الفصل الرابع
كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية»
صدر كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية» في عام ١٧٥٩، وكان سميث يبلغ الخامسة والثلاثين
في
ذلك الحين، وانبثق الكتاب من منهاج المحاضرات التي كان يلقيها في علم الأخلاق في جامعة
جلاسكو. وهو كتاب غير واضح الأسلوب؛ إذ كان سميث يلقي محاضرات أيضًا في مجالَي البلاغة
والأسلوب الأدبي؛ فاللغة التي استخدمها تحفل بالكثير من الزخرفة الأسلوبية بالمقارنة
مع
النثر العلمي الواضح الذي يستخدمه الفلاسفة اليوم. وفي الواقع، وصف إدموند بيرك، صديق
سميث،
أسلوب هذا الكتاب بأنه «رسم أكثر منه كتابة»، ولهذا يحتاج إلى قراءة متأنية.
(١) الموضوعات الأساسية في الكتاب
على الرغم مما سبق، كان «نظرية المشاعر الأخلاقية» بمنزلة فتح علمي حقيقي؛ فهو
يُبيِّن أن أفكارنا وأفعالنا الأخلاقية ليست إلا نتاجًا لطبيعتنا باعتبارنا كائنات
اجتماعية. ويَرِدُ في الكتاب أن المنهج النفساني الاجتماعي هذا يرشدنا على نحوٍ أفضلَ
من المنطق ويوجهنا نحو الفعل الأخلاقي. ويحدد سميث في كتابه القواعدَ الأساسية ﻟ
«الاهتمام بالنفس» و«العدل» اللذين يحتاجهما المجتمع للبقاء، ويشرح الأفعال الإضافية
«الخيرية» التي تمكِّنه من الازدهار.
(١-١) المصلحة الشخصية والتعاطف
إننا نمتلك — كأفراد — ميلًا طبيعيًّا إلى العناية بأنفسنا، وهذا يعتبر اهتمامًا
بالنفس بالمعنى المجرد. لكن باعتبارنا كائنات «اجتماعية» أيضًا
— كما يشرح سميث — وهبَنا الخالق
«تعاطفًا» طبيعيًّا تجاه الآخرين (وقد اكتسبت هذه الكلمة معانيَ أخرى في أيامنا؛
لذلك ربما يكون من الأنسب استخدام مصطلح «المشاركة الوجدانية»). فعندما نرى الآخرين
تعساء أو سعداء، فإننا نشاركهم الشعور، وإن كان بدرجة أقل. وعلى نحوٍ مشابِهٍ، يسعى
الآخرون إلى مشاركتنا وجدانيًّا والشعور بما نشعر به، وعندما تكون مشاعرهم قوية
جدًّا، فإن هذا الشعور بالمشاركة يحثهم على كبح مشاعرهم بما يجعلها متَّزِنة مع
استجاباتنا الأقل حدة. ومع انتقالنا من الطفولة إلى البلوغ، يتعلم كلٌّ منا
تدريجيًّا قائمة الممنوعات والمباحات في التعامل مع الآخرين؛ فالمبادئ الأخلاقية
تنبثق من طبيعتنا الاجتماعية.
(١-٢) العدل وعمل الخير
وكذلك العدل؛ فعلى الرغم من أننا نهتم بمصالحنا، فإنه يتوجب علينا مجدَّدًا أن
نعرف كيفية العيش معًا ومع الآخرين دون الإضرار بهم، وهذا هو الحد الأدنى الضروري
لبقاء المجتمع، فإذا تخطَّى الناس هذا الحد وفعلوا الخيرات، نرحب بفعلهم، لكن لا
يمكننا أن «نطالب» به كما نطالب بالعدل.
(١-٣) الفضيلة
إن الاهتمام بالنفس والعدل وعمل الخير أمور جميعها مهمة، غير أن النموذج المثالي
لا بد أن يتجسد في تعاطف شخص محايد، حقيقيًّا كان أم خياليًّا — أو ما يدعوه سميث
«المراقب المحايد» — تعاطفًا كاملًا مع مشاعرنا وأفعالنا، وهذا يتطلب «تحكُّمًا
بالنفس»، وهنا تكمن الفضيلة الحقيقية.
(٢) المشاركة الوجدانية الطبيعية كأساس للفضيلة
كان الفلاسفة في عصر سميث يبحثون عن تفسيرات عقلانية لما يجعل الأفعال مقبولة أو
مرفوضة. على الجانب الآخر، كان سميث يعتقد أن مبادئنا الأخلاقية ليست محدَّدة بدقة إلى
هذا الحد، وإنما هي أمر طبيعي متأصِّل فينا باعتبارنا كائنات اجتماعية؛ فكلٌّ منَّا
يشعر بالتعاطف (أو بالمشاركة الوجدانية) مع
الآخرين
1 على الفور دون زيف، بل تلقائيًّا وبحبٍّ للخير. فننظر إلى أنفسنا في
مخيلتنا وكأننا في مكان الآخرين؛ فإذا رأينا بأن أحدهم على وشك الاصطدام فإننا نجفل
هلعين، وإذا رأينا أحد لاعبي الأكروبات وهو يمشي على حبل مرتخٍ، فإننا نتلوَّى معه،
وعندما نرى الناس سعداء أو تعساء، فإننا نشاركهم الشعور بالمثل.
وعلى نحوٍ مشابِهٍ، نشارك الآخرين وجدانيًّا عندما نراهم يتصرفون بطرق نوافق عليها.
وفي الحقيقة، إننا نشعر بسعادة حقيقية عند مشاركة العواطف والآراء مع الآخرين،
2 وعندما لا نشارك الآخرين عواطفهم، أو لا نوافق على أفعالهم، فإن التعاسة
تصيب الطرفين كليهما.
مع ذلك، يرى سميث أن العاطفة نفسها
ليست هي ما نتشاركه مع الآخرين، وإنما الموقف الذي انبثقت منه هذه العاطفة؛ فعندما نرى
شخصًا غاضبًا، فالمرجح أننا نخاف على الضحايا المحتمَلين لغضبه أكثر من أن نشاركه
الغضب، وقد يكون ذلك على الأقل إلى أن نعلم حقيقة الأمر ونصل لقرار بشأن إلى أي مدًى
كان غضبه مبرَّرًا. وإذا شعرنا بأن أحدهم قد بالغ في رد فعله تجاه حادثة معينة، فإنه
يخسر مشاركتنا الوجدانية.
(٢-١) عدم توافق المشاعر وضبط النفس
يلاحظ سميث أننا — كمجرد مراقبين — نعجز عن مشاركة الآخرين بالكامل حدة مشاعرهم،
كالغضب العارم لمَن تعرَّض للاعتداء مثلًا، أو الأسى العميق لمَن فُجِع بحبيب منذ
وقت قريب؛ فعاطفتنا الناتجة عن مشاركة الآخرين وجدانيًّا هي أضعف حتمًا وأقل حدة،
وإن كانت تخلو من الزيف. لكن الآخرين مراقِبون لمشاعرنا كما أننا مراقِبون
لمشاعرهم، وعندما يحدث تنافر وعدم توافق بين مشاعرهم ومشاعرنا، كما في الحالتين
السابقتين، فإنهم سيشعرون بالتعاسة، وهذا بدوره سيحثهم على كبح جماح عواطفهم
الأصلية من أجل الوصول إلى اتساقٍ أكثرَ مع رؤيتنا لما يمرون به من أزمة.
