محاضرات سميث وكتاباته الأخرى
أوصى سميث بأن تُحرَق معظم أبحاثه غير المنشورة عند وفاته (وهو طلب طبيعي تمامًا في عصره؛ لأن الكتَّاب كانوا يرغبون أن يتم تقييمهم على أساس أعمالهم التامة، وليس على أساس ملاحظاتهم الأولية)؛ ولذلك لم يصلنا إلا القليل من كتاباته التي تخرج عن نطاق ما سطَّره في «ثروة الأمم» و«نظرية المشاعر الأخلاقية»، لكن هذا القليل يبيِّن لنا مدى الاتساع الهائل لدائرة تعلُّم سميث واهتماماته. ومن ذلك: نقد لقاموس صامويل جونسون، ومقالات حول الاتجاهات الفكرية في أوروبا، وأصل اللغات، والفنون من رسم ودراما وموسيقى ورقص، وملاحظات حول الشعر الإنجليزي والشعر الإيطالي، ودراسات حول تاريخ الفيزياء والفلسفة في العصور القديمة، وأطروحة من سبعين صفحة عن «تاريخ علم الفلك».
ومن حسن الحظ أن لدينا أيضًا ملحوظات كتبها طلبته على المحاضرات التي ألقاها تحت عنوان «محاضرات في البلاغة والأدب الإبداعي» و«محاضرات في فقه القانون»، وعلى الرغم من أن هذه الملاحظات لم تكن بقلم سميث، فإنها تقدِّم لنا رؤًى ثمينة حول تطوره الفكري في جلاسكو. كما أن الكثير من الفقرات تعاود الظهور في كتابه «ثروة الأمم» أيضًا.
(١) الموضوع الجامع الشامل
على الرغم من التنوع الكبير للموضوعات التي يغطيها سميث في هذه المحاضرات والكتابات المتعددة، فإنها جميعًا تكشف عن أمر مهم في المقاربة التي اتبعها، وهو أنه ليس عالمًا في الاقتصاد أو الأخلاق أو التاريخ أو قواعد اللغة، قَدْر ما يُعَدُّ عالمَ نَفْسٍ اجتماعيًّا؛ إذ لديه رغبة في معرفة كيف يتعامل الذهن البشري مع العالم ومع غيره من البشر، وكيف يشكِّل أمورًا عظيمة من هذه العلاقات. ويرى سميث أن العلم لا يتعلق كثيرًا بدراسة الواقع قدر ما يتعلق بكيفية تحليل الأذهان البشرية للواقع وتنظيمه بما يخدمها، وأن اللغة والأخلاق والاقتصاد جميعها بِنًى اجتماعية نافعة تنبثق إلى حدٍّ ما من التقاء الأذهان، وأن القانون والعدل يتعلقان بكيفية حماية البشر للتعايش السلمي.
تُعَدُّ الشروح التي قدَّمها سميث ما يمكننا أن نطلق عليه بلغة اليوم «تطورية»؛ فقد منحتنا الطبيعة ميولًا طبيعية تتضافر بطريقة ما لجعل هذه المؤسسات الاجتماعية الأكبر تعمل من أجل الصالح العام. وربما لا نفهم كيف تؤدي محاولاتنا التي نبذلها من جانبنا للمساومة أو التواصل أو الانسجام مع الآخرين إلى إنتاج منظومة عامة ونافعة خاصة بالاقتصاد أو اللغة أو العدل، لكنها تقوم بذلك فعلًا. وفي الواقع، إذا لم تَقُمْ بذلك، وإذا كانت ذات أثر هدَّام، فإن المجتمع لن يستمر بقاؤه. فما يحاول سميث التوصل إليه هو كيفية ارتباط هذه الأفعال الفردية بالمنظومة الكلية.
(٢) آراء سميث حول فلسفة العلوم
بالنظر إلى ما سلف، نجد أن «تاريخ علم الفلك» له هدف أسمى من مجرد سرد قصة التحديق في النجوم، كما يوحي العنوان الكامل للأطروحة «المبادئ التي تقود وتُوجه التساؤلات الفلسفية، وتوضيحها من خلال تاريخ علم الفلك». ففي الواقع، تتناول الأطروحة العقل البشري وكيفية تحليلنا وتصنيفنا وفهمنا للعالم؛ إذ تبدأ بالتساؤل عما يقودنا إلى التنظير العلمي، ثم تُبيِّن كيفية طرح النظريات واختبارها وإحلالها محل النظريات السابقة، ثم تمضي إلى البحث فيما تتكون منه النظرية «الجيدة»، بالاستعانة بأعمال إسحاق نيوتن كمثال؛ وبذلك فهي معاصرة على نحوٍ مذهلٍ؛ إذ نظر سميث بها إلى العلم باعتباره محاولة لتشكيل العالم، ليس فيما يتعلق ﺑ «الواقع»، وإنما فيما يتعلق بعلم نفس الإنسان وتفسيراته.
(٢-١) المعاناة من المجهول
فعلى سبيل المثال، أننا نتفاجأ عندما نرى قطعة من الحديد تنجذب نحو المغناطيس، لكن الخيال يجعلنا نتنبَّه إلى أن هناك قوةً ما تدور حول المغناطيس؛ مما يساعدنا في شرح هذه الحركة. هذه نظرية بسيطة، لكن سميث يريد أن يُبيِّن لنا كيفية طرح النظريات واختبارها وتحسينها.
(٢-٢) التخمين والتفنيد
أخذ الفلكيون لاحقًا يبحثون عن تفسيرات أبسط لحركات الكواكب، وجاء كوبرنيكوس بمنظومة تجعل الشمس، وليس الأرض، في مركز الكرات السماوية؛ مما جعل تفسير الحركة غير المنتظمة للكواكب أكثر سهولة؛ وذلك لأن الأرض نفسها أصبحت متحركة بحسب هذا التفسير. وعلى الرغم من أن الكثير من الناس صُدِموا بفكرة أن الأرض ليست مركز الكون، فقد وجد فيها الفلكيون هذا التفسير نافعًا، وذلك على الأقل حتى ظهرت مشاهدات أدق كشفت عما بها من عيوب.
أما إسحاق نيوتن، فكان بدوره قادرًا على الإتيان بشرح بسيط وعام، لا يقتصر على الكيفية فحسب، وإنما يشرح أيضًا أسباب حركة الكواكب على النحو الذي شوهدت به فيما تمثل في تأثير الجاذبية. فقدَّم نيوتن بضعة قواعد فيزيائية بسيطة تشرح المسارات الإهليلجية للكواكب، إضافةً إلى شرح ظواهر أخرى كالمذنبات، وهو ما لم تنطوِ عليه المنظومة الكوبرنيكية؛ فبدت نظريته بسيطة ومحكَمة ومتلائمة مع الحقائق المشاهَدة.
(٢-٣) العلم والفهم البشري
إذنْ، كان سميث ينظر إلى المنهج العلمي باعتباره عملية لشرح الكون بأساليب تعتمد على الذهن البشري، وتحويل التعقيدات الكونية إلى مبادئ بسيطة يمكننا فهمها فعلًا. فطُرِحت نماذج للكون وخضعت للاختبار، وعندما وُجِدت دون المستوى المتوقَّع جرى تعديلها، ثم تُخُلِّيَ عنها لصالح شروح أخرى أكثر جودة، عندما أصبحت في غاية الفوضوية والتعارض مع المشاهدات. وهذه نظرة معاصرة للعلم بلا شك.
(٣) علم نفس التواصل
في «محاضرات في البلاغة والأدب الإبداعي» أيضًا، نجد أن صميم الموضوع الذي يبحثه سميث هو علم النفس البشري، وينطلق منه إلى البحث في تطوير مؤسسة اجتماعية أساسية، أي التواصل. فعلى سبيل المثال، يوصي سميث بأنه إذا كان لديك جمهور متعاطف من المستمعين، فيجب عليك أن تلقي عليهم رسالتك كاملة، ثم تشرحها بعد ذلك شيئًا فشيئًا، أما إذا كان جمهورك عدوانيًّا، فلا تهاجمه باستنتاجاتك الخلافية مرة واحدة، وإنما يجب عليك أن تقودهم إليها على مراحل.
وفي هذه المحاضرات — التي لا توجد إلا على شكل ملحوظات دوَّنها الطلبة — وفي مقالته المعنونة «اعتبارات حول التشكُّل الأوَّلي للغات»، يسعى سميث إلى فهم اللغة عبر البحث في كيفية ظهورها. وبما أنه ليست هناك أي سجلات مكتوبة توثق ذلك، يتسم الوصف التاريخي الذي قدَّمه سميث بأنه حدْسي حتمًا؛ إذ تقتصر أمثلته على القليل من اللغات الأوروبية القديمة والحديثة، لكن شرحه يعتمد الأسلوب التطوري؛ إذ يعتقد أن اللغة تنمو مع تطور المجتمع البشري، وأنها من أدوات هذا التطور.
