حين خاطب أبو بكر مبايعيه: «إن أحسنت فأعينوني، وإن
أسأت فقوِّموني»، فإنه كان يكشف عن تصوُّره لضرورة خضوع
السلطة لرقابة المجتمع ومحاسبته؛ وهو التصور الذي يمكن
القول، مع التجاوز، إنه قد ساد على مدى حقبة الخلافة
الراشدة. ولعل انفجار ما عُرِف بالفتنة ليكشف عن
«مجتمع» يرى لنفسه حقًّا في مراقبة ومحاسبة «سلطة» شاءت
أن تنزع منه هذا الحق، فأطاح بها بعنف؛ فبعد انتهاء
الحقبة النبوية التي كانت سلطة النبي أثناءها موضوعًا
لرقابة «السماء»، فإنه بدا أن انقطاع صوت السماء بموته،
قد نقل حق الرقابة والمحاسبة إلى مجتمع الأمة وجماعتها؛
الذي بات صوتها هو وريثَ صوت السماء.
وغني عن البيان أنه قد جرى تسويغ هذا الحق للمجتمع
تحت الغطاء الشرعي لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر؛ الذي كاد أن يُصبح ستارًا لكل تدخُّل في الشأن
العام، وذلك بحسب ما يُستفاد من عبارة عبد الملك بن
مروان المتوعدة. وإذ يحيل ذلك إلى أن المبدأ قد تبيَّن،
والحال كذلك، كأداة يمارِس من خلالها المجتمع حقه في
تقويم السلطة وضبطها، فإن هذا الحضور للمبدأ سرعان ما
انقلب كليًّا، مع انقلاب السلطة — بعد الفتنة — من
الخلافة الراشدة «الشوروية» إلى المُلك العضوض «المستبد».
١ ذلك أنه إذا كان هذا الانقلاب قد آل،
بطبيعة الحال، إلى هيمنة السلطة على المجتمع وإخضاعه
على نحو كامل، فإن ما يُثير العجب حقًّا أن يكون هذا
الإخضاع للمجتمع، والتسلط عليه وقمعه، قد تحقَّق من
خلال احتياز السلطة لمبدأ الأمر والنهي وتأميمه
لحسابها. والحق أن المبدأ قد تحوَّل في إطار الدولة
السلطانية المتأخرة إلى ما يُشبه أداتها أو جهازها
السلطوي القائم على وظيفة قمع المجتمع وقهره. ولعل ذلك
يحيل إلى أن تاريخ المبدأ يكاد، في جوهره، أن يكون
تاريخ السعي إلى ضبط السلطة والتحكم فيها، أو إطلاقها
على نحو تنحلُّ فيه من الرقابة والتقويم.
وإذا كانت السلطة التي احتازت على المبدأ منذ ما بعد
أحداث الفتنة مباشرة، قد عمدت، كجزء من امتلاكها له
وتوظيفه لصالحها، إلى تفريغه من أي حمولة سياسية،
وإكسابه دلالةً أخلاقية تتمكَّن معها من استخدامه في
تطويع الأفراد وترويضهم (حيث لا مجال لعمل الأخلاقي إلا
ضمن حدود الفردي)، فإنه يلزم السعي إلى استعادة ذلك
التاريخ المهمَّش الذي تسعى السلطة، للآن، إلى طمسه
وإخفائه. ولعل القيمة القصوى لذلك تتأتى من الوعي
المتزايد بأن ملمحًا جوهريًّا من ملامح الأزمة العربية
الراهنة يتبدَّى في تغوُّل السلطة واحتلالها للفضاء
السياسي منفردة، وعلى النحو الذي تمكَّنت معه من سحق
المجتمع وطرده — على نحو كامل — من ذلك الفضاء
المؤمَّم. ومن حسن الحظ أن التداول القرآني لذلك المبدأ
يتكشَّف عن انطوائه على تلك الحمولة السياسية التي يمكن
عبر استعادتها أن ينفتح الباب أمام المجتمع لاسترجاع
دوره في الفضاء السياسي الذي طال تاريخ استبعاده وطرده
منه.
التداول القرآني للمبدأ
على تعدد ورود مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر» في القرآن، فإن ثمة ما يمكن ملاحظته مما
تتكشَّف دلالته عن كيفية معينة في مقاربة القرآن
لهذا المبدأ. ولعل أول ما تجدر ملاحظته هو غلبة
ورود المبدأ في صورة «الفعل»،
٢ وذلك باستثناء مرة واحدة ورد فيها في
صورة «اسم الفاعل».
٣ وفيما يتعلَّق بالورود في صورة
«الفعل»، فإن أغلب الفعل كان في صيغة «المضارع»،
إلا في مرة واحدة جاء فيها الورود في صيغة «الأمر»،
وباستثناء مرة واحدة ورد فيها الفعل في إطار جملة شرطية،
٤ فإن استخدامه يكون في جمل بسيطة على
العموم. وعلى الدوام فإن خطاب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر يكون للعموم (ولو كان عمومًا يتم
تخصيصه بعموم أقل، وعلى اختلافٍ بين المفسرين في ما
يتخصَّص به هذا العموم) وذلك أيضًا إلا في حالة
واحدة ورد فيها الخطاب للخصوص (وهي المرة التي ورد
فيها المبدأ في صيغة فعل «الأمر»).