إننا نتعلم ضبط النفس هذا أثناء سيرنا في دروب الحياة؛ فطبيعيٌّ أن نرى الأشياء
من منظور الآخرين، ونعلم بأن الإفراط في الشعور بالغضب أو الأسى أو المشاعر الأخرى
تصيبهم بالتعاسة؛ ولذلك فإننا نحاول كبح جماح مشاعرنا لجعلها متوازنة مع مشاعر
الآخرين؛ وفي الواقع نهدف إلى تلطيفها لتصل إلى النقطة التي تجعل أي شخص عادي غير
متحيز — وهو «المراقب المحايد» عند سميث — يتعاطف معنا ويشاركنا وجدانيًّا.
وبالمثل، عندما نبرز اهتمامنا بالآخرين، فإننا نعلم بأن المراقِب المحايد سيوافق
على ذلك ونسعد لذلك. وقد يكون المراقِب المحايد شخصًا حقيقيًّا أو مجرد خيال، لكنه
يستمر في إرشادنا، ومن خلال الخبرة نقوم تدريجيًّا ببناء منظومة من تقاليد السلوك
وأعرافه — وهو ما يُعرَف بالمبادئ الأخلاقية — وهذا يساعد المجتمع على الازدهار
الذي تتأصل فيه المشاركة الوجدانية:
ومن هنا، تتكامل الطبيعة البشرية عندما يزداد شعورنا بالآخرين ويقل
تمركزنا حول أنفسنا، وعندما نكبح أنانيتنا ونطلق العنان لنزعاتنا الخيرية؛
وهكذا فقط يمكن أن يضحى فيما بين البشر تناغُم في المشاعر والأهواء، تكمن
فيه اللياقة والقوة الأخلاقية.
3
(٣) الثواب والعقاب والمجتمع
يناقش سميث بعد ذلك السلوك اللائق لمختلِف المشاعر كالجوع والحب والطيبة
والاستياء،
4 ثم ينتقل إلى البحث عن السلوك الذي يستحق الثواب أو العقاب.
لتحديد هذا الموضوع، يقول سميث بأن
علينا الفصل بين النتيجة والدافع، فإذا كان أحدهم ينتفع من العون الذي يقدِّمه شخص آخر،
فلا يمكننا أن نتعاطف بالكامل مع شعور المنتفِع بالامتنان، إلا إذا كان مَن قدَّم له
العون قد انطلق في فعله من دافعٍ نتفق معه، كما لا يمكننا التعاطف مع شعور أحدهم
بالاستياء من فعل مضرٍّ، إلا إذا كان هذا الفعل ناشئًا من دافعٍ لا نوافق
عليه.
5 فلا يمكننا أن نعتقد بأن فعل العون يستحق الثواب إلا إذا كان منبثقًا من
دافع إيجابي، ولا يمكننا أن نعتقد بأن الفعل المضر يستحق العقاب إلا إذا كان منبثقًا
من
دافع سلبي.
6
إن العقاب والثواب لهما وظيفة اجتماعية مهمة؛ فنحن نوافق على الفعل الذي ينفع المجتمع
ونثيب عليه، ولا نوافق على الفعل الذي يضره ونعاقب عليه، و«مجرد وجود المجتمع يتطلب أن
يتم كَبْت تعمُّد الأذى غير المستحَق وغير المبرَّر بعقوبات مناسِبة؛ ونتيجة لذلك يجب
أن يُعتبَر تطبيق هذه العقوبات فعلًا ملائمًا جديرًا بالثناء».
7
هذه العملية غريزية؛ فقد لا نعلم بالضبط الكيفية التي تؤدي بها الأفعال الفردية إلى
نفع المجتمع أو إلحاق الضرر به، ولا يمكن للعقل أن يلعب هنا دور المرشد الواثق، لكن
الطبيعة، أو الذات الإلهية، قد منحتنا مشاعر للرغبة والنفور تعزِّز — فيما يبدو —
استمرار وجود الجنس البشري والمجتمع الذي نعيش فيه بالفعل. وفي الواقع، إذا بدرت عنا
سلوكيات منافية لذلك، فإن المجتمع ستتمزق أوصاله وسنكفُّ عما قريب عن كوننا كائنات
اجتماعية.