(٣-١) التواصل والطبيعة البشرية
إن تصميم سميث على تطبيق التقنيات التحليلية يَظهر جليًّا في جميع كتاباته، بدءًا من «ثروة الأمم» وحتى «محاضرات في البلاغة والأدب الإبداعي»؛ ففي كتاب «ثروة الأمم»، يتعلق البحث بتحديد الدوافع البشرية التي تدعو إلى الإنتاج وتبادل المنافع، وتفكيكها إلى مكوناتها، بينما في الأطروحة يسبر سميث الأغوار النفسية للتواصل، ويحلل بنيتها ونمطها.
(٣-٢) علم التواصل
ولأن التواصل مسألة نفسية، فإن سميث يشدِّد على أن الحجج المختلفة تتطلب تقنيات مختلفة، ويستعرض عددًا من هذه التقنيات، بدءًا من الخطاب «السردي» الذي يتطلب عرضًا موضوعيًّا، إلى الحجج «التعليمية» التي تحتاج إلى شرح السبب والنتيجة، إلى أنواع مختلفة من العروض «الخطابية» التي يجب أن تخاطب العواطف. ويورد أثناء ذلك أمثلة تكشف عن معرفة استثنائية بالكتَّاب والمؤرخين الكلاسيكيين.
إن المفتاح في التواصل مع الناس يكمن في فهمهم في البداية؛ إذ إن البشر بطبيعتهم يجيدون هذا النوع من المشاركة الوجدانية، التي أتاحت تطور اللغة، بدءًا من أولى محاولات التواصل وأكثرها بدائيةً، ووصولًا إلى مؤسسة اجتماعية معقَّدة وذات منفعة كبيرة.
(٤) آراء سميث حول الحكومة والسياسة العامة
جاء القسم الافتتاحي في هذه المحاضرات تحت عنوان «العدل»، لكنه غطَّى نطاقًا عريضًا من الموضوعات، ومنها: طبيعة الحكومة وتطورها، والدساتير، والقانون المحلي، والعبودية، وحقوق الملكية، والمحاكم، والعدل الجنائي؛ ثم تلاه قسم رئيسي آخر يتمركز حول «السياسة»، ويحتوي على الكثير من آراء سميث حول الأسعار، والمال، والتجارة، وتقسيم العمل، وهي الآراء التي كان سيحتويها كتابه «ثروة الأمم» بعد عَقد من الزمان.
(٤-١) العدل والحكومة والقانون
وكما أورد سميث بالتفصيل في «ثروة الأمم»، فإن الحكومة قد أُنشِئت في سبيل الدفاع عن الملكيات التي أصبحت مهمة في عصر الرعي والزراعة. وأضاف أن المنفعة الواضحة لهذا الإجراء عززها الميل البشري الطبيعي إلى احترام السلطة، لكن اقتصاد السوق هو ما أدَّى إلى ظهور الديمقراطية؛ فقبل ذلك، كانت السلطة بأجمعها تقع في قبضة يد الزعيم المحلي، أما في اقتصاد تبادل المنافع، فقد توجَّب على المنتجين أن يولوا انتباهًا أكثر إلى عدد لا يُحصَى من الأشخاص العاديين الذين يشكلون شريحة زبائنهم؛ وهكذا، غُرِست بذور الحكومة النيابية.
(٤-٢) العمل والتبادل
وبالمِثْل، نجد سميث يهاجم النظرة المركَنتيلية التي تساوي بين الثروة والمال، وأنه ينبغي الحد من الواردات للحفاظ على الثروة. ويرى سميث أن حياة التبذير والاستهتار تجعل الغني المسرف يبدد رأس المال؛ مما يؤدي إلى الإتيان على المخرَجات والازدهار، حتى وإن دخلت كل أمواله في دورة التداول، فمن الواضح أن الثروة والمال ليسا أمرًا واحدًا.
