عدم ولاية غير المسلمين
عدم ولاية غير المسلمين القرآن والقراءة
تتجلى الآلية الأصرح، التي يشتغل بها خطاب تديين السياسة — الذي يتعالى مده في عالم ما بعد الثورات العربية — فيما يقوم به المشتغلون، في حقل هذا الخطاب، من استدعاء ما ينسبونه إلى الدين من القواعد والمحدِّدات؛ لتقييد مجال الممارسة السياسية بها. ورغم ما يبدو من الفاعلية شبه المطلقة لهذه القواعد والمحدِّدات بسبب رسوخها في المخزون الحي الغائر في الذاكرة الجمعية للجمهور الذي يتعامل معها — تبعًا لذلك — بما هي من المُسلَّمات غير القابلة للسؤال، فإنه يلزم التنويه بما يعرفه المشتغلون في مجال الدرس الإسلامي (على النحو الاستقصائي العلمي، وليس الإنشائي الوعظي)، من أن الكثير من هذه القواعد المنسوبة إلى الدين (وخصوصًا في مجالَي الممارسة السياسية والاجتماعية بالذات)، هي محض تحديدات فرضتها مقتضيات الضبط السياسي والاجتماعي، ثم راح يجري إخفاؤها وراء قداسة الدين لإكسابها الديمومة والرسوخ. ولعل ذلك يستلزم طريقةً في التعامل مع مثل هذه القواعد، على النحو الذي يفتح الباب أمام تحرير مجال الممارسة من سطوتها، وهو الأمر الذي لن يكون ممكنًا إلا عبر تحرير الدين، نفسه، من قبضتها أولًا؛ وأعني من حيث يجري توظيفه كقناع لإضفاء القداسة على ما ليس منه في الحقيقة. ولعله ليس من سبيل إلى ذلك كله إلا عبر السعي إلى نزع القشور والرقائق الدينية التي تُحيط بالنواة الصلبة للقاعدة موضوع التحليل، على نحو تنكشف معه طبيعتها المتخفية، مع ما يصاحب ذلك من بيان المراوغات التي أمكن عبرها مراكمة تلك الرقائق الدينية التي استحالت إلى أقنعة كثيفة تتوارى خلفها الطبيعة السياسية أو الاجتماعية للقاعدة. ولأن نقطة البدء في مسار مراكمة تلك الرقائق الدينية حول القواعد ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية، تتبدَّى في سعي المشتغل تحت مظلة هذا الخطاب إلى «التأسيس النصي» لتلك القواعد من القرآن، فإنه يلزم التنويه بأن هذا الفعل التأسيسي ينطوي على ضروب من التوجيه (عبر الإنطاق والإسكات للقرآن) على النحو الذي ينتهي إلى تثبيت القاعدة المرادة بوصفها دينًا يكون مطلوبًا من الناس أن يتعبدوا به لله. ولعل ذلك ما يؤكِّده الاشتغال على القاعدة المستقرة الخاصة بعدم جواز ولاية غير المسلمين التي يكشف التحليل عن مراوغات توجيه القرآن باتجاه تثبيتها، كقاعدة تعمل على نحو مطلق، وبصرف النظر عن تحديدات السياق وشروطه. وهكذا فإنه، وعلى الرغم من أن الإنسانية قد انتقلت من سياق كان فيه «الدين» هو الأصل المحدد لهُوية الفرد والجماعة (وبما يترتَّب على هذا التحديد من إخلاء المركز لصاحب الدين-السيد، وإقصاء أتباع الديانات الأخرى إلى الهامش)، إلى سياق التحديد السياسي لتلك الهُوية (بما يفرضه هذا التحديد من الحقوق والواجبات المتساوية)، فإن فاعلية تلك القاعدة تظل مستعصيةً على التحدي للآن، وإلى حد ما جرى من التلويح المباشر بها، من جانب القوى السياسية السلفية، في مواجهة ما تردَّد من الاتجاه إلى تعيين نائب قبطي لرئيس الجمهورية.
ولسوء الحظ، فإن هذا التشغيل للقاعدة على نحو مطلق، وبصرف النظر عن شروط السياق وتحديداته، لم يتحقَّق إلا عبر ضروب من ضغوط الإكراه والإسكات التي مُورست على القرآن بنعومة، ولكن بلا هوادة. وعلى الرغم من أن هذه الضغوط ذات أصل سياسي واجتماعي بالأساس، فإنها قد راحت تحقِّق نفسها في شكل مبادئ وقواعد للفهم والترجيح التي قيل باستحالة أي مقاربة للقرآن إلا من خلالها، وفقط. فإن الاجتماعي والسياسي يسعى، على الدوام، إلى إخفاء تحيُّزاته الذاتية الغليظة وراء رهافة «المعرفي» وما تبدو أنها موضوعيته. وهكذا فإنه إذا كان القصد هو تثبيت واقع سياسي واجتماعي بعينه، فإن هذا القصد لا يحقِّق نفسه مباشرة، بل إنه يتخفى وراء مقاربة معرفية للقرآن تقوم على إهدار السياق بما هو السبيل الوحيد لإطلاق الدلالة وتثبيتها على نحو نهائي. وضمن هذه المقاربة المعرفية، فإن هذا الإهدار للسياق سوف يؤسِّس نفسه على قواعد ومفاهيم من قبيل «الناسخ والمنسوخ» و«العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وغيرها. وبالرغم من عدم إمكان المجادلة في أن هذه القواعد والمفاهيم، المُشار إليها وغيرها، إنما ترتبط بالأفق العقلي والمعرفي والسياسي والاجتماعي الذي تبلور فيه وعي مبدعيها، فإنها قد استحالت إلى ما يشبه الأقانيم المقدسة التي يستحيل إلا التسليم بها، وممارسة الفهم من خلالها وحدها، وعدم التعرض لها بالمساءلة والمحاورة. ولعله يلزم التنويه، هنا، بأنها قد اكتسبت هذا الوضع الذي تعالى بها إلى خارج حدود المساءلة، في عصور الجمود والعجز عن الإبداع، حيث تكشف القرون الأولى من تاريخ الإسلام عن نوع من الحوار المنفتح — الذي تحفظه بطون دواوين التفسير — مع تلك القواعد والمفاهيم.
ولعله يلزم التأكيد، هنا، على أن هذا التوجيه للقرآن إلى إنتاج دلالة أُحادية مطلقة — عبر وساطة تلك القواعد والمفاهيم التي أحالتها عصور الجمود المتأخرة إلى أقانيم مقدسة — إنما يرتبط بتصوره كسلطة يُراد توظيفها من أجل تسييد وتثبيت موقف سياسي واجتماعي بعينه. فإنه إذا كان الإطلاق والأحادية يُشكِّلان جوهر السلطة في الإسلام، منذ وقت مبكر نسبيًّا، وذلك من حيث ما تكشف عنه كتب الفقه السياسي من انبناء صورة «السلطان» بالتمثيل على صورة «الله» (حيث الحضرة الإلهية لا تُفهم — على قول الغزالي — إلا بالتمثيل على الحضرة السلطانية)، فإن ذات الإطلاق والأحادية كانا لا بد أن يُحدِّدا عالم الدلالة في القرآن. ويرتبط ذلك بأن حراسة سلطة ذات طابع أحادي وإطلاقي (في المجالين الاجتماعي والسياسي)، سوف تكون أمرًا ميسورًا إذا ما تمَّ تقييد الدلالة في القرآن لتصبح مطلقةً وأحادية، بدورها؛ إذ يهدِّد عالمُ الدلالات المفتوحة المتنوعة أحادية السلطة وإطلاقيتها، بما يحيل إليه من إمكانات تعدُّد الأفهام وتباين الرؤى. وعلى النقيض من ذلك، فإن التعامل مع القرآن باعتباره فضاءً مفتوحًا لفيوض من الدلالات المتنوعة (أو حتى المتباينة)، إنما يرتبط بتصوره كساحة رحيبة يتواصل فوقها البشر في سعيهم إلى بناء عالم يتسع لهم جميعًا، من دون إزاحة أو إقصاء بسبب الاختلاف في الدين أو اللغة أو العرق. وإذن فإنه الصراع، في الجوهر، بين القرآن كقناع لسلطة (أحادية ومطلقة) تسحق الناس جميعًا (مسلمين وغير مسلمين)، وبينه كساحة يؤكِّدون عليها التنوع الذي أراده الله لهم.
ولسوء الحظ، فإن كل هذه الإكراهات، السابق بيانها، قد اشتغلت جميعًا، وعلى نحو مثالي وصريح، في سياق توجيه القرآن إلى النطق بقاعدة «عدم جواز الولاية السياسية لغير المسلمين»؛ وأعني من حيث إنه إذا كانت «السلطة» تحضر، في إطار هذه القاعدة، أحاديةً ومطلقة، فإن «الدلالة» تحضر على هذا النحو أيضًا، وبما يفرضه هذا الحضور (الأحادي والإطلاقي لها) من القواعد والمفاهيم التي تