الأشكال الحديثة للمعتقدات الديموقراطية
(١) النزاع بين رأس المال والعمل
بينما يخبط المشترعون في أمر الإصلاح والاشتراع يتدرج العالم ببطء في مجراه الطبيعي فتحدث منافع جديدة، ويعظم ما بين الأمم من المزاحمات الاقتصادية، ويقوم العمال بضروب الفتن، وتظهر مشاكل مخيفة لا تحلها خطب رجال السياسة.
وأعقد المشاكل الجديدة ما يقع بين العمل ورأس المال من نزال، ولا يخلو بلد من ذلك حتى البلاد ذات التقاليد كإنكلترة، فقد عدل العمال عن احترام العقود، وأخذوا يُضربون لأسباب تافهة، وبلغت البطالة والعوز مبلغًا يقلق البال، وسرت عدوى الإضراب إلى أمريكة فعاقت صناعاتها، ولكن استفحال الداء فيها أدى إلى إيجاد الدواء، فنظم رؤساء الصناعات بينهم مواثقات كبيرة أصبحت من القوة بحيث تقدر على إلزام العمال طرقها التحكيمية.
ومما يزيد مشكلة العمال صعوبة في فرنسة اضطرارها — من أجل تناقص مواليدها — إلى قبول عدد كبير من عمال الأجانب، وينشأ عن ذلك التناقص أيضًا صعوبة محاربة الأمم المزاحمة التي سوف تلجئها قلة حقولها إلى الاستيلاء على البلدان القليلة السكان سائرة على أقدم ناموس عَرَفه التاريخ.
إن الصيني — كما بدا لي في منشورية — قادر على إبادة العامل الأبيض في الوقت الحاضر، ولا يفكر الاشتراكيون الذين يبشرون بالمساواة فيما تؤدي إليه نظرياتهم، فهل الجنس الأبيض صائر إلى الانقراض؟ إني على ما فيَّ من عجز وقلة بضاعة أرى أن مصيره يتوقف على عدم إصغائنا إلى الخطب القائلة إن التأهب للحرب أمر مضر لا فائدة فيه.
وإني أنصح العمال أن ينظروا بعين البصيرة إلى شؤون العالم في هذا الوقت فيبذروا في قلوب أولادهم حب الحرب، ويرضوا بما ينشأ عن الروح العسكرية من المحن، وأن لا يَنُوا في محاربة العمال الجدد المزاحمين، ولا يمنع الآسيويين عن الهجرة وخفض الأجور وعن الإقامة بين ظهرانينا غيرُ الحسام، فإذا لم ينتبه الأمريكيون والأوربيون إلى أن بقاء منزلتهم الممتازة متوقف على ما عندهم من قوة السلاح لم تلبث آسية أن تنتقم منهم.
ومن الأمور المعلومة أن هجرة الصينيين واليابانيين إلى أمريكة أصبحت كارثة وطنية بما أوجبته من المزاحمة للعمال البيض، وقد أخذ أولئك يهاجرون إلى أوربة أيضًا، ولكن هذه الهجرة لم تتسع بعد، على أن لمهاجري الصين مستعمرات مهمة في بعض المدن الأوربية كلندن وكارديف وليڤربول إلخ، وقد أحدث وجودهم فيها واشتغالهم بأثمان بخسة قلاقل كثيرة.
(٢) نشوء طبقات العمال والحركة النقابية
ربما كان نشوء العمال الحديث الناشئُ عن الحركة النقابية أكبر المشاكل الديموقراطية الحاضرة وأعظمها شأنًا، وقد انتشر المذهب النقابي القائم على تجمع المنافع المتماثلة فأصبح عالميًّا، ولبعض النقابات ميزانيات تعدل ميزانيات الحكومات الصغيرة، ونذكر — على سبيل المثال — أن دخل نقابات ألمانية بلغ واحدًا وثمانين مليونًا، ويدل شيوع الحركة النقابية في جميع البلدان على أنها ليست بدعة خيالية كالاشتراكية، بل هي نتيجة لمقتضيات الاقتصاد، ولا قرابة بين المذهب النقابي والاشتراكية من حيث الغاية ووسائل العمل، وقد أوضحتُ هذا في كتاب روح السياسة، فأكتفي الآن بتلخيص الفرق بينهما في بضعة أسطر:
ترغب الاشتراكية في الاستيلاء على الصناعات وتسليم إدارتها إلى الحكومة على أن توزِّع الحكومة منتجاتها بين أبناء الوطن على السواء، وأما النقابية فإنها بالعكس ترغب في إبطال تدخل الحكومة وتود تقسيم المجتمع إلى طوائف مهنية مستقلة.
ومع أن النقابيين يسخرون من الاشتراكيين ويصارعونهم فإن الاشتراكيين لم يألوا جهدًا في كتم هذا الصراع، ولكنه أصبح من الظهور بحيث يتعذر إخفاؤه، وسوف يخسرون قريبًا ما لهم من النفوذ السياسي، والسبب في توسع النقابية على حساب الاشتراكية هو تأليفها بين الاحتياجات المتولدة عن الاختصاص الصناعي في الوقت الحاضر.
حقًّا إننا نرى ظهور المذهب النقابي في بيئات مختلفة، ولم ينل هذا المذهب نجاحًا في فرنسة كما في البلدان الأخرى، فقد أدى لبسه ثوبًا ثوريًّا في فرنسة إلى سقوطه مؤقتًا بين أيدي فوضويين لا يبالون بأي نظام ولا يفعلون غير اتخاذ المذهب المذكور آلة لتقويض دعائم المجتمع الحاضر، وهكذا يتعاون الاشتراكيون والنقابيون والفوضويون عندنا — مع اختلاف مبادئهم — على محق الطبقات المسيرة للأمة ونهب أموالها.
ولا تشتق المبادئ النقابية من مبادئ الثورة الفرنسية أبدًا، وكثيرًا ما تناقضها مناقضة تامة، فالمذهب النقابي يأمر بالرجوع إلى أنظمة إلْبِيَّة قريبة من أنظمة طوائف المهن التي قضت عليها الثورة الفرنسية، وهو من المواثقات التي حرمت تلك الثورة تأسيسها؛ إذ يرفض النظام المركزي الذي أقامته الثورة المذكورة.
ولا يبالي المذهب النقابي بأي واحد من المبادئ الديموقراطية الثلاثة: الحرية والمساواة والإخاء، بل تطالب النقابات أعضاءها بالخضوع المطلق المبطل لكل حرية.
وليس عند النقابات من القوة ما يكفي لبَغي بعضها على بعض، ولذلك نراها تتقابل كالإخوة، ولكن لا بد من تطاحن منافعها المتباينة عندما تنال ما تصبو إليه من القوة، وذلك كما حدث أيام العهد النقابي في الجمهوريات الإيطالية، فوقتئذ تنسى ما تبديه اليوم من الإخاء ويحل محل المساواة استبداد نقابي.
ويظهر أن ذلك الوقت قريب، فالسلطة النقابية تعظم بسرعة، ولا ترى أمامها سوى حكومة عُزل لا تدافع عن نفسها، بل تخضع لمطاليب النقابات.
إن بلادنا ذات التاريخ الطويل الحافل بجلائل الحوادث لم تجد نفسها تجاه خطر داهم كالخطر الحاضر، ومصدر هذا الخطر هو تلك النقابة التي تهدد صناعة مجتمعنا وتجارته بالفالج مع أن حياة هذا المجتمع قائمة على ما فيه من مصانع ومتاجر.
ولا حد لسلطة المعدِّنين تحت ظل القانون الحاضر، فهل كان لنا عهد بمثل ذلك؟ وهل ظهر في بلادنا أمير إقطاعي أشد بغيًا من هؤلاء؟ وهل وُجِدَت نظيرَ أولئك مواثقةٌ أمريكية سخرت من المصلحة العامة مستعينة بما خولها القانون من الحقوق؟ إن ما في قوانيننا ونظامنا الاجتماعي وفي الصلات المتبادلة بين صناعاتنا ومهننا من الكمال يلقينا — أكثر من كل جيل سابق — في الخطر العظيم المحدق بالمجتمع في هذا الزمن، وها نحن أولاء نشاهد المظهر الأول لقوة العناصر التي سوف تغمر المجتمع إذا لم يحذر منها، ويدل الطور الذي تذعن الحكومات به لمطاليب المعدنين على انتصار أولئك الذين يقومون في وجه المجتمع.
(٣) لماذا تتحول بعض الحكومات الديموقراطية الحديثة بالتدريج إلى طوائف إدارية
إن ما ينشأ عن المبادئ الديموقراطية من الفوضى والمنازعات الاجتماعية يسوق بعض الحكومات إلى تحول مفاجئ قد ينتهي بجعل سلطتها اسمية فقط، ويقع هذا التحول — الذي نلخص نتائجه الآن — بتأثير بعض العوامل المهيمنة:
تتألف حكومة البلاد الديموقراطية من نواب تم اختيارهم على حسب طريقة الانتخاب العام، فيسنون القوانين ويعينون الوزراء ويسقطونهم، ولا يمضي وقت قصير على تسلم الوزراء زمام الأمور حتى يبدَّلوا، وبما أن من يحل محلهم من الوزراء ينتسبون إلى حزب آخر فإنهم يحكمون بمبادئ مخالفة لمبادئ سابقيهم.
ولا بد من تناقص ما للحكومات الديموقراطية من السلطة، ومن نواميس التاريخ الثابتة يتضح أنه متى عظمت شوكة إحدى الطبقات، كطبقة الأشراف أو الإكليروس أو الجيش أو الشعب، لا تلبث أن تستعبد الأخرى، فعلى هذا الوجه صارت الجيوش الرومانية تعين الأباطرة وتسقطهم، وقد لقي الملوك مصاعب شديدة في مكافحة الإكليروس، وابتلع مجلس النواب السلطة أيام الثورة الفرنسية ثم حلَّ محل الملك.
ونرى أن طائفة الموظفين ستكون دليلًا جديدًا على صحة هذا الناموس، وها هي ذي قد أخذت ترفع صوتها وتهدد وتعتصب بعد أن عظم أمرها، ومن ذلك اعتصاب موظفي البريد واعتصاب موظفي سكك الحكومة، وهكذا يتألف من السلطة الإدارية دولة صغيرة في وسط الدولة الكبيرة، ولا بد من استئثار السلطة الإدارية بالسلطة الحقيقية إذا استمرت على نشوئها الحاضر، فتكون نتيجة ما قمنا به من الثورات انتقال السلطة من الملوك إلى طائفة خفية مستبدة غير مسؤولة من الموظفين.
•••
يستحيل اكتشاف عاقبة المعارك التي تنذرنا بالأفول، ويجب ألا نتفاءل أو نتطير، وإنما يجب أن نقول: إن الضرورة لا تلبث أن توازن الأمور، فالعالم يجدُّ في سيره من غير أن يبالي بما نلقيه من الخطب، ولا شك في توصلنا إلى ملاءمة تقلبات البيئة المحيطة بنا عاجلًا كان ذلك أو آجلًا، وإنما الصعوبة كلها في الانتهاء إلى هذه الملاءمة من غير اصطدام، ثم في مقاومة أوهام الخياليين الذين خربوا العالم غير مرة حينما عجزوا عن تجديده.
ذهبت أثينة ورومة وفلورنسة وغيرها من المدن التي أضاءت التاريخ ضحية أولئك النظريين الخطرين الذين كانت أفعالهم واحدة: فوضى فحكم مطلق فانقراض.
ولا تنفع هذه الدروس المؤتمرين الكثيرين في الوقت الحاضر، والذين لا يزالون يجهلون أن الفتن التي أثارتها أطماعهم تنذرهم بالويل والثبور، والذين بذروا في نفوس الجماعات آمالًا يتعذر تحقيقها، وحركوا شهواتها، وقوضوا الروادع التي أقيمت في قرون كثيرة لزجر أمثالهم.
وإن مقاتلة الجماعات العُمْي لصفوة الرجال من الأمور التي جَرَتْ سُنَّة التاريخ عليها، وما أكثر المدنيات التي قضى عليها انتصار الحكومات الشعبية! فالخواص يبنون، والعوام يهدمون، ومتى ضعف أولئك ظهر تأثير هؤلاء المفسدُ.
ولم تتقدم الحضارات العظيمة إلَّا بالتغلب على العوام، ولم ينشأ عن الاستبداد الديموقراطي فوضى فحكم مطلق فغارات أجنبية ففقد استقلال في بلاد اليونان وحدها؛ بل إن الاستبداد الفردي عقب استبدادَ الجماعات في كل زمن، وهو الذي زعزع عظمة رومة، وأدى إلى قضاء البرابرة عليها.