كتاب «ثروة الأمم»
(١) الخطوط العريضة للكتاب
كتب آدم سميث «ثروة الأمم» مدفوعًا بعدة أسباب، منها أنه كان يرغب في تشجيع السياسيين على التخلِّي عن سياسة تقييد التجارة وإبعادها عن المسار الصحيح عوضًا عن السماح لها بالازدهار؛ لذلك استخدم لغةً صريحةً لا تزال سهلة الفهم حتى يومنا هذا.
لكن سميث كان يحاول أيضًا ابتكار علم اقتصاد جديد؛ فجاء عمله رياديًّا، وحفل بمصطلحات ومفاهيم قد يصعب التوفيق بينها وبين مصطلحات ومفاهيم أيامنا هذه. فنَصُّ كتاب «ثروة الأمم» يتصف بالانتقال من موضوع لآخر، فيعجُّ بالاستطرادات الطويلة وتزدحم فيه الحقائق — من سعر الفضة في الصين، إلى غذاء المومسات الأيرلنديات في لندن — مما يجعل سبر أغوار الكتاب أمرًا صعبًا؛ لذلك علينا أولًا أن نسلِّط الضوء على بعض موضوعاته الرئيسية.
ليس هناك في الكتاب أوضح من الموضوع الذي جاء بصدده أن «ضوابط التجارة غير قائمة على أساس سليم وتأتي بنتائج عكسية». كانت النظرة السائدة في أيامه هي الفكرة «المركَنتيلية» التي ترى أن ثروة الأمة هي مقدار ما تمتلكه من مال، وهذا يعني ضمنًا أن الأمة إذا أرادت أن تكون أكثر ثراءً، فهي تحتاج إلى بيع أكبر قدر ممكن مما تملكه للآخرين، حتى تحصل على أكبر قدر ممكن من المال في المقابل، وأن تشتري أقل قدر ممكن من الآخرين، وذلك كي تَحُول دون تسرُّب احتياطها النقدي إلى الخارج. وقد أدت هذه النظرة التجارية إلى تأسيس شبكة هائلة من تعريفات الاستيراد وإعانات التصدير والضرائب وتفضيلات الصناعات المحلية؛ حيث كانت جميعها مصمَّمة بهدف الحد من الواردات وتعزيز الصادرات.
ومن الموضوعات المحورية في الكتاب أن هذه «القدرة الإنتاجية تستند إلى تقسيم العمل»، وإلى ما يتيحه من «تراكم رأس المال». ويمكن تحقيق مردود هائل عبر تقسيم الإنتاج إلى العديد من المهام الصغيرة، حيث تتولى كلًّا منها أيدٍ متخصِّصة، وهذا يتيح للمنتج فائضًا يمكن تبادله مع الآخرين، أو استخدامه للاستثمار في آلات موفِّرة للعمل، أحدث وأكثر كفاءة.
أما الموضوع الثالث، فيتمثل في أن ما للبلاد من «دَخْل مستقبلي يعتمد على تراكم رأس المال»؛ فكلما استثمرت في عمليات إنتاجية أفضل، كبر حجم الثروة التي ستتكون في المستقبل. لكن إذا كان الناس سيزيدون رأسمالهم، فلا بد أن يضمنوا حمايته من السرقة؛ فالدول التي تحقق الازدهار هي تلك الدول التي تنمي رأسمالها، وتديره إدارة فعَّالة، وتوفِّر له الحماية.
والموضوع الرابع مفاده أن «المنظومة تعمل آليًّا»؛ فعندما تندر سلعة ما، يُبدِي الناس استعدادهم لدفع المزيد في سبيل الحصول عليها، ويكون هناك المزيد من الربح في تزويدها؛ ولهذا يستثمر المنتِج المزيد من رأسماله في سبيل إنتاج المزيد. أما إذا أُغرق السوق بهذه السلعة، فستنخفض الأسعار والأرباح، وينتقل المنتِج برأسماله ومشاريعه إلى مجال آخر. وهكذا تبقى الصناعة في حالة من التركيز على الاحتياجات الأكثر أهميةً للأمة دون الحاجة إلى توجيه مركزي.
لكن «المنظومة لا تعمل آليًّا إلا في جوٍّ من التجارة الحرة والتنافس»؛ فعندما تمنح الحكومة إعانات أو حقوق احتكار لمنتِجين مفضلين على غيرهم، أو تحميهم خلف جدران التعريفات، يمكنهم أن يفرضوا أسعارًا أعلى، والنتيجة أن يكون الفقراء هم أكثر مَن يعاني من ذلك؛ لأنهم يواجهون تكاليف أعلى مقابل الضروريات التي يعتمدون عليها.
يُضاف إلى تلك الموضوعات أن «ثروة الأمم» تكمن في كيفية «تمخُّض المراحل المختلفة للتقدم الاقتصادي عن مؤسسات حكومية مختلفة». فمجتمعات الصيد والجمع البدائية لم يكن لديها إلا القليل مما تشعر بقيمته، لكن عندما أصبح البشر مزارعين، أضحت أراضيهم ومحاصيلهم ومواشيهم ملكياتٍ مهمَّةً، فأسسوا الحكومات ومنظومات العدل من أجل حمايتها.
وفي عصر التجارة، ومع مراكمة الناس لرأس المال، أصبحت الملكية ذات أهمية أكبر، لكن هذا العصر عاش فيه تجار أُتِيح لهم تحقيقُ مكاسب أكثر عبر تشويه الأسواق لمصلحتهم، وكان لديهم من المكر ما يكفي لاستخدام العملية السياسية لخدمة هذه الغاية. «إن التنافس والتبادل الحر يتعرَّضان إلى الخطر من جانب الاحتكارات والتفضيلات الضريبية والضوابط، وغيرها من الامتيازات التي يمكن للمنتجين أن يحصلوا عليها من السلطات الحكومية.»
ولهذه الأسباب جميعها، آمن سميث بأن «الحكومة يجب أن تكون محدودة»؛ فمهمتها الأساسية تتمثل في القيام بشئون الدفاع، والحفاظ على النظام، وإنشاء البِنَى التحتية، وتعزيز التعليم. ويجب عليها أن تحافظ على انفتاح السوق وحريته، لا أن تعمل على تشويهه بأي شكل من الأشكال.
(٢) الإنتاج والتبادل
في المجلد الأول من مجلدات الكتاب الخمسة، نجد شرحًا لآليات الإنتاج والتبادل، وما تساهم به في الدخل الوطني.
(٢-١) منافع التخصص
استخدم سميث مثال مصنع الدبابيس ليبيِّن أن «تقسيم العمل» — أي التخصص في العمل — يؤدي إلى زيادات هائلة في المخرَجات. وتبدو صناعة الدبابيس «صناعة تافهة»، لكنها في الحقيقة صناعة شديدة التعقيد؛ إذ يجب سحب السلك، وجعله مستقيمًا، وقَطْعه، وتدبيبه، ويجب أن تكون قمة الدبوس مسطَّحة؛ ولذا تُصنَّع بشكل مستقِلٍّ ثم تُثبَّت به لاحقًا، ويلي ذلك تبييض الدبابيس ولفها في أوراق. ففي الحقيقة، هناك قرابة ١٨ عملية مختلفة تدخل في صناعة الدبابيس.
ويرى سميث أن العامل الواحد إذا أنجز كل هذه العمليات بمفرده، فربما لن يتمكن من صناعة أكثر من عشرين دبوسًا في اليوم (وإذا كان عمله يتضمن أيضًا التنقيب عن الحديد وصهره، فربما لن يتمكن من إنتاج حتى دبوس واحد كل عام). أما في المصنع، فيُقسَّم العمل بين أشخاص مختلفين، يقتصر عمل كلٍّ منهم على واحدة أو اثنتين من العمليات المنفصلة، وهكذا فإن فريقًا من عشرة أشخاص أقوياء يمكنه صناعة ٤٨٠٠٠ دبوس في اليوم، أي ما يعادل ٤٨٠٠ دبوس لكل عامل، وهذا يساوي ٢٤٠ ضعف ما ينجزه العامل الذي يصنع الدبابيس بمفرده يوميًّا.
التخصُّص أمر شديد الفعالية، حتى إنه لا يقتصر فقط على الشركات، وإنما تجده بين الصناعات أيضًا، بل حتى بين الدول. إن المُزارع الذي يتخصَّص في زراعة محصول أو في تربية المواشي، ستحظى أرضه برعاية أفضل وستكون أكثر إنتاجًا مما لو كان يتوجب عليه قضاء وقته في صناعة احتياجات المنزل أيضًا. كما أن المصنِّعين يسعدهم جدًّا توفير السلع المنزلية وترك مسئولية إنتاج غذائهم على عاتق هذا المزارع، وعلى النحو نفسه، يأتي تخصُّص الدول في صورة تصدير السلع التي تنتجها على أفضل نحوٍ ممكنٍ، واستيراد السلع التي ينتجها الآخرون على نحوٍ أفضل.
(٢-٢) المكاسب المشترَكة جرَّاء التبادل
في الفصل الثاني — ذي الأهمية الجوهرية — من الكتاب، يشرح سميث كيف أن «التبادل المادي» ينشر منافع هذه الكفاءة الإنتاجية في أرجاء المجتمع. وهو يخمن بأن بعض المهارات الذهنية أو الجسدية المحدَّدة في «بلد بدائي» قد تجعل أحد الأشخاص أفضل في صناعة السهام، وغيره أفضل في الصناعات المعدنية. ومن خلال التخصص في العمل، يمكن لصانع السهام أن يُنتِج عددًا أكبر من السهام، وللحداد أن يصنع عددًا أكبر من النصال، مقارنةً بما يمكن أن يستخدمه كلاهما؛ ولهذا فإنهما يتبادلان السهام مقابل النصال، وهكذا يمتلك كلٌّ منهما مجموعة من الأدوات النافعة، ويكون كلٌّ منهما قد استفاد من كفاءة الآخر وإنتاجه التخصصي.
ويزعم سميث أن الميل إلى «التعاوض والمقايضة والتبادل» هو من الخصائص الطبيعية العامة في السلوك البشري، وخصوصًا بسبب انتفاع كلا الطرفين منه. وفي الواقع، إن التبادل لن يحدث إذا كان أيٌّ من الطرفين يعتقد أنه سيخسر بسببه، وهذه ملاحظة حكيمة حاسمة؛ ففي عالم سميث، كما هو عالمنا، كان تبادل معظم السلع يتم مقابل المال، وليس مقابل سلع أخرى. وبما أن المال من الثروات، فيبدو أن البائع وحده كان هو مَن ينتفع من هذه العملية. لكن سميث يُرِينا أن المنفعة مشتركة؛ فعبر التبادل، يحصل كلا الطرفين على السلع التي يريدانها مقابل جهد أقل، بالمقارنة مع الجهد الذي قد يبذلانه في صنع هذه السلع لنفسيهما، فكلا الطرفين يصبح أكثر ثراءً بفضل التبادل، أي إن الثروة، بعبارة أخرى، ليست ثابتة، وإنما هي «تتكون» عبر اتِّجَار البشر، وهذه الفكرة كانت فكرة رائدة ومبتكرة في أيام سميث.
