القرآن والصراع على المعنى

في ضرورة علاقة جديدة مع القرآن

سوف يجد الجميع، في مصر (من إسلاميين وليبراليين ويساريين وغيرهم) أنفسهم، في مواجهة حقيقة أن الأنظمة الفكرية التي لطالما التمسوا منها إجاباتهم على ما يطرحه عليهم واقعهم من أسئلة، لم تَعُد قادرةً على تقديم إجابات غير مكرورة على أسئلة اللحظة الراهنة. ومن هنا ما سوف يُضطَر إليه الكافة في مصر ما بعد مبارك، من لزوم التفكير خارج حدود الأنظمة والأنساق المعرفية التي استقرَّت على مدى قرون.

فإذ سيجد الداعي إلى الحل الليبرالي نفسه في مواجهة السؤال: لماذا أخفقت وصفته الليبرالية — التي تُلح على ضرورة تقييد السلطة بالمؤسسات والتنظيمات البرلمانية والحزبية — في إخراج مصر من أزمتها، رغم بدء تعاطي هذه الوصفة العلاجية مع ابتداء النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟ فإن الداعي إلى الحل الإسلامي سوف يجد نفسه، بدوره، في مواجهة حقيقة أن المنظومة الفقهية المتوارَثة عن السلف، لن تكون قادرةً على مواجهة تحديات ما بعد الخروج من المواقع التي كان فيها الإسلاميون مجرد معارضين لأنظمة حكم فاسدة (وعلى النحو الذي كان يكفيهم فيها أن يرفعوا رايةَ تقوِّي السلف في مواجهة فساد الحكم، فيحتشد الناس خلفهم)، إلى مواقع السلطة التي عليها أن تجد حلولًا ناجزة لمشكلات بالغة التعقيد والتركيب. وهي مشكلات لا يمكن توقع العثور على إجابات جاهزة لها عند السلف الذين كانوا يعيشون في إطار نظام للعالم يختلف بالكلية عن ذلك الذي يعيش فيه المسلمون اليوم.

فقد كان العالم قبل انبثاق عصر الحداثة (الذي لا يمكن حتى لمن يرفضه أن ينفلت من تحديداته) أقربَ ما يكون إلى مجموعة وحدات حضارية تنغلق كلُّ واحدة منها على نفسها، وتستطيع لذلك أن تعيش بحسب قانونها الخاص. وهكذا عاش السلف إسلامهم بحسب ما يسمح به نظام هذا العالم البسيط. وأما اليوم، فإن العالم قد انفتح على بعضه على النحو الذي أدَّى إلى تبلور قيم سياسية وحقوقية تقوم على حراستها مؤسسات عالمية لا يقدر أحدٌ على أن يضع نفسه خارج فاعلية تقريراتها الملزِمة. وهنا ينبثق السؤال: هل يمكن للمسلم الراهن أن يعيش ضمن ظاهرة هذا العالم المنفتح والمعقَّد في آنٍ معًا بما ينتمي إلى نظام عالم بسيط كان بمقدور كل تشكيل حضاري فيه أن ينغلق على نفسه؟

لا بد من الوعي بأن فاعلية ما أنتجه وفكَّر فيه السلف تقف عند حدود عالمهم. ولسوف يكون من الظلم وعدم الإنصاف استدعاء هذا الذي أنتجوه وفكَّروا فيه للاشتغال في إطار اللحظة الراهنة؛ لما يئول إليه ذلك من إظهار قصورها وعدم نجاعتها. وهنا يظهر واضحًا أنه لا شيء يؤدِّي إلى نسبة القصور إلى ما أنتجه السلف إلا ما يمكن نسبته إلى مسلمي هذه الأيام من الكسل والقصور العقلي الذي يجعلهم يستسهلون حلول السلف الجاهزة، بدلًا من التفكير في إبداع حلول خلَّاقة لمشكلات واقعهم. وللمفارقة، فإنهم إذ يجعلون أنفسهم عبئًا على السلف، على هذا النحو، يجعلون من هؤلاء السلف عبئًا على اللحظة الراهنة. ولعل ذلك يعني أن وضع السلف يتحدَّد بكيفية تصور المسلم المعاصر لنفسه. فإذ يجعل هذا المسلم نفسه «عبئًا» على السلف فإنه — وللمفارقة — يجعل هؤلاء السلف «عبئًا» على زمانه، وإذ يرى نفسه قاصرًا عن التفكير لنفسه، فإنه ينسب القصور ذاته لِمَا يستعيره من حلول السلف الجاهزة، حين لا تستطيع تلك الحلول أن تتفاعل على نحو إيجابي مع مشكلات اللحظة الراهنة. وإذن فإنه التحديد المتبادل الذي يُحيل فيه تحديد طرف لنفسه على نحو ما، إلى تحديد صورة الآخر في الاتجاه ذاته؛ الأمر الذي يعني أن جوهر الأزمة يكمن، لا في السلف، بل في طبيعة العلاقة التي يُقيمها المسلم المعاصر معهم.

والحق أن المسلم المعاصر لن يكون قادرًا على العيش في انسجام مع عصره، فاعلًا فيه ومساهمًا في تشكيله وتحديد صورته، ما لم يُعِد النظر في طبيعة علاقته، لا مع السلف فقط، بل — وهو الأهم — مع مصادر الإسلام الكبرى، وعلى رأسها القرآن. لا بد إذن، من إعادة النظر في علاقة الخضوع غير المسئولة من جانب المسلمين لأنظمة الفكر والمعرفة المتوارثة عن أسلافهم؛ ومنها المنظومة الفقهية بالطبع؛ ليس فقط لأن هذه المنظومة تعكس نوع وطبيعة علاقات القوة السائدة اجتماعيًّا وتاريخيًّا على النحو الذي راح يضعها في تناقض مع الروح القرآني في بعض الأحيان، وذلك بحسب ما لاحظ البعض من المفسرين القدماء (كابن كثير)، بل ولأن تلك المنظومة — وهو الأهم — تنبني على نمط من العلاقة مع القرآن يحتاج إلى مراجعة بسبب ما تنتهي إليه تلك العلاقة من إفقار القرآن والوعي معًا.

فعلى الرغم من أن الفضاء كان — ولا يزال — يتسع لضروب من العلاقات الممكنة مع القرآن، فإن علاقةً بعينها مع القرآن هي التي سادت واستقرَّت بين المسلمين، بعد أن تحقَّقت لها الغَلَبة والسيادة بعد سنوات قليلة من وفاة النبي الكريم؛ وأعني مع انفجار أحداث الفتنة الكبرى التي تكاد أن تكون اللحظة الأكثر مركزيةً في تحديد مصائر الإسلام على صعيدَي السياسة والثقافة.

فحين طلب معاوية بن أبي سفيان من جنده، الذين تهدَّدتهم الهزيمة ودارت عليهم الدائرة في مواجهتهم مع جيش الإمام «علي» — كرم الله وجهه — إبَّان وقعة صفين الشهيرة، أن يرفعوا القرآن على أسنة الرماح، فإنه كان يصوغ نوعًا من العلاقة مع القرآن هو الذي ساد وترسَّخ للآن؛ وهي العلاقة التي يحضر فيها القرآن بما هو سلطة ناطقة بذاتها، ولا يمكن أن يكون موقف الناس منها إلا محض التكرار والإذعان. وفي كلمة واحدة، فإنه القرآن بما هو سلطة إخضاع.

وبالطبع فإن الإمام «عليًّا» قد راح يفضح الخديعة والمكيدة في هذه الحيلة الأموية، وما انبنى عليها من العلاقة مع القرآن كسلطة ناطقة؛ مؤكِّدًا أن الأمويين ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنهم يحتالون بذلك سعيًا إلى تثبيت سلطتهم السياسية. وهكذا فإنه قد مضى يؤكِّد أن القرآن ليس سلطةً تملك لسانًا تنطق به؛ بل إن الناس هم الذين ينطقون بلسانهم عنه، ويسعَون إلى وضعه كسلطة ناطقة ليُخفوا وراءها سلطتهم، ويُضفوا عليها قداسته. إن ذلك يعني أن القرآن يحضر عنده، لا كسلطة تنطق بلسان، وليس للناس إلا الإذعان لهذا الذي تنطق به، كالصم البكم العمي الخرس الذين لا يفقهون، بل كساحة يتفاعلون فوقها مع الوحي الإلهي، وينطقون عنها بما يفهمونه منها بحسب ظروفهم وأحوال زمانهم. وفي كلمة واحدة، فإنه القرآن هنا، لا كسلطة إخضاع، بل بما هو ساحة تفكير وإبداع.

وهكذا فقد أدرك الإمام «علي» أنها سلطة الناس تريد أن تخفي نفسها وراء هذا التصور للقرآن كسلطة؛ وبما يعنيه ذلك من أن الناس يتصورون القرآن بحسب ما يريدون لأنفسهم أن يكونوا عليه. فإن أرادوا لأنفسهم أن يكونوا سلطةً لا تملك المساءلة والمحاسبة (وهو ما أراده الأمويون لأنفسهم على أي حال بحسب ما ظهر جليًّا مع عبد الملك بن مروان)، فإنهم يتصورون القرآن كسلطة فوق البشر، وليس كموضوع لأفهامهم، وأما إذا تقبَّلوا أن تكون سلطتهم موضوعًا لتقويم الناس ومحاسبتهم (بحسب ما أراد الإمام «علي» لنفسه فيما يبدو)، فإنهم يتصوَّرون القرآن ساحةً لأفهام الناس وتفاعلاتهم. وإذن فإنه التحديد المتبادل، حيث يصوغ الناس صورة القرآن على النحو الذي يخدم ما يريدونه لأنفسهم؛ وبما يعنيه ذلك أيضًا من أن جوهر الأزمة إنما يقوم في نوع العلاقة الراسخة مع القرآن، وليس أبدًا في القرآن.

وبالطبع فإنه إذا كانت طريقة «معاوية»، والأمويين على العموم، في تصوُّر القرآن كسلطة إخضاع قد تحقَّقت لها الهيمنة والسيادة، في مواجهة طريقة الإمام «علي» التي كان عليها أن تنزوي إلى الهامش مع الهزيمة التراجيدية للرجل في حقل السياسة، فإنه يبدو واضحًا أن المسلمين لن يكونوا قادرين على مواجهة أسئلة وتحديات اللحظة الراهنة، ما لم يعيدوا النظر في ذلك التصور الذي فرضه الأمويون للعلاقة مع القرآن. فإن إعادة النظر تلك، هي التوطئة اللازمة لعلاقة مع القرآن يستعيد معها حضوره كساحة تتفاعل فوقها أفهام البشر مع الوحي الإلهي على نحو أكثر انفتاحًا وحرية. ولعل ذلك وحده هو ما يسمح للقرآن نفسه بالانكشاف عن مكنوناته الثمينة التي يعجز الوعي في حال فقره وخضوعه الراهن عن بلوغها والإمساك بها. وإذن فإن الحاجة ماسة لعلاقة مع القرآن يتحرَّر فيها «الوعي» من خضوعه من جهة، ويتجاوز فيها القرآن ما انتهى إليه من الترديد والتكرار من جهة أخرى.