٥ والملاحَظ أن مصدر الأمر في المرة التي
ورد فيها الخطاب للخصوص كان الإنسان (لقمان لابنه)،
وأما في حال العموم فإن الخطاب يكون منطوقًا به،
على الدوام، من خلال الصوت الإلهي. إن ذلك يعني أنه
إذا كان الله والإنسان يشتركان في النطق بخطاب
«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، فإنه فيما ينطق
به الله «مخبرًا» — في الأغلب — عن الحال الواجب أن
يكون عليها الإنسان،
٦ فإن الإنسان لا ينطق به — ولو كان يفعل
ذلك لمرة واحدة فقط — إلا «آمرًا». وللمفارقة فإن
ذلك يعني أن الإنسان ينطق به بما هو «سلطة» فيما
ينطق الله به كشاهد.
ولعل دلالة الورود في صيغة «الفعل» تتبدَّى فيما
يئول إليه ذلك من تصور الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر بوصفه «ممارسة» لفعل، وليس «وصفًا» لحال
الفاعل، وأما أن يكون ذلك الفعل «مضارعًا» فإنما
ليؤكِّد على أنها ممارسة مفتوحة وقيد التحقق (وليست
شيئًا تحقَّق في الماضي أو يُنتَظر تحقُّقه في
المستقبل). وبالطبع فإنه يترتب على ذلك أن يكون
خطاب الأمر بالمعروف والنهي هو، في جوهره، وصف
لفعل، بأكثر مما هو وصف لماهية مكتملة قائمة. وبما
هو، والحال كذلك، وصف لفعل الإنسان المؤمن بأكثر
مما هو وصف لعين قائمة بذاته (كالإيمان مثلًا)،
فإنه يُحيل إلى تصور الإيمان بما هو «فعالية قيد
التحقق»، وليس بما هو عين أو ماهية مكتملة ثابتة.
وضمن هذا السياق فإن فعل «الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر» لا يقوم بوصفه علامةً على ماهية سابقة
عليه، بقدر ما هو وسيلة تحقُّق وقيام تلك الماهية.
وبعبارة فلسفية، فإن الماهية لا تكون سابقةً على
الفعل، بل إنها تتحقَّق به ومعه ومن خلاله.
ولعله يرتبط بذلك أن تصور الإيمان كماهية أو عين
قائمة وسابقة على الفعل لا بد أن يفتح الباب أمام
إمكان تعطيل «الأمر والمعروف والنهي عن المنكر»،
فيما يئول تصوره «فعالية تتحقَّق من خلال الفعل»
إلى غلق الباب أمام إمكانية ذلك التعطيل. ومن هنا
ما ستتكشَّف عنه المنظومات العقائدية من التجاوب
بين تصور الإيمان من جهة، وبين تفعيل مبدأ الأمر
بالمعروف على نحو كامل وغير مشروط أو إحاطته بسياج
من الشروط التي تكاد تنتهي إلى رفعه وتعطيله من جهة
أخرى. وهكذا فإن من تصوَّروا الإيمان عينًا قائمة
بالذات (لا تزيد ولا تنقص، ولا تضر معها معصية)
٧ قد أفاضوا في طرح الشروط التي ضاق معها
مبدأ الأمر بالمعروف إلى حد التلاشي؛ وهو ما تجلَّى
في ما صار إليه الجويني من اعتبار الفاسق مؤمنًا،
وذلك بالرغم من أنه فاعل — لا محالة — للمنكر بما
هو مرتكب للكبيرة، وأمَّا من صهروا الإيمان في
هُوية واحدة مع الفعل؛ وبما يعنيه ذلك تصوُّر الفعل
هو عين الإيمان وليس مجرد علامة عليه،
٨ فإنهم قد اتسعوا بالمبدأ إلى حد
اعتباره أحد أصول الإيمان، وهو ما استقرَّ عليه
المعتزلة والشيعة الزيدية على الخصوص.
وفي السياق نفسه، فإن ذات التباين بين موقفين
يُلِح أحدهما على صهر الماهية مع الفعل، فيما يمضي
الآخر إلى الفصل بينهما؛ وأعني من حيث يرى الماهية
عينًا قائمة ومتحقِّقة بصرف النظر عن الفعل، سوف
ينعكس في موقف مفسري القرآن من آية:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ.
٩ فإنه إذا كان ثمة من مضى إلى أن «خيرية
الأمة» موقوفة على تفعيل مبدأ الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، فإن ثمة، في المقابل، من راح
يتصوَّر تلك الخيرية كامتياز مطلق ونهائي للأمة بما
هي كذلك. فإذ يروي «ابن كثير» عن البعض ما يقطع بأن
«الخيرية» مشروطة بفعل؛ وذلك بحسب ما أورد من أن
«رجلًا قام إلى النبي
ﷺ وهو على المنبر،
فقال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: خير الناس
أقرؤهم وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن
المنكر وأوصلهم للرحم»،
١٠ فإنه يروي عن آخرين ما يكشف عن أن
«الخيرية» امتياز مطلق تفرَّدت به الأمة بما هي أمة
أفضل الرسل الذي يُروى عنه أنه قال: «أُعطيت ما لم
يُعطَ أحد من الأنبياء، فقلنا يا رسول الله ما هو؟
قال: نُصرت بالرعب، وأُعطيت مفاتيح الأرض، وسُميت
أحمد، وجُعل التراب لي طهورًا، وجُعلت أمتي خير الأمم.»
