نصر أبو زيد من أيديولوجيا التسلُّط إلى إبستمولوجيا التحرير
القراءة السيئة النية
لكي تستحق القراءة أن تكون كذلك، فإنها لا يمكن أن تكون فعلًا يكرِّر القارئ فيه نص المقروء، بقدر ما لا بد لها أن تكون ساحةً للتفاعل الخلَّاق بين القارئ والمقروء، وذلك على النحو الذي يقدر معه (القارئ) — من جهة — على تحرير نفسه من قبضة ضروب الفهم الراسخة والمُعممة، ساعيًا إلى إنتاج فهمه الخاص ضمن سياقه المغاير، كما تسمح للمقروء — من جهة أخرى — بأن ينطق بما يرقد محتبسًا تحت ركام الفهم الراكد الثقيل؛ وبما يعنيه ذلك من تحريرها للمقروء من أثقال التاريخ والأيديولوجيا المهيمِنة.
وإذا كانت القراءة كنشاط معرفي منتج هي — هكذا — ساحة تحرير للقارئ والمقروء معًا، فإنها حين تكون ساحةً لانسراب الأيديولوجيا، لا تجاوز كونها محض سجن ينحبس فيه القارئ والمقروء معًا؛ فالقارئ الذي يتميَّز — في هذه القراءة — بانحباسه الكامل في سجن أيديولوجيته، لا يفعل إلا أن يشد معه المقروء إلى داخل أسوار سجنه الحصين. وحين يرفض المقروء أن يدخل معه إلى هذا السجن الضيق، فإنه يلفظه ويسكت عنه، باعتبار أنه يكون — في هذه الحال — مفتقرًا لشروط العلمية التي تُحدِّد أيديولوجيته معاييرها الصارمة.
وإذا كانت القراءة الأيديولوجية هي تلك التي تمارَس فيها الأيديولوجيا طغيانها على المقروء عبر وساطة القارئ؛ وبما يعنيه ذلك من جفافها وبؤسها، فإن ثمة قراءةً هي أكثر بؤسًا منها؛ وأعني بها تلك القراءة التي يُمارِس فيها القارئ طغيانه الشخصي على ما يقرأ. تلك هي القراءة بالنية بصرف النظر عن مضمون تلك النية. وضمن هذه القراءة بالنية، فإن القارئ لا ينشغل بما يقرأ كموضوع مستقل عمن أنتجه، بقدر ما لا يرى فيه إلا انعكاسًا لنية هذا الذي أنتجه، والتي يقطع بأنه يعرفها على نحو خاص. والحق أن القارئ بالنية لا يقرأ ما تقع عليه عيناه، بقدر ما يقرأ ما تنطوي عليه جوانحه من الهوى والأوهام. عدد كبير من القُراء الذين أتاحت لهم الحداثة أن يتفاعلوا بتعليقات مكتوبة مع ما تنشره الصحف الإلكترونية هم نماذج دالة على هذا النوع من القراءة بالنية؛ فالمرء يقرأ ما كتبه هذا المعلِّق (الإلكتروني)، فلا يرى أثرًا لقراءة، بقدر ما يرى نشرًا لِمَا يسكن جوانحه على متن النص المنشور.
وبالطبع فإن هذه القراءة بالنية التي لا يحتكم فيها القارئ إلى ما يتجاوز هواه الشخصي، هي أدنى من القراءة الأيديولوجية التي يظل القارئ فيها مُحتكمًا إلى قواعد أيديولوجيته المُجاوزة لذاته؛ ولو كانت حتى قواعد غير موضوعية؛ وأعني أن هناك، في إطار القراءة الأيديولوجية، شيئًا مستقلًّا عن ذات القارئ يُحاول أن يربط المقروء به، وأما في إطار القراءة بالنية فإنه لا شيء إلا محض ذات القارئ — أو حتى انفعاله الجامح — هو ما يرتبط به المقروء.
ولسوء الحظ، فإن أغلب القراءات التي كان نصر أبو زيد موضوعًا لها، كانت من قبيل هذه القراءة بالنية؛ وفي أكثر حالاتها بؤسًا وسوءًا؛ فليس من شك في أنها النية السيئة، لا سواها، هي ما يقف وراء القول بأن مفهومه عن «القرآن كمنتج ثقافي»، لا يعني إلا أنه يجعل من القرآن مجرد «منتج بشري». وهكذا، فإن المفهوم قد تحوَّل إلى إنكار للمصدر الإلهي للقرآن، بدلًا من أن يكون تحديدًا للكيفية التي تنبثق بها النصوص داخل الثقافة، وذلك من دون أن يكون السؤال عن مصدرها موضوعًا للانشغال. وإذا كان القول بأن «القرآن منتجًا ثقافيًّا» لا يعني إلا بيانًا للكيفية التي انبثق بها في الثقافة، فإن ذلك بعينه هو ما فعله السيوطي في كتابه الذائع «الإتقان في علوم القرآن»، والزركشي في كتابه «البرهان في علوم القرآن»؛ وبكيفية تتناسب — بالطبع — مع الإطار المعرفي الذي ساد عصرهما. ومن جهة أخرى فإن الله تعالى نفسه يقرِّر أن إنزال القرآن عربيًّا يرتبط بالقصد إلى أن يكون قابلًا للفهم من المتلقين؛ وبما يعنيه ذلك من أن قابلية القرآن للفهم هي أحد المقاصد الإلهية. وبالطبع فإن قابلية القرآن للفهم لا تكون بمحض الإنزال باللسان العربي، بل وبقدرته على التجاوب مع اهتمامات الناس وأسئلتهم وحاجاتهم (وهو ما يكشف عنه علم أسباب النزول). وغنيٌّ عن البيان أن القرآن في تفاعله (رفضًا وقَبولًا وتعديلًا) مع الثقافة التي هي جِماع أسئلة الناس وإجاباتهم وحاجاتهم وتوقعاتهم، إنما يحدِّدها ويتحدَّد بها في آنٍ معًا. وعبر هذا التحديد والتحدُّد المتبادَل، الذي يكون فيه القرآن بمثابة استجابة السماء لمطالِب أهل الأرض، فإنه يكون منتجًا ثقافيًّا. وإذ يرى القارئ بالنية السيئة أن اعتبار القرآن منتجًا ثقافيًّا يؤدِّي إلى إنكار مصدره الإلهي؛ لما يتصوَّره من تعارض ذلك مع القول بوجود أزلي سابق للقرآن؛ فإن ذلك يعني أنه يرتِّب قوله بالمصدر الإلهي للقرآن على ضرورة القول بوجوده الأزلي السابق. وإذا كان تراث الإسلام قد اتسع لمن يقولون بخلق القرآن، من دون أن يتعارض ذلك مع إيمانهم بمصدره الإلهي، فإن ذلك يعني أن القول بالمصدر الإلهي بالقرآن لا يتوقف على القول بوجوده الأزلي السابق. ومن جهة أخرى، فإنه إذا كان ثمة من السلف من يرفض القول بوجود أزلي سابق له، ويمضى إلى القول بأنه مخلوق (أو منتَج داخل الثقافة)، ومع ذلك فإنه لم يتعرَّض للتكفير والطرد من الملة، فإن ذلك لا يكشف فقط عن رحابة الأقدمين مقارنةً بأهل زماننا، بل يكشف — وهو الأهم — عن جهلنا الكامل بمن يدعي أهل زماننا أنهم يعرفونهم ويتأسَّون بهم.