ولعلي أقطع، عن يقين، بأن أي سعي إلى صوغ علاقة مع القرآن (وأكرِّر علاقة جديدة مع القرآن) سيجد نفسه ملزَمًا بالبدء من الاجتهاد الثمين الذي قدَّمه الراحل الجميل نصر أبو زيد؛ وهو الاجتهاد الذي يعجز الكثيرون عن الإمساك بجوهره العميق لِمَا يتخبَّطون فيه من سوء النية … ناهيك عن سوء الفهم. فَتَحية إلى روح الرجل، وتثمينًا لعمله العظيم الذي لن يمر وقت طويل، إلا ويدرك الكافة، من الإسلاميين وغيرهم، مسيس احتياجهم إليه.

القرآن والصراع على المعنى

يرتبط السعي الدءوب للكثيرين في مصر إلى تسييد المنظومة المعرفية القديمة (في شتى جوانبها الفقهية والتفسيرية والعقائدية والحديثية وغيرها)؛ بتحويلها إلى مطلق يتجاوز حدود الارتباط بأي شروط تاريخية أو معرفية. وغني عن البيان أن هذا التحويل لها إلى أبنية مطلقة إنما يقوم على تصور لما تحمله من المعنى؛ وعلى النحو الذي يكون فيه هذا المعنى من قبيل «المعطى» الذي يتم تلقِّيه جاهزًا، وليس من قبيل «التكوين» التاريخي الذي يُنتجه البشر (في تفاعلهم مع النصوص)، على نحو يعكس إمكان تجاوزه والانتقال منه إلى غيره.

وإذا كان تصوُّر المعنى كتكوين يُنتجه البشر يقوم على ربطه بالنظام اللغوي للخطاب من جهة، وبكلٍّ من حركة الواقع وأفق القارئ من جهة أخرى، فإن تصوره كمُعطًى يقوم على اعتباره قصدًا لصاحب النص يقوم فيه ثابتًا وجاهزًا، وبكيفية يكون معها هبةً مخصوصة يعطيها صاحب النص لمن يشاء. وبالطبع فإنه إذا كان التصور الأول للمعنى كتكوين ينطوي على تأكيد حركيته وانفتاحه (بما يتفق مع طبيعة الوجود الإنساني)، فإن تصوره كمعطًى ينطوي على تأكيد انغلاقه والسعي إلى احتكاره. ولكن الأخطر من ذلك هو أن هذا التباين بين تصورين للمعنى إنما يعكس حقيقة أن عالم المعنى هو، في حقيقته، ساحة للتصارع الاجتماعي والسياسي. فإذ يكشف تصور المعنى كتكوين يُنتجه البشر عن الدور الفاعل لهم، فإن تصوره كمُعطًى يتلقاه البشر جاهزًا يكشف، في المقابل، عن محض خضوعهم واستلابهم. ولعل ذلك يعني أن ما يجادل به الساعون إلى احتلال صدارة المشهد السياسي المصري الراهن من أن معنى القرآن هو معطًى ثابت جاهز تلقَّاه السلف وصاغوه في أنظمة سلوك واعتقاد لا بد من تكرارها الآن، لا يُجاوِز كونه مجرد ستار يُخفون وراءه سعيهم لإخضاع الجمهور والسيطرة عليه. وهكذا فإن السعي إلى تثبيت هيمنة السلف كسلطة قابضة على الرأسمال الرمزي للجماعة الذي يتمثَّل في المعنى الخاص بكتابها الأقدس، ينطوي على القصد إلى تحصين السعي السياسي لجماعة بعينها وراء سلطة هؤلاء السلف. إن ذلك يعني أن السلف لم يكونوا هم الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا «سلطةً» قابضة على الرأسمال الرمزي للجماعة، بل إنه قد جرى وضعهم هكذا؛ للتخفي السياسي وراءهم.

والغريب حقًّا أن هناك من الشواهد الكثيرة ما يدل على أن ممارسة هؤلاء السلف الذين أُريد لهم أن يكونوا قابضين على نوعٍ من المعنى المكتمل الثابت والمُتفق عليه للقرآن، لا تشي أبدًا باعتقادهم في هذا النوع من المعنى المعطى للقرآن. ولعل مثالًا لتلك الشواهد يتأتى ممَّا تحتشد به — وبغزارة ملفتة — موسوعات التفسير والفقه الكبرى مما يمكن اعتباره تأريخًا واسعًا لأفكار وآراء الصحابة والتابعين الذين تتشكَّل منهم النواة الصلبة لجيل السلف. ولعل نظرةً على تلك الأفكار والآراء تتبدَّى عن ضروب من التباين والتعارض الحاصل بين هذا السلف؛ سواء تعلَّق الأمر بفهم آية أو استنباط حكم أو غيره. وبالطبع فإن الأصل فيما يقوم بينهم من التباين إنما يجد ما يؤسِّسه في الأفق المعرفي والاجتماعي الذي يؤطِّر وعيهم، وفيما عرفه واقعهم من تطور؛ وذلك فضلًا عن الطبيعة اللغوية للخطاب القرآني التي تجعل منه ساحةً للإضمار والإجمال والإطلاق والتضمين والتعميم؛ بل وأحيانًا للسكوت وعدم التصريح، وذلك على النحو الذي اقتضى اجتهادًا بشريًّا في إنتاج المعنى، كان لا بد أن يتباينوا فيه بحسب ميولهم وانتماءاتهم. ولعل وعيهم بأنهم كانوا يُنتجون المعنى باجتهاد، ولا يتلقَّونه جاهزًا كاعتقاد، يتجلَّى فيما كانوا يختتمون به أقوالهم — أو كتاباتهم — من تعبير «والله أعلم»؛ الذي يكشف عن روح منفتحة لا تعتقد في امتلاكها لكامل العلم، بل إنها تفتح الباب بما يعكسه هذا التعبير من إقرارها بمحدودية علمها — أمام الآخرين ليُضيفوا اجتهاداتهم إلى — أو حتى على أنقاض — إنجازها. وتأتي المفارقة، هنا، من السعي إلى تثبيت الاعتقاد بأن هؤلاء السلف الذين اجتهدوا في إنتاج معنى القرآن، ضمن شروط وعيهم وواقعهم، قد تلقَّوا المعنى على سبيل الهبة المخصوصة لهم، وأن أحدًا بعدهم ليس له إلا أن يقف عند حدود هذا الذي تحصَّلوا عليه في لحظة فريدة، لا سبيل لتكرارها أبدًا.

وكمثال على أن المعنى كان ساحةً للاختلاف والقول بالرأي بين الصحابة، فإنه يمكن الإشارة إلى ما أورده أبو بكر الجصاص في «أحكام القرآن» من اختلاف الصحابة وقولهم بالرأي في عديد من المسائل المتعلقة بأحكام المواريث. يُدهَش المرء حين يفاجئه الاختلاف حول آيات الأحكام التي يشيع القول إنها من قبيل ما هو قطعي الدلالة، ولكن ماذا بوسعه أن يفعل والرجل يقول: «وقد اختلف السلف في ميراث الأبوين مع الزوج والزوجة (يعني إذا مات الزوج وترك الزوجة مع أبويه، أو تُوفيت الزوجة وتركت الزوج مع أبويها)، فقال علي (بن أبي طالب) وعمر (ابن الخطاب) وعبد الله (ابن مسعود) وعثمان (ابن عفان) وزيد (ابن ثابت): للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب، وللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب. وقال ابن عباس للزوج والزوجة ميراثهما، وللأم الثلث كاملًا (من الميراث كله)، وما بقي فللأب. وقال (أي ابن عباس): لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي.» ورغم أن هذا الذي مضى إليه ابن عباس (الذي تُنسب إليه الروايات أنه «حبر الأمة، وترجمان القرآن ودليل التأويل») في ضرورة أن تأخذ الأم الثلث كاملًا هو — على قول الجصاص وابن كثير وغيرهما — ما «يدل عليه ظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. فإنه يبدو غريبًا انعقاد الإجماع من الصحابة والتابعين على غير ما يقول به ظاهر القرآن. والطريف أنه حين أرسل «ابن عباس» إلى «زيد بن ثابت» مستفسرًا: «أين تجد ثلث ما بقي في كتاب الله؟» فإن زيدًا قد أجابه: «إنما أنت رجل تقول برأيك، وأنا رجل أقول برأيي.» وإذا كان للمرء أن يتساءل عن أصل الرأي الذي انحاز إليه زيد ومعه — على قول ابن كثير — معظم الصحابة والتابعين والفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء، والذي يقول بما لم يجد له «ابن عباس» أثرًا في كتاب الله؛ فإنه لن يجد إلا ما تُورده المصادر من أنه «التقليد الاجتماعي الأبوي» الذي يرفض أن يكون للأنثى نصيب من الميراث يربو على نصيب الرجل.

وأخيرًا، فحين يسمع المرء ممن يقول إنه مرشح محتمل لرئاسة الجمهورية أن دوره هو أن يجعل الدولة تطابق الأحكام الشرعية، فإن له أن يتساءل: وهل سيكون مطلوبًا من الدولة أن تتطابق مع أحكام «ابن عباس» أم مع أحكام «زيد بن ثابت»؟ ولماذا مع أحدهما دون الآخر يا مولانا؟

ولعل المفارقة تتبدَّى زاعقةً حين يلحظ المرء أن الله الذي يتخفَّى وراءه الساعون إلى إخضاع البشر — وذلك من خلال طردهم من ساحة إنتاج المعنى — سيكون، هو نفسه، الذي يؤشر على جوهرية الحضور الفاعل للبشر في كل عملية الوحي (إنتاجًا وقراءة) …

هل هي الحساسية مع القرآن أم مع مجرد فهم بعينه للقرآن؟

إذا كان أحد لا يجادل في أن مصر هي أحوج ما تكون، في وضعها الراهن، إلى الحوار، فإنه يلزم أن يكون حوارًا منتجًا ينفتح فيه كل فريق من أطراف نُخبتها على الآخر، وذلك على النحو الذي تتسع فيه تصورات الواحد منهم للآخر. وعلى هذا فإنه ليس مطلوبًا أبدًا أن يتمترس كل فريق وراء تصوراته ساعيًا إلى فرضها على الآخرين، أو مُصرًّا عليها تاركًا لهؤلاء الآخرين — حين تُعوِزه الحجة — حق قَبولها أو رفضها؛ حيث الأمر لا يتعلَّق بتصورات تخص فردًا أو جماعةً يتداولونها داخل دائرتهم الخاصة، بل بتصورات يُراد لها أن تصوغ مستقبل وطن لا بد أن يتسع لجميع الفرقاء من غير إزاحة أو إقصاء.

