي
(١) تأثير المبادئ التي لا قيمة عقلية لها في النشوء الاجتماعي
بيَّنَّا في الفصل السابق أن السنن الطبيعية لا تلائم الأماني الديموقراطية، ومن الأمور المعلومة أنه لا تأثير لهذه الحقيقة في المبادئ الراسخة في النفوس، فالإنسان لا يبالي بما في المعتقد الذي يسيِّره من القيمة الحقيقية، والفيلسوف الذي يبحث عن هذا المعتقد، وإن وَجَبَ عليه أن يجادل في قيمته العقلية، يجب عليه أن ينقِّب عن تأثيره في النفوس أيضًا.
وتبدو أهمية هذا التقسيم عند الاستعانة به على تفسير المعتقدات التي ذكرها التاريخ، فمع أن جوپيتر وفيشنو وغيره من الآلهة خيالات من الجهة العقلية كان شأنها عظيمًا في حياة الأمم، وكذلك كان شأن المعتقدات التي سادت القرون الوسطى وحَنَتْ ظهور ألوف الناس أمام الهياكل، ومن هو في شك من هذا فليقابل بين تغلُّب الدولة الرومانية وتغلب الكنيسة؛ فقد كان تغلُّب الرومان ملموسًا لا ريب فيه، وكان تغلب الكنيسة قائمًا على أسس وهمية، إلا أنه اتفق لتغلب الكنيسة من السلطان القوي ما اتفق لتغلب الرومان، ففي القرون الوسطى المظلمة نالت به الأمم الهمجية ما لا تقوم حضارة على غيره من الروادع الاجتماعية والروح القومية، ويثبت هذا السلطان الذي نالته الكنيسة قدرة بعض الأوهام على إيجاد مشاعر مخالفة لمنافع الفرد والمجتمعات كالرهبانية، والحروب الصليبية، وحروب الدين … إلخ.
وإذا عرضنا الملاحظات السابقة على المبادئ الديموقراطية والاشتراكية ظهر لنا أن نجاح هذه المبادئ لا يتطلب قيامها على أساس متين، وإنما يكفيها أن تبسط سلطانها على القلوب.
ومن الخطأ أن يكلف دعاة المذاهب الجديدة أنفسهم عناءَ البحث عن أساس عقلي يفسرون به أمانيهم، فتأثيرهم يكون أتم وأكمل إذا اقتصروا على التوكيد وبث الآمال، وما قوتهم إلا في النفسية الدينية الملازمة قلب الإنسان، والتي لم تغير سوى المواضيع في مختلف الأجيال، وقد قلنا، عندما تكلمنا عن الكنيسة في القرون الوسطى، إنها قدرت على التأثير في نفوس الناس، فعندما يتحقق شيءٌ من آمال المذاهب الديموقراطية نرى أن سلطانها لا يكون أقل من سلطان الكنيسة في القرون الوسطى.
(٢) الروح اليعقوبية والنفسية التي نشأت عن المعتقدات الديموقراطية
لم يقتصر ميراث الأجيال الحديثة على المبادئ الثورية، بل اشتمل على النفسية التي أوجبت انتصار هذه المبادئ أيضًا.
وقد وصفنا هذه النفسية عند البحث في الروح اليعقوبية، فأثبتنا أنها تميل إلى إكراه الناس على قبول أوهامها التي عدتها حقائق، ولم تلبث الروح اليعقوبية أن عمت فرنسة والبلدان اللاتينية الأخرى، فاستحوذت فيها على أحزابها، ومنها الأحزاب المحافظة.
ونتيجة انتشار الروح اليعقوبية هي حمل الناس على المبادئ السياسية والنظم والقوانين قسرًا، وهذا هو السر في أن المذهب النقابي — الذي هو سلمي ومنظم في البلاد الأخرى — لم يلبث أن نهج عندنا نهجًا فوضويًّا متجليًا في صورة اضطرابات وتحريق وتخريب.
وإذا استولى الخوف على الحكومات، فلم تَكْبَحْ جماح الروح اليعقوبية، أفسدت هذه الروح أصحاب العقول الصغيرة، فلما وافق ثلثُ المندوبين في مؤتمر المعدِّنين الأخير على سياسة التخريب قال أحد كتاب المؤتمر: «أُهدي إلى كل من يعمل بسياسة التخريب من العمال سلامي الأخوي وإعجابي القلبي».
وتوجب هذه الذهنية العامة زيادة الفوضى في البلاد، وإذا لم تكن فرنسة الآن في ثورة مستمرة فذلك لما هو واقع بين أحزابها من توازن، نعم، إن كل حزب فرنسي مفعم من الحقد الشديد على الأحزاب الأخرى، ولكن لم يملك واحد من هذه الأحزاب قوة كافية لإخضاع غيره.
وقد سارت الروح اليعقوبية في البلاد مسيرًا جعل حكامنا أنفسهم يتذرعون بأشد الوسائل الثورية لقهر خصومهم، فاضطهدوا هؤلاء الخصوم وجردوهم من أموالهم من غير أن تحتج الأحزاب على ذلك، وما أشبه سِيَر حكامنا في الوقت الحاضر بسير الفاتحين في القرون القديمة حين لا أمل للمغلوب!
إذن، ليس عدم التسامح خاصًّا بالعوام، بل يشاهد عند ولاة الأمور أيضًا، وقد لاحظ ميشله — منذ زمن طويل — أن استبداد المتعلمين أشد من استبداد العوام في بعض الأحيان، ولا ريب في أن المتعلمين لا يكسرون المصابيح، ولكن لسرعان ما يسهل عليهم ضرب الرقاب، فالمتعلمون والأساتذة والمحامون، الذين ظُنَّ أن ما نالوه من التهذيب المدرسي ألانَ طباعهم هم الذين اقترفوا أشد المظالم أيام الثورة الفرنسية، ولم يُلَطِّفِ التعليم طباع الناشئة في الوقت الحاضر أكثر من قبل، وهذا يظهر من قراءة الجرائد والرسائل التي ينشرها أساتذة الجامعات، فيسأل القارئُ متعجبًا كيف اشتعل الحقد في قلوب هؤلاء الذين حالفهم الحظ الحسن.
ولم يكونوا صادقين في قولهم إن محبة الغير هي التي تدفعهم إلى ذلك، فروحهم الدينية الضيقة وشوقهم إلى الشهرة هما سبب ما ينشرون من رسائل الدعوة، وقد استشهدت في مؤلف آخر بعبارات أحد أساتذة مدرسة فرنسة (كوليج دوفرانس) التي جاءت في أحد كتبه وحرض فيها الشعب على نهب أموال الطبقة الوسطى التي يلعنها، فاستنتجت منها أنه إذا اشتعلت ثورة جديدة سهُل عليها أن تجد بين مؤلفي تلك الرسائل أعوانًا مثل مارا وروبسپير وكاريه.
وإذا نفِدت شؤون المذاهب الدينية السابقة فإن حقيبة المبادئ الديموقراطية لا تزال ملأى، ونرى أنه يخرج منها كل يوم شيءٌ جديد، ونعد الحقد على الأفضليات من أهم ما خرج منها، وقد عم الحقد على كل من يجاوز المستوى المتوسط، فكان من نتائج هذا الحقد شيوع الحسد والغيبة والميل إلى الهجو والسخرية والجفاء وارتكاب الدنايا وجحود الصدق والنزاهة والذكاء، ومن يدقق في أحاديث المتعلمين والشعب يعلم أنهم ينتقصون فيها أكابر الرجال ويحطون من قدرهم، ولم ينجُ أعاظم الموتى من أن يكونوا عرضة لمثل ذلك الانتقاص، فلم تؤلف كتب أكثر من التي استصغرت فيها قيمة المشاهير الذين عُدُّوا أثمن ميراث حوته البلاد في الماضي.
نرى اليوم غريزة سافلة ثورية عاطلة من حلية الأدب لا غاية لها سوى خفض البشر إلى الدرك الأسفل، وهي تعد كل أفضلية — ولو علمية — خروجًا على المجتمع، فهذا الميل اللئيم إلى المساواة هو الذي كان مشتعلًا في قلوب اليعاقبة السفاكين حينما قطعوا أعناق لاڤوازيه وشينيه وغيرهما.
وليس الحقد على الأفضليات — العامل على انتشار الاشتراكية الآن — هو كل ما تتصف به الروح الجديدة الناشئة عن المبادئ الديموقراطية، بل نرى عوامل أخرى مهمة تقوَّى بها هذه الروح، وهذه العوامل هي: تقدم المذهب الحكومي، وتناقص ما عند الطبقة الوسطى من النفوذ والقوة، وزيادة تأثير الملايين، وتنازع الطبقات، واضمحلال الروادع الاجتماعية القديمة، وانحطاط الآداب.