ولعل مثالًا آخر على القراءة السيئة النية لأبي زيد يتمثَّل فيما جرى من التلاعب بمفردات نصه، على النحو الذي يسمح للخصم بتثبيت دعواه. وهكذا فإنه إذا جاز أن ثمة مفهومًا ينتظم عمل «أبو زيد» كله، فإنه يمكن القول بأنه مفهوم «التحرر من سلطة النصوص»؛ الذي استحال، بكيد خصومه وخُبثهم، إلى مبدأ «التحرر من النصوص»، الذي لا يحتمله نصه، ناهيك عن أن ينطق به. ولعله يلزم التأكيد على التناقض الكامل بين الصيغتين؛ وأعني من حيث إنه فيما تُحيل الصيغة الأولى إلى التنكر لعلاقة ما مع النص، يحضر فيها كسُلطة، فإن الصيغة الثانية تنطوي على التنكر للنص بذاته. وإذن فإنه السعي إلى التفكير في علاقة أخرى مع النص، لا كسلطة لا تسمح إلا بترديده وتكراره، بل كنقطة ابتداء للوعي ينطلق منها مستوعبًا ومتجاوزًا إلى ما بعدها، وبكيفية تسمح للنص ذاته بأن يتكشَّف عن ممكناته المضمَرة التي يستفيد منها حياته الحقة، والتي لا يمكن أن يسمح لها التكرار بالانكشاف والظهور. ولعل ذلك يعني أن التحرر، هنا، لا يكون، فحسب، للوعي من سلطة النص، بل ويكون للنص أيضًا، وأعني من حيث يسمح لممكناته الكامنة بالتفتح. وهكذا يبدو وكأن الأمر، في جوهره، لا ينطوي على ما هو أكثر من السعي إلى الانتقال بالنص من علاقة تكرُّره، إلى علاقة تحرُّره.
وهكذا فإن سوء النية لا يُصيب أبا زيد فقط من حيث يُدينه ويُقصيه، بل ويُلحق أضرارًا بالِغة بالقرآن نفسه من حيث يجعله أسير دائرة الترديد والتكرار.
نصر أبو زيد وسؤال القرآن
سوف يكتشف الكافة، ولو بعد مرور بعض الوقت، أن قُدرة الإسلام على التفاعل المُنتِج والخلَّاق مع العصر، وعلى النحو الذي يتحوَّل معه من عنوان على أزمة يعاني المسلمون وغيرهم من تداعياتها السلبية، إلى مشروع خلاص للبشر على العموم؛ إنما ترتبط بالقدرة على إثارة سؤال القرآن وإعادة التفكير فيه على نحو يتسم بالجرأة والمسئولية. ولقد كان ذلك تحديدًا هو ما انشغل به الراحل الكبير نصر حامد أبو زيد الذي أدار الشطر الأعظم من حياته (التي أنهاها موته الإسيان) حول هذا السؤال المركزي والتأسيسي. ورغم ما جرَّه هذا الانشغال على الرجل من مطاعن في دينه وعقيدته (وبما ترتَّب على ذلك من التشويش على جدية ورصانة إنجازه، وحال دون التفاعل النقدي المثمر معه)، فإن للمرء أن يقطع بأن وقتًا طويلًا لن يمر قبل أن يكتشف الفاعلون في مجال الدرس الإسلامي القيمة الكبرى لهذا الإنجاز الرصين، ويدركوا ضرورة إعادة اكتشافه، والبناء فوقه.
فقد أدرك الرجل أن القرآن قد حوصر بشبكة من المفاهيم والتصورات التي وجَّهت عمليات فهمه وقولَبَتها، ووضعت لها حدودًا وآفاقًا لا تخرج عنها، واكتسبت على مدى القرون — ورغم مصدرها البشري — قداسةً تُوازي تلك التي للقرآن ذي المصدر الإلهي. ولسوء الحظ، فإن هذا الحصار قد أضرَّ بالقرآن وبالمسلمين في آنٍ معًا؛ فقد أعجز القرآن عن أن يكون مصدرًا للإلهام في عالم متغيِّر، وأجبر المسلمين، ابتداءً من اضطرارهم للانحباس ضمن تحديدات هذه المفاهيم الراسخة، على التعيُّش عالةً على غيرهم من صُناع العصر والفاعلين فيه. ومن هنا ما بدا من ضرورة الانعتاق من أسر تلك التحديدات، واستعادة القرآن الحي السابق عليها؛ والذي كان — وللمفارقة — قرآن النبي وصحابته الأكرمين. وبالطبع فإنه يُبقي وجوب الانتباه إلى ما يؤشِّر عليه هذا المسعى الانعتاقي من التمييز بين القرآن الذي صار موضوعًا لتقليد جامد تقوم عليه مؤسسة حارسة ترعاه وتحفظه، وبين القرآن المنفتح الحي السابق على رسوخ هذا التقليد؛ والذي تزخر المصادر القديمة بما يرسم صورةً متكاملة له ممَّا يتواتر منسوبًا إلى النبي الكريم والجيل الأول من الذين تلقَّوا وحيه الخاتم. وهنا يلزم التأكيد على أن الأمر لا يتعلَّق بأي تحول في طبيعة القرآن ذاته، بقدر ما يتعلَّق بتحول في نوع العلاقة معه؛ وأعني من علاقة مع القرآن كان فيها ساحةً يتواصل فوقها الناس بما تسمح به مقتضيات الواقع والأفهام، إلى علاقة بات يجري معها فرضه كسلطة إخضاع بالأساس. وللغرابة، فإن هذا التحول قد كان من الإنجازات الكبرى لبني أمية بالذات؛ فرغم الوعي، من جهة، بضرورة وجدوى ما قام به الخليفة الثالث عثمان بن عفان من تقنين المصحف، فإنه يبقى لزومُ الإشارة إلى ما صاحب هذا العمل ممَّا يقال إنه الانتقال من القرآن الناطق إلى القرآن الصامت؛ وبما ينطوي عليه هذا الانتقال من إهدار ثرائه وحيويته. ومن جهة أخرى، فإن ما قام به الأمويون، إبَّان صراعهم السياسي مع الإمام علي بن أبي طالب، من رفع المصاحف على أَسِنة الرماح والسيوف كان الواقعة الكاشفة عن إرادتهم في تثبيت القرآن كسلطة حارسة لسلطانهم؛ وذلك بعد أن تبدَّى لهم جليًّا أن فاعليته في إنقاذ هذا السلطان تفوق فاعلية السيف بكثير. وغني عن البيان أن هذا التمييز بين قرآن النبي الحي وبين القرآن المنحبس وراء التقييدات التي تفرضها السلطة، إنما يعكس ما يكاد يكون تقابلًا يعرفه دارسو الأديان على العموم بين دين التقليد الذي تحرسه مؤسسات السلطة لتسوس به الناس، وبين الدين الحي الذي يقصد إلى إذكاء الوعي وتحرير الإرادة. وإذ تحرس المؤسسة دين التقليد؛ لأنه يكون حارسًا لها بدوره، فإن سعيًا إلى تحرير الدين من سطوة التقليد، واستعادته في انفتاحه وحيويته الأولى، سوف يعرِّي تلك المؤسسة ممَّا تستر به عورتها. ومن هنا إن انتقام المؤسسة من هؤلاء الساعين إلى استعادة الدين الحي يكون قاسيًا حقًّا؛ لأن ذلك يكون بمثابة تعرية لها من غطائها الأيديولوجي. وللغرابة فإن الجمهور الذي يكون القصد إلى تحريره من القبضة المهيمنة للمؤسسة هو ما يقف وراء السعي إلى استعادة الدين في حيويته وانفتاحه، يكون هو الأداة التي تنتقم بها المؤسسة من هؤلاء الساعين إلى تعريتها؛ وذلك بمثل ما جرى لأبي زيد الذي لم يستهدف إلا استعادة قرآن النبي المنفتح الحي، فجعلت منه مؤسسة التقليد مُنكِرًا للوحي، وأطلقت الجمهور ضده.
وإذ يكشف ما سبق عن أن ما جرى لأبي زيد هو من فِعل سُلطة تسعى إلى حفظ وجودها، وإطالة أمد بقائها، فإنه يلزم فضح ما يقف وراء هذا المسعى الأناني من تثبيت القرآن المنحبس وراء القواعد، أو بالأحرى التقييدات، التي ترسَّخت عبر القرون، ولو كان ذلك على حساب قرآن النبي المنفتح الحي. وهنا يلزم التنويه بأن أحدًا لو توفر على جمع الروايات الكثيرة المتواترة عن النبي وصحبه الكرام، بخصوص القرآن (تنزيلًا وتدوينًا ولغة وتداولًا وجمعًا وتأليفًا)، لأمكنه رسم صورة له تغاير — أو حتى تُناقِض — الصورة التي استقرَّت له عبر القرون اللاحقة بفعل السلطة، والتي يكاد يغيب منها الإنسان على نحو كامل. وعلى العكس تمامًا من تلك الصورة السلطوية، فإن السمة الرئيسة للقرآن، بحسب المتواتر عن النبي وصحبه، هي في انفتاحه على الإنسان، واتساعه له على نحو يثير الاندهاش؛ وإلى الحد الذي يكاد معه الإنسان يكون هو مركز دائرته وقطب رحاه.
والحق أن أبا زيد لم يفعل شيئًا إلا السعي إلى استعادة هذا القرآن المنفتح الحي (والذي هو — وللمفارقة — قرآن النبي)، وأمسك في سنواته الأخيرة بالمفهوم الذي يقدر به، أكثر من غيره، على تحقيق مسعاه؛ وأعني به مفهوم الخطاب. وإذ يؤشِّر ذلك على تحوله عن المفهوم المركزي الذي تمحورت حوله مقارباته الأولى للقرآن؛ وأعني به مفهوم النص بعد أن تبدَّى له عجز المفهوم وقصوره عن الإحاطة بعالم القرآن المنفتح الحي، فإن ذلك يكشف عن روح منفتحة تُخاصم التحجر والانكفاء، وعن عقل لم يكفَّ عن التساؤل، وهو ما تبدو مصر في مسيس الاحتياج إليه الآن.
هل هو حقًّا من غير جذور؟
يعتقد الكثيرون أنه إذا كان لا بد من الإحالة إلى سلف للمفكر الكبير نصر حامد أبو زيد، فإنه ليس من سلفٍ للرجل إلا بعض المستشرقين الذين دأبوا على طعن الإسلام والكيد له، ومن يسير في ركابهم من الوكلاء المحليين الصغار، وبما يعنيه ذلك من تصور اجتهاده مقطوع الصلة بالكلية عن تراث الإسلام الزاخر. والحق أنه إذا كان جوهر عمل نصر واجتهاده يقوم، في العمق، على كيفية في تأسيس العلاقة مع النصوص، لا بما هي علاقة سلطة، بل بما هي علاقة حوار، فإنه يلزم التنويه بأن هذا التصور، الذي يقوم عليه اجتهاد الرجل، إنما يضرب بجذوره في قلب اللحظة الأكثر مركزيةً التي تحدَّدت فيها مصائر الإسلام بأسره، وأعني بها لحظة الفتنة. وفقط فإن هذا التصوُّر قد راح يتعرَّض لعمليات إقصاء وإزاحة انتهت، ليس فقط إلى إخراجه من ساحة الإسلام، بل واعتبار حامله خارجًا عن الدين والملة.
فعندما اتجه الصحابي الجليل «عمار بن ياسر» إبَّان وقعة صفين بخطابه إلي بني أمية قائلًا: «نحن ضربناكم على تنزيله، واليوم نضربكم على تأويله.» فإنه كان يكشف عن وعي لافت بحقيقة أن الصراع الذي تفجَّر في تلك الوقعة الأسيفة — التي لعبت الدور الأبرز في توجيه ما جرى في الإسلام على صعيد السياسة والثقافة — هو صراع على التأويل، في الجوهر. وإذا كان سؤال التأويل هو، على نحو ما، سؤالًا عن الكيفية التي تتأسس بها العلائق مع النصوص، فإن ذلك يعني أن ما جرى آنذاك كان، في أحد وجوهه، صراعًا على كيفية تأسيس العلاقة مع النص (الذي هو القرآن بالطبع).
