استهلال

لم يكن الفشل المُدَوي لمشروع الإسلام السياسي — الذي تصاعد مدُّه إثر نجاح ثورات العرب في خلع البعض من عُتاة مستبديهم — أمرًا غريبًا، أو غير متوقع أبدًا. وبالرغم من أن دعاة المشروع وحاملي راياته قد راحوا يردون هذا الفشل إلى ما لاقاه مشروعهم من تآمر الخصوم، وتواطئهم ضده، فإنه يلزم التأكيد على أن الأمر يرتبط — في العمق — بعوائق ذاتية تُفشِل المشروع من داخله. وتتمثل هذه العوائق الذاتية في ما أظهره حاملو رايات المشروع من العجز البيِّن عن إعادة التفكير في أصول الإسلام الكبرى (القرآن والشريعة مثلًا) على النحو الذي يجعلها أساسًا لقول جديد؛ وبما يسمح للمشروع من اجتراح إجابات خلَّاقة على أسئلة اللحظة الراهنة. وهكذا فإنهم لم يعرفوا إلا استخدام الإسلام كشعار فارغ يستهدفون به إخضاع الجمهور، واحتكار المجال العام بالكلية. وغني عن البيان أن ذلك الاستخدام قد وصل بالمشروع إلى السلطة، ولكنه كان لا بد أن يصل به إلى الفشل في إحداث أي تغيير في الواقع يضمن له البقاء فيها. وينشأ ذلك عن حقيقة أن إحداث «التغيير» إنما يستلزم اشتغال فعل «التفكير»؛ وهو ما بدا أن دُعاة المشروع عاجزون عن الوفاء به، على نحو كامل.

وهكذا فإن ثورة العرب، وبصرف النظر عن مأزق مشروع الإسلام السياسي، قد كشفت عن احتياج المسلمين، على العموم، إلى إعادة التفكير في أصول دينهم الكبرى، التي هي القرآن والشريعة بالذات، إذا شاءوا أن يكونوا فاعلين في العالم. وضمن سياق السعي إلى إعادة التفكير في هذه الأصول، فإن التركيز هنا سوف ينصبُّ على التمييز بين الدلالات التي تسكنها وتنطوي عليها، وبين التحولات التي طرأت عليها. ويرتبط ذلك بحقيقة أن الثقافة الإسلامية، على العموم، قد خضعت لضرب من التحول الذي بدا أن أصولها الكبرى قد راحت فيه تنتقل من دلالتها الواسعة المنفتحة إلى أخرى أكثر ضيقًا ومحدودية. ولقد كان هذا التحول في بنية الثقافة بمثابة انعكاس لتحول في ممارسة السياسة في الإسلام؛ من ممارسة تتسع للناس إلى أخرى ذات طابع تسلطي. وقد أدَّى تغييب الأصل السياسي المتعيِّن للتحول في بنية الثقافة الإسلامية، من دلالة منفتحة إلى أخرى مغلقة، إلى النظر إلى ما أنتجه هذا التحول على أنه من قبيل «الدِّين» الواجب التعبد به. وليس من شك في أن ذلك يعني أن ما أنتجته «السياسة» قد راح يتحول إلى «دِين»؛ وبما يعنيه ذلك من إدخال ما ليس من الدين فيه. وبالطبع، فإنه لن يكون ممكنًا تفكيك هذا الذي جرى إدخاله في الدين، وهو ليس منه، والانفلات من آثاره الخطرة، إلا عبر ردِّه إلى أصله السياسي المُغَيَّب.

ولعل نقطة البدء في هذا التفكيك تنطلق من ضرورة الوعي بما كان للأصول الكبرى (القرآن والشريعة) من دلالات، وما طرأ عليها من تحولات. وهنا فإن القرآن قد تنزَّل بما هو خطاب للعباد؛ وبما يعنيه ذلك من دخول الإنسان (وعيًا وواقعًا) في تركيبه، ولكنه سرعان ما راح يتحوَّل متعاليًا من عالم البشر ليُصبح صفةً أزلية لله. وبالطبع فإن هذا التعالي بالقرآن من «خطاب للعباد» إلى «صفة لله» كان يعكس تعاليًا في عالم السياسة من كونها ممارسةً مفتوحة يكون للمحكوم دور فيها، إلى حيث تُصبح ممارسةً مغلقة لا مكان فيها إلا للحاكم/السلطان الذي قيل إن الله يزَع به ما لم يزع بالقرآن. وفي السياق ذاته، فإنه إذا كانت دلالة الشريعة تنصرف — بحسب القرآن — إلى ما يُجمِع عليه أهل الأديان جميعًا من مبادئ ذات طبيعة إنسانية عامة، فإن هذه الدلالة المنفتحة وغير الإقصائية قد راحت تأفل تدريجيًّا، وعلى النحو الذي انتهت معه الشريعة — تحت ضغوط السياسة أيضًا — إلى أن تصبح ساحةً لتكريس التفاوت والتمايز بين بني البشر. ولعل ذلك يعني أن دور السياسة لا يقف عند حد أنها تُدخِل في الدين ما ليس منه، بل إنها تصنع، في الحقيقة، دينًا ضد الدين.

والحق أن القيمة القصوى لهذا الكتاب إنما تتمثل في التنبيه إلى جوهرية امتلاك الوعي بالدلالات المنفتحة وغير الإقصائية، التي تنطوي عليها أصول الإسلام الكبرى، وكذا بالكيفية التي راحت معها تصبح ساحةً لضروب من التحولات التي جرى معها تغييب تلك الدلالات التي حلَّت محلها — تحت ضغوط السياسة — دلالاتٌ أكثر انغلاقًا وسلطوية.

ويبقى أخيرًا وجوب توجيه الشكر للصديق جمال عمر والسيدة شيرين سمير على عونهما الكريم في إخراج هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