١١ وبالطبع فإن خيرية الأمة، هنا، لا بد
أن تكون وضعًا مطلقًا وغير مشروط، وذلك ابتداءً من
انبنائها على «أفضلية» النبي؛ التي هي أيضًا وضع
مطلق وغير مشروط بالمرة.
١٢ والحق أن ما ورد من تفضيل الأنبياء
بعضهم على بعض لم يكن إلا مقدمةً لِمَا شاع من
تفاضل الأمم؛
١٣ وبما يعنيه ذلك من أنه «لا خلاف في أن
أمة محمد أفضل الأمم»
١٤ لأنه هو «أفضل الأنبياء». وإذ تتضارب
الروايات عن النبي، بخصوص الأصل المنتج لخيرية
الأمة، على هذا النحو، فيما بين اعتبارها نتاجًا
لفعل الأمة، أو اعتبارها هبةً مُعطاة من غير تبرير،
فإن قراءةً للمأثور عن النبي بالقرآن — بمثل ما شاع
من قراءة القرآن بذلك المأثور — تكاد تئول إلى
الانحياز لاعتبار تلك الخيرية نتاج عمل.
والملاحَظ أن ذلك الانشطار قد راح يُعيد إنتاج
نفسه على صعيد رؤية المسلمين لموقعهم من الأمم
السابقة؛ إذ «كانت هناك، فيما يتعلَّق برؤية موقع
المسلمين من الأمم السالفة التي استُبدِلوا بها،
نظرتان؛ الأولى ترى أن هذه «السنة» تسري على
المسلمين أيضًا، فإن بدَّلوا وغيَّروا استُبدِل بهم
(وبما يعنيه ذلك من أن استخلافهم وتوريثهم الأرض
مرتبط بفعل وجهد). وكان هناك من قال: إن المسلمين
هم آخر «الأمم» قبل يوم القيامة (وبما يعنيه ذلك من
أن استخلافهم وتوريثهم الأرض قائم لآخر الزمان بصرف
النظر عن الفعل أو عدمه). ظهر ذلك في مثل الأثر
القائل: سيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل. وفي مثل: لا
يزال قوم من أمتي ظاهرين على الحق. وفي مثل قولة
الحسن البصري: أمتكم آخر الأمم … فلا أمة بعد أمتكم
ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم! أنتم
تسوقون الناس والساعة تسوقكم.»
١٥ ولعله يلزم التنويه بما يبدو متواترًا
من إسناد الوضع الذي يكون للأمة إلى الوضع الذي
يكون للنبي؛ فهي الأمة «الخاتم» ابتداءً من أن
نبيها هو النبي الخاتم، تمامًا بمثل ما هي الأمة
الأفضل بين الأمم؛ لأن نبيها هو الأفضل بين كافة
الأنبياء.
ولقد تحقَّق الانقسام نفسه بين الماهية
المتحقِّقة للأمة أوليًّا كضرب من الاختصاص
والامتياز، وبين تلك الماهية كنتاج لجهد وفعالية
مسبقة، وذلك فيما يتعلَّق بما ورد من قوله:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ.
١٦ فإذ جرى تفسير ذلك القول بأن هناك
«أمةً منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأولئك هم
المفلحون، «فإن» الضحاك قال: «هم خاصة الصحابة
وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء».»
١٧ وغني عن البيان أن تنصيب الأمة أو
الجماعة (موضوع الخطاب القرآني) في ذلك الموقع
المخصوص لا يكون — تبعًا لذلك — محض امتياز تتحصَّل
عليه تلك الأمة على سبيل الهبة المعطاة من الله
مثلًا، بل يكون موقوفًا — حسب تفسير الضحَّاك — على
«فعل وعمل»؛ ويعني ما تقوم به من الجهاد والعلم.
وبالطبع فإن ذلك التفسير الذي يشرط «الماهية» بما
يسبقها من «الجهد» يختلف كليًّا عما يُنسب إلى
«معاوية» — وهي نسبة ذات دلالة بالغة — من أنه يفك
هذا الوضع المخصوص لتلك الأمة من الارتهان إلى أي
فعل أو جهد، ويراه محض امتياز للعرب دون غيرهم من الناس.
١٨ وإذن فإنه التباين بين تصور «الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر» شارط لماهية الأمة، أو
إن تلك الماهية تتحدَّد بذاتها، وليست مشروطةً بشيء
من خارجها أبدًا. ولسوء الحظ فإن الملاحظة تكشف عن
أن ما استقرَّ في الوعي العمومي هو أن ماهية الأمة
المسلمة — بل وحتى الفرد المسلم — هي ماهية متعالية
وتملك امتيازها في ذاتها، وغير مشروطة بفعل أو جهد.
ولعل الأمر لم يقف — لسوء الحظ — عند مجرد هذا
الوعي العمومي، بل تجاوزه إلى رائد كبير في حجم
«الطهطاوي» الذي لم يمنعه ما صار إليه من أن «الأصل
في تباين الأمم وتفاضلها هو ترقيها في العلوم
والصنائع»؛ وبما يعنيه ذلك من أن الأمة تتمايز عن
غيرها بما تبذل من جهد تترقَّى به (في مجال التقنية
والعلم)، من أن يقرِّر «أن أقسام الدنيا الخمسة يصح
تفضيل بعضها على بعض؛ يعني تفضيل جزء بتمامه على
الآخر بتمامه بحسب مزية الإسلام وتعلقاته؛ فحينئذٍ
تكون آسيا أفضل الجميع، ثم تليها أفريقيا لعَمَارها
بالأولياء والصلحاء، خصوصًا باشتمالها على مصر
القاهرة ثم تليها أوروبا لقوة الإسلام ووجود الإمام
الأعظم إمام الحرمين الشريفين سلطان الإسلام فيها
ثم بلاد الجزائر البحرية لعَمَارها بالإسلام أيضًا
مع عدم تبحُّرها في العلوم، فأدنى الأقسام بلاد
أمريكا حيث لا وجود للإسلام بها أبدًا.»