ولعل الشرط اللازم لإنتاجية الحوار يتمثَّل في ضرورة ضبط المفاهيم التي يدور حولها الحوار، وذلك عبر المُساءلة والوعي النقدي بما تنبني عليه ويؤسس لها من أصول، قد لا تكون حاضرةً في أذهان المتحاورين. وإذن فالأمر يتعلق بضرورة التعامل المعرفي مع المفاهيم، بدلًا من التعامل السياسي معها الذي يحيلها من موضوعات للدرس والفهم إلى محض أدوات للتعبئة والحشد؛ وهو التعامل الذي لا ينتهي، فحسب، إلى إفقار المفاهيم على نحو كامل، بل ويقود المتحاورين إلى التقاذف والصدام. وليس من الغريب أن يكون ذلك هو ما يغلب على أداء مختلِف أطراف النخبة المصرية الحالية؛ وأعني من حيث لم تعرف، على مدى تاريخها، إلا محض التعاطي السياسي مع المفاهيم، وهو جوهر أزمتها البنيوية الممتدة التي يمكن القول إن نجاحها في الخروج منها، هو السبيل إلى خروج مصر من أزمتها.

وانطلاقًا ممَّا سبق فإن ما مضى إليه أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين من القول: «لا أعتقد أن أي شخص مسلم يعترض على تطبيق القرآن، والحدود التي شرعها الله بنص القرآن، وأي مسلم لا يُعجبه كلام ربنا، (فإن المشكلة تكون) مشكلته هو … وإن من عنده حساسية من القرآن أو دينه، فليعلن هذا صراحةً دون التمسح في الإخوان"؛ إنما يندرج — بما ينطوي عليه من تبسيطية هائلة — في إطار السعي إلى حشد الناس وراء المشروع السياسي للجماعة التي ينتمي إليها الرجل، عبر الترويج لهذا المشروع على أنه «تطبيق القرآن والحدود المنصوص عليها فيه». ولكن القول، في حال التعامل المعرفي معه، يفتح الباب للنقاش حول مسألة بالغة الجوهرية تتعلق بالكيفية التي يؤسِّس بها الناس علاقتهم مع القرآن والنصوص المقدسة على العموم. وغني عن البيان أنه فيما يئول التعامل السياسي إلى إفقار القرآن على نحو كامل، وذلك من حيث يجري توظيفه، في الأغلب، كقناع لسلطةٍ تمارس القهر والإجبار، فإن التعامل المعرفي معه يفتح الباب أمام إمكانية تصوره كساحة تفاعل وحوار. ولعل ذلك يُحيل إلى ضرورة البحث في الطرائق التي سعى المسلمون عبرها إلى تأسيس علاقتهم مع القرآن. وهنا فإنه يلزم العودة إلى اللحظة الأكثر مركزيةً في تاريخ الإسلام بأسره، وأعني بها لحظة «الفتنة» الشهيرة.

فعندما اتجه الصحابي الجليل «عمار بن ياسر» — إبَّان وقعة صفين — بخطابه إلى بني أمية قائلًا: «نحن ضربناكم على تنزيله، واليوم نضربكم على تأويله»؛ فإنه كان يكشف عن وعي لافت بحقيقة أن الصراع الذي تفجَّر في تلك الوقعة الأسيفة — التي لعبت الدور الأبرز في توجيه ما جرى لاحقًا في تاريخ الإسلام السياسي والثقافي — هو صراع على فهم القرآن وتأويله، في الجوهر. وإذا كان سؤال الفهم والتأويل هو، على نحو ما، سؤال عن الكيفية التي يؤسِّس بها الناس علاقاتهم مع النصوص، فإن ذلك يعني أن ما جرى آنذاك كان، في أحد وجوهه، صراعًا على كيفية تأسيس العلاقة مع النص (الذي هو القرآن بالطبع).

وللمفارقة فإن التأمل في مواقف الفريقين المتقاتلين في صفين، يكشف عن كيفيتين متباينتين في تأسيس العلاقة مع النص/القرآن؛ فإنه إذا كانت واقعة رفع المصاحف على أسنة الرماح تمثِّل استدعاءً صريحًا للنص ليلعب دورًا في الصراع السياسي المحتدِم، فإن ما تنطوي عليه تلك الواقعة من دلالة الربط بين المصحف والرمح أو السيف، يكشف عن تصور «بني أمية» للعلاقة مع النص بما هو قوة إخضاع، تحقَّقوا من أنها أكثر نجاعةً من السيف نفسه؛ وذلك من حيث ما تأدَّت إليه حيلة رفع المصاحف على الرماح من إيقاف حرب لم يُفلح السيف وحده في وضع حدٍّ لها. وهكذا فإن للمرء أن يتوقَّع تحوُّل النص — مع بني أمية بالذات — إلى سلطة، أو — بالأحرى — إلى قناع لسلطة تحتجب خلفه وتمارس تحت رايته أقسى ضروب التسلط والقمع. ويرجع السبب في ذلك إلى أنه إذا كان السيف هو أداة بناء السلطة وحراستها، فإن ما حدث من تعليق النص/القرآن عليه، سوف يجعل منه (أي القرآن) محض امتداد للسيف في تثبيت نفس السلطة وحراستها. وبالطبع فإنه حين يصبح دور النص هو حراسة السلطة، فإن تلك السلطة سوف تكون هي الأحرص — حمايةً لنفسها — على تحويله، هو نفسه، إلى سلطة؛ وبما يعنيه ذلك من التعالي به عن إمكانية أن يكون موضوعًا للقراءة وطرح الأسئلة، حيث ستُصبح عملية طرح الأسئلة على النص بمثابة مساءلة لسلطة السياسة التي تحتجب خلفه. وهكذا فإنه يتم — ضمن هذا السياق — إلغاء التمييز بين «سلطة السياسة» وبين «سلطة النص»، وعلى النحو الذي جعل معاوية يعتبر — في سياق آخر — ما قضى به من توريث سلطته لابنه يزيد، بمثابة القضاء النازل من الله، والذي لا راد له أبدًا. وليس من شك في أن تحوُّل النص إلى سلطة لا بد أن يدخل به إلى دائرة التكرار والجمود؛ وذلك لاستحالة التعاطي معه، بما هو سلطة، على نحو يسمح بتفجير دلالاته الكامنة الخصبة. وفقط سيُصبح النص «أيقونةً» يتبرَّك بها الناس ويتمسَّحون بها ويُتمتمون بمفرداتها، ولكنه سيفقد كل حياته وديناميته.

وإذا كانت تلك الكيفية في العلاقة مع النصوص هي التي تحقَّقت لها الهيمنة والسيادة كاملةً في الإسلام، فإن ما صار إليه الإمام علي — في تعليقه على ما قام به بنو أمية من رفع المصاحف على أسنة الرماح — من «أن القرآن كتاب مسطور بين دفتين، لا ينطق بلسان، وإنما ينطق عنه الرجال»، إنما يكشف عن كيفية أخرى في تأسيس العلاقة مع النصوص؛ تنبني على الإقرار بدور بالغ المركزية للإنسان في إنتاج دلالة النص، وبما يترتَّب على ذلك من ضرورة تصور النص، لا بما هو قوة إخضاع وإجبار، بل بما هو ساحة للتفاعل والسؤال والحوار، ولعل ذلك ينبني على حقيقة أنه إذا كان الإنسان يدخل (وعيًا وواقعًا) في تركيب وحي التنزيل (وهو ما يُستفاد، من جهة، من تعدُّد وتباين لحظات هذا التنزيل بحسب حاجات الواقع ومستوى تطور الوعي، كما يُستفاد، من جهة أخرى، من حقيقة أن القرآن نفسه قد ظل يتنزَّل وحيًا على مدًى يقترب من ربع القرن متجاوِبًا مع أسئلة الوعي والواقع)، فإنه يستحيل تصور هذا الإنساني معزولًا عن فعل الفهم والتأويل.

وبالطبع فإنه كان لا بد مع تحوُّل مسار السياسة في الإسلام، مع معاوية، من الخلافة إلى المُلك العضوض المستبد (بما يستلزمه هذا المُلك المستبد من الإقصاء الكامل للفاعل الإنساني)، من إزاحة الكيفية التي أسَّس بها الإمام علي للعلاقة مع القرآن تفاعلًا وحوارًا، وبحيث لم تستمر إلا الطريقة الأموية في العلاقة معه تلقيًا وتكرارًا. ولأن تحصين سلطتهم السياسية كان يقتضي تثبيت طريقتهم في التعاطي مع القرآن تلقيًا وتكرارًا، فإنهم قد راحوا يُراوِغون معتبرين التنكُّر لطريقتهم تلك، بمثابة نوع من الإنكار للقرآن نفسه. وهنا يلزم التأكيد، مرةً أخرى، على أن الأمر لا يتعلَّق أبدًا بإنكار القرآن، بل الأمر يتعلَّق، بالأساس، بإنكار ضرب من العلاقة معه يكون فيها «سلطةً» لا تقبل إلا محض الترديد والتكرار، وليست «نقطة بدء» ينطلق منها الإنسان، عبر السؤال والحوار، إلى بناء وعي مطابق بعالمه. وللمفارقة فإن تصور القرآن، على هذا النحو، كسلطة لا يئول فقط إلى إهدار الوعي الذي لن يكون مسموحًا له، بإزاء تلك السلطة، إلا أن يُكرَّر ويُردَّد، بل وينتهي إلى الإفقار المعرفي الكامل للنص نفسه؛ وذلك من حيث يستحيل عبر الترديد والتكرار الكشف عن كل ما يكتنزه النص من ممكنات خلَّاقة هي أساس حياته الحقة. وإذن فإنه التباين بين موقفين من النص؛ أحدهما يجعله قوة إبداع، والآخر يجعل منه قوة اتباع وإخضاع.

ليس إذن ما فعله قطب الإخوان البارز من استدعاء القرآن لحراسة المشروع السياسي لجماعته، إلا محض امتدادٍ لِمَا فعله الأمويون قبل قرون. وبالطبع فإن عليه أن يُدرك أن من يخالفه لا يُنكِر القرآن، بل يُنكِر طريقته (السياسوية) في التعامل معه؛ وهي الطريقة التي يُنكرها القرآن نفسه للمفارقة.

عن مراوغة الإخوان ومطابقة الفقه مع الدين والقرآن

احتلَّت جماعة الإخوان المسلمين موقعًا في صدارة المشهد المصري، على النحو الذي جعل الأفكار التي تروِّج لها الجماعة — أيًّا كانت درجة تلفيقيتها وهشاشتها — تحظى باهتمام واسع في الإعلاميات المقروءة والمرئية. وهنا يلزم التنويه بما يتبدَّى من حرص تلك الإعلاميات على أن يكون الإخوان ومحاوروهم (ممن يختلفون مع رؤى الجماعة في الأغلب) من الذين أتاح لهم حدث الثورة أن يكونوا نجومًا زاهرة في سماء مصر والقاهرة. وهكذا احتشد كلَّ ليلة كوكبةٌ من رجال أعمال وأدباء، ومهندسون وأطباء، وأساتذة جامعات وخبراء، لتتلألأ بهم شاشات الفضائيات، حيث ينخرطون في طقوس الرطانة بشعارات لا يقدر بريقُها على أن يغطي خواءها. وبالمثل، فإن نجومية هؤلاء لا تغطِّي — لسوء الحظ — على عجزهم جميعًا عن التصدي للمسائل الكبرى من جهة، وعلى بؤس ما يقدِّمون من الحِجاج، والحِجاج المضاد من جهة أخرى.