(٢-٣) الأسواق الأكثر اتساعًا والمكاسب الأكبر
(٢-٤) مؤشر القيمة
لكنْ سواءٌ أَدَخَلَ المال كوسيط أم لا، ما العامل الذي يحدد السعر الذي يُتبادل مختلِف السلع بموجبه؟ إن من الأمور التي حيَّرت سميث أن شيئًا عديم النفع تمامًا (كالماس) يمتلك «قيمة تبادلية» عالية، بينما لا يمتلك شيء حيوي (كالماء) أيَّ قيمة تقريبًا. واليوم يمكننا حل هذا اللغز باستخدام نظرية المنفعة الحديِّة: فبما أن الماس نادر جدًّا، يمكن اعتبار أي ماسة إضافية نحصل عليها بمنزلة مكافأة عظيمة، وبما أن الماء متوفر على نحوٍ غزيرٍ، فإن أي كوب إضافي من الماء لا يُعَدُّ ذا منفعة كبيرة لنا. كما يمكننا حل اللغز أيضًا عبر الاستعانة بتحليل العرض والطلب.
مما يُؤسَف له أن الأداة الأولى (نظرية المنفعة الحديِّة) لم تكن قد وُجِدت في أيام تأليف كتاب «ثروة الأمم»، كما لم يكن سميث قد أتقن فهم الأداة الثانية (تحليل العرض والطلب) في ذلك الحين؛ لذلك نجده يجهد نفسه في تحديد ما الذي يمنح منتَجًا ما قيمة معينة.
ولقد تعرَّض هذا القسم من كتاب «ثروة الأمم» إلى الكثير من النقد بوصفه يؤصل ﻟ «نظرية قيمة العمل»؛ مما أتاح لكارل ماركس الادعاء بأن عمل العامل يتعرض إلى سرقة دائمة من جانب أرباب العمل الرأسماليين. وإذا صح ذلك، فهذا يعني دون شك أن الجهد الذي بذله سميث في هذا القسم لم يُسْدِ للعالَم أيَّ صنيع.
(٢-٥) الأرض والعمل ورأس المال
إذنْ، فإن الأرض ورأس المال والعمل عوامل ثلاثة تسهم معًا في الإنتاج، وتجعل العمال وأرباب العمل وأصحاب الأرض يعتمدون بعضهم على بعض، لكن هذا الاعتماد المتبادَل لا يقتصر على الإنتاج، فبما أن معظم الإنتاج يتم بنِيَّة التبادل، يتحتم على هؤلاء الانخراط في عملية تقييم وتوزيع المنتجات أيضًا؛ وبذلك، يقودنا سميث تدريجيًّا إلى إدراك أن الإنتاج والتقييم والتوزيع لمخرَجات الأمة هي عمليات لا تحدث منعزلة بعضها عن بعض، وإنما تحدث بشكل متزامن باعتبارها أجزاء مترابطة في «منظومة» اقتصادية تعمل بكفاءة، يُعَدُّ كل فرد طرفًا فيها. ولقد كان هذا الطرح أيضًا بمنزلة ابتكار نظري هائل.
(٢-٦) كيف تقود الأسواق عجلة الإنتاج؟
لا يمكن لسعر السوق أبدًا أن يظل طويلًا أدنى من تكاليف الإنتاج؛ إذ من شأن ذلك أن يؤدي إلى انسحاب البائع كي لا يستمر في تكبُّد الخسائر، لكنه أيضًا لا يمكن أن يستمر في الارتفاع إلى حدٍّ بعيد؛ لأن ذلك يؤدي إلى تنبيه المنافسين بوجود أرباح ممكنة؛ مما يزيد العرض، وهذا يؤدي إلى انخفاض سعر السوق مجددًا؛ ولذلك، فإن هدف الصناعة يجب أن يتمثَّل في إنتاج كمية محدَّدة بدقةٍ تضمن توازن السلعة في السوق.
لا شك أن التنافس قد لا يكون مثاليًّا؛ إذ قد تؤدي الضوابط التنظيمية إلى الحد من القدرة على دخول السوق. وقد يزيد المحتكِر الأسعار من خلال إبقاء السوق في حالة من قلة العرض، وربما تكون المعلومات المتوفرة عن السوق غير كافية. فعلى سبيل المثال، قد يبتكر أحدهم طريقةً أرخصَ للإنتاج تدرُّ عليه أرباحًا استثنائية طيلة سنين إلى أن يكتشف هذه الطريقة منافسون آخرون؛ ولهذا فإن السعر «الطبيعي» وأسعار السوق قد يختلفان عن بعضهما.
(٢-٧) اعتماد الأجور على النمو الاقتصادي
يرى سميث أن أكثر ما يفيد العامل هو الدخل الوطني المرتفع ونمو رأس المال؛ لأنهما يؤديان إلى ارتفاع الأجور. فصاحب الأرض الذي يتمتع بفائض في العائدات سيوظف عددًا أكبر من الخدم، والحائك والإسكافي الذي يحصل على فائض من رأس المال سيوظف مَن يساعده في عمله. وبعبارة أخرى، إن الطلب على العمل يزداد إذا ازدادت الثروة الوطنية فقط، وإن «المردود الوافر للعمل» يعتمد بشكل كامل على النمو الاقتصادي.
(٢-٨) أسعار الأجور في السوق
نظريًّا — كما يذهب سميث — من المفترض أن تميل عوائد العمل إلى التكافؤ. فإذا كانت تجارةٌ ما تحقِّق مردودًا أعلى، فسينهمر عليها الناس من المجالات الأخرى، وسيتوجب على السوق أن يبادر سريعًا إلى تصحيح اختلال التوازن. لماذا إذنْ تتباين الأجور على أرض الواقع؟
يجيب سميث عن هذا السؤال بأنه يجب ألَّا نقتصر في التحليل على المردود «المالي»، وإنما ينبغي علينا أن نضم إليه المردود غير المالي أيضًا؛ فبعض المهن شاقَّة أو غير مقبولة (ولهذا يحصل الجزار والجلاد على أجر أعلى من أجر الحائك)، وبعض المهن تعتمد على مواسم معينة (كالعمل في البناء)، وبعضها (كالطب) تتقاضى أجرًا عاليًا؛ لأنها تتطلب ثقة عالية من الجميع، وبعضها تكلِّف مبالغ طائلة لتعلُّمها (كالمحاماة)، وبعضها قد تكون فرصُ النجاح فيها ضئيلة (كمغني الأوبرا). إن هذه العوامل جميعها سوف تُحدِث تأثيرًا في سعر سوق العمل في مهن بعينها.
(٢-٩) الأجور والسياسة
لكن العوامل «السياسية» تؤثر في الدخل والربح أيضًا؛ فالضوابط التنظيمية تمنع الناس من العمل في مهن معينة. ويعرض سميث للَّوائح التي تمنع صانع السكاكين في مدينة شفيلد من أن يكون له أكثر من صبي، أو تمنع الحائك في نورفولك أو صانع القبعات في إنجلترا من أن يكون لدى كلٍّ منهما أكثر من صبيَّيْن. إن حواجز العمل في هذه المهن تحافظ على استقرار دخل القلة الذين يؤهلون صبيتهم ليكونوا صانعي سكاكين أو حائكين أو صانعي قبعات، لكن ذلك لا يحدث إلا بسرقة أشخاص آخرين ﻟ «السمات المقدسة» التي ينطوي عليها جهدهم. وتمنع هذه الحواجز أيضًا انتقال العمال من المهن المتدهورة إلى المهن التي تكون في حاجة إليهم أكثر.
لكن سميث استطرد على الفور وبادر سريعًا إلى القول بأن السياسيين والقانون شريكان في ذلك؛ لأنهما يشرِّعان ويفرضان الضوابط التي تجعل مثل هذا التآمر أكثر ترجيحًا وفاعلية؛ وبذلك يشير سميث إلى الامتيازات التي تتمتع بها الرابطات العمالية الحرفية (أو ما يدعوه «الاتحاد النقابي»)، والتي فرضت منذ العصور الوسطى طوقًا منيعًا لحماية احتكاراتها، وحصرت حق الانضمام للحرف وشروط ذلك، واحتفظت بسجلات لأسماء مَن حصلوا على ترخيص مزاولة الحرفة، وجمعت الأموال من أعضائها لتحسين المستوى المعيشي للفقراء منهم.
(٢-١٠) رأس المال والأرباح
ولتوضيح ذلك، يشير سميث إلى أسعار الفائدة المرتفعة جدًّا في المستعمرات الأمريكية؛ حيث يوجد هناك فائض من الأرض، مع مقدار قليل نسبيًّا مما يلزم لاستصلاحها من رأس المال أو العمل؛ ولهذا فإن الأرض رخيصة، أما رأس المال والعمل فيتصفان بالغلاء، وينعكس ذلك في ارتفاع الأرباح، وارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع الأجور.
(٢-١١) الأرض وإيجارها
ولا شك أن الأرض تجود لنا بالمعادن والغذاء والمساحة التي نعيش عليها. وفي النقاش المطوَّل الذي قدَّمه سميث في فقرة «استطراد حول الفضة»، نجد تجميعًا للبراهين التي تدعم طرحه القائل بأن نمو الدخل الوطني يؤدي إلى رُخص السلع وغلاء الأرض.
(٢-١٢) المنظومة الآلية
(٣) تراكم رأس المال
يناقش المجلد الثاني من كتاب «ثروة الأمم» تراكم رأس المال، الذي يشدِّد سميث على أنه شرط ضروري للتقدم الاقتصادي. فخلق الفوائض يتيح إمكانية التبادل والتخصص، وهذا التخصص يساعد في خلق فوائض أكبر، وهي بدورها يمكن استثمارها مجدَّدًا في تجهيزات جديدة متخصصة وموفرة للعمل؛ ولذا تتسم هذه الدورة الاقتصادية بأنها حميدة، فبسبب هذا النمو في رأس المال، يصبح الازدهار كعكة متنامية الحجم، ولا حاجة معها لإفقار أي شخص (أو أمة) من أجل تمتُّع الآخرين بالثراء الأكبر، وإنما العكس بالعكس، فتصبح الأمة بأكملها أكثر ثراءً مع توسع الثروة.
(٣-١) المال
ومع ذلك، فإن للمال تأثيراته؛ فعندما يُهمَل ولا يُتداوَل، يصبح أداة لا فائدة منها — أو «مخزونًا كاسدًا» — لكن العمل المصرفي الفعال يستطيع أن يجعله يعمل بجد واجتهاد أكبر. إن المال المُجاز في التعامل في يومنا هذا (حيث تعلن الحكومة أن العملة التي تطبعها هي عملة قانونية)، لم يكن موجودًا في عالم سميث الذي لم يحتوِ إلا على أوراق نقدية تصدرها المصارف بدعمٍ ممَّا في خزائنها من احتياطي الذهب. وهو يرى أن ذلك من شأنه أن يسهِّل حركة السيولة النقدية، إلا أنه أشار إلى خطورة إسراف المصارف في إصدار هذه الأوراق النقدية؛ وكان سميث يكتب «ثروة الأمم» بعد عام ١٧٧٢ الذي شهد أزمة مصرفية أدت إلى انهيار الكثير من المصارف الاسكتلندية. آمن سميث بأن خطر التنافس لا بد أن يدفع المصارف إلى الحذر في تعاملاتها، لكنه رأى أيضًا أن هناك دورًا يمكن أن يلعبه التنظيم في القطاع المصرفي. (وتجدر الإشارة هنا إلى أن سميث لم يكن يعارض كافَّة أنواع التنظيم الاقتصادي، وإنما كان رفضُه يقتصر على الضوابط التنظيمية المصمَّمة لتعزيز مصالح بعينها على حساب الرخاء العام.)
(٣-٢) الاستهلاك والاستثمار
إن استهلاكنا لهذه الخدمات الفورية يؤدي إلى ترك قدر أقل من الفائض لاستثماره في الإبقاء على رأس المال، الذي يعتمد عليه دخلنا في المستقبل وزيادته؛ فكلما استهلكنا المزيد حاليًّا، تخلينا عن المزيد من النمو والدخل في المستقبل.
وقد يتبدد رأس المال أيضًا بسبب القرارات الاستثمارية الخاطئة (التي يدعوها سميث «إساءة التصرف»)، وبذلك يذكِّر المركَنتيليين بأن هذا الأمر لا يؤدي إلى إنقاص مخزون الذهب والفضة التي تحتويها خزائن الأمة، لكنه يؤدي حتمًا إلى تقليل قدرتها الإنتاجية. وإذا غاب حكم القانون، فإن رأس المال يمكن أن يتعرَّض للسرقة؛ مما يؤدي إلى تقليل الحافز الذي يدفع الناس إلى مراكمة رأس المال في المقام الأول.
(٣-٣) أفكار إضافية حول رأس المال
إن المجلد الثاني من كتاب «ثروة الأمم» يتمحور حول أن ادِّخَار جزء من الإنتاج — بدلًا من استهلاكه بالكامل — يسمح لنا بنمو رأس المال الإنتاجي، والذي يتيح لنا بدوره زيادة الإنتاج في المستقبل. فهي دورة للثروة تتصف بالتوسع المستمر دون أن يكون لها علاقة (ولاحظوا ذلك أيها المركَنتيليون) بكميات المعدن في خزائن المصارف.
يمكن تطوير عمليات أكثر تخصُّصًا وأكثر توفيرًا للعمل من خلال تراكم رأس المال. ويرى سميث أن تقسيم العمل سوف يزداد عمقًا، وهذا يحتاج بدوره إلى المزيد من العمل؛ ولهذا فإن توسع رأس المال يؤدي إلى ارتفاع الأجور. (لا شك في أن سميث كتب ذلك قبل أن تتكامل قوة الثروة الصناعية، وفي وقت كان لا يزال فيه العمل اليدوي يحتل موقعًا أساسيًّا في الاقتصاد؛ إذ لا يبدو أن سميث كان يتخيل أن الآلات ستستبدل فعليًّا العمل البشري.)
وبعبارة أخرى، يمكن القول بأن اقتصاد السوق لا يضاهيه أي شيء في تعزيز ثروة الأمة، وهذه الثروة تنتشر لتصل إلى أشد العمال فقرًا. وفي الواقع، إن الفقير في الدول الغنية التي تتبنى هذه المنظومة إنما يعيش حياة أفضل بالمقارنة مع الغني الذي يعيش في الدول الفقيرة التي لا تتبناها. تلك هي رسالة العولمة: تصبح الدول أفضل حالًا إذا لم تحاول الإبقاء على الاكتفاء الذاتي أو ترفع الحواجز التي تَحُول دون التجارة مع الدول الأخرى.
(٤) تاريخ المؤسسات الاقتصادية
يتناول المجلد الثالث تطور العلاقات الاقتصادية، أحيانًا عبر الحدس التاريخي، وأحيانًا أخرى عن طريق ثروة من الحقائق التاريخية. ويبدأ سميث هذا الكتاب باقتفاء أثر التطور من الزراعة إلى الصناعة، مؤكدًا على أن نمو المدن والاعتماد المتبادَل بينها وبين الريف إنما هو أمر طبيعي بالكلية. فالحِرَفي يحتاج إلى المُزارِع لإنتاج طعامه، لكن المُزارِع يحتاج إلى الحِرَفي لصناعة أدواته، وإلى المدن لما فيها من أسواق لمنتجاته؛ وفي الواقع، كلما كبرت المدينة كبر معها السوق. فالأمر ليس كما يدَّعِي الاقتصاديون «الفيزيوقراطيون» الفرنسيون حينئذٍ، بأن المدن تعتمد على الريف في معايشها، وإنما يضيف كلا الطرفين القيمة المتأتية من تبادل إسهاماتهما المختلفة.