وفيما يلي مثال عما كان سميث يعنيه في المواضع القليلة التي تحدَّث فيها عن «اليد
الخفية»، وعن أمور أخرى كثيرة عندما كان يشرح كيف تلعب أفعالنا دورًا في إنتاج نظام
اجتماعي ناجح، حتى وإن كانت هذه النتيجة لا تتطابق مع الهدف الذي دفعنا إلى القيام بتلك
الأفعال. فعلى سبيل المثال، يلاحظ سميث أن تروس الساعة تعمل معًا لإظهار الوقت، لكنها
لا تعلم بذلك، وإنما تسير وفق نية مَن صنعها. وعلى نحوٍ مماثل، عندما تعمل أفعالنا
الغريزية على تعزيز المجتمع، فإننا قد نعزو ذلك بغرور إلى أحكامنا العقلية، لكننا في
الحقيقة يجب أن نعزوها إلى الطبيعة، أو إلى الله.
8
(وفي مناقشة لهذه الظاهرة المتعلقة بالنظام الاجتماعي الذي يعمل بكفاءة، والذي يَنتج
عن الفعل البشري لا التصميم البشري، يلجأ سميث إلى استخدام كلمات مثل «الله» و«الطبيعة»
و«المبدع» بالتبادل تقريبًا، لكن شرحه للكيفية التي نُحدِثُ بها — من خلال أفعالنا —
تناغمًا اجتماعيًّا غير مقصود إنما هو شرح في نطاق المنظومات، لا في نطاق لاهوتي. فهو
لا يفترض أو يشترط تدخُّل ذاتٍ إلهيةٍ؛ إذ إن الطبيعة — أو ما ندعوه اليوم بالتطور —
يمكنها أن تؤديَ إلى النتيجة ذاتها ببراعة.)
يعيدنا هذا إلى مسألة الدوافع؛
9 فالأفعال التي يُراد منها أن تتسبب في الضرر ربما لا تؤدي إلى النتيجة
المتوخاة منها، بينما يمكن للأفعال الأخرى أن تتسبب في أذًى حقيقي، حتى وإن لم يكن ذلك
مقصودًا من أيٍّ منها. إذنْ، هل ينبغي لنا أن نعاقب على الدافع أم على النتيجة؟ يجيب
سميث عن هذا السؤال قائلًا بأننا نعجز عن معرفة ما بقلب الإنسان؛ فإذا عاقبنا على
«الدوافع» السيئة فقط، فلن ينجوَ أحد من الشك. لكن مجدَّدًا، ترشدنا الطبيعة إلى حلٍّ
أكثر استقرارًا، بأن نعاقِب فقط على «الأفعال» التي تُنتِج الشر، أو يُراد منها
الشر.
(٤) العدل كأساس
إذا أردنا بقاء المجتمع، فلا بد أن تكون هناك قواعد للحيلولة دون إيذاء أفراده بعضهم
ببعض، ويعلق سميث على ذلك قائلًا بأنه من الممكن أن يستمر مجتمع من اللصوص والقتلة، لكن
بشرط امتناع أفراده عن سرقة وقتل بعضهم بعضًا.
10 وهذه هي قواعد ما ندعوه العدل.
إذا لم يقدِّم الناس يد العون للآخرين عند المقدرة، أو عندما يعجزون عن رد الجميل،
فحينها ندعوهم بالقاسية قلوبهم أو ناكري الجميل، لكننا لا نعاقب الناس لإجبارهم على
«فعل الخيرات»، وإنما تقتصر العقوبة على أفعال تتسبب في «ضرر» حقيقي أو تهدف إليه. إننا
نجبر الناس فقط على الامتثال لقواعد العدل؛ لأن المجتمع لا يمكنه الاستمرار
دونها.