١٩ وهكذا فإن تخلُّف الأمة في العلوم
والصنائع لم يَحُل، ابتداءً من اكتسابها «مزية
الإسلام» دون أن تكون هي الأفضل بين الأمم. وإذ
ينبني ذلك على تفاؤلية الطهطاوي بخصوص قدرة الأمة
على اكتساب مزية الترقي في العلوم والصنائع عبر
الجلب من الأوروبيين، وعلى النحو الذي اندفع معه
يستوعب ذلك الانشطار بين تأسيس فضل الأمة على «مزية
الإسلام» أو «مزية الترقي في العلوم» ضمن منطق
الجمع — من دون أي إحساس بالتناقض — بين الثنائيات
المتجاورة التي يزخر بها نصه، فإن وَرَثَته — ومع
تزايد يأسهم من بلوغ مزية التقدم الذي بلغه غيرهم —
قد راحوا، وعلى سبيل التعويض، يُلِحون على محض
الإسلام كمزية متفرِّدة للأمة التي سوف يصفها البعض
بأنها الأمة الربانية؛ وذلك فيما يبدو وكأنه
الاستعادة لميراث شعب الله المختار القديم؛ الذي
ابتدره الله بالاصطفاء لا لفعل منه، بل بمحض مشيئته
غير القابلة للتفسير.
والحق أن هذا الموقف الذي تتحدَّد فيه ماهية
الأمة المسلمة — وكذلك ماهية الفرد المسلم —
بذاتها، وبمعزل عن أي فعل أو جهد، لمَّا يتعارض مع
ما يفرضه السياق الذي وردت فيه نصوص الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في القرآن؛ وأعني من حيث يتكشَّف
هذا السياق عن طابع عملي (أخلاقي وسياسي) بالكلية.
فإذ يورد القرآن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مقترنًا، على الدوام، بركن عبادي (إقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة) وأخلاقي كالدعوة إلى الخير
على العموم، وهما ركنان عمليان بالطبع، فإن مما له
دلالة في هذا السياق، أن جُل النصوص التي وردت
بالمبدأ هي ممَّا نزل به الوحي في المدينة.
٢٠ ولعل دلالة غلبة الورود في الوحي
المدني تتأتى ممَّا يُحيط بذلك من معانٍ سياسية
لافتة؛ وأعني ابتداءً من أن المدينة، وليست مكة،
كانت هي التي شهدت بِناء الدولة وحصول التمكين
السياسي للإسلام. وليس من شك في ما يعنيه ذلك من أن
التمكين السياسي الذي اكتمل للإسلام في المدينة،
كان هو المؤطر لتواتر الوحي بمبدأ الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر. ولحسن الحظ فإن واحدةً من الآيات
«المدنية» لا تفعل إلا أن تعلِّق ذلك «الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر» على شرط التمكين
(السياسي) في الأرض.
٢١ وليس من شك في أن ذلك، لا سواه، هو ما
يقف وراء ما صار إليه «المودودي» من أن «نظام
الاستخلاف في الأرض لا يمكن أن يتغيَّر ويتبدَّل
بمجرد وجود فرد صالح أو أفراد صالحين مشتَّتين في
الدنيا، ولو كانوا في ذات أنفسهم من أولياء الله
تعالى، بل ومن أنبيائه ورسله. إن الله لم يقطع ما
قطع من المواعيد لأفراد مُشتَّتين، وإنما قطعها
لجماعة منسَّقة متمتعة بحسن الإدارة قد أثبتت نفسها
فعلًا أمةً وسطًا، أو خير أمة في الأرض.»
٢٢ وبالرغم مما يستهدفه المودودي من
التأكيد على جوهرية تبلور «الجماعة الإسلامية» —
بما هي جماعة طليعية قائدة — كمقدمة لتحقيق الوعد
الإلهي بالاستخلاف، فإنه يبقى — على العموم — أن
تفعيل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كفعل
أخلاقي) موقوف على شرط التمكين السياسي، وبما يُحيل
إليه ذلك من أن «السياسي» هو الشارط
للأخلاقي.
ولعل تلك المشروطية تكشف عن بؤس ما يروِّج له
الخطاب الديني السائد (وبالذات في قناعه «الدعوي
الجديد» الذي يكاد في مواكبته لِمَا يُسمى
بالليبرالية الجديدة أن ينتهي إلى تحويل الدين إلى
محض ساحة للخلاص الفردي الذي يبدو — حسب هذا الخطاب
— ممكنًا بمعزل عن أي شروط مجاوزة للفرد) من أن
إصلاح «الأخلاق الفردية» هو المدخل لإصلاح ما يعتور
الواقع الاجتماعي والسياسي العربي من السقوط
والانحطاط. فالمبدأ الأخلاقي لا يعمل أبدًا منفردًا
وخارج أي نظام، بل يعمل ضمن سياق منظومة يتآزر فيها
مع غيره، يفقد خارجها قدرته على التأثير، وإلى حد
أنه يتحوَّل — خارجها — إلى مجرد أيقونة أو شعار
فارغ يغطِّي بؤس الواقع وفساده. ويرتبط ذلك، لا
محالة، بحقيقة أنه فيما يئول فساد السياسة إلى
إفساد أخلاق الفرد، فإن صلاح أخلاق الفرد لا يؤدِّي
إلى إصلاح فساد السياسة؛ حيث السياسة هي «المجال
العام» الذي يتشارك فيه الأفراد، ولكنه لا يمثِّل
حاصل جمع المجالات الخاصة بهؤلاء الأفراد، بل إنه
يبقى رغم — أو حتى بفضل — ابتلاعه لها في جوفه،
مجاوِزًا لها في الآن نفسه. وهنا تحديدًا تتجلى
الدلالة القصوى لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر؛ وأعني في التكشف عن مشروطية الأخلاقي
للسياسي، وعلى نحو يصبح معه إصلاح واقع الانحطاط
الكلي العربي الراهن هو الإطار اللازم لإصلاح فساد
الأفراد، وليس العكس بحسب ما يصرِّح الخطاب الديني
المتداوَل الذي يُلِح على تكريس أيديولوجيا الخلاص
الفردي، ليبقى المجتمع خارج السياسة. وبالطبع فإن
ذلك لا يعني الانحياز للأيديولوجيا الانقلابية التي
تتبنَّاها جماعات الإسلام السياسي الراديكالية
(والتي لا تستهدف، للمفارقة، استدعاء المجتمع كطرف
فاعل في المجال السياسي، بل تستهدف توظيفه في
معركتها ضد الدولة ثم ممارسة نفس تسلط الدولة
القائمة عليه)، بقدر ما يعني أنه لا فاعلية أبدًا
للفردي إلا ضمن سياق يتعدَّاه ويتجاوزه.
التداول الكلامي للمبدأ
لعله يُشار، على العموم، إلى أن مسار الممارسة في
الإسلام، بجانبيها السياسي والمعرفي، يتكشَّف عن
الانشطار بين اتجاهين؛ يتعالى أحدهما بما يؤسِّس
لوضع ما — كخيرية الأمة على سبيل المثال — إلى
الميتافيزيقي المفارق غير القابل للتعيين والتحديد،
وذلك في مقابل اتجاه آخر يُصِر على التنزُّل بهذا
الوضع إلى شرطه في الواقع الإنساني. وبالطبع فإنه
فيما جاء الانحياز إلى الاتجاه الأول صريحًا من كل
من يعملون على تثبيت امتيازاتهم باعتبارها وضعًا
إلهيًّا لا سبيل إلى منازعته أو تغييره، فإن أولئك
الساعين إلى عالم أكثر عدالةً وإنسانية قد عملوا
على كشف الشرط التاريخي والواقعي الكامن وراء
الميتافيزيقي المفارق. وإذا كان هذا الانشطار قد
حدَّد، وعلى نحو كامل، بناء المنظومات العقائدية في
علم الكلام، فإنه كان لا بد أن ينعكس على بناء مبدأ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخله. وهكذا فإنه
وبالرغم من أن نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر في القرآن، هي من قبيل المجمل الذي يحتاج
إلى بيان؛ وبكيفية كان لا بد أن ينفتح معها الباب
أمام تعدُّد هذا البيان وتنوُّعه، فإنه يبقى أن
المواقف البيانية المتنوعة تقبل الاندراج، أو تكاد،
ضمن ذلك الانشطار الذي يمكن اعتباره الملمح الأهم
للمنظومة الكلامية.
ولعل ثنائية الإجمال والبيان هي ما يقف وراء ما
قطع به «ابن حزم» من أن الأمة قد «اتفقت كلها على
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بلا خلاف من
أحد منها في ذلك … ثم اختلفوا في كيفيته"»؛
٢٣ وبما يعنيه ذلك من أنه الاتفاق على
المجمل، ثم الاختلاف على البيان المفصِّل لهذا
المجمل. ورغم ما يبدو من أن الاختلاف حول كيفية
«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» قد انبنى على
حديث النبي: «من رأى منكم منكرًا فليقومه بيده، فإن
لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
الإيمان»، فإنه يلزم التأكيد على أن هذا الاختلاف
لم يكن نتاج محض تباين العقول في الفهم والتفسير،
بقدر ما يعكس تباينًا في المواقف والانحيازات
السياسية من الإشكالية الأهم التي كانت أول ما جرى
الاصطراع حوله بعد وفاة النبي مباشرة؛ وأعني بها
إشكالية السلطة.
٢٤ وبالطبع فإن ذلك يعني أن «المنكر» الذي
تباينت حوله مواقف الفرقاء لم يكن من قبيل المنكر
الأخلاقي، بل كان منكرًا سياسيًّا بالأساس. وإذا
كان ذلك لا يعني الغياب الكامل لأي دلالة أخلاقية
للمنكر (المنهي عنه) أو المعروف (المأمور به)، فإنه
يبقى أن الدلالة السياسية للمفهوم هي الأظهر في
التداول الكلامي له. وهكذا فإنه إذا كانت السياسة
لا تغيب عن دلالة المفهوم في الاستعمال القرآني
(وأعني من خلال شرطه بالتمكين)، فإنها تُصبح قلب
المفهوم ومركزه في الاستعمال الكلامي له.