ويرى سميث أن هذه النتيجة مرضية؛ لأنها حمت رءوس أموال الناس، وسمحت بنمو تبادل المنفعة والتجارة والمصنِّعين تحت مظلة العدل المدني. ومجدَّدًا، تحقَّقت نتيجة مفيدة على أيدي مجموعات من الناس لم يكن لديهم أدنى نية لخدمة العامة، وإنما كانت أذهانهم مشغولة بالحرص على ملكيتهم الخاصة وأمْنهم فحسب.
(٥) النظرية والسياسة الاقتصادية
(٥-١) المركَنتيليون والمال
يُذكِّرنا سميث بأن المال ليس إلا أداة لتسهيل التبادل؛ وبما أن التجارة الخارجية تشكل جزءًا صغيرًا من التجارة الإجمالية، فإن تحركات الذهب عبر الحدود لا يوجد لها أثر يُذكَر في تدمير أي أمة عظيمة.
بالطبع، يقول المركَنتيليون إن الذهب يقاوم عوادي الزمن، وإن الدول التي تصدِّر إلينا السلع يمكنها مراكمة الذهب على نحوٍ متوحشٍ طيلة عقود، بينما لا نفعل في غضون ذلك إلا تبادل سلع فانية بحماقة مقابل سلعة باقية كالذهب. ويرد سميث على ذلك بأننا نشعر بالرِّضَى التام لاستيراد خمور (فانية) من فرنسا وتصدير أدوات معدنية (باقية) في المقابل، لكن الفرنسيين ليسوا أغبياء كي يراكموا القدور والمقالي بكميات أكثر مما يحتاجونه، وبالمثل يجب ألَّا نكون أغبياء أيضًا فنخزِّن الذهب والفضة إلى حدٍّ يتجاوز الكميات المفيدة. إن الفائض من المعادن غير المفيدة يعتبر رأس مال كاسد، ورأس المال الكاسد لا يأتي بالثراء.
(٥-٢) الميزة المطلقة
(٥-٣) التعريفات والإعانات
وينصح سميث المركَنتيليين بعدم القلق من التوازن التجاري العكسي؛ فما دامت البلاد تنتج أكثر مما تستهلك، فإن هذا يعني أنها تدَّخر وتضيف إلى رأس المال، ومثل هذه البلاد لا يزال بإمكانها أن تستورد أكثر مما تصدِّر، وأن تستمر مع ذلك في إنتاج الفوائض وتزداد ثراءً.
(٥-٤) القيود المفروضة على التجارة الاستعمارية
يتتبع سميث أصول المستعمرات، ويشير إلى أنها تأسست عمومًا على أمل العثور على الذهب أو الفضة، وهما العنصران اللذان يساويان الثروة في نظر المركَنتيليين. لكن الأصل الحقيقي في أمريكا هو الأرض؛ لأنها متوافرة بكثرة وبثمن بخس، وتحتاج إلى قدر كبير من العمالة لتحقيق العائدات المحتملة، وهذا يجعل العمالة مكلفة، لكن الزراعة الأمريكية تدرُّ في الواقع إنتاجية هائلة إلى حدٍّ يجعل من الممكن تحمل تكلفة العمالة. بل إن أمريكا بلغت من خصوبة أراضيها وثرائها حدًّا لم تستطع معه حتى ضرائب بريطانيا وقيودها التجارية أن تنال منها (حتى ذلك الحين).
ومما يُؤسَف له أن سياسة إجبار أمريكا على التبادل التجاري مع البلد الأم فقط (وهي بريطانيا) أدت إلى إبعاد رأس المال والمشروعات البريطانية عن استخدامات أكثر إنتاجية؛ مما أدى إلى تدني الازدهار في بريطانيا وأمريكا معًا، وإلى تباطؤ تراكم رأس المال؛ مما نتج عنه تناقص في الدخول المستقبلية في كلا البلدين. ويقول سميث بأن بريطانيا حاولت أن تجعل الأمريكيين «شعبًا استهلاكيًّا»، لكن هذه السياسة أدت عوضًا عن ذلك إلى تحويلهم من مزارعين إلى سياسيين. وبما أن قدرًا كبيرًا من الصناعة البريطانية يركِّز على التجارة بين جانبي المحيط الأطلسي، فإن الخطر السياسي متفاقِم، ولا يمكن تقليل حجم هذا الخطر إلا عن طريق تحرير التجارة — والتحرر السياسي — لكن الاستثمار البريطاني وصل إلى مرحلة من الانحراف سيكون فيها الإصلاح المطلوب من الصعوبة بمكان.
(٥-٥) البديل الليبرالي
ينتقد سميث الفيزيوقراطيين الفرنسيين بسبب رأيهم القائل بأن القيمة بكافة أشكالها تنشأ من الأرض والزراعة، أما تجار المدينة و«الصنَّاع البارعين» فلا يفعلون شيئًا إلا إعادة تنظيم هذه الثروة، دون أن ينتجوا أي شيء بأنفسهم. ويرد سميث على ذلك بأن سكان المدن منتجون حقًّا؛ فهم ليسوا مجرد مستهلكين لرأس المال، وإنما هم يستبدلونه، فهم عمالة إنتاجية، لا غير إنتاجية.