إذ رغم ما يبدو من هشاشة الأطروحة التي روَّج لها دعاة الإخوان عن دولة أو حزب يجدان مرجعيتهما في الديني/الفقهي، والتي يؤسِّسونها على ضروبٍ من التلفيقات الهشة غير المنضبطة، والتي لا تصمد أمام التحليل المعرفي الدقيق، فإن محاوريهم، على الضفة الأخرى، لا يقومون بالخطوة اللازمة المتمثِّلة في تفكيك تلك التلفيقات؛ والوعي النقدي بحدود المفاهيم التي تقوم عليها، بقدر ما ينخرطون في تكرار وترديد الحجج البليدة عن مفارقة الأطروحة الإخوانية لروح ومعايير الدولة المدنية؛ وهو ما ينتهي — وللمفارقة — إلى إضعاف أطروحة «الدولة المدنية» التي يدافعون عنها، بدلًا من إضعاف الأطروحة الإخوانية.

يتجادل الطرفان حول «الولاية العامة» أو رئاسة الدولة التي يتمسَّك داعية الإخوان بعدم جوازها للنساء وغير المسلمين. وإذ يعترض عليه محاوره المدني بأن ذلك من قبيل «التمييز» الذي يتعارض مع روح الدولة المدنية، فإن الداعية الإخواني يرد مطمئنًّا إلى يقينه الجازم بأن هذا الإقصاء للنساء وغير المسلمين عن الولاية، هو ما انتهى إليه الإجماع الفقهي. وعند هذه النقطة، فإن المحاور المدني ينقطع غارقًا في الصمت، أو يظل — في أحسن الأحوال — يُغمغم بكلامه المكرور. وإذ يكون الجدل قد انتهى، هكذا، إلى وضع «الدولة المدنية» في مواجهة «الإجماع الفقهي»، وعلى النحو الذي يبدوان فيه نقيضين لا يلتقيان، فإنه يبقى أن هذا الوضع سوف ينتهي — للأسف — إلى خسارة المحاور المدني لدعواه على نحو كامل.

إذ ما الذي يعنيه سكوت المحاور المدني وصمته، أمام ما يستند إليه الداعية الإخواني من «الإجماع الفقهي»؟ إنه يعني أن نجوميته لم تعصمه من أن يكون كأحد أفراد القطاع الأوسع من الجمهور المتلقي للخطاب، الذي يفهم «القول الفقهي» على أنه «القول الديني/القرآني»؛ فمن المعلوم للكافة أن الجمهور الواسع سوف يستقبل الاحتجاج بالفقه على أنه احتجاج بالدين أو القرآن؛ وبحيث يصبح ما يقوله داعية الإخوان من عدم جواز الولاية العامة للنساء وغير المسلمين، لا قولًا فقهيًّا، بل قولًا دينيًّا/قرآنيًّا. وإذن فإن داعية الإخوان لا يفعل شيئًا بقدر ما يعتمد فقط على الراسخ في وعي الجمهور من المطابقة بين القول الفقهي، والقول الديني/القرآني. إن هذه المطابقة هي التي ستجعل الجمهور ينتهي إلى أن الاعتراض بالدولة المدنية على الإجماع الفقهي (الديني/القرآني)، إنما يعني أنها دولة معادية للدين؛ وبما يترتب على ذلك من أن داعية «المدنية» قد وضع، بذلك، دولته في مواجهة ريح عاصفة لا تقدر عليها.

لا يكون ترسيخ الدعوى المدنية، إذن، بمجرد ترديد مقولاتها والثرثرة بمفردات قاموسها، لعل حفظها واستظهارها يؤدِّي إلى الإمساك بمدلولها وامتلاكه، بل يكون بتفكيك ما يحول دون إنتاجها في وعي الجمهور المطلوب منه الانحياز لها. وإذا كان قد بدا جليًّا أن ما يقوم في وعي الجمهور من مطابقة الفقهي مع الديني، هو ما يؤسِّس لِمَا يتهدَّد روح المدنية من التمييز (ضد النساء وغير المسلمين)، فإن الأمر يستلزم تفكيكًا للمنظومة الفقهية، لا يقف — فحسب — عند مجرد استجلاء نوع العلاقة بين الفقهي وبين الديني أو حتى القرآني (وهل هي علاقة مطابقة أم إنها — ولو في بعض الأحيان على الأقل — علاقة تباعد ومفارقة؟)، بل ويتجاوز إلى استقصاء ما تنبني عليه تلك المنظومة من الأسس والأصول المضمرة.

يبدو، إذن، أنه لا سبيل إلى بناء الفكرة «المدنية» إلا عبر التعاطي مع المنظومة الفقهية، وأن ذلك لا يكون بمجرد السكوت والرفض، بل من خلال الوعي النقدي والفهم؛ وذلك على النحو الذي يسمح بزحزحة ما تئول تلك المنظومة إلى تثبيته في الوعي العام، من قطعيات يتم استثمارها في تحقيق مكاسب سياسية ضيقة. وهنا يلزم التنويه بأنه فيما لا يعني التعاطي مع المنظومة الفقهية بالسكوت والرفض، إلا أن يقف المرء خارجها تاركًا لها المزيد من الرسوخ والتمدد، فإن التعاطي معها بالفهم والنقد يُتيحان للمرء أن يتموضع داخلها مستوعبًا، لا لمجرد ما تنطق به وتُعلنه، بل — والأهم — لِما تُخفيه وتسكت عنه وتُضمره، وتكتسب منه سطوتها الكاملة. ولعل أهم ما يجري السكوت عنه، ويتم السماح له بالرسوخ في الوعي الجمعي، يتمثَّل في ما جرت الإشارة إليه، سلفًا، من مطابقة الفقهي مع الديني/القرآني؛ وهي المطابقة التي تُصبح المواجهة معها أكثر فاعليةً وجدوى إذا ما جرى استدعاء ما يخلخلها من المصادر التراثية المعتبرة، التي يتعامل معها الكافة بالاحترام والتَّجِلَّة. ومن حسن الحظ أن تفسير «ابن كثير» — الذي يحظى بالقَبول والتعظيم بين المسلمين كافة — ينطوي على ما يُمكن أن يؤسِّس، تراثيًّا، لتلك الخلخلة. ولعله يلزم التنويه بأن «ابن كثير» لا يحضر، هنا، للتخفي وراء سلطته، بقدر ما يحضر كدليل على أن «الإسلاميين» — هم على عكس ما يزعمون — لا يعرفون التراث معرفةً حقة، وأن كل ما يردِّدونه مما يعتبرونه فكرًا إسلاميًّا ليس أكثر من تلفيقات وتراكيب أيديولوجية بالغة الهشاشة والرثاثة.

فالحق أن أي دارس للفقه يعرف، تمامًا، أن حركة الواقع الاجتماعي/السياسي، قد أدَّت إلى تعطيل، وحتى إسقاط أحكام فقهية ثابتة بالقرآن نفسه؛ وذلك بحسب ما أحدثه «عمر بن الخطاب» من التعطيل المؤقت لحد السرقة في عام الرمادة، ثم ما أجراه لاحقًا من إسقاط نهائي للحكم المتعلق بسهم «المؤلفة قلوبهم» بعد أن تغيَّر الوضع السياسي للمسلمين، ثم حدث أخيرًا أن رُفعت نهائيًّا كل أحكام الرقيق بعد أن أسقط التطور الإنساني كل منظومة الرق (أحد من يقال إنهم السلفيون مضى سعيدًا إلى إمكان استعادة منظومة الرق بما يصحبها من التمتع بالإماء ومِلك اليمين، حين تصل جماعته إلى حال القوة والتمكين). وإذا كان الواقع الاجتماعي/السياسي قد لعب، هكذا، دورًا في تحديد ما قد تعطَّل أو سقط من أحكام الفقه، فإنه لا سبيل إلا إلى اعتبار الدور ذاته في تحديد وتوجيه الكثير من الأحكام القائمة التي تشتمل عليها المنظومة الفقهية؛ والتي يسعى البعض — الآن — إلى تفعيلها. وبالطبع فإن ذلك يؤشِّر على كون الحكم الفقهي ليس تنزيلًا منغلقًا جامدًا على واقع هُلامي سيَّال يتحدَّد بالحكم من جانب واحد، بقدر ما هو تنزيل منفتح ومرن على واقع يمتلك نظامه الاجتماعي/السياسي الذي يمارس نوعًا من التوجيه والتحديد لذلك الحكم. وهكذا تكون المنظومة الفقهية هي نتاج العلاقة بين «التنزيل» و«الواقع»؛ وذلك على النحو الذي يتسع فيه الواقع للتنزيل، في الوقت نفسه الذي تتحدَّد فيه عملية امتثال وفهم هذا التنزيل بما يسود الواقع من أنظمة (اجتماعية وسياسية ومعرفية وغيرها). وإذن فالعلاقة بين التنزيل والواقع لا تمضي أبدًا في اتجاه واحد، بقدر ما تمضي في الاتجاهين من الواحد إلى الآخر. وليس من شك في أن كون الحكم الفقهي هو، هكذا، نتاج العلاقة بين «الديني/القرآني» وبين «الواقع» الاجتماعي/السياسي، إنما يئول إلى استحالة تفسيره عبر رده إلى الديني/القرآني، ومطابقته معه وحده.

والحق أن دَور الواقع الاجتماعي/السياسي في بناء وتحديد الحكم الفقهي، يبلغ أحيانًا حد وضع ذلك الحكم الفقهي في مواجهة صريحة مع ما لا يمكن الشك في أنه من قبيل المبدأ القرآني غير القابل للإنكار. ولعل مثالًا على تلك المواجهة الصريحة بين الفقهي والقرآني يتجلَّى فيما لاحظه «ابن كثير» عند تفسيره لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: ١٣)، من أن مبدأ «التسوية في الإنسانية» الذي تحمله الآية، يتعارض مع مبدأ «التراتبية الاجتماعية» الذي يقوم عليه ما يشترطه الفقه من الكفاءة في النكاح. يقول ابن كثير: «ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا، مُنبِّهًا على تساويهم في البشرية يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. وقد استدل بهذه الآية الكريمة وهذه الأحاديث الشريفة (التي أوردها ابن كثير)، من ذهب من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تُشتَرط، ولا يُشترط سوى الدين لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، وذهب الآخرون (من العلماء الذين يشترطون الكفاءة في النكاح) إلى أدلة أخرى مذكورة في كتب الفقه.» وهكذا فقد قرأ البعض في الآية تنبيهًا على مبدأ «تساوي الناس في الإنسانية»، وراحوا يعارضون بين هذا المبدأ «القرآني» وبين الاشتراط «الفقهي» لقاعدة الكفاءة في النكاح الذي يعني تراتب وتفاضل الناس في مواقعهم الاجتماعية بحسب أنسابهم وأحسابهم؛ وعلى النحو الذي يبدو فيه أن «الفقهي» بما يقرِّره من التفاوت — يعارض «القرآني» — بما يقرِّره من التساوي — وهو التعارض الذي يظهر في مسائل كثيرة تحتاج إلى درسٍ أوفى. ولعل المرء لا يجد تفسيرًا لِمَا يبدو من تباعد الفقهي عن القرآني، إلا أن الأعراف والتقاليد التي تحكم بناء مجتمع عريق في تراتبيته، وبما يتجلَّى في الفخر بالأنساب والأصول، قد لعبت دورًا لا سبيل إلى إنكاره في بناء وتوجيه المدوَّنة الفقهية؛ وهو ما يُحيل إلى أن سعيًا إلى تنظيم الواقع الاجتماعي/السياسي الراهن من خلال تلك القواعد الفقهية، لا يعني إلا السعي إلى إخضاعه لأعراف وتقاليد مجتمعية عتيقة، وليس أبدًا للدين كما يدعي البعض.

عن القرآن والسلطان

لم تترك السياسة شيئًا إلا وتلاعبت به، وقامت بتوجيهه لخدمة ما تريد وتشتهي، إلى حد أن القرآن لم يُفلت، على جلاله وتساميه، من هذا المصير. وبالطبع، فإنه يلزم التأكيد على أن هذا التلاعب لم يتحقَّق — على الرغم ممَّا يجري تداوله من التنازع بين السنة والشيعة — من خلال التغيير والتزوير، بل من خلال ما جرى من تثبيت طرائق بعينها في تصوره والتعامل معه. ومن ذلك مثلًا ما جرى من «تصوره» على النحو الذي جعله إحدى الساحات الرئيسية لإنتاج هذه الأطلقة، وكان ذلك عبر التعالي به من وجود من أجل الإنسان، إلى وجود سابق عليه، ومن تركيب تبلور في العالم إلى كينونة ذات حضور مكتمل سابق في المطلق. ولقد ترافق هذا التحويل، بدوره، مع تحولات مسار السياسة في الإسلام من ممارسة «مفتوحة» إلى ممارسة «مغلقة»، وبكيفية تحوَّل معها من القرآن الذي كان مركزه وقطبه هو «الإنسان»، إلى القرآن الذي استعمره، واحتكره «السلطان»؛ إذ يجب تذكُّر أن التحول في مسار السياسة من «خلافة الشورى» (مع أبي بكر) إلى «الملك العضود» (مع معاوية) قد تلازم مع الانتقال من القرآن الذي «لا يُنطق بلسان، وإنما ينطق عنه الإنسان» بحسب قول الإمام «عليِّ بن أبي طالب» الذي لا يعني إلا أن الإنسان يدخل في تركيب القرآن — إلى القرآن الذي أمسك به السلطان، وراح يتصوَّره ناطقًا بدلالة مطلقة، مقرنًا له بالسيف؛ ليحسم به معركة السياسة.

والحق أن نظرةً على الطريقة التي جرى التعامل بها مع لغة القرآن لتكشف عن التحولات في مسار الصراع السياسي؛ فإذ يورد السجستاني، في كتاب المصاحف، أنه «لمَّا أراد عمر أن يكتب (المصحف) الإمام أقعد له نفرًا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر؛ فإن القرآن قد نزل على رجل من مضر.» فإن الأمر قد اختلف مع عثمان الذي يُروى عنه أنه قال: «إذا اختلفتم في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلغة قريش؛ فإن القرآن أُنزل بلسانهم.» وللغرابة، فإن هذا التحول من «لغة مضر» إلى «لغة قريش» قد ترافق مع ما كان يتنامى في ساحة السياسة — وعبَّر عن نفسه صريحًا مع عثمان — من اعتبارها (أي السياسة) شأنًا قرشيًّا خالصًا، بعد أن كانت قبله ساحةً مفتوحة يُشاركها فيها غيرها.

ولعل دليلًا على هذا التحول — في السياسة — يأتي ممَّا أورده الطبري، في تاريخه، عن المنازعة التي جرت وقائعها حين اجتمع «عبد الرحمن بن عوف» إلى من «حضره من المهاجرين وذوي الفضل والسابقة من الأنصار، وأمراء الأجناد» ليختاروا الخليفة من أهل الشورى الذين عيَّنهم «عمر» قبل موته.

فقد قال له عمار (بن ياسر): إن أردت ألَّا يختلف المسلمون، فبايع عليًّا، فقال المقداد: صدق عمار، إن بايعت عليًّا قلنا: سمعنا وأطعنا.

وقال عبدالله (بن أبي سرح): إن أردت ألَّا تختلف قريش، فبايع عثمان.

فقال عبدالله (بن أبي ربيعة): صدق، إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا.

فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين؟

فقال رجل من بني مخزوم: لقد عَدوتَ طَورك يا بن سمية (يعني عمار)، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها.»

ولعل كون الرجلين المتنازع عليهما (علي وعثمان) من قريش، هو ما يجعل القصد من عبارة الرجل المخزومي لا بد أن يتجاوز ما يمكن فهمه منها من وجوب «قرشية» من في الحكم، إلى أن الأمر يتعلَّق باستبعاد كل من سوى القرشيين من حق المشاركة في تعيين الحاكم ونصبه، وبحيث تصبح السياسة احتكارًا قرشيًّا خالصًا لا شأن لغيرهم به. إن ذلك يعني، وبلا أدنى مواربة، جواز القول بأن الانتقال من «لغة المسلمين»، على تعدد قبائلهم، إلى «لغة قريش» وحدها، إنما يعكس تحولًا كان يجري في مسار السياسة من كونها شأنًا عامًّا يخص «المسلمين» جميعًا، إلى كونها شأنًا يخص «قريش» وحدها، أو يخص — حتى — مجرد بيت من بيوتها بحسب ما سيجري لاحقًا مع بني أمية وبني العباس. لكنه، وبالرغم من هذا التضييق النازل من «لغة القبائل» إلى «لغة قريش»، فإنه يبقى أنها تظل — في الحالين — من قبيل اللغة ذات الأصل الإنساني.

وبالطبع فإن هذا التحول من «لغة الإنسان» إلى «كلام الله»، إنما يعني بلوغ صيرورة «الأطلقة» — التي كانت تعني تسييد المطلق «إلهًا» في المجرد، و«حاكمًا» في المتعيِّن — إلى إتمام الذروة والاكتمال. وهكذا، فإن ما يفسِّر ما حصل من التعالي بالقرآن (لغةً وتاريخًا وماهية) من الأرض إلى السماء، هو ما جرى من صعود المسلمين (سنة وشيعة) بخلافات السياسة من الأرض إلى السماء. ولعل ما يدعم هذا التوازي بين التعالي بالقرآن والتعالي بالسياسة، هو ما يبدو من أن التعالي بالقرآن كان قد ترافق مع سعي البعض، من الحكام المتأخرين على حقبة الخلافة بالذات، إلى التعالي بسلطتهم إلى مقام ينفلتون فيه من أي حساب أو مساءلة. وهنا، فإنه لم يكن ثمة ما هو أنسب من أن يُخفي «الحاكم» نفسه وراء «القرآن»، الذي كان لا بد — لذلك — من رفعه إلى السماء؛ لكي يكتسب بدوره (أعني الحاكم) رِفعة الكائن السماوي. ولعل هذه العملية من التقنُّع بالقرآن، هي التي ستقف وراء تبلور المأثور القائل: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» لكنه يبقى وجوب التأكيد على حقيقة أنه إذا كان السلطان قد كسب، بهذا التعالي، إطلاق سلطته، فإن ما ألحقه هذا التعالي بالقرآن من الضرر كان كبيرًا؛ وذلك من حيث ما تأدَّى إليه من إطفاء أنواره، وإهدار خصوبته؛ بسبب ما فرضه عليه من إسكات صوته، وتجميد دلالته. ومن هنا وجوب السعي إلى تحرير «القرآن» من قبضة «السلطان».

طلبَ النبيُّ واستجابَ اللهُ ومارسَ الصحابة … والناس يرفضون!

«حين تعود الأمة بذاكرتها إلى العصر النبوي الزاهر، فإن أحد المشاهد التي تظل ماثلةً في وعيها: مشهد الصحابة رضوان الله عليهم وهم يتلقَّون آيات القرآن الكريم من فم الرسول الكريم ، ثم يسارعون إلى إنفاذها وتطبيقها دون إبطاء أو تسويف. وما كان هذا الإنفاذ والتطبيق لِيتم على وجهه إلا إذا كان لتلك الآيات الكريمات في أذهانهم معانٍ محدَّدة ودلالات منضبطة، ومفاهيم مستقرة، ثم تتعاقب السنون فإذا بعلماء الأجيال التالية — من الأصوليين والمتكلمين والفقهاء وغيرهم — وهم عاكفون على تلك المعاني والدلالات والمفاهيم يؤصِّلون منها الأصول، ويؤسِّسون لها الأسس لكي تكون سياجًا منيعًا قوامه العلم الرصين والمعرفة الدقيقة التي تصون قدسية القرآن من عبث العابثين، وجرأة القائلين على الله تعالى بغير علم. وهكذا انتهت الدلالات والمضامين القرآنية إلى وعي الأمة ثابتةً راسخة مستقرة.»

يتجاوز القصد من إيراد هذا المقتطف الطويل مجرد تصوير موقف صاحبه (الذي هو الآن أحد أعلام المؤسسة الدينية الكبار)، إلى كونه يعبِّر، بدقة، عن التصور الذي استقرَّ بين جمهور المسلمين، للكيفية التي تعامل بها مع القرآن، الجيل الأول من المسلمين الذين تلقَّوه من النبي الكريم مباشرة. ولعله يلزم التنويه، هنا، بأن مفهوم «الجيل الأول من متلقي القرآن» يفتح الباب أمام جعل تجربة هذا الجيل موضوعًا للتفكير، بأكثر من مفهوم «الصحابة» الذي تُحيط به هالة دينية جعلت من تلك التجرِبة موضوعًا للتقديس، وليس للتفكير. وهنا فإن الأمر لا يتجاوز، أبدًا، حدود مجرد السعي إلى التخفيف على الوعي من ثِقَل الحمولة الدينية التي تسكن مفهوم الصحابة؛ وأعني من حيث إنها قد ارتفعت بتجرِبتهم إلى ما فوق مستوى الدرس والفهم.

يقوم التصور، إذن، على أن الصحابة قد تلقَّوا القرآن، وفهموا معانيه المحدَّدة ودلالاته المنضبطة؛ ليطبِّقوها من دون إبطاء أو تسويف، ثم تلقَّف علماء الأجيال التالية تلك المعاني المحدَّدة والدلالات المنضبطة؛ ليؤصِّلوا منها الأصول ويجعلوا منها سياجًا منيعًا يصون قدسية القرآن؛ لكي تنتهي تلك المعاني والدلالات إلى وعي الأمة ثابتةً راسخة مستقرة. ورغم بساطة هذا التصور ومثاليته التي أتاحت له سهولة الاستقرار والرسوخ، فإن انشغاله بتثبيت السلطة (سلطة الصحابة، ثم سلطة من تلقَّوا عنهم من علماء الأجيال التالية؛ والرجل أحدهم لا محالة)، يتجاوز انشغاله بالحقيقة.

إذ الحق أن نظرةً مدقِّقة على ما يعرضه تكشف — أو تكاد — عن أن ما يسكنه من بلاغة الكلمات يفوق بكثير ما ينطوي عليه من الوقائع والحقائق. ولربما كانت الحقيقة الظاهرة التي يعرض لها هذا التصور، هي ما أورده من أن علماء الأجيال التالية من الأصوليين وغيرهم، قد مارسوا ضروبًا من التقييد والتضييق التي انتهى معها التعدد في مجالَي القراءة والمعنى الذي انطوت عليه تجربة الصحابة مع القرآن، إلى أحادية صارمة للقراءة والمعنى. وبالطبع فإن الرجل لا يرى في ما قام به هؤلاء (العلماء) إلا أنهم قد صانوا المعاني المحدَّدة والدلالات المنضبطة التي كانت للقرآن في ذهن الصحابة، وأوصلوها إلى وعي الأمة لتبقى ثابتةً وراسخة فيه، وذلك على الرغم من حقيقة ما تكشف عنه القراءة المدقِّقة للمصادر القديمة من أن هؤلاء العلماء قد انتقلوا بالمسلمين — من خلال ما مارسوه من اختيارات أو حتى انحيازات لقراءات وآراء بعينها، وتشويه وإزاحة ما يختلف معها — من سعة «التعدد» إلى ضيق «الأحادية» الذي تُعاني منه المجتمعات الإسلامية الراهنة على كافة الأصعدة تقريبًا.

والحق أن الأمر لا يتجاوز حدود السعي إلى تثبيت ما ينطوي عليه هذا التصور من أحادية القراءة والمعنى فيما يخص القرآن، ولو كان ذلك عبر طمس حقيقة تجربة «الصحابة» مع القرآن، والتي تكشف ما تُورده عنها المصادر المعتمَدة من جانب أهل السنة، بغزارة مُلفتة عمَّا تنطوي عليه من ثراء يتأتى من أنهم كانوا بشرًا، لم يختلفوا في فهمهم للقرآن فحسب، بل واختلفوا في قراءتهم له، بحسب ما يقوم بين قبائلهم من اختلاف اللسان، ولو كان ضئيلًا. بل إنهم قد تلكئوا — بحسب المصادر نفسها — في إنفاذ بعض ما كان يشق عليهم بسبب تعارضه مع تقاليدهم الموروثة. ومن هنا ما أورده الطبري في تفسيره من أنه حين نزلت آية المواريث — في سورة النساء — التي جعلت للأنثى وللطفل نصيبًا من المال، حرمتهم منه التقاليد المتوارثة (لأنهم لا يقومون بالغزو وهو أصل الثروة في المجتمعات العربية القديمة)، فإن ذلك كان شاقًّا على الناس حتى لقد قالوا — والرواية للطبري ولغيره من المفسرين أيضًا — «تُعطى المرأة الربعَ أو الثمن، وتُعطى الابنة النصف، ويُعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ويحوز الغنيمة! اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله ينساه أو نقول له فيغيِّره.» ورغم أن السماء لم تغيِّر حكمها، وأنهم قالوا حينئذٍ «إنه لواجب لا بد منه»، فإنه يبقى أنهم كانوا بشرًا، وأن بشريتهم جعلتهم يتلكئون في إنفاذ أمر السماء لِمَا فيه من المشقة عليهم، وإلى حد أنهم قد تمنَّوا نسيانه أو تغييره.

وأما أنهم كانوا بشرًا تعدَّدت قراءاتهم وأفهامهم للقرآن، فإن ذلك ما تفيض بتأكيده موسوعات التفسير ومدوَّنات الحديث. ومن ذلك ما أورده ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» مما يمكن اعتباره دليلًا على حضور «التعدد القرائي» للقرآن بين الصحابة؛ وذلك عند شرحه لحديث «أُنزل القرآن على سبعة أحرف.» يروي العسقلاني عن البخاري حديثه عن عمر بن الخطاب الذي يقول فيه: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله ، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله ، فكدت أُساوره (أي أُراجعه) في الصلاة، فتصبَّرت حتى سلَّم، فلبَّبته (أي أمسكه من رقبته) بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ فقال: أقرأنيها رسول الله . فقلت: كذبت؛ فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تُقرئنيها. فقال رسول الله : أرسِله (أي اتركه)، اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله : كذلك أُنزلت. ثم قال: اقرأ يا عمر. فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله : كذلك أُنزلت. إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسَّر منه.» وتُفسِّر الرواية هذا الترخيص بالتعدد في قراءة القرآن، بأنه كان تيسيرًا من الله على الأمة، استجابة لطلب النبي الكريم؛ فقد حدث حين أتاه جبريل يقول: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على حرف»، أنْ قال النبي: «فوددت إليه أن هوِّن على أمتي، إن أمتي لا تُطيق ذلك.» ورغم أن الرواية تأبى إلا أن ترد هذا المطلب النبوي إلى نصيحة أحد الملائكة له بذلك، فإنه يبقى أن استجابة الله للمطلب كانت حاسمة.

وبالطبع فإنه كان لا بد أن ينتهي هذا التعدد القرائي إلى تعدد المعنى؛ لأن الترادف في اللغة ليس تامًّا أو كاملًا أبدًا. إن ذلك ما تكشف عنه القراءتان اللتان تحفظهما المصادر للآية رقم ١٠٦ من سورة البقرة؛ فثمة القراءة لها على رسم المصحف مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا، والتي تحمل معنى المحو والنسيان، وثمة أيضًا القراءة التي أوردتها كافة موسوعات التفسير والحديث مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا، والتي تحمل معنى الإبقاء مع التأخير والإرجاء؛ وهما معنيان لا يتطابقان أبدًا. وهكذا فإن تعدُّد القراءة إنما يفتح الباب أمام تعدُّد المعنى، تيسيرًا على العباد من جهة، وتفاعلًا مع الواقع من جهة أخرى.

وهكذا يكون النبي الكريم قد طلب رخصة التعدد في القراءة تيسيرًا على العِباد، واستجاب له الله بجلاله، ومارس الصحابة هذا التعدد (قراءةً ومعنًى) فعليًّا، ثم جاء العلماء لأسبابٍ بعينها وقيَّدوا التعدد، وتابعهم الناس على أحادية القراءة والمعنى. ولعله يلزم التأكيد هنا، على أن من يدافع عن الحرف الواحد (في القراءة) والمعنى الواحد (في التفسير)، إنما يدعم — ولو من دون أن يدري — حكم الواحد (في السياسة)، وسلطة الأب (في المجتمع). وإذ يبدو، هكذا، أن الأحادية السياسية والاجتماعية إنما تجد ما يؤسِّس لحضورها الراسخ في الأحادية المعرفية، فإن المفارقة تتجلى في سعي الكثيرين إلى بناء التعددية السياسية على سطح بنية ذهنية لا تعرف إلا أحادية القراءة والمعنى، بل الأمر يقتضي أن يكون بناء التعددية في (الواقع) مصحوبًا — إذا لم يكن مسبوقًا — ببنائها في «العقل».

وبالرغم من ذلك، فإنه يلزم التأكيد على أن الأمر لا يتعلق فقط بضرورة السعي إلى فتح الباب أمام التعددية في مجالَي القراءة والمعنى (وحتى العقل)؛ لِمَا يؤدي إليه ذلك من ترسيخ حضورها في مجالَي السياسة والمجتمع، بل ولِمَا يؤدي إليه — وهو الأهم — من تمهيد السبيل أمام قول جديد في حقل الخطاب الإسلامي يخرج به من دائرة الجمود والتكرار التي تردَّى إليها على مدى القرون.

القرآن بين النص والكتاب

على تعدُّد وتنوُّع تسميات القرآن لنفسه (كالذكر والبيان والتنزيل والفرقان والكتاب والهدى والبلاغ)، فإنه لم يُطلِق على نفسه تسمية النص أبدًا. ولعل موازنةً بين تلك التسميات المتنوِّعة تكشف عن أن القرآن قد أراد لنفسه أن يكون كتابًا، لا نصًّا؛ إذ فيما لم ترد — مطلقًا — كلمة «نص» في آي التنزيل للدلالة على القرآن أو على غيره (من الكتب الأسبق)، فإن كلمة «الكتاب» قد وردت في تلك الآيات لِمَا يقترب — أو يكاد — من الثلاثمائة مرة تقريبًا، للإشارة إلى القرآن نفسه وإلى غيره من صور الوحي التي تنزَّلت على الأنبياء السابقين، أو للإشارة إلى أصحاب الأديان السابقة من «أهل الكتاب»، وللدلالة أيضًا على الكتاب الحاوي للمعرفة الإلهية الأكمل والأشمل؛ أو اللوح المحفوظ.

وهنا يلزم التنويه بأن تقديم القرآن لنفسه ككتاب، وليس كنص، يرتبط بحقيقة أن النص — بحسب تعريفه في العربية — هو الواضح البيِّن الذي لا يحتاج إلى تفسير، والذي لا يمكن بالتالي أن يكون موضوعًا لقراءة، بل لمجرد الترديد والاستظهار، وذلك على العكس تمامًا من «الكتاب» الذي لا يمكن بحسب طبيعته إلا أن يكون موضوعًا للقراءة، وليس التكرار. وبالطبع فإن صعوبة أن يكون القرآن نصًّا تتأتى من استحالة تصوره من قبيل الظاهر الذي لا يحتاج إلى قراءة وتفسير. ففضلًا عمَّا ينطوي عليه ذلك من تصور القرآن نصًّا مغلقًا وفي غاية الفقر الدلالي، فإنه يتعارض مع ما أورده الأصوليون أنفسهم من أن «النصوص — في القرآن — عزيزة نادرة». وهنا ينبثق السؤال: كيف تكون النصوص عزيزة، وإلى حد الندرة في القرآن — وإلى حد ما يُقال من أن جزءًا من آية واحدة فقط من آياته هي التي تحتمل، لوضوحها وظهور دلالتها، أن تكون نصًّا — بينما يُصار إلى أن القرآن بأسره يعد نصًّا؟

والغريب حقًّا أن يكون القدماء أيضًا لم يُشيروا إلى القرآن والحديث باسم النصوص، كما نفعل في اللغة المعاصرة، بل كانوا في العادة يستخدمون دوالَّ أخرى كالكتاب والتنزيل والقرآن للدلالة على النص القرآني، وكانوا يستخدمون دوالَّ مثل الحديث أو الآثار أو السنة للإشارة إلى نصوص الحديث، وكانوا يشيرون إليهما معًا باسم الوحي أو النقل. وكانوا حين يُشيرون إلى «النص»، فإنما كانوا يعنون به جزءًا ضئيلًا من الوحي، أو بعبارة أخرى ما لا يحتمل أدنى قدر من تعدُّد المعنى بحكم بنائه اللغوي». ولعله يمكن، هكذا، ترجيح القول بأن التكريس الكامل للتعاطي مع القرآن، كنص، قد أعلن عن نفسه، بلا مواربة، مع إطلالة عصور الانحطاط والتقليد المتأخرة التي توقَّفت فيها عملية القراءة وإنتاج الجديد، ولم يعد ثمة إلا محض الاستظهار والترديد.

ولعله يتفق مع تقديم القرآن لنفسه، ككتاب للفهم، وليس كنص للاستظهار والحفظ، حملته القاسية على أصحاب الأديان السابقة لأنهم جعلوا كتبهم موضوعًا لمجرد الحفظ والاستظهار فحسب. ففي تفسيره لآية: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (الجمعة: ٥)، أورد ابن كثير ما يلي: «يقول تعالى ذامًّا لليهود الذين أُعطوا التوراة وحُمِّلوها للعمل بها، ثم لم يعملوا، مَثَلهم في ذلك كمَثَل الحمار يحمل أسفارًا؛ أي كمثل الحمار إذا حمل كتبًا لا يدري ما فيها، فهو يحملها حملًا حسيًّا، ولا يدري ما عليه، وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أُوتوه، حملوه لفظًا، ولم يتفهَّموه ولا عملوا بمقتضاه، بل أوَّلوه وحرَّفوه وبدَّلوه، فهم أسوأ حالًا من الحمير؛ لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها.» وبالطبع فإن الحمل الغالب على مسلمي هذا الزمان للقرآن هو من نوع الحمل الحسي؛ على نحو لا يختلفون فيه مع اليهود الذين نعى عليهم القرآن حملهم الحسي للتوراة. والحق أن كتابًا ينعى على المؤمنين بالكتب السابقة حملهم الحسي لهذه الكتب؛ أي حمل الحفظ والترديد فقط، لا يمكن أن يقبل من المؤمنين به أن يكتفوا بمجرد الحمل الحسي له، بل إن إدانته للحمل الحسي إنما تُحيل إلى توجيهه إلى نوع آخر من الحمل؛ هو «الحمل المعنوي» الذي يستحيل معه القرآن من محمول على الظهر — كظهر على الحمار — إلى محمول في العقل؛ وعلى النحو الذي يُصبح معه ساحةً لإنتاج المعنى.

ولعل دلالة الحضور الكثيف للفظة «الكتاب» في القرآن يرتبط بالقصد إلى نقل المخاطَبين (وهم عرب الجاهلية) إلى المرحلة الكتابية؛ وبما يعنيه ذلك — على نحو جلي وصريح — من أن القرآن ينطوي، في جوهره، على السعي إلى نقل عرب الجاهلية — الذين لم يعرفوا إلا نمطًا من الثقافة الشفاهية بما يصاحبها من آليات تفكير لا تسمح بأي تطور إلى وضع حضاري أرقى. إذ الحق أن ما يرتبط بالكتابية من آليات تفكير وطرائق في إنتاج المعرفة تقوم على التعقُّل، والملاحظة والنظر والاستنتاج المتبصِّر، إنما تُحيل إلى وضع أرقى بكثير مما يرتبط بالشفاهية — التي كان عليها العرب — وما يُصاحبها من آليات وطرائق في إنتاج المعرفة تعتمد على مجرد الحفظ والنقل. وبالطبع فإنه إذا كانت آليات الحفظ والنقل الملازمة للشفاهية لا تسمح إلا بنوع من التقليد والاتباعية التي انتقدها القرآن بشدة؛ ابتداءً من إعاقتها لقدرة البشر على تقبُّل هَدْي السماء، فإن آليات التفكُّر والتعقُّل التي تُلازم الكتابية تنطوي على فتح الباب أمام ثقافة الكشف والإبداع، وعلى النحو الذي يسمح بنقل الواقع إلى حالة أكثر رقيًّا. والحق أن هذا السعي القرآني إلى ترسيخ الكتابية — بما تمثِّله من حالة وجود أرقى — إنما يتفق مع التطورات التي كانت تجري في المجتمع المكي الذي كان يعيش سيرورة تحوُّل إلى مجتمع تجاري في حاجة إلى التعاقدات المكتوبة. ولسوء الحظ فإن ما يغلب على الوعي الراهن للمسلمين من تقليد واتباعية، وابتعاد عن التعقُّل والتدبُّر، يكشف عن نوع من الارتداد إلى ما يكاد أن يكون الإسلام قد تنزَّل لتجاوزه.

مصلحة الإنسان وصلاح الحكم (القرآن بين التأسيسي والإجرائي)

يتميَّز القرآن — ككل النصوص الكبرى التي لا تكف عن الإشعاع والوميض على مر الأزمان — بكونه ساحة الْتقاء بين «التاريخي» بتحديداته الجزئية، وبين «المُتجاوز» بشموله وكليته.

وإذا جاز القول بأن التأسيسي في القرآن يتمثَّل في هذا «المتجاوز» الذي يُحيل إلى عالم القيم والمعاني الإنسانية الكبرى، فإن الإجرائي فيه يكون هو جملة التحديدات الجزئية التي تتحقَّق هذه القيم والمعاني، من خلالها، في لحظة بعينها.

ولا بد أن يكون مفهومًا أن الأمر، فيما يختص بالعلاقة بين التأسيسي (الكلي) والإجرائي (الجزئي) لا يتعلَّق بثنائية جامدة، يقف كل طرف منها بمعزلٍ عن الآخر، بقدر ما يتعلَّق بحقيقة واحدة يكون «التأسيسي» هو جوهرها الذي يدخل «الإجرائي» في تركيبها، ولكن من دون أن يكون قادرًا على استنفادها. فإن هذا «التأسيسي» المتجاوز يكون — وعلى نحو ما — أشبه بالحقيقة العلمية التي هي، بدورها، تركيب يتنامى، في التاريخ، عبر تصحيحه المستمر لنفسه، ولكن من دون أن يكون هذا التاريخ قادرًا على استنفادها بالمثل، وإلا فإن ذلك يؤشر على ما لا يمكن تصوره، بالعقل، من «نهاية العلم». وفقط فإن الفارق بينهما يتأتى من أنه فيما تكتمل الحقيقة العلمية في «الوعي»، وليس في «الوجود»؛ لأنها تكون — طوال الوقت وبصرف النظر عن الوعي بها — قائمةً في الوجود ضابطةً لظواهره على نحو فعلي، فإن التأسيسي المتجاوز في القرآن (والمجال الإنساني على العموم)، يكتمل في «الوجود»، وليس في «الوعي»؛ لأن هناك من القرائن ما يقطع بأن هذا التأسيسي المتجاوز «قيمةً ومعنًى»، قد كان — ومنذ أقدم العصور — حاضرًا في (الوعي)، ولو بوصفه مثلًا أعلى يرنو إليه البشر، ولكن تحقُّقه لم يكتمل في «الوجود» في أي لحظة من التاريخ.

إنه — هكذا — أقرب إلى القيمة أو المعنى الكلي الذي يمتص كل تحقُّقاته الجزئية داخله، ومن دون أن تكون تلك التحقُّقات قادرةً على اقتناصه واستيعابه في واحدة منها، وإلا فإنها ستكون «نهاية القيمة أو المعنى». وإذن فإنه التباين بين «انفتاح» القيمة أو المعنى، وبين «محدودية» شكل تحقُّقها. وبالرغم من هذه «المحدودية» لأشكال تحقُّق القيمة أو المعنى، فإنه يمكن القول إن كل واحد منها يمثِّل، في تحقيقه لهذه القيمة أو المعنى، درجةً أعلى من تلك التي يكون سابَقَه عليها. ويعني ذلك، وعلى نحو مباشر، إمكان القول بأن «مصلحة الإنسان وصلاحه» هي أحد مبادئ القرآن التأسيسية، وأما المضمون الذي يتحقَّق من خلاله هذا المبدأ في لحظة بعينها، فإنه يكون هو الحد «الإجرائي» المحقِّق لها في تلك اللحظة.

وبالطبع فإنه إذا كان الوحي هو بمثابة إحضار للقيمة، المعنى، المصلحة، كمبادئ تأسيسية كبرى، إلى واقع مجتمعات بشرية، لم تكن لتقدر على بلوغها بجهدها الخاص، فإنه كان لا بد أن يجري تنزيل هذه المبادئ التأسيسية في واقع حياتها، ضمن شروط اللحظة التي تعيش فيها، وإلا فإن تنزيلها خارج تلك الشروط كان يمكن أن يترتَّب عليه رفض فعل الوحي بالكلية. ومن هنا ما يمكن القول إنها مُرَاوَحة الوحي وحركيته بين «المبدأ التأسيسي المتجاوز» من جهة، وبين «التحديد الإجرائي المتعين» الذي يتحقَّق، هذا المبدأ، من خلاله في واقع بشرٍ بعينهم، وفي إطار لحظة بعينها، من جهة أخرى. فإنه ليس خطابًا بهذا المبدأ في «المطلق»، بقدر ما هو خطاب به في الواقع «المتعيِّن»؛ أي إلى بشر محدَّدين، وفي لحظة تاريخية بعينها، وبالطبع فإنه يبقى — ضمن هذه المراوحة — أن «الحد الإجرائي» الذي يتحقَّق من خلاله «المبدأ التأسيسي»، إنما يكون «موضوعًا» من أجل تحقيق القيمة المرتبطة بهذا المبدأ، في تلك اللحظة بعينها، وليس على نحو نهائي مطلق.

وإذ يعني ذلك أنه يتحقَّق في ارتباطٍ حاسم مع «التاريخ»، فإن صرامة هذا الارتباط تبلغ أحد أنه قد يتحوَّل في لحظة مغايرة، لتلك التي تبلور فيها، إلى عائق يحول دون تحقيق «المبدأ التأسيسي المتجاوز» الذي يقف وراءه. ومن هنا ما توافق عليه أهل التفسير والأصول من النسخ في القرآن، الذي لا يعني شيئًا إلا أن حضور وصلاح الحكم (وهو الحد الإجرائي المحقِّق للمبدأ التأسيسي أو القصد) يكون مرتبطًا بوقت بعينه. فإن رفع الحكم، ليحل محله غيره (وهو معنى النسخ)، لا يعني إلا أنه قد استحال إلى عائق يحول دون تحقيق المبدأ أو القصد الذي يقوم خلفه؛ ولذا وجب رفعه لأنه لم يعد صالحًا في لحظة مغايرة لتلك التي تنزَّل فيها. وحين يلاحظ المرء قصر المدة الزمنية التي كان يتحقَّق ضمنها.

ولقد كان ربط صلاح الحكم بالوقت هو أداة فخر الدين الرازي في الفرار من مأزق نسبة النقص إلى الله، فإنه «إن قيل: لو كان «الحكم» الثاني «الناسخ»، أصلح من الأول «المنسوخ»، لكان الأول ناقص الصلاح، فكيف أمر الله به؟ قلنا: الأول أصلح من الثاني بالنسبة للوقت الأول، والثاني بالعكس.»

إن الصلاح هنا هو المبدأ التأسيسي، وأما الحكم الذي يتحقَّق من خلاله هذا الصلاح، فهو الحد الإجرائي، وبحسب تقرير الرازي فإن الحكم، أو الحد الإجرائي المحقِّق للصلاح، قد يتحول في غير وقته إلى عائق يُمتَنع معه تحقيق الصلاح، فيلزم رفعه بالنسخ. الغريب، هنا، أن تجربة الجيل الأول من المسلمين تُشير إلى حقيقة أنهم — ورغم انقطاع الوحي — رفعوا من الأحكام ما أدركوا فيه حائلًا يمنع تحقيق الصلاح، وكان ذلك استنادًا إلى وعيهم العميق بالمنطق الذي يحكم علاقة كلٍّ من الوحي والعقل والواقع.

ولعله يلزم الإشارة هنا إلى ما جرى بخصوص الأحكام المتعلِّقة بسهم المؤلفة قلوبهم، وتوزيع الغنائم على الجند الفاتحين، والحد المفروض على شارب الخمر وغيرها مما أدرك فيه الصحابة أن صلاحه مرتبط بوقت تنزيله، وأن شروط صلاحه قد ارتفعت، ولم تعد قائمة. فهل يُقدِّر حمقى هذا الزمان الحكمة من وراء ذلك فيُميِّزون بين التأسيسي والإجرائي في القرآن؟

القرآن وخطاب التمييز ضد المرأة

في سعيها الحثيث لإجهاض إنجاز المرحلة الأولى من مراحل خريطة المستقبل، والمتمثِّلة في إقرار الدستور، فإن جماعة الإخوان (التي جرى إعلانها جماعةً إرهابية في مصر أخيرًا)، ومعها كل العاملين تحت مظلتها من جماعات الإسلام السياسي قد أداروا طاحونة دعايتهم ضد الدستور على دعوى أنه يتعارض مع مقرَّرات الشريعة والأعراف المستقرة للمسلمين على العموم.

وهنا فإنهم قد اختاروا أن يكون ما ورد في الدستور بخصوص المرأة بالذات، هو الدليل على ما يقولون إنه التعارض بين الشريعة والدستور. فإذ يقرِّر الدستور مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، على نحو ما يقضي به منطق الدولة الحديثة، فإن دعاية الإسلاميين قد انشغلت بتهييج الجمهور ضد هذا المبدأ بدعوى تعارضه مع ما تقرِّره الشريعة من وجوب التمييز بين الرجل والمرأة. وهكذا يكون الإسلاميون قد اختاروا التأكيد، مرةً أخرى، على أن مسألة المرأة هي الساحة الرخوة التي ينعكس فوقها التعارض بين الإسلام والحداثة. فإذ يسعى هذا الدستور إلى استيفاء ما يجعله داعمًا للسعي المصري للدخول إلى عصر الحداثة الحقة؛ عبر إسقاط كل أشكال التمييز بين الناس على أساس النوع أو الدين أو المذهب أو العرق أو المكانة الاجتماعية، فإن الإسلاميين يأبَون إلا الادعاء بتعارضه مع الشريعة؛ وبما يعنيه ذلك من تثبيت فكرة التعارض بين الإسلام والحداثة. ولعلهم بذلك يؤكِّدون أن خروجهم من المشهد كان ضروريًّا؛ لأن الإسلام ليس في حاجة إلى أن يضعوه في تعارض مع الحداثة وقيم العصر، بقدر ما هو في مسيس الحاجة إلى من يُعلِّقون هذه التعارضات ويقومون برفعها.

ومن حسن الحظ أن ما يتصوَّرون أنها تقريرات الشريعة بوجوب التمييز ضد المرأة ليست شيئًا إلا قواعد التقليد الاجتماعي والأعراف المستقرة على مدى القرون التي قصد القرآن — بحسب ما تكشف القراءة المتعمِّقة له — إلى خلخلتها، أو حتى رفعها. لكنه يبدو أن هذه القواعد الراسخة قد أمسكت بخناق الثقافة التي تحقَّقت لها الهيمنة في الإسلام؛ وهي الثقافة التي مارست ضغوطها الهائلة على القرآن ليسكت عما يؤدي إلى رفع تلك القواعد المتوارثة. وإذا كان هذا الإسكات قد تحقَّق من خلال آليات النسخ والإجماع، فإن ما جرى الاستقرار عليه من ترتيب علاقة السنة بالقرآن على النحو الذي تكون فيه السنة حاكمةً على القرآن قد كان هو الآلية الأخطر، وخصوصًا بعد ما جرى من التعالي بالسنة إلى مقام الوحي من جهة، وما تبع ذلك من تثبيت حجية خبر الواحد على النحو الذي أدَّى إلى ما شهدته من التضخُّم والاتساع الهائل.

وقد بدأ هذا التضخُّم في منظومة الأخبار مع الإمام أحمد بن حنبل الذي اتسع مسنده ليتضمن نحو أربعين ألف حديث؛ قيل إنه انتقاها من مليون حديث أمسكت بها حافظته، ودخلت جميعها في فئة السنة الحاكمة على القرآن؛ فقد قرَّر ابن حنبل أن طلب علم القرآن يكون عن طريق السنة، وأن طلب الدين يكون عن طريق السنة، وأن الطريق المُعبَّد لطلب فقه الإسلام وشرائعه الحق هو السنة نفسها، وأن الذين يقتصرون على الكتاب من غير الاستعانة بالسنة في بيان وتعرُّف شرائعه يضلون سواء السبيل؛ وبما يعنيه ذلك من الوضع المركزي الحاكم للسنة على الكتاب. ولعل مقارنةً بين عدد ما ورد في موطأ مالك من الأخبار المنسوبة إلى النبي الكريم (والتي تجاوزت الستمائة حديث بقليل) وبين عدد ما ورد منها في مسند ابن حنبل (والذي بلغ أربعين ألف حديث) ليقطع بما جرى من تضخُّم المنظومة الخبرية على هذا النحو الهائل. والمهم أن هذه المنظومة الخبرية التي جرى إدراجها تحت مظلة السنة قد أصبحت — حسب ابن حنبل — هي الطريق الذي لا بد أن يدخل منه المرء لطلب علم القرآن والدين والفقه والشريعة، وإلا فإنه يمضي في طريق الضلالة.

ولقد كان ذلك هو الذي فتح الباب أمام استمرار قواعد التقليد الاجتماعي والعرفي المتوارثة، والتي جاء القرآن يسعى إلى زحزحتها. وبالطبع فإن التمييز بين الرجل والمرأة قد كان من بين ما جاء القرآن يسعى إلى زحزحته، ولكن هذه القواعد المتوارثة قد استطاعت تحييده، وعلى النحو الذي انتهى — وللمفارقة — إلى اعتبارها من مقرَّرات القرآن نفسه. فقد انفتح الباب أمام ضروب من الأحكام التي تكرِّس التمييز ضد المرأة، والتي لا مُستند لها إلا تلك المنظومة الخبرية الواسعة المتخفية تحت قناع السنة. وحين كانت تخلو تلك المنظومة الخبرية ممَّا يُسند هذه التقاليد، فإن عمليات توجيه القرآن نحو تثبيتها كانت تتم من خلال آلية الإجماع بالذات. فكثيرًا ما كان يلجأ المفسِّر أو الفقيه، حين لا يجد في منظومة الأخبار ما يدعم مقاصده إلى تثبيت التقليد، إلى رفع سلاح إجماع جمهور العلماء ليُخفي خلفه مقاصده، ومن دون أن يسأل عن الأصل في هذا الإجماع. وكمثال على ما يفعله التقليد المتوارَث الخاص بالتمييز ضد المرأة بالقرآن؛ فإنه يمكن الإشارة إلى ما جرى من الاستناد إلى آية وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى (آل عمران: ٣٦) في تثبيت خطاب التمييز ضد المرأة، بوصفه خطابًا من الله. وهنا فإن وجه الغرابة يأتي من أن قراءةً موضوعية لتلك الآية تنتهي، لا محالة، إلى أن خطاب التمييز ضد المرأة ليس أبدًا من الله.

ولعل نقطة البدء في هذه القراءة تنطلق من الوعي بأن آية وليس الذكر كالأنثى قد وردت في سياقٍ حِواري بين الله (جل جلاله) من جهة، وبين امرأة عمران من جهة أخرى. وفي سياق هذا الحوار فإن النُّطق بهذه الآية قد ورد على لسان امرأة عمران، وليس على لسان الله ذاته؛ وبما يعنيه ذلك من أنها تُعبِّر عن وجهة نظر إنسانية، وليست إلهية. إن ذلك يعني أن خطاب التمييز ضد الأنثى ليس خطابًا إلهيًّا يرسِّخ اللهُ بمقتضاه هذا التمييز، بقدر ما هو خطاب إنساني يعبِّر عن واقع تعيشه امرأة عمران التي نطقت به. فإن ما جعل امرأة عمران تنطق بهذا التمييز هو ما تعرفه، كخبرة مُعاشة، من أن مجتمعها قد جعل خدمة الكنائس عرفًا في الذكور خاصة؛ وبما يعنيه ذلك من ترسيخ أفضلية الذكر على الأنثى. إن ذلك يعني أن المجتمع هو الذي لا يقبل أن تقوم الأنثى بالخدمة في المعبد؛ وبما يرتِّبه على ذلك من تدني مكانتها مقارنةً بالذكر.

وحين يُدرك المرء أن الله قد تقبَّل أن تقوم الأنثى بالخدمة في المعبد فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ، فإن ذلك يعني أنه لا يتبنَّى خطابَ الحط من الأنثى والتمييز ضدها، وإلى الحد الذي جعل الرازي يرى إمكانية أن يكون في الآية إشارة إلى أفضلية الأنثى على الذكر. لكن القراءة التي استقرَّت عند الجمهور كانت هي القراءة التي خضعت لتوجيه التقليد الراسخ في الحط من الأنثى، وهو ما ظهر في قراءة الشافعية لتلك الآية على أنها دالة على أفضلية الذكر على الأنثى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