(٤-٣) الحكومة غير القديرة
إذا كان الإنتاج وتبادل المنفعة وتراكم رأس المال هي العوامل التي تمثل الطريق إلى التقدم المادي، فما الذي يعرقل السير في هذا الطريق؟ يرى سميث أن ذلك يَنتج في معظم الأحوال عن الحكومة غير القديرة. إن تراكم رأس المال يحتاج إلى الوقت، وإذا كان الناس يعتقدون أن الحكومة لا تستطيع حمايتهم من السرقة، ولا يمكنها أن تتيح لهم حرية التجارة، فلن يكون لديهم الكثير من الدوافع لبذل الجهد والادخار.
لم ينتوِ سميث نشر «محاضرات في فقه القانون» على الإطلاق، وكان هجومه على عدم كفاءة الحكومة وتدخلها أقل تحفظًا مما ورد في «ثروة الأمم»، لكنه في كليهما كانت له الكثير من الأهداف المشتركة، بما فيها عيوب قانون التعاقد، وامتلاك الأراضي، والقانون القديم الذي يُورَّث بموجبه الابن الأكبر فقط دون إخوته، والإعانات الحكومية، والاحتكارات، والامتيازات الممنوحة للمنتجين، ومُدَد التدريب الطويلة، والاستعباد، والضوابط الأخرى التي تمنع الناس من تغيير مِهَنهم.
كما أن الضرائب المرهِقة تُعَدُّ من العقبات أيضًا، ويبدو من المحاضرات أن سميث كان قد بدأ بالفعل بالتفكير في كفاءة نظام الضرائب، مفضِّلًا ضرائب الأراضي على ضرائب السلع؛ لأنها أسهل في الجباية. كما يعتقد سميث أن هناك مركزية شديدة في التخطيط من جانب الحكومات ومُلَّاك الأراضي ذوي النفوذ؛ فالناس يحتاجون إلى الأسواق وحرية التجارة، لا إلى مَن يوجِّههم من أعلى.
(٤-٤) الحرية والتقدم
وبالمنطق نفسه، يرى سميث أن «حرية تبادل المنافع» يجب أن تُتاح في السلع كافة، «فيما بين» كل الأمم أيضًا.
كان بعض المفكرين في أيام سميث يفترضون أن التقدم أمر حتمي. وعلى أي حال، كان العالم في تلك الحقبة يتقدَّم بلا شك، لكن سميث لم يكن متفائلًا لهذا الحد؛ إذ يحتاج التقدم إلى إطار من القواعد، وإلى الأمن والحرية والعدل، وإلا فإن الناس سيفقدون الحافز للجد والاجتهاد. ولا شك في أن للحكومة دورًا في الحفاظ على كل هذه العوامل، لكن عليها أن تبتعد في الوقت ذاته عن مسار عملية خلق الثروة، وأن تضمن عدم تزويد أصحاب المصالح الشخصية بالقوة التي تمكِّنهم من إبعادها عن المسار الصحيح. إن الرغبة الطبيعية لدى الناس في تحسين أحوالهم، ما إن تتحرر على هذا النحو، تشكِّل الدافع الأقوى لإحراز تقدم.
(٥) الخلاصة
إن كتابات سميث الأقل شهرة ربما تمثل تحدِّيًا أمام القارئ المعاصر لما بها من عمق ثقافي؛ ففي إحداها تحدَّث سميث — عن دراية وبعمق — عن النماذج الكونية التاريخية المختلفة، واقتبس في أخرى من مراجع كتبها لفيف من العلماء الكلاسيكيين ليبيِّن كيفية استخدامهم للغة، وفي ثالثة قارن بين المؤسسات القانونية في عدد من الدول القريبة والبعيدة.
إن هذه الكتابات لا تكتفي بإبراز تفوُّق سميث في عدد من الفروع الأكاديمية فحسب، وإنما تبرز سميث نفسه أيضًا وبوضوح كدارس للطبيعة البشرية؛ فهو لا يؤمن بأن القوانين أو الحكومات أو اللغة أو حتى العلم من الأشياء التي «تُمنَح»، بل أنها جميعًا في الحقيقة من إبداع العقل البشري، ومع ذلك، فإنها تمثل منظومات معقَّدة لم نشكِّلها بالضرورة عن قصد. فالعالم الذي يتأمل اليد الخفية سيُذهَل من الكيفية التي تتضافر بها أفعالنا الفردية بدقة لإخراج تلك المؤسسات الاجتماعية التي تعمل بكفاءة إلى النور.