11
إن المقصود بالعدل هو دفع الضرر، وليس الوصول بالخير إلى أقصى درجاته. فعلى سبيل
المثال، أننا نمنع الناس من سرقة أحدهم الآخر لمجرد أن هذا المنع أنفع لهم.
12 فبما أن كل فرد منا يميل إلى اعتبار مصالحه الخاصة أهم من مصالح الآخرين،
فإننا سنواجه جميعًا عملياتِ سَلْب ونَهْب لا تُعَدُّ ولا تُحصَى؛ لذا يتمثل العدل في
الكيفية التي يدافع بها المجتمع عن نفسه ضد أي ضرر، ومن الأمور الجوهرية جدًّا أن
الطبيعة قد منحتنا أقوى الغرائز لإقامته؛ حيث يصل رفضنا للظلم إلى درجة كبيرة تجعله
يستثير مشاعر عميقة من الخزي والندم في نفوس الظالمين.
(٥) النقد الذاتي والضمير
في الحقيقة، يرى سميث أن الطبيعة قد منحتنا شيئًا أكثر سرعةً من العقاب، وهو النقد
الذاتي؛ فنحن مراقِبون محايدون، وهذه المراقبة ليست فقط لأفعال الناس، وإنما لأفعالنا
أيضًا، فتنقسم أنفسنا بين الفاعل والقاضي.
13 وهذا القاضي الداخلي لا يطلب مجرد الثناء على الآخرين؛ إذ نرغب أن نكون
«جديرين» بالثناء أيضًا، ولن نقنع إلا عندما نُحس بأننا نستحق رأي الآخرين فينا
بجدارة.
14
ويؤكد سميث أن شرارة الضمير هذه ذات وظيفة اجتماعية فعَّالة؛ فهي تمنعنا من الانغماس
المفرط في أقدارنا والابتعاد الشديد عن قدر الآخرين. ويطرح سميث مثالًا شهيرًا في هذا
الصدد؛ حيث يلاحظ أنه إذا حدث زلزال هائل يدمِّر الصين بأكملها، فسيشعر أي شخص يعيش في
أوروبا ببعض الضيق، لكنه لن يكون شيئًا يُذكَر بالمقارنة مع الضيق الذي تتسبب فيه
مصيبةٌ يُبتلَى بها أشخاص يعرفهم:
إذا كان المرء ليعلم أنه سوف يفقد إصبعًا من أصابعه غدًا، فلن يستطيع النوم
هذه الليلة، لكنه سينام هانئًا وبأمان تام على الرغم من الدمار الذي لحق بمئات
الملايين من أقرانه ما دام لم يصادِف أحدًا منهم، وسيبدو هذا الدمار الهائل
أمرًا أقل أهمية بالنسبة له من محنةِ فَقْدِ الإصبع التافهة.
15
أما في الواقع، فإن جميع الأفراد على المرتبة ذاتها من الأهمية، والضمير هو السبيل
الذي تتبعه الطبيعة لتذكيرنا بذلك. فهل نحن على استعداد للتضحية بأرواح مئات الملايين
من البشر لمجرد حماية إصبع صغيرة؟ بالطبع لا، فضميرنا لن يسمح بذلك أبدًا، فالضمير
يقدِّم لنا وجهة نظر من زاويةٍ ما؛ فيكبح استغراقنا في أمورنا، ويجعلنا نعزف عن الإضرار
بالآخرين لمجرد تحقيق مكاسب شخصية؛ وبذلك يعطينا تحكُّمًا ذاتيًّا يسيطر على شهواتنا
الدنيئة.
16
(٦) القواعد الأخلاقية
تتلقى هذه العملية الدعم من غريزتنا الطبيعية لصياغة القواعد واتباعها، حيث يرى سميث
أننا عندما نرى الأشخاص يتصرفون على نحو سيئ، فإن القاضيَ الداخلي يجعلنا عازمين على
ألَّا نتصرف على النحو نفسه، وعندما يتصرف الآخرون تصرُّفًا جيدًا، نصبح عازمين على
محاكاتهم. وخلال توصُّلنا لمثل هذه الأحكام حول عددٍ لا يُحصَى من الأفعال، نقوم بصياغة
قواعد السلوك تدريجيًّا.
17 وهذا يعني أنه لم يَعُدْ من الواجب علينا أن نفكر في كل موقف جديد من
البداية؛ إذ أصبحنا نملك معايير أخلاقية ترشدنا. إن قواعد السلوك هذه تولِّد لدينا
«شعورًا بالواجب» يساعد في إبقائنا مخلصين لمبادئ العدل والنزاهة والكياسة، بغض الطرف
عما نشعر به في وقتها.
وهذا الإخلاص يفيد النظام الاجتماعي؛ فمن خلال اتباع الضمير ينتهي بنا الحال — حتمًا
ودون قصد — إلى تعزيز سعادة البشرية.
18 وربما تهدف قوانين البشر — بما فيها من ثواب وعقاب — إلى تحقيق النتائج
ذاتها، لكنها لا يمكن أن تكون أبدًا منسجمة أو سريعة أو فعَّالة كالضمير وقواعد الأخلاق
التي وضعتها الطبيعة.
ويعترف سميث بأن القواعد الأخلاقية تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ فكما أن الثقافات
المختلفة تمتلك أفكارًا مختلفة عن الجمال، استنادًا إلى ما تألفه، فإنها تمتلك أيضًا
أفكارًا مختلفة حول «جمال السلوك».
19 فعلى سبيل المثال، هناك تقاليد مختلفة للزواج، وأعراف متباينة للسلوك
الجنسي، ومعايير متفاوتة لكرم الضيافة أو الكياسة، لكن سميث يؤكد أن هذه الاختلافات بين
الأساليب المتَّبَعة أو العادات اختلافاتٌ هامشيةٌ حتمًا. وإذا لم يستمر احترام المبادئ
الأساسية للطبيعة، فإن المجتمع لن يتمكَّن من الاستمرار في البقاء.
(٧) مواقف تجاه الثروة
هناك عامل آخر يمكنه التأثير على أحكامنا الأخلاقية التي نصدرها، والتي لا تهدف
جميعها إلى الخير، وهو الثروة. ولا بد أن تأملات سميث المفصَّلة حول هذا الموضوع قد
صدمت النقاد البسطاء الذين رسموا (اتباعًا لآراء كارل ماركس) صورة لسميث في مخيلتهم
بأنه بطل الاكتساب المادي.
ويؤكد سميث أن وسائل الراحة المادية التي يمكن شراؤها بالمال ما هي إلا تفاهات؛
فالمعطف الناعم الملمس لا يختلف عن المعطف الخشن من حيث الوقاية من المطر والرياح، وليس
بمقدور الغني أن يتناول من الطعام مقدارًا يتجاوز قدرة الآخرين على الأكل، وربما ينعم
العامل في كوخه المتواضع بنوم أهنأ من نوم الملك في قصره العظيم. فالثروة تعجز عن
إنقاذنا من الشعور بالخوف أو الحزن أو الموت.
لكن ذلك لا يمنعنا من الاعتقاد بأن المال يمكنه شراء السعادة، وأن الأغنياء والمشاهير
لا بد أن يكونوا سعداء. وفي الواقع، إننا نشعر بسعادةٍ لحظِّهم السعيد ناتجةٍ عن
مشاركتهم شعورَهم، ويستحوذ علينا الاهتمام بحياتهم وشئونهم. كما أن وقوع أحدهم في دائرة
الضوء هو أمر سائغ؛ ولهذا فإن المنفعة الأساسية التي يجنيها الغني من ثروته لا تتمثل
فيما تستطيع شراءه من كماليات وسائل الراحة، وإنما فيما تولِّده من اهتمام الناس
المجامل لهم.