ومع ذلك، فإن سميث يعتبر الفلسفة الاقتصادية للفيزيوقراطيين من الفلسفات الأفضل، فهم لا يخلطون بين المخرَجات وبين المال، ويرون بأن الحرية الكاملة للتجارة هي الطريق الأمثل لتحقيق الحد الأقصى من تلك المخرَجات.
(٦) دور الحكومة
يستكشف سميث في المجلد الخامس جوانب الدور الملائم للحكومة، منتقدًا إياها وذوي السلطة، غير أنه ليس من مناصري مبدأ عدم التدخل الحكومي في الاقتصاد؛ فهو يعتقد بأن اقتصاد السوق الذي قدَّم وصفًا له لا يمكنه العمل وتحقيق المنافع إلا إذا تحققت قواعده، ويحدث ذلك عندما تؤمَّن الملكيات وتُحترَم العقود؛ ولهذا فإن مراعاة «العدل» واحترام «حكم القانون» من الأساسيات.
وكذلك «الدفاع»؛ فإذا كانت هناك إمكانيةٌ لتعرُّض إحدى ملكياتنا للسرقة من جانب قوة أجنبية، فالأمر لا يختلف عن سرقة الجيران لها.
لكن سميث يتجاوز ذلك بقوله إن هناك أيضًا دورًا للحكومة في «توفير الأشغال العامة» و«تعزيز التعليم».
(٦-١) الدفاع
يذهب سميث إلى أنه في مجتمع الصيد والجمع، يتوجب على الجميع أن يدافعوا عن أنفسهم. لكن بما أن الصياد يعيش لكسب قوت يومه ولا يكاد يمتلك أي شيء، فليس هناك ما يدعو إلى تأسيس أي سلطة مركزية. أما في عصر الزراعة، فقد بدأ الناس يراكمون الملكية الثمينة (المحاصيل والمواشي مثلًا)، وأصبح الدفاع عنها أولوية لديهم. وبموجب مبدأ تقسيم العمل، تأسست قوة عسكرية متخصصة، يحقق منها ذوو الملكيات الأكبر منافعَ أكبر، لكنهم يجبرون الجميع على المساهمة فيها بدلًا من «الاستفادة المجانية»؛ ولذلك أصبح الدفاع من وظائف الحكومة.
(٦-٢) العدل
ويمكننا أن نلاحظ بوضوح ما يتحقق من منفعة إذا ما تقبَّل الجميع سلطة القضاة المستقِلِّين، لكن الجهود التي يبذلها مَن يتمتع بالغنى والقوة لبناء مظلة قضائية تحميه، إنما تستمد الدعم من ميل الإنسان الطبيعي إلى احترام سلطة عدة ميزات شخصية، مثل: القوة والحكمة والحصافة والنضج والثروة والمكانة.
وبعبارة أخرى، يمكن القول بأن الحكومة المدنية هي محصلة الصراعات والتفاوتات التي تنشأ في المجتمع التجاري؛ وهي محصلة طبيعية نافعة عمومًا، لكنها ليست مثالية بأي شكل من الأشكال.
(٦-٣) الأشغال والمؤسسات العامة
ويتضمن هذا «مشروعات البنية التحتية» التي تسهل التجارة و«التعليم»؛ مما يعين الناس على أن يكونوا جزءًا بنَّاء في النظام الاجتماعي والاقتصادي.
الأشغال العامة
إن الازدهار يتطلب التجارة، والتجارة تحتاج إلى بِنًى تحتية كالطرق والجسور والموانئ. ويعتقد سميث أن بعض هذه البِنَى التحتية ليست قادرة أبدًا على إنتاج عائد يغطي تكلفتها، وأننا بحاجة إلى إنشائها من التحصيل الضريبي، غير أن جزءًا من التكلفة على الأقل يمكن استرجاعه عبر فرض رسوم على مستخدميها، وذلك بدلًا من فرض ضرائب على عموم الأمة. وعلى النحو ذاته، إذا كانت المنفعة الأساسية محلية ولا يمكن استرجاع تكلفة الإنشاء عبر الرسوم، فإن الحل الأمثل في هذه الحالة هو فرض ضريبة «محلية»، كأن يتوجب على دافعي الضرائب في لندن أن يدفعوا مقابل تعبيد الشوارع وإنارتها في مدينتهم، على سبيل المثال.
يعتقد سميث أيضًا في الحاجة إلى امتيازات عامة لتشجيع الناس على الانفتاح إزاء التبادل التجاري مع الدول «غير المتمدنة»، لكن هذا العون يجب أن يُقدَّم على شكل احتكارات محلية مؤقتة (كَبَراءات اختراع أو حقوق ملكية فكرية)، وليس على شكل إعانات من جانب دافع الضرائب.