٢٥ ويرتبط ذلك، لا محالة، بحقيقة أن علم
الكلام ليس — في جوهره — إلا محض لغة دينية مورست
من خلالها السياسة في الإسلام. ومن هنا، إن
المفاهيم قد خضعت في سياقه لمقتضيات النطق
السياسي.
ولعل ذلك ما يؤكِّده أن المفهوم قد جرى استدعاؤه
للاشتغال، لأول مرة، إبَّان تفجُّر أحداث ما عُرف
بالفتنة الكبرى؛ التي كان واردًا أن يجري النظر
إليها، بما هي «فتنة» و«كبرى»، على أنها «منكر
سياسي». وككل منكر يحتاج إلى التقويم (بالقلب أو
اللسان أو اليد)؛ فإن مواقف الفرقاء المنخرطين في
الفتنة، كمنكر سياسي، قد حدَّدت نوع «البيان» الذي
بدأ في التبلور حول المفهوم، وإلى الحد الذي يكاد
معه هذا البيان أن يكون خاضعًا بالكلية لتوجيه ذلك
الحدث الفاجع. وهكذا فإنه إذا كانت مواقف الفرقاء
قد تراوحت بين موقف رأى فيه أصحابه أن ينأوا
بأنفسهم عن الحدث ويعتزلوه كليًّا، وبين موقف انخرط
فيه آخرون في الحدث كفاعلين وصانعين له، وذلك على
تباين وتعارض اختياراتهم وانحيازاتهم السياسية، فإن
ذلك الانقسام بين موقفين كان هو المحدِّد للاختلاف
حول كيفية تغيير المنكر. ولعل ذلك ما يُستفاد، على
نحو صريح، من تعيين ابن حزم للتباين بين منظومتين
كلاميتين حول كيفية «الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر»؛ حيث «ذهب أهل السنة من القدماء من الصحابة
رضي الله عنهم، فمن بعدهم، وهو قول أحمد بن حنبل
وغيره، وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وابن
عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم، إلى أن الغرض من ذلك
إنما هو بالقلب فقط، أو باللسان إن قُدر على ذلك،
ولا يكون باليد ولا بسل السيوف، ووضع السلاح أصلًا.»
٢٦ وإذ يقال إن «أهل السنة (قد) اقتدوا في
هذا بعثمان رضي الله عنه، وبمن ذكرنا من الصحابة
رضي عنهم، وبمن رأى القعود منهم»،
٢٧ فإن ذلك يعني أن هذا الموقف من «الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر» إنما يُعدُّ امتدادًا
لِمَا يمثِّله عثمان، ولأولئك الذين ظاهروه على نحو
ما حين آثروا الانسحاب والقعود أثناء انفجار أحداث
الفتنة. ولعل ذلك ما يؤكِّده أن قراءةً لمجمل
الأسماء التي أوردها ابن حزم، كمعبِّرين عن هذا
الموقف الذي يربط «تغيير المنكر» بالقلب أو اللسان
(على شرط القدرة)، تكشف عن أن معظمهم (وتحديدًا سعد
بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر) قد
عاصروا أحداث الفتنة الكبرى، وتميَّزوا بالموقف
الداعي إلى اعتزال الصراع الدائر كليًّا؛
٢٨ وبما يعنيه ذلك من أن الدعوة إلى
القعود واعتزال «الفتنة» قد تأدَّت، فيما يتعلَّق
بتغيير المنكر، إلى تصوره لا يكون أساسًا إلا
بالقلب، ثم يكون باللسان على شرط توفر
القدرة.
وفي المقابل، فإن الموقف الداعي «إلى أن سلَّ
السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب،
إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك، (والذي) ذهبت
إليه طوائف من أهل السنة، وجميع المعتزلة، وجميع
الخوارج والزيدية»،
٢٩ يكاد يمثِّل امتدادًا لموقف أولئك
الذين انخرطوا في الفتنة كفاعلين وصانعين لذلك
الحدث الكبير، والذين انخرطوا في ذلك الحدث من
مواقع متعارضة جعلت الواحد منهم خصيمًا للآخر. ومن
هنا ما يُقال من أن هذا الموقف كان «قول علي بن أبي
طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة، وقول أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وطلحة والزبير وكل
من كان معهم من الصحابة، وقول معاوية وعمرو (بن
العاص) والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من
الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو قول عبد الله بن
الزبير ومحمد (بن الحنفية) والحسن بن علي وبقية
الصحابة من المهاجرين والأنصار القائمين يوم الحَرة
رضي الله عنهم أجمعين.»
٣٠ من نافل القول إن كل من أورد ابن حزم
ذكرهم في لائحته هم الذين صنعوا، بالمقاتل الدامية
التي نشبت بينهم، حدث الفتنة الكبرى وما بعده. ولعل
ذلك هو ما يُستفاد ممَّا صار إليه القاضي عبد
الجبار من أنه «لا يحل لمسلم أن يخلي أئمة الضلالة
والجور إذا وجد أعوانًا، وغلب في ظنه أنه يتمكَّن
من منعهم من الجور، كما فعل الحسن والحسين، وكما
فعل القُراء حين أعانوا ابن الأشعث في الخروج على
عبد الملك بن مروان، وكما فعل أهل المدينة في وقعة
الحَرة، وكما فعل أهل مكة مع ابن الزبير حين مات
معاوية، وكما فعل عمر بن عبد العزيز، وكما فعل يزيد
بن الوليد بن عبد الملك، فيما أنكروه من المنكر.»
٣١ ولعله يصار، ابتداءً من أن كل واحد من
الموقفين المتباينين من كيفية تغيير المنكر يحرص
على ربط نفسه بعمل سلفٍ بعينه، إلى أن التفكير في
تلك المسألة يقوم على ما يمكن اعتباره بناءً للأصول
على الحوادث؛ وبما يعنيه ذلك من أن العقائدي يضرب
بجذوره في قلب التاريخي. وبقدر ما يكشف ذلك، من
جهة، عن تبلور البيان حول «الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر» ضمن فضاء سياسي، فإنه يؤكد، من جهة
أخرى، على جوهرية الدور الذي لعبه الحدث السياسي في
بناء الأصول الكلامية على العموم. وعلى أي الأحوال
فإنه يبقى أنه فيما انحاز أولئك الذين آثروا
القعود، إبَّان الفتنة، إلى تغيير المنكر بأضعف
الإيمان؛ سواء كان «القلب» أو «القول» هو أداة هذا
الأضعف، فإن الآخرين من صُنَّاع الحدث وفاعليه قد
انحازوا، في المقابل، إلى ما يمكن اعتباره أقوى
الإيمان وهو «الفعل». وإذن فإنه الانشطار بين
«القول» و«الفعل»، والذي هو الانشطار المحدِّد
لجوهر الاختلاف بين المنظومتين الكلاميتين
الرئيستين في الإسلام؛ وأعني كلًّا من المنظومة
الأشعرية (التي ورثت مقالة «أصحاب الحديث وأهل
السنة» وابن حنبل؛ الذي اعتبره الأشعري — في
«الإبانة عن أصول الديانة» — أحد الأصول التي
يفكِّر بها، وغيرهم من الذين وقفوا، ممالئين للسلطة
أو حتى متواطئين معها، عند حد طلب التغيير بالأضعف؛
وأعني القلب والقول) والمنظومة المعتزلية (التي
اتسعت لمقالات الخوارج والشيعة الزيدية وغيرهم من
قوى الرفض الذين انحازوا، من خلال الإلحاح على وجوب
التغيير بالفعل، إلى ضرورة رقابة ومحاسبة
السلطة).
واللافت أن ثنائية القول والفعل التي حدَّدت
البيان الكلامي لمبدأ «الأمر والنهي» تكاد تستوعب
ما جرى في تاريخه من الصراع على امتلاكه بين سلطة
تسعى لمصادرته لحسابها انفلاتًا من مجتمع يسعى
لتقويمها وضبطها من خلال استعادته لذلك المبدأ من
قبضتها. فإذ ينتهي مَن انحازوا لتغيير المنكر
بالقلب أو القول إلى أن «السيف باطل ولو قُتلت
الرجال وسُبيت الذرية، وأن الإمام يكون عادلًا
ويكون غير عادل، وليس لنا إزالته وإن كان فاسقًا،
وأنكروا الخروج على السلطان»،
٣٢ فإن الأمر لا يقف بهؤلاء عند حد قَبول
الخضوع لهيمنة تلك السلطة المنفلتة وإنكار الخروج
عليها، بل ويتعدَّى إلى دعمها عبر تفريغ مبدأ
«الأمر والنهي» من حمولته السياسية وإكسابه دلالةً
أخلاقية وعظية لا يبقى من مجال لتفعيلها إلا داخل
دائرة الفرد الذي يصبح — والحال كذلك — هو موضوع
الأمر والنهي وحده، وبكيفية تُفيد منها تلك السلطة
المستبدة في قمع خصومها من الأفراد المزعجين.
٣٣ إن ذلك يعني أن اختزال الأمر والنهي في
القلب أو القول يصب في صالح احتياز الدولة عليهما
لإخضاع المجتمع عبر تفتيته وتذريته إلى محض أفراد
طائعين. وفي المقابل فإن ما آل إليه الانحياز
لتغيير المنكر بالفعل من وجوب «إزالة أئمة الجور
ومنعهم أن يكونوا أئمةً بأي شيء قدروا عليه؛ بالسيف
أو بغير السيف»،
٣٤ ليكشف عن تصور الأمر والنهي بمثابة
أداة يقدر من خلالها المجتمع على قلب سلطات الجور
والعسف المتغلِّبة، أو ضبطها وتقويمها على
الأقل.
ولعله يمكن القول عمومًا إن الانقسام بين «القول»
و«الفعل» يتبدَّى كمحض غطاء للتباين حول مدى فاعلية
القدرة الإنسانية في تغيير العالم؛ وأعني من حيث
يبدو أن ثمة من يتشكَّك في فاعلية تلك القدرة وعلى
نحو يُرتب عليه وجوب قَبول العالم بما هو عليه، ومن
دون أن يؤثِّر في ذلك ما يدَّعيه من رفضه له بقلبه
وقوله، وذلك في مقابل من يُلِحون على قدرة الإنسان
على تغيير عالمه بفعله الذي يسبقه وعيه، وإذ يحيل
ذلك إلى أن مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»
يستحيل إلى إطار لتغيير العالم، فإنه يلزم التأكيد
على جوهرية حضور الوعي في هذا التغيير، وإلا فإنه
سيبقى محض فعل يائس من دون أي أفق تقريبًا،
٣٥ وعلى أن يكون مفهومًا — بالطبع — أن
الأمر يتجاوز مجرد الوعي مختزلًا في شكله الديني
الفقير. وهنا تحديدًا تتبدَّى القيمة القصوى
للاعتزال الذي يتواتر فيه الإلحاح على جوهرية
«الوعي» كأساس في فعل التغيير.
إذ الحق أن ما مضَوا إليه من تصور «المعروف هو كل
فعل عَرف فاعله حُسنه ودلَّ عليه، والمنكر هو كل
فعل عَرف فاعله قُبحه ودلَّ عليه»
٣٦ ليكشف عن استيعابهم للأمر والنهي ضمن
قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين التي تحيل
إلى أن «الأفعال إنما توصف بالحسن أو القبح لصفات
(باطنة فيها) تخصها»،
٣٧ وليست مضافةً إليها من خارجها، وأن
العقل قادر على إدراك تلك الصفات القائمة على نحو
موضوعي في الأفعال. وإذ يئول ذلك إلى أن «الأمر
والنهي» — بما هما حكمان على الأفعال — إنما
يتأسَّسان على تلك الصفات الكامنة فيها، فإنه يعني
أنهما يكونان موضوعين للعقل، وليس لمجرد الخطاب
الشرعي (الذي يتأسس هو نفسه على ما يقوم في الأفعال
من صفات الحسن أو القبح، وبالتالي فإنه مخبر عنها
وليس منشئًا لها). والحق أن دلالة هذا التأسيس
للأمر والنهي على حكم العقل تقوم فيما تتكشَّف عنه
من السعي إلى بناء عالم يحكمه العقل؛ وعلى نحو يكون
فيه التغيير تجاوزًا لِمَا لا يتطابق مع العقل إلى
ما يكون تحقيقًا لحكمه. وإذ لا يكاد يُنازِع أحد في
حقيقة أن العالم العربي محكوم بضروب من العشوائية
والفوضى التي جاوزت به الانحطاط إلى ما دونه، فإنه
ليس لذلك من معنًى إلا أن يكون هذا العالم البائس
في حاجة ماسة لتفعيل المبدأ بهذا المعنى المطابق
لحكم العقل، وليس أبدًا على طريقة أولئك الذين لا
يعرفون من الأمر والنهي إلا أنه زجر الناس وقمعهم
باسم «مقدس متعالٍ» لا يجاوز كونه محض قناع يتخفَّى
وراءه وجه جبار.
ومن حسن الحظ أن ثمة من مضى إلى أن «تقييد
الإرادة وشل القدرة» باسم «المقدس»، يحول دون إمكان
تفعيل الأمر والنهي، ليس فقط لأنه لا معنى لأمر أو
نهي من دون توافر القدرة والإرادة، بل ولما يئول
إليه ذلك من رد المنكر السياسي أو الجور والظلم إلى
الله. وإذ ذاك تقول الرعية «إن هذا الظلم الذي نزل
بهم بقضاء من الله وقدر، ولولا أن الله قضى عليهم
بهذا الظلم الذي نزل بهم من هؤلاء الظالمين ما قدر
الظالم أن يظلمهم، غير أن هذا الظلم مُقدَّر عليهم
عند الله على يدَي هذا الظالم، فإذا كانت معرفتهم
هذه المعرفة وكان معبودهم الذي يزعمون أنهم يعبدونه
هذا فعله بهم، فمتى يصل هؤلاء إلى معرفة الخالق،
ومتى يدعونه ويستعينون به على ظالمهم. إنما هم
يدعون هذا الذي يزعمون أنه قضى عليهم بهذا الظلم
وقدَّره … فهم يعبدون صورةً مصورة. وعلى هذا النحو
أسلمهم ربهم وتركهم من التوفيق والتسديد، وخذلهم
ولم ينصرهم على ظالمهم. وكيف ينصرهم على ظالمهم وهو
المقدِّر لهذا الظلم عليهم؟ فهو الذي يدعونه
بزعمهم، أما أنهم لو أنصفوا عقولهم، وعرفوا الله حق
معرفته، ونفَوا عنه ظلم عباده، كما نفاه عز وجل عن
نفسه، ثم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ودعَوا
ربهم حينئذٍ على ظالمهم، إذن لاستجاب لهم دعوتهم،
وكشف ما بهم من الظلم والجور.»
٣٨ وهكذا يتآزر الوعي مع تحرير كل من
القدرة والإرادة؛ وبما يرتبط بذلك من تحرير الله من
وصمة فعل الظلم والجور للعباد، كشروط واجبة لتفعيل
الأمر والنهي.
وابتداءً من كل ذلك، فإنه يمكن للمبدأ أن يكون
واحدةً من روافع الأزمة العربية الراهنة؛ وأعني من
حيث يصلح مدخلًا للإنسان، من جهة؛ لكي يستعيد
«إرادته وقدرته»، ودوره — بالتالي — كفاعل مؤثر في
العالم، ومن جهة أخرى، فإنه يُمهِّد للمجتمع طريقًا
إلى استرداد حقه المسلوب في الرقابة والحساب. ومن
نافل القول إن هذين المطلبين هما الأكثر إلحاحًا في
تلك اللحظة العربية المنكرة.