لكن هذا ليس من قبيل الخيلاء؛ لأن مصلحة الناس تستند إلى امتلاك الثروة أو احتلال
المكانة أكثر مما تستند إلى فضائل مَن يمتلكونها. وحتى الأشخاص الذين لا يحصلون على شيء
جرَّاء ذلك يميلون إلى غض الطرف عن «رذائل وحماقة» الأثرياء، ومجاملتهم بقدرٍ يتجاوز
ما
يستحقون؛ ونتيجة لذلك، يتوصل أصحاب الثروة أو المكانة إلى أنهم يستحقون بجدارة كل
المديح الزائف، حتى وإن كانوا لا يستحقون أيًّا منه في الحقيقة.
(٨) التحسين الذاتي
ومع ذلك، فإن السعي إلى الثروة يجلب منافع أخرى بالتأكيد؛
20 فعندما يرى الناس ما يتمتع به الأغنياء من منازل كبيرة ومفروشات وثيرة،
فإنهم يحسدونهم على هذه الحياة التي يفترضونها مريحة وسهلة. ويرى سميث أن المفارقة تكمن
في أنهم سيحكمون على أنفسهم بحياة من التعب والعمل المجهد في سبيل الوصول إلى النتيجة
نفسها. وبهذه الطريقة، فإن المباهج المفترضة للثروة — وإن كانت من الأوهام — تقودنا إلى
إجهاد أنفسنا على نحوٍ هائل في العالم المادي، وهذا يؤدي إلى تحسينات كبرى في حياتنا
الفكرية والفنية أيضًا:
إن هذه الخدعة هي التي أشعلت شرارة المجهودات الإنسانية وحافظت على نشاطها
المتواصل، وهي التي أدَّت في البداية إلى حثِّ البشر على استصلاح الأرض، وبناء
المنازل، وتأسيس المدن والجمهوريات والدول الديمقراطية، واختراع وتحسين كافة
العلوم والفنون التي تعظِّم حياة الإنسان وتزخرفها، وهي التي غيَّرت وجه الكرة
الأرضية بالكامل، فحوَّلت ما في الطبيعة من غابات متوحشة إلى سهول خصبة تَسُرُّ
الناظرين، والمحيط القاحل الأجرد الذي لم يَخُضْه أحدٌ إلى مورد جديد من موارد
الحياة، وشعَّبت طريق التواصل العظيم ليصل إلى أمم الأرض المختلفة.
21
ومع ذلك، فإن استهلاك الأغنياء لا يكاد يزيد عن استهلاك الفقراء؛ فالأغنياء ينتقون
فقط الأشياء الأعلى قيمة أو الأكثر استساغةً أو نقاءً، وعندما يوفرون الوظائف لكلِّ مَن
يقومون على خدمتهم أو يصنعون له الكماليات، تنتشر الثروة التي اكتسبوها لتصل إلى كافة
أرجاء المجتمع. وفي الحقيقة، إن الأغنياء «تقودهم يدٌ خفية توزِّع ضروريات الحياة على
النحو نفسه تقريبًا، كما كان ليحدث لو أن الأرض قُسِّمت إلى حصص متساوية فيما بين
سكانها».
22
(٩) عن الفضيلة
بعد تحديد أصول وطبيعة الأخلاق، ينهي سميث كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» بتحديد
طبيعة الشخص الفاضل بحق؛ فهو يرى أن هذا الشخص يجسد صفات «الاهتمام بالنفس» و«العدل»
و«عمل الخير»، وهناك أيضًا صفة رابعة في غاية الأهمية، هي صفة «ضبط النفس»، لكنه يرى
أنها لا تدفع تجاه الخير دائمًا.
يهدف «الاهتمام بالنفس» إلى عناية الفرد بنفسه، فهو يلطِّف تجاوزاته، ولهذا يُعَدُّ
على قدرٍ من الأهمية للمجتمع، وهو أيضًا أمر يبعث على الاحترام، إنْ لم يكن من الأمور
المحبَّبة.