إن المرض الذي يقوض أسطولنا هو كالذي يقوض جيشنا وإدارتنا ودواويننا ونظامنا النيابي ونظامنا الحكومي ومجتمعنا بأسره، وهذا المرض هو الفوضى، أي ارتباك النفوس وسائر الأمور ارتباكًا تنجز به الأعمال على وجه غير معقول، ويسير به كل امرئ على وجه ينافي الواجب والأدب.
وقال رئيس بلدية باريس مسيو فليكس روسِّل: «ليست بحريتنا علة دائنًا، بل إن هذه العلة أعم من ذلك، وتُلخَّص في ثلاث كلمات: عدم التبعة، وقلة النظام، والفوضى».
ويدل ذلك على أن أشد المدافعين عن النظام الجمهوري يعترفون بتدرجنا إلى الانحلال الاجتماعي شاعرين بعجزهم عن تلافيه، وعلة هذا العجز صدور ذلك الانحلال عن مؤثرات نفسية أقوى من عزائمنا.
(٣) الانتخاب العام ومُنْتَخَبُوه
الانتخاب العام هو أحد المبادئ الديموقرطية الجوهرية الفتانة، وذلك أن مبدأ المساواة يتجلى فيه بتساوي الأغنياء والفقراء والعلماء والجهلاء والوزراء والأجراء ساعة أمام صُندوق الانتخاب، وقد خافت الحكومات كلها — ومنها حكومات الثورة الفرنسية — أمر الانتخاب العام، ومن ينعم النظر فيه يرَ — أول وهلة — إمكان الاعتراض عليه، ومما تأباه النفوس توهم قدرة العوام على انتخاب رجال صالحين للحكم، أي قدرة أناس قليلي المعرفة والتهذيب محدودي النظر على نيلهم بكثرة العدد أهلية يحسنون بها التمييز بين المرشحين.
وإذ إنه يتعذر أن يحل في الوقت الحاضر أي نظام محل الانتخاب العام وجبت ملاءمته، ولا يفيد الاحتجاج عليه والقول مع الملكة ماري كارولين أيام محاربتها ناپليون: «لا شيء أحق بالمقت من حكم الناس في هذا الزمن الذي يُنَقِّب الأساكفة فيه عن عورات الحكومة ويسخرون منها».
والحق أن كل اعتراض على الانتخاب العام ليس له من القوة ما يبدو أول وهلة، فلما ثبتت عندنا صحة سنن روح الجماعات صرنا نشك في أن اتخاذ طريقة الانتخاب المحدود يؤدي إلى اختيار رجال أفضل من الذين يتم اختيارهم على حسب طريقة الانتخاب العام، وذلك أن تلك السنن تدلنا على أن الانتخاب الموصوف بالعام ليس إلَّا وهمًا، وذلك بما أن رأي الجماعة هو رأي زعمائها في الغالب، فإن ذلك الانتخاب أضيق انتخاب، وهنا الخطر كله، وذلك أن الزعماء القابضين على زمام هذا الانتخاب هم صنائع لجان محلية صغيرة مشابهة لأندية الثورة الفرنسية الكبرى، وهم الذين ينتخبون النائب، ومتى كمل انتخاب هذا الأخير أصبح ذا سلطة محلية مطلقة على أن ينظر إلى مصالح تلك اللجان، وذلك ما ينسيه منفعة البلاد العامة.
تحتاج اللجان إلى أناس مطيعين، فلا تنتخب للنيابة رجالًا ذوي ذكاء عالٍ وأدب رفيع، وإنما تنتخب لها أناسًا من ذوي الأخلاق الهينة الذين ليس لهم مكانة اجتماعية، ويخضع النائب لتلك اللجان — التي هي مبعث شهرته — خضوعًا تامًّا فيقول ما تقول ويعمل كما تأمر، ويمكن تلخيص ما يدعو إليه خياله السياسي بكلمة «طع تدم»، على أنه قد يحدث أن يستأثر بعض الرجال، بما لهم من الشهرة أو المنزلة أو الثروة، بأصوات الشعب من غير أن تتدخل اللجان المحلية الوقحة في ذلك.
إذن، ليس الانتخاب العام في بلاد ديموقراطية كفرنسة في غير الظاهر، وهذا هو السر في وضع كثير من القوانين التي لا منفعة للأمة فيها، كقانون اشتراء سكك الغرب الحديدية والقوانين التي سنت ضد اليسوعيين، ولا تعبر هذه الأمور عن غير ما أملته اللجان المحلية المتعصبة على النواب من المطاليب.
ويبدو تأثير هذه اللجان عند الاطلاع على اضطرار أكثر النواب اعتدالًا إلى الدفاع عن الفوضويين الذين يخربون دور الصناعة، وعلى اتفاقهم مع القائلين بعدم التجنيد، وعلى قبولهم أنحس المطاليب طمعًا في تجديد انتخابهم.
(٤) الاحتياج إلى الإصلاح
الميل إلى الإصلاح بوضع المراسيم من أشد ما اتصفت به الروح اليعقوبية شؤمًا، وأعظم ما ورثناه من الثورة الفرنسية خطرًا، وهو أحد العوامل الأساسية التي أدت إلى ما وقع في فرنسة من الانقلابات منذ قرن.
ومع أننا قمنا — منذ أربعين سنة — بإصلاحات جديرة بأن يُدْعَى كل واحد منها ثورة صغيرة، لا نزال أقل أمم أوربة تحولًا، وقد تكون تلك الإصلاحات سبب هذا التحول البطيء، ويتجلى لنا هذا البطء عند النظر إلى ما عند الأمم من عناصر الحياة الاقتصادية والاجتماعية، أي ما عندها من تجارة وصناعة إلخ؛ إذ يظهر لنا أن تقدم كثير من الأمم — ولا سيما الأمة الألمانية — عظيم مع أننا نمشي الهوينا، وبيان ذلك أن نظامنا الإداري والصناعي والتجاري شاخ كثيرًا، وأصبح غير ملائم لمقتضيات الوقت الحديث، وأن صناعتنا صارت قليلة الفائدة، وبحريتنا التجارية أصبحت مشرفة على السقوط، وها نحن أولاء لا نقدر مزاحمة المصنوعات الأجنبية في مستعمراتنا، وقد أوضح وزير التجارة السابق مسيو كروپي هذا السقوط المحزن في كتاب وضعه حديثًا، فرأى أن النظم قادرة على معالجته، وعلى هذا الرأي جميع المشتغلين بالسياسة، ولذلك قلَّ تقدمنا، فكل حزب يعتقد أن الإصلاحات تداوي الأمراض، ويسوق هذا الاعتقاد الأحزاب إلى مخاصمات تجعل فرنسة أكثر بلاد العالم انقسامًا وطعمة للفوضى.
ولا نزال غافلين عن الحقيقة الدالة على أن قيمة الأمة بأفرادها، ومناهجهم، لا بأنظمتها، وليست الإصلاحات الشافية هي الإصلاحات الثورية؛ بل التي تتراكم مع الزمن، وتتم الانقلابات الاجتماعية الكبيرة مثل الانقلابات الجيولوجية بما يتجمع كل يوم من العوامل الصغيرة، وقد أثبت لنا تاريخ ألمانية الاقتصادي منذ أربعين سنة صحة هذا الأمر.
وما أكثر الحوادث العظيمة التابعة لناموس تجمع العوامل الصغيرة! فقد تنتهي المعركة الفاصلة أحيانًا في يوم واحد، ولكن النجاح فيها لا يتم إلا بما سبقها من الجهود الدقيقة المتراكمة ببطء، وقد رأينا ذلك سنة ١٨٧٠، ورآه الروس أخيرًا، فمع أن أمير البحر توغو أباد الأسطول الروسي في واقعة تسوشيما التي توقف عليها مصير اليابان فإن ألوفًا من المؤثرات الصغيرة البعيدة أوجبت هذا النصر، وليست العوامل التي نشأ عنها انكسار الروس أقل من ذلك، ونعُدُّ منها: نظامهم القرطاسي المعقد المؤدي — مثل نظامنا — إلى عدم المسئولية، ومنها عددهم الحربية التي يرثى لها على رغم ابتياعها بذهب يعدل وزنها، ومنها نظام الجوائز للموظفين، ومنها قلة المبالاة بمصالح البلاد.
والجزئيات التي تتألف عظمة الأمة منها هي من الخفاء ما لا تؤثر معه في الجمهور، ولا يصلح الاشتغال بها لقضاء منافع السياسيين الانتخابية، فلا يلتفت هؤلاء إليها تاركين البلاد التي ألقت إليهم مقاليد أمورها تتدرج إلى الانحلال فإلى الانقراض.
(٥) الفروق الاجتماعية بين أنواع الديموقراطية
ظن الناس — أيام الانقسام إلى قبائل والتفاوت في الأنساب — أن الفروق الاجتماعية صادرة عن سنة طبيعية، ولكن عندما زالت الفروق الاجتماعية القديمة ظهر أن الفرق بين الطبقات أمر مصنوع لا يطاق، فرأت الأمم الديموقراطية أن تتلافى ذلك بإحداث مراتب مصنوعة يستطيع نائلها أن ينتحل بها أفضلية على غيره، وما فشا الطمع في الألقاب والأوسمة في زمن فشوه اليوم.
ولا تأثير للألقاب والأوسمة في البلدان الصحيحة الديموقراطية كالولايات المتحدة، وإنما يتفاوت فيها الناس في المال، وقد يحدث أن فتيات مثريات يقترن فيها بذوي الألقاب الأريستوقراطية الأوربية، وهكذا يفعلن بغرائزهن ما يجعل أمة فتاة كالولايات المتحدة تنال ماضيًا ضروريًّا لثبات مزاجها الأدبي.
وإذا نظرنا إلى الأريستوقراطية التي نشاهد ظهورها في أمريكة من حيث العموم رأينا أنها لم تقُم على الألقاب والأوسمة، بل على المال؛ ولهذا لا تلقي هنالك في القلوب حسدًا كبيرًا، فكل امرئ في أمريكة يطمع أن ينال منه قسطًا كافيًا في أحد الأيام.
وقد كان توكڤيل يجهل — عندما ذكر رغبة الأمريكيين في المساواة في كتابه الباحث عن الديموقراطية — أنه سينشأ عن هذه المساواة المنتظرة تقسيم الناس إلى طبقات على حسب ما يملكون من الدولارات، ولا بد من حدوث ذلك في أوربة يومًا ما.
وليس في الوقت الحاضر ما يسمح لنا أن نعد فرنسة بلادًا ديموقراطية، وهنا نرى أنفسنا حيال ضرورة البحث عما ينطوي تحت كلمة الديموقراطية من الأفكار التي تختلف باختلاف البلدان.
وعندنا أنه ليس في العالم بلاد صحيحة الديموقراطية غير إنكلترة وأمريكة، فهذان البلدان — وإن تجلت فيهما الديموقراطية على شكلين مختلفين — تشاهد فيهما مبادئ واحدة، ولا سيما مبدأُ التسامح المطلق مع جميع الآراء والأفكار، ولكل امرئ في هذين البلدين اللذين لا عهد لهما بالاضطهادات الدينية، أن يتخذ المهنة التي تروقه، مهما كان عمره، من غير أن يقوم أي حاجز في وجهه.
ويعتقد الناس في ذينك البلدين أنهم متساوون؛ لعلمهم أنه لا شيء يمنعهم من الوصول إلى أعلى المراتب، فالعامل فيهما يعلم أنه يستطيع أن يكون عريفًا فمهندسًا، وإذ كان من الواجب على المهندس أن يبدأ فيهما بالصعود من أسفل الدرجات، لا أن يصعد إلى أعلاها دفعة واحدة، كما يقع في فرنسة، فإنه لا يعتبر نفسه من جوهر غير جوهر الناس، وهذا هو السر في كون الحقد — الشديد الشيوع عندنا — لم ينتشر في إنكلترة وأمريكة إلا قليلًا.
ولا محل للديموقراطية الفرنسية إلا في الخطب، وما في فرنسة من أنظمة المسابقات والامتحانات التي يضطر المرءُ وهو شاب إلى معاناتها يسد في وجهه أبواب المهن، ويحدث في صميم الأمة الفرنسية طبقات متباينة متخاصمة.
وعلى ذلك نرى أن الديموقراطية اللاتينية أمر نظري، وبتعبير آخر: قد حل الاستبداد الحكومي عندنا محل الاستبداد الملكي، ولم يكن أقل قسوة منه، وقد قامت الأريستوقراطية المالية في بلادنا مقام أريستوقراطية النسب، ولم تكن امتيازاتها أخفَّ وطأة.
والفرق بين الملكية والديموقراطية في الشكل أشد مما في الأصل، ويتبع الفرق الحقيقي بين نتائجهما ما عند الناس من النفسية المتحولة، ولا فائدة من المجادلات في قيمة مختلف الأنظمة التي تكون قيمتها بقيمة المرؤوسين، وتكون الأمة على شيء عظيم من الرقي إن علمت أن منزلتها بنسبة الجهود التي يقوم بها أفرادها، لا بنسبة جهود حكوماتها.