وبما أن كتاب «ثروة الأمم» يُعتبَر حتى هذه النقطة بمنزلة إدانة مفصَّلة للحكومات التي «توجه رءوس أموال» الناس، فإن مقترحات الإنفاق العام هذه تبدو على العكس تمامًا مما ينادي به الكتاب في أفضل الأحوال. فالتجارة تحتاج حتمًا إلى البنية التحتية، تمامًا كما تحتاج إلى قواعد العدل، لكن ليس من الواضح لماذا لا ينبغي أن تُبنى الطرق والجسور والموانئ من منطلق تجاري، وأن تُسترَد كلفة إنشائها بالكامل بفرض الرسوم على مستخدميها، فحتى تعبيد الشوارع وإنارتها ربما يمكن إجراؤها وتمويلها عن طريق الشركات المحلية، التي يمكنها تحقيق المنفعة في المقابل. وإذا كان شق طرق تجارية جديدة أمرًا يستحق القيام به من جانب الشركات المحلية، فلماذا تريد الحكومة التدخل في هذا الشأن؟
ربما نلتمس لسميث عذرًا على أساس أننا نمتلك أدوات مالية أشمل بكثير من أجل توفير التمويل للمشروعات التجارية الجديدة وإنشاء البِنَى التحتية الضرورية، كما أن لدينا تقنيات أفضل لجمع الرسوم ممَّن يستخدم الطرق والجسور وغيرها من المنشآت. لكن في القرن الثامن عشر، يبدو أن التمويل والمبادرة من جانب الحكومة كانا يمثِّلان السبيل الوحيد للقيام بأمور معينة يتفق الجميع على ضروريتها.
تعليم الناشئة
يرى سميث في تعزيز التعليم الأساسي أمرًا مشابهًا للبنية التحتية؛ أي إنه شيء نحتاج إليه لإتاحة فرص الازدهار أمام التجارة، لكنه يورد هنا أيضًا تحليلات وتوصيفات لا تبدو منسجمة مع تحليله العام.
هذا ما دعاه ماركس لاحقًا «الاغتراب»، ويشدد سميث على أننا نحتاج إلى التعليم لتصحيح هذا الحال؛ إذ يجب أن يركز التعليم على العامل الفقير الذي يعاني أكثر من غيره (فالمصنِّعون والتجار يعيشون في عالم أكثر بهجة). ويرى سميث أنه لتسهيل التجارة، يحتاج الناس إلى الإلمام ﺑ «القراءة والكتابة والحساب»، كما أن الهندسة والميكانيكا نافعتان بالمثل.
غير أن سميث لا يزال غير واضح بشأن القدْر الذي يجب أن تدفعه الحكومة في التعليم الأساسي، وذلك على الرغم من أنه يعبِّر عن احترامه الشديد للمدارس الخاصة لما بها من مهاراتٍ كتعليم المبارزة أو الرقص؛ حيث يدفع التلاميذ رسوم التعليم كافة. لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار كتابات سميث حول المشروعات الحكومية، فربما يتبادر إلى ذهن القارئ المعاصِر سؤال حول ما إذا كان من الأصلح تقديم الإعانة المالية للتلميذ المحتاج، وليس للمدرسة التي يلتحق بها.
التعليم لجميع الأعمار
(٦-٤) الحاكم
العنصر الأخير في قائمة المدفوعات من الضرائب هو «كرامة الحاكم»، وتتضمن تكاليف الملكية والعدل الجنائي، لكن سميث يشدِّد على أن معظم تكاليف العدل «المدني» يجب أن تُدفَع من أموال المتخاصمين، ما داموا هم مَن يحصلون على المنفعة الكبرى.
(٦-٥) مبادئ فرض الضرائب
لكن هناك بعض التضارب في خطط سميث في هذا المجال أيضًا؛ إذ نجده يعارض فرض الضرائب على الاستهلاك، لكنه يدعم فرضها على الكماليات (بما في ذلك من أشياء نعتبرها اليوم من الأساسيات كلحوم الدجاج). كما يرى سميث أنه يجب على الناس أن يدفعوا ضريبة تتناسب مع الدخل الذي يتقاضونه، لكنه يريد من الغني أن يدفع «ما يزيد عن تلك النسبة».
(٦-٦) الديون العامة
عندما تصدر الحكومة دَينًا، فإنها تسحب رأس المال من نطاق الاستثمار والنمو، وتوجِّهه نحو الاستهلاك الحالي — على هيئة أنشطة حكومية — مما يؤدي إلى تعثُّر حتمي في النمو. وإضافةً إلى ذلك، يتيح الاقتراض الحكومي للسياسيين أن يتولوا وظائف أخرى ويعززوا سلطتهم دون اللجوء إلى فرض ضرائب إضافية على الناس، كما أن الحكومات تعثر دائمًا على السبل التي تمكِّنها من تفادي تسديد الدَّين على أي حال؛ لهذه الأسباب، فإن الدَّين القومي ليس مجرد انتقال حميد من مجموعة إلى أخرى، وإنما هو خطر حقيقي يهدد الحرية؛ ومن ثَمَّ يهدد الازدهار.
(٧) «ثروة الأمم» في عصرنا الراهن
وبغض النظر عن هذه الملاحظات، فإن «ثروة الأمم» — بما فيه من تبيان لكيفية ما تؤدي إليه حرية العمل والشعور بالأمن فيه، والتجارة، والادخار، والاستثمار من تعزيز للازدهار، دون أي حاجة لسلطة توجيه — يزودنا بنطاق فعَّال من الحلول لأسوأ المشكلات الاقتصادية التي يمكن أن نُبتلَى بها. إن الاقتصاد الحر هو منظومة مرنة قابلة للتكيف، يمكنها مقاومة صدمات المستجدات، والتغلب على كل ما يحمله المستقبل من تحديات.