وللمفارقة فإن التأمل في مواقف الفريقين المتقاتلين في صفين، يكشف عن كيفيتين متباينتين في تأسيس العلاقة مع النص؛ القرآن؛ فإنه إذا كانت واقعة رفع المصاحف على أسنة الرماح تمثِّل استدعاءً صريحًا للنص ليلعب دورًا في الصراع السياسي المحتدم، فإن ما تنطوي عليه تلك الواقعة من دلالة القرآن والربط بين المصحف والرمح أو السيف، يكشف عن تصور «بني أمية» للعلاقة مع النص بما هو قوة إخضاع، تحقَّقوا من أنها أكثر نجاعةً من السيف نفسه؛ وذلك من حيث ما تأدَّت إليه من إيقاف حرب لم يفلح السيف وحده في وضع حدٍّ لها. وهكذا فإن النص، ومع بني أمية بالذات، كان لا بد أن يتحوَّل إلى سلطة، أو — بالأحرى — إلى قناع لسلطة تحتجب خلفه وتمارس تحت رايته أقسى ضروب التسلط والقمع. فإنه إذا كان السيف هو أداة بناء السلطة وحراستها، فإن ما حدث من تعليق النص؛ القرآن عليه، سوف يجعل منه (أي القرآن) محض امتدادٍ للسيف في تثبيت نفس السلطة وحراستها. وبالطبع فإنه حين يُصبح دور النص هو حراسة السلطة، فإن تلك السلطة سوف تكون هي الأحرص — حمايةً لنفسها — على تحويله، هو نفسه، إلى سلطة؛ وبما يعنيه ذلك من التعالي به عن إمكانية أن يكون موضوعًا للقراءة والسؤال، حيث ستصبح مساءلة النص مساءلةً لسلطة السياسة التي تحتجب خلفه. وهكذا فإنه يتم — ضمن هذا السياق — إلغاء التمييز بين «سلطة السياسة» وبين «سلطة النص»، وعلى النحو الذي جعل معاوية يعتبر ما قضى به من توريث سلطته لابنه يزيد، بمثابة القضاء النازل من الله، والذي لا راد له أبدًا. وليس من شك في أن تحوُّل النص إلى سلطة لا بد أن يدخل به إلى دائرة التكرار والجمود؛ وذلك لاستحالة التعاطي معه، بما هو سلطة، على نحو يسمح بتفجير دلالاته الكامنة الخصبة، وفقط سيُصبح النص «أيقونة» يتبرَّك بها الناس ويتمسَّحون بها ويُتمتمون بمفرداتها، ولكنه سيفقد كل حياته وديناميته.
وإذا كانت تلك الكيفية في العلاقة مع النصوص هي التي تحقَّقت لها الهيمنة والسيادة كاملةً في الإسلام، فإن ما صار إليه الإمام علي — في تعليقه على ما قام به بنو أمية من رفع المصاحف على أسنة الرماح — من «أن القرآن كتاب مسطور بين دفتين، لا ينطق بلسان، وإنما ينطق عنه الرجال»، إنما يكشف عن كيفية أخرى في تأسيس العلاقة مع النصوص، تنبني على الإقرار بدور بالغ المركزية للإنسان في إنتاج دلالة النص، وبما يترتَّب على ذلك من ضرورة تصور النص، لا بما هو قوة إخضاع وإجبار، بل بما هو ساحة للتفاعل والسؤال والحوار. ولعل ذلك ينبني على حقيقة أنه إذا كان الإنسان يدخل (وعيًا وواقعًا) في تركيب وحي التنزيل (وهو ما يُستفاد، من جهة، من تعدُّد وتباين لحظات هذا التنزيل بحسب حاجات الواقع ومستوى تطور الوعي، كما يُستفاد، من جهة أخرى، من حقيقة أن القرآن نفسه قد ظل يتنزَّل وحيًا على مدًى يقترب من ربع القرن متجاوِبًا مع أسئلة الوعي والواقع)، فإنه يستحيل تصور هذا الإنساني معزولًا عن فعل التأويل.
وهنا تحديدًا تضرب طريقة نصر في مقاربة النص — لا كسلطة، بل كساحة للحوار والسؤال — بجذورها العميقة. إنه يتواصل، مُسلَّحًا بكل ما تم إنتاجه على مدى القرون من أدوات ورؤًى منهجية ومعرفية، مع ما يمكن القول إنها طريقة الإمام علي في مقاربة النصوص. وغنيٌّ عن البيان أنه إذا كانت الهزيمة السياسية للإمام علي قد انتهت إلى الإقصاء والتهميش الكامل لطريقته، فإن أي سعي لاستعادتها من ركام المُهمَّش والمسكوت عنه كان لا بد أن يجد نفسه، لا في مواجهة سلطة السياسة فقط، بل وفي مواجهة سلطة السائد والمستقر، وهي الأعنف والأعتى.
وإذا كان الباب قد انفتح واسعًا مع هزيمة الإمام علي وإقصاء طريقته، أمام بني أمية لتثبيت طريقتهم في تأسيس العلاقة مع النصوص بما هي علاقة سلطة وإخضاع — وذلك كجزء من سعيهم إلى تحصين سلطتهم وحراستها — فإنهم قد راحوا يُراوِغون مُعتَبِرين التنكر لطريقتهم تلك، بمثابة نوع من الإنكار للنص نفسه. ولقد كانت تلك المراوغة — وتظل للآن — هي السلاح الذي يجري الانتقام به من نصر أبو زيد؛ حيث جرى التعامل مع دعوته للتحرر من «سلطة» النصوص، باعتبارها دعوةً للتحرر من النصوص. وبالطبع فإنه إذا كان لا يمكن لأحد، البتة، أن يقول بإنكار الإمام علي للنص؛ حيث الأمر يتعلَّق فقط بإنكاره لضربٍ من العلاقة معه، فإنه لا يمكن، بالمثل، القول بإنكار نصر أبوزيد للنصوص، بل الأمر يتعلق أيضًا بإنكاره لضرب من العلاقة معها تكون فيها «سلطة» لا سبيل بإزائها إلا للترديد والتكرار، وليست «نقطة بدء» ينطلق منها الإنسان، عبر السؤال والحوار، إلى بناء وعي مطابق بعالمه. وللمفارقة فإن تصور النص كسلطة لا يئول فقط إلى إهدار الوعي الذي لن يكون مسموحًا له، بإزاء تلك السلطة، إلا أن يُكرَّر ويُردَّد، بل وينتهي إلى الإفقار المعرفي الكامل للنص نفسه؛ وذلك من حيث يستحيل عبر الترديد والتكرار الكشف عن كل ما يكتنزه النص من ممكنات خلَّاقة هي أساس حياته الحقة.
وإذن فإنه التباين بين موقفين من النص؛ أحدهما يجعله قوة إبداع، والآخر يجعل منه قوة إخضاع. ولقد انحاز نصر للموقف الأول، وراح يسعى في سبيل بلورة إطار مؤسسي يستوعب اجتهاده ويقوم عليه؛ وهو الإطار الذي بدأ يتفتَّح في الفضاء الإندونيسي من خلال المعهد الدولي للدراسات القرآنية الذي كان محط اهتمام عديد من الشخصيات المؤثرة في عالم الإسلام كان على رأسهم الرئيس الإندونيسي الراحل عبد الرحمن واحد وغيره من الذين يُدركون أزمة المجتمعات الإسلامية مع نفسها ومع غيرها، ويؤمنون بقدرة الإسلام على الإسهام الفاعل في إغناء عالمنا الراهن.
النص بين إبستمولوجيا التحرير وأيديولوجيا التسلُّط (قراءة في عمل نصر أبي زيد)
وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كانت «الاتباعية» تفترض، أوليًّا، حضور أصل أول؛ وأعني من حيث لا اتباع إلا لأصل مسبق (يكون سلطة)، فإنه يلزم التنويه بأن حضور الأصل لا يستلزم، آليًّا، انبثاق (أو غلبة) الاتباعية بالضرورة. بل الأصل قد يحضر من غير أن تقترن به الاتباعية أبدًا، وأما الاتباعية فإنها لا تحضر أبدًا من غير أصل؛ وإلى حد إمكان افتراض أنها قد تضع بنفسها الأصل (وكسلطة بالذات)، إن لم تجده قائمًا. فالحق أن الأصل لا يضع نفسه كأصل؛ هو سلطة يلزم اتباعها والانصياع لها، بقدر ما يجري فرضه، على هذا النحو، بتأثير فاعلية تتموضع خارجه؛ وهي فاعلية تنتمي إلى الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي الواسع والأقدم، وليس إلى مجرد شكلها المكتوب المحدود والأقرب. وإذ يحيل ذلك إلى أن الاتباعية لا تكون، هكذا، نتاجًا للأصل بمجرده، بل نتاج كيفية في مقاربته، وطريقة في التعامل معه، فإنه يمكن المصير من ذلك إلى أنها تتحدَّد، كممارسة ثقافية، بكيفية في اشتغال الوعي على نحو ما؛ ولكنها سرعان ما تستعيد المبادرة فتحدِّد عمل الوعي، بمثل ما كان هو المحدِّد لها. وبالرغم من أن هذه الكيفية في اشتغال الوعي، التي تؤطِّر الاتباعية وتحدِّدها، إنما تجد ما يؤسِّسها داخل بنية ثقافية أعمق، لها شروطها الموضوعية المجاوزة لِمَا هو فردي، فإنها — أي هذه البنية وما يرتبط بها من طرائق في اشتغال الوعي — لا تتجلى إلا من خلال عمل الأفراد؛ وخصوصًا أولئك الذين يكونون الأقدر من غيرهم على التعبير الأجلى عنها في أكثر صورها شمولًا وتماسكًا. وإذ تكون نصوص هؤلاء الأفراد هي النصوص التأسيسية في ثقافة ما، فإن هذه التأسيسية لا تتأتى من كون هذه النصوص تختزل البنية الكامنة في الثقافة، وتُجلِّيها في أكثر صورها شمولًا وكلية فحسب، بل ومن كونها تصوغ هذه البنية وتُعيد إنتاجها ضمن فضاءات جديدة لم تعرفها من قبل. ومن هنا تأسيسية نص كل من الشافعي والأشعري؛ وأعني من حيث ينطويان على ما يمكن اعتباره صوغًا وإعادة إنتاج للبنية الكامنة في الثقافة، بالمعنى الأنثروبولوجي البدوي الأقدم، ضمن فضاء الثقافة المكتوبة في الإسلام. وبالطبع فإن ذلك يئول إلى أن الثقافة المكتوبة؛ وأعني بالذات تلك التي سادت في الإسلام، لم تُفلت من قبضة التوجيه الحاسم للثقافة بالمعنى الأنثربولوجي الواسع، والتي تضرب بجذورها الأعمق فيما يسبق الإسلام ويتعداه.
إن ذلك يعني أن الثقافة التي تسيَّدت في الإسلام، لم تُصبح اتباعيةً لأن نصًّا (هو القرآن) قد فرض نفسه داخلها كأصل يلزم اتباعه، بقدر ما إن هذا النص نفسه، قد جرى وضعه كأصل (للاتباع وليس الإبداع) داخل هذه الثقافة — وبما ينطوي عليه هذا الوضع من إهدار الممكنات الكامنة لذلك النص — وذلك بفضل ما تنطوي عليه تلك الثقافة أصلًا، من اتباعية كامنة، تضرب بجذورها الأعمق في أشكال وجود، وأنساق ثقافة، سابقة — في تشكُّلها — على انبثاق وظهور هذا النص ذاته. وفي كلمة واحدة، فإن القرآن هو ضحية الاتباعية، وليس أصلها.
والحق أن هذا السعي القرآني إلى ترسيخ الكتابية — بما تمثِّله من حالة وجود أرقى — إنما يتفق مع التطورات التي كانت تجري في المجتمع المكي الذي كان يعيش سيرورة تحوُّل إلى مجتمع تجاري في حاجة إلى التعاقدات المكتوبة. ولسوء الحظ فإن ما يغلب على الوعي الراهن للمسلمين من تقليد واتباعية، وابتعاد عن التعقُّل والتدبُّر، يكشف عن نوع من الارتداد إلى ما يكاد أن يكون الإسلام قد تنزَّل لتجاوزه.
وغني عن البيان أن قاعدةً تنبني، هكذا، على تعطيل الاجتهاد في مواجهة النص (وبالكيفية التي تطوَّر معها مدلول هذا «المصطلح» من الآية، إلى القرآن بأسره، ثم إلى سائر النصوص الإنسانية المصدر) قد ارتبطت، على نحو صميمي، مع تكريس آلية مقاربة النص — أي نص — كسلطة واجبة الخضوع والاتباع.
ولعل ذلك كله لم يكن غائبًا عن وعي أبي زيد. وحين يُضاف إليه وعيه بعجز المفاهيم التي بلورها الأصوليون (فقهاء ومتكلمون) من قبيل المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص عن استيعاب المشكلات التي تترتب على مقاربة القرآن كنص، فإن في ذلك كله تفسيرًا لِمَا يتبدَّى من أنه قد راح، على مدى الأعوام الأخيرة، يتحرَّر من مقاربة القرآن كنص، ليبدأ في مقاربته كخطاب. وبالرغم من هذا التحول، الذي يحتاج إلى درس أعمق، فإن المحمولات السلبية التي جرى إلصاقها بمقاربته للقرآن كنص، قد ظلَّت تُطارده حتى إلى ما بعده موته الإسيان؛ وذلك بحسب ما أظهرته كتابات قِطاع عريض من الجمهور الذي أتاحت له الحداثة أن يدخل إلى ساحات الكتابة الإلكترونية المفتوحة؛ وهي الكتابة التي تكشف عن أزمة هذا الجمهور — بل وحتى عن غيابه — بأكثر ممَّا تكشف عن حضوره الفاعل. هذا الجمهور الذي راح يضع في مقام الله محاسِبًا لنصر ومتوعدًا بالعذاب الأليم جزاءً وِفاقًا على ما نطق به من أن القرآن محض «منتج ثقافي» من تأليف البشر، وعلى ما قيل إنها دعوته للتحرر من النصوص.
وضمن هذا السياق، فإن أبو زيد لم يكن موضوعًا لمجرد سوء الفهم، بل كان — وهو الأسوأ — هدفًا لسوء النية؛ الذي تمثَّل في التلاعب بمفردات نصه، على النحو الذي يسمح للخصم بتثبيت دعواه. وهكذا فإنه إذا جاز أن ثمة مفهومًا ينتظم عمل «أبو زيد» كله، فإنه يمكن القول بأنه مفهوم «التحرر من سلطة النصوص»، الذي استحال، بكيد خصومه وخبثهم، إلى مبدأ «التحرر من النصوص»؛ الذي لا يحتمله نصه؛ ناهيك عن أن ينطق به.
ولعله يلزم البدء من بيان التناقض الكامل بين الصيغتين؛ وأعني من حيث إنه فيما تُحيل الصيغة الأولى إلى التنكر لعلاقة ما مع النص، يحضر فيها كسلطة، فإن الصيغة الثانية تنطوي على التنكر للنص بذاته. وإذن فإنه السعي إلى التفكير في علاقة أخرى مع النص، لا كسلطة لا تسمح إلا بترديده وتكراره، بل كنقطة ابتداء للوعي ينطلق منها مستوعبًا ومتجاوزًا إلى ما بعدها؛ وبكيفية تسمح للنص ذاته بأن يتكشَّف عن ممكناته المضمَرة التي يستفيد منها حياته الحقة، والتي لا يمكن أن يسمح لها التكرار بالانكشاف والظهور. ولعل ذلك يعني أن التحرر، هنا، لا يكون، فحسب، للوعي من سلطة النص، بل ويكون للنص أيضًا؛ وأعني من حيث يسمح لممكناته الكامنة بالتفتح. وهكذا يبدو وكأن الأمر، في جوهره، لا ينطوي على ما هو أكثر من السعي إلى الانتقال بالنص من علاقة تكرُّره، إلى علاقة تحرُّره.
وهكذا يبدو الأمر، في جوهره، لا صراعًا حول النصوص (قَبولًا أو رفضًا لها)، بل حول طبيعة ونمط العلاقة معها (استهلاكًا وتكرارًا أو إبداعًا وحوارًا). ولعل ذلك يتأكد حين يُدرك المرء أن أحد أهم أدوات النسق المهيمن — الذي اتضح أنه الأصل في كل ضروب الوصاية السائدة — في بناء سلطته، قد تمثَّلت في المخايَلة بتماهيه مع النص المقدس أنطولوجيًّا، وعلى نحو يُخفي فيه سلطته الخاصة وراء سلطة النص؛ فإن ذلك يعني أن ما يُشار إليه من «سلطة النص» هو، في جوهره، قناع لسلطة أخرى تختفي وراءها؛ هي سلطة النسق المهيمن. فالحق أن النص لا سلطة له إلا بمقدار ما يُراد منه أن يغطِّي على سلطة تقوم خارجه، تسعى إلى تثبيت نفسها بفضل ما لهذا النص من الحصانة والقداسة. ومن هنا تلك الاستبدادية التي ينطوي عليها مفهوم «سلطة النص»؛ وأعني من حيث يجعل «النص» — بما يفترض أن ينطوي عليه من السعي لتحرير الإنسان فعلًا ووعيًا — مجرد قناع لسلطة مستبدة. وهكذا تتبدَّى، وعلى نحو زاعق، الطبيعة الأيديولوجية الخالصة لمفهوم «سلطة النص»؛ الأمر الذي يعني، وللمفارقة، أن رافضيه والداعين إلى التحرر من سطوته، هم الأكثر حرصًا على «النص»، من غيرهم الذين كانوا، من دون أن يُدركوا، ممسوكين إلى أيديولوجيا عاتية. وليس من شك في أن ما انتهى إليه أبو زيد من ضرورة «التحرر من سلطة النصوص» إنما يرتبط بما يسكن المفهومَ من حمولة أيديولوجية متخفية؛ وأعني من حيث أدرك فيه قناعًا «لكل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا».
ضد هذه الأشباح الأيديولوجية المنفلتة من سيطرة الوعي، كان أبو زيد يحارب معركته، وليس أبدًا ضد النص، بحسب ما راح يُلِح خصومه؛ الذين لا يمكن تفسير معركتهم ضده إلا بحسبانها معركة الأيديولوجيا — التي فضحها — ضده. وبالرغم مما يبدو، هكذا، وكأنها معركة «الحقيقة» في مواجهة «الأيديولوجيا»، فإن أبو زيد قد ظل يوصَم طوال الوقت — وللمفارقة — بأنه إنما يصدر عن أيديولوجيا مغرِضة، فيما لا يعرف خصومه إلا الحقيقة خالصة، يصدرون عنها. وهكذا تبدو الوصاية، في حقيقتها، ذات طبيعة أيديولوجية، وفقط فإنها تأخذ من الدين/النص/التراث قناعًا لها. وعلى أي الأحوال، فإن الوعي بالطبيعة الأيديولوجية الكامنة لمفهوم «سلطة النص»، التي حارب أبو زيد من أجل فضحها بلا هوادة، يبقى في حاجة إلى اكتناه الحدود المعرفية للمفهوم ذاته.
وهنا فإنه إذا كان قد بدا أن النسق المهيمِن داخل التراث إنما يضع نفسه مع النص في هُوية واحدة، فإن الكشف عن طبيعة هذا التماهي بوصفه مجرد علاقة مع النص (حيث الهُوية هي علاقة لاشك)، في مواجهة علاقات أخرى قائمة أو ممكنة معه، إنما يئول إلى التنزُّل بالنسق المهيمن، من فرضيته المضمرة — التي يصنع بها سلطته — «النسق هو النص»، إلى فرضية «النسق هو غير النص، وهو — كغيره — في علاقة معه»؛ وبما يعنيه ذلك من انتزاع ما يؤسِّس به سلطته. وإذ يبدو، هكذا، أن ثمة إمكانيةً لعلاقتين مع النص؛ إحداهما هي علاقة «الهُوية»، والأخرى هي علاقة «المغايرة»، فإنه يبقى أن الأولى هي الأفقر بما لا يُقاس بالثانية. فإذ لا تُنتج علاقة الهُوية، إلا أن الشيء هو نفسه، فإن علاقة المغايرة إنما تسمح للشيء بأن يكون ذاته وغيره في آنٍ معًا. وإذ لا تسمح العلاقة الأولى للشيء إلا بأن ينفتح على مجرد ذاته؛ وبما يعنيه ذلك من انغلاقه عليها في الحقيقة، فإن علاقة المغايرة تسمح للشيء بأن ينفتح على غيره، فيوسِّعه ويتسع به في الوقت نفسه؛ وأعني من حيث يسمح له هذا الانفتاح على الغير من أن يتكشَّف عن ممكناته المحايثة لوجوده، والتي ما كان لها أن تتكشَّف وتظهر في الوجود إلا عبر هذا الانفتاح على الغير. ومن حسن الحظ أن علاقة المغايرة تلك، هي ما يبدو وكأن الله، نفسه، إنما يفعل بحسبها، وذلك طبقًا للحديث القدسي؛ الذي يُشير إلى دور الخلق (الذين هم «غير» ذاته)، في إظهار ممكنات ذاته، التي يبدو — بحسب تصريحه — أنها كانت مخفيةً عنه هو نفسه. ولعل ذلك يعني ضرورة أن تكون «المغايرة»، هي — وليست الهُوية — أساس العلاقة مع النص؛ وأعني من حيث تسمح له — كالله — بالتكشُّف عن ممكناته، التي يتحقَّق حضوره الفعَّال في العالم من خلال ظهورها، في شكل إنتاج متجدِّد للدلالة.