23 بينما يهدف «العدل» إلى تقييد نطاق الأذى الذي نُلحقه بالآخرين، وهو ضروري
لاستمرار الحياة الاجتماعية. أما «عمل الخير»، فإنه يحسِّن جودة الحياة الاجتماعية من
خلال حثِّنا على تعزيز سعادة الآخرين، غير أنه لا يمكن مطالبة كل فرد به، وإن كان يحظى
بالتقدير دائمًا. و«ضبط النفس» يخفِّف حدة مشاعرنا، (فالخوف قد يكبح الغضب، لكن الغضب
قد ينفلت لجامه مجدَّدًا مع شعورنا بالأمان، لكن عندما نستطيع تخفيف حدة الغضب من أجل
مشاركة الآخرين وجدانيًّا — وذلك عن طريق ضبط النفس — يقل هذا الشعور بالفعل.)
24
إننا نميل طبيعيًّا إلى الاهتمام البالغ بأنفسنا، ثم بعائلتنا، وبعد ذلك فقط يمكننا
الاهتمام بالأصدقاء والأشخاص الأكثر ابتعادًا عنا،
25 كما نميل إلى الاهتمام ببلادنا أكثر من اهتمامنا بالبلاد الأخرى.
26 لكن سميث يرى أن البِر وحب الخير لا يعرفان حدودًا، فبما أن البشرية ككلٍّ
أهم من أي فرد بمفرده، يجب على الشخص الفاضل بحق أن يكون مستعدًّا للقيام بتضحيات شخصية
«من أجل المصلحة الأكبر للكون بأكمله».
27
(١٠) دستور المجتمع الفاضل
إن الطبيعة تحث الأفراد، في الواقع، على التضحية بالنفس، وإننا لنبدي إعجابنا بضبط
النفس الذي يتيح لهم القيام بذلك. لكن الناس يمكن أن يضحُّوا بأنفسهم في سبيل خدمة
قضايا طالحة وأخرى صالحة. وهكذا يمكن أن يتحول ضبط النفس الذي يتمتع به بطل مغوار، إلى
عزم حديدي وهمة قوية لدى أحد المتعصبين.
إن حب الجنس البشري ليس كحب الوطن؛
28 فحب الوطن ينطوي على احترام وتوقير دستور البلاد وبنيتها التنظيمية، إضافةً
إلى رغبةٍ في أن يتمتع أقراننا من المواطنين بالسعادة. وهذان الهدفان يتلاقيان في
العادة، لكنهما قد يصطدمان ببعضهما في أوقات التأزُّم السياسي.
يرى سميث أن السياسيين قد يَلجَئون في هذه الظروف إلى اقتراح خطط إصلاحية شاملة تقتضي
إسقاط المؤسسات القائمة — بغض النظر عما حققته هذه المؤسسات القديمة من منافع — ويطرحون
بديلًا «عقلانيًّا» يتعارض مع الطبيعة البشرية:
إن رجل النظام … غالبًا ما يكون على دراية شديدة بغروره وخُيَلائه، وكثيرًا
ما يُتيَّم بالروعة المزعومة لخطته الحكومية المثالية إلى درجة تجعله يرفض أبسط
انحراف عن أي جزء منها … ويبدو أنه يتخيل نفسه قادرًا على تنظيم مختلِف أفراد
المجتمع الكبير بالسهولة نفسها التي تحرِّك بها اليدُ قطعَ الشطرنج، غير أنه لا
يدرك أنه في رقعة الشطرنج الكبيرة للمجتمع البشري، تمتلك كل قطعة مبدأً للحركة
يخصها ويختلف تمامًا عما يختار المشرِّع فرضه عليها.
29
إن الحرية والطبيعة يمثلان دليلًا أكثر ثقة لخلق مجتمع متناغم يعمل بكفاءة، وذلك
بالمقارنة مع المنطق المتعجرف لأصحاب الرؤى الحماسية والخيالية.
هوامش