إن ذلك يعني أن علاقة الهُوية لا تئول، فحسب، إلى إفقار «النص»، وذلك من حيث تُهدِر إمكانيته على الإنتاج المتجدِّد للدلالة، بل وتكاد تنتهي به إلى الجمود والاضمحلال؛ وأعني من حيث لا تسمح لممكناته بالتحقق والظهور. وهكذا فإنه من الطبيعي أن يعجز النسق المهيمن داخل التراث — إذ يضع نفسه في علاقة هُوية مع النص — عن أن يعرف النص حقًّا، ناهيك عن أن يفجِّر دلالاته الكامنة. بل إنه، وفقط، لا يستطيع إلا أن يكرِّره، ومن دون أن يتجاوز، في هذا التكرار، دلالاته السطحية الفقيرة؛ وذلك من حيث يرى في النص عالمًا من المعاني، مستقلًّا وقائمًا بنفسه، الأمر الذي يتأدَّى إلى أن إنتاجه للدلالة يكون مرتبطًا فقط بمجرد أبنيته اللغوية، ومن دون أية إحالة إلى أي سياقات خارجها. وليس من شك في أن هذا الإهدار للسياقات غير اللغوية، لا يمكن أن يُنتج — مهما كان ثراء اللغة وغناها — إلا الدلالة الأفقر والأجدب؛ لأنه إذ يمنع تفاعل النص مع العالم خارجه، لا يملك إلا أن يكرِّره؛ وبما يعنيه هذا التكرار من إهدار فاعلية النص. وهكذا تتكشَّف الحدود الأيديولوجية والمعرفية لمفهوم «سلطة النص» الذي ينبني طبقًا لعلاقة بالنص، يضع فيها النسق المهيمن نفسه في هُوية معه. وهنا يتجلَّى الجانب الآخر لمعركة أبو زيد؛ التي لم تكن — والحال كذلك — ضد أشباح الأيديولوجيا المنفلتة فحسب، بل وضد الإفقار المعرفي الكامل للنص، الذي لا بد أن تنتهي إليه أي أيديولوجيا تعمل على نحو خفي ومنفلت.
وإذ يعتقد الكثيرون أن اجتهاد أبو زيد مقطوع الصلة بالكلية عن تراث الإسلام الزاخر، فإنه يلزم التأكيد على أنه إذا كان جوهر عمل نصر واجتهاده يقوم، في العمق، على كيفية في تأسيس العلاقة مع النصوص؛ لا بما هي علاقة سلطة، بل بما هي علاقة حوار، فإن هذا التصور، الذي يقوم عليه اجتهاد الرجل، إنما يضرب بجذوره في قلب اللحظة الأكثر مركزيةً التي تحدَّدت فيها مصائر الإسلام بأسره؛ وأعني بها لحظة الفتنة. وفقط فإن هذا التصور قد راح يتعرَّض لعمليات إقصاء وإزاحة انتهت، ليس فقط إلى إخراجه من ساحة الإسلام، بل وإلى اعتبار حامله خارجًا عن الدين والملة.
فعندما اتجه الصحابي الجليل «عمار بن ياسر» — إبَّان وقعة صفين — بخطابه إلى بني أمية قائلًا: «نحن ضربناكم على تنزيله، واليوم نضربكم على تأويله»، فإنه كان يكشف عن وعي لافت بحقيقة أن الصراع الذي تفجَّر في تلك الوقعة الأسيفة — التي لعبت الدور الأبرز في توجيه ما جرى في الإسلام على صعيد السياسة والثقافة — هو صراع على التأويل، في الجوهر. وإذا كان سؤال التأويل هو، على نحو ما، سؤالًا عن الكيفية التي تتأسَّس بها العلائق مع النصوص، فإن ذلك يعني أن ما جرى آنذاك كان، في أحد وجوهه، صراعًا على كيفية تأسيس العلاقة مع النص (الذي هو القرآن بالطبع).
وللمفارقة فإن التأمل في مواقف الفريقين المتقاتلين في صفين، يكشف عن كيفيتين متباينتين في تأسيس العلاقة النص/القرآن. فإنه إذا كانت واقعة رفع المصاحف على أسنة الرماح تمثِّل استدعاءً صريحًا للنص ليلعب دورًا في الصراع السياسي المحتدم، فإن ما تنطوي عليه تلك الواقعة من دلالة القران والربط بين المصحف والرمح أو السيف، يكشف عن تصور «بني أمية» للعلاقة مع النص بما هو قوة هيمنة وإخضاع، وهي العلاقة التي تحقَّقوا من أن تكريسها هو أكثر نجاعةً من السيف نفسه؛ وذلك من حيث ما تأدَّت إليه من إيقاف حرب لم يُفلِح السيف وحده في وضع حد لها. وهكذا فإن النص، ومع بني أمية بالذات، كان لا بد أن يتحوَّل إلى سلطة، أو — بالأحرى — إلى قناعٍ لسلطة تحتجب خلفه وتمارس تحت رايته أقسى ضروب التسلط والقمع. فإنه إذا كان السيف هو أداة بناء السلطة وحراستها، فإن ما حدث من تعليق النص/القرآن عليه، سوف يجعل منه (أي القرآن) محض امتداد للسيف في تثبيت نفس السلطة وحراستها. وبالطبع فإنه حين يُصبح دور النص هو حراسة السلطة، فإن تلك السلطة سوف تكون هي الأحرص — حمايةً لنفسها — على تحويله، هو نفسه، إلى سلطة؛ وبما يعنيه ذلك من التعالي به عن إمكانية أن يكون موضوعًا للقراءة والسؤال، حيث ستصبح مساءلة النص مساءلةً لسلطة السياسة التي تحتجب خلفه. وهكذا فإنه يتم — ضمن هذا السياق — إلغاء التمييز بين «سلطة السياسة» وبين «سلطة النص»، وعلى النحو الذي جعل معاوية يعتبر ما قضى به من توريث سلطته لابنه يزيد، بمثابة القضاء النازل من الله، والذي لا راد له أبدًا. وليس من شك في أن تحوُّل النص إلى سلطة لا بد أن يدخل به إلى دائرة التكرار والجمود؛ وذلك لاستحالة التعاطي معه، بما هو سلطة، على نحو يسمح بتفجير دلالاته الكامنة الخصبة. وفقط سيصبح النص «أيقونة» يتبرَّك بها الناس ويتمسَّحون بها ويُتمتمون بمفرداتها، ولكنه سيفقد كل حياته وديناميته.
وإذا كانت تلك الكيفية في العلاقة مع النصوص هي التي تحقَّقت لها الهيمنة والسيادة كاملةً في الإسلام، فإن ما صار إليه الإمام علي — في تعليقه على ما قام به بنو أمية من رفع المصاحف على أسنة الرماح — من «أن القرآن كتاب مسطور بين دفتين، لا ينطق بلسان، وإنما ينطق عنه الرجال»، إنما يكشف عن كيفية أخرى في تأسيس العلاقة مع النصوص؛ تنبني على الإقرار بدور بالغ المركزية للإنسان في إنتاج دلالة النص، وبما يترتب على ذلك من ضرورة تصور النص، لا بما هو قوة إخضاع وإجبار، بل بما هو ساحة للتفاعل والسؤال والحوار. ولعل ذلك ينبني على حقيقة أنه إذا كان الإنسان يدخل (وعيًا وواقعًا) في تركيب وحي التنزيل (وهو ما يُستفاد، من جهة، من تعدُّد وتباين لحظات هذا التنزيل بحسب حاجات الواقع ومستوى تطور الوعي، كما يُستفاد، من جهة أخرى، من حقيقة أن القرآن نفسه قد ظل يتنزَّل وحيًا على مدًى يقترب من ربع القرن متجاوبًا مع أسئلة الوعي والواقع)، فإنه يستحيل تصور هذا الإنساني معزولًا عن فعل التأويل.
وهنا تحديدًا تضرب طريقة نصر في مقاربة النص — لا كسلطة، بل كساحة للحوار والسؤال — بجذورها العميقة. إنه يتواصل، مُسلَّحًا بكل ما تم إنتاجه على مدى القرون من أدوات ورؤًى منهجية ومعرفية، مع ما يمكن القول إنها طريقة الإمام علي في مقاربة النصوص. وغني عن البيان أنه إذا كانت الهزيمة السياسية للإمام علي قد انتهت إلى الإقصاء والتهميش الكامل لطريقته، فإن أي سعي لاستعادتها من ركام المُهمَّش والمسكوت عنه كان لا بد أن يجد نفسه، لا في مواجهة سلطة السياسة فقط، بل وفي مواجهة سلطة السائد والمستقر؛ وهي الأعنف والأعتى.
وإذا كان الباب قد انفتح واسعًا مع هزيمة الإمام علي وإقصاء طريقته، أمام بني أمية لتثبيت طريقتهم في تأسيس العلاقة مع النصوص بما هي علاقة سلطة وإخضاع — وذلك كجزء من سعيهم إلى تحصين سلطتهم وحراستها — فإنهم قد راحوا يراوِغون معتبرين التنكر لطريقتهم تلك، بمثابة نوع من الإنكار للنص نفسه. ولقد كانت تلك المراوغة — وتظل للآن — هي السلاح الذي يجري الانتقام به من نصر أبو زيد؛ حيث جرى التعامل مع دعوته للتحرر من «سلطة» النصوص، باعتبارها دعوةً للتحرر من النصوص. وبالطبع فإنه إذا كان لا يمكن لأحد، البتة، أن يقول بإنكار الإمام علي للنص، حيث الأمر يتعلق فقط بإنكاره لضرب من العلاقة معه؛ فإنه لا يمكن، بالمثل، القول بإنكار نصر أبو زيد للنصوص، بل الأمر يتعلَّق أيضًا بإنكاره لضرب من العلاقة معها تكون فيها «سلطة» لا سبيل بإزائها إلا للترديد والتكرار، وليست «نقطة بدء وساحة حوار» ينطلق منها الإنسان وعليها، إلى بناء وعي مطابق بعالمه، وذلك عبر التفاعل والسؤال. وللمفارقة فإن تصور النص كسلطة لا يئول فقط إلى إهدار الوعي الذي لن يكون مسموحًا له، بإزاء تلك السلطة، إلا أن يكرَّر ويردَّد، بل وينتهي إلى الإفقار المعرفي الكامل للنص نفسه؛ وذلك من حيث يستحيل عبر الترديد والتكرار الكشف عن كل ما يكتنزه من ممكنات خلَّاقة هي أساس حياته الحقة. وإذن فإنه التباين بين موقفين من النص؛ أحدهما يجعله قوة إبداع، والآخر يجعل منه قوة إخضاع، أو هو التباين، في العمق، بين إبستمولوجيا تبغي «التحرر»، وبين أيديولوجيا تكريس «التسلط». وإذن فإنها الأيديولوجيا، وهي ترتدي عمامة الدين وتسرق قداسته؛ لتحرس «سلطة» أدركت — منذ البدء — ضرورة التلاعب بالدين من أجل إنقاذ بؤسها؛ ولو كان ذلك عبر تحويل تلك الأيديولوجيا إلى أن تكون «دينًا» يتعبَّد به الناس ربَّهم على مدى تاريخ طويل. وإذا كان فضح تلك الأيديولوجيا بمثابة تحرير للدين في العمق، فإنه لن يكون غريبًا أن تجعل تلك الأيديولوجيا من الساعي لتحرير الدين من براثنها، كافرًا به. لكنه يبقى أن هذا التكفير هو انتقام «الإيديولوجيا»، وليس «الدين» أبدًا.
وبالطبع فإن أبو زيد قد انحاز — ودفع ثمنًا باهظًا لهذا الانحياز — للموقف التحريري لكلٍّ من الدين والنص معًا، وراح يسعى في سبيل بلورة إطار مؤسسي يستوعب اجتهاده المعرفي ويقوم عليه؛ وهو الإطار الذي بدأ يتفتَّح في الفضاء الإندونيسي من خلال المعهد الدولي للدراسات القرآنية الذي كان محط اهتمام عديد من الشخصيات المؤثرة في عالم الإسلام، كان على رأسهم الرئيس الإندونيسي الراحل عبد الرحمن واحد وغيره، من الذين يدركون أزمة المجتمعات الإسلامية مع نفسها ومع غيرها، ويؤمنون بقدرة الإسلام على الإسهام الفاعل في إغناء عالمنا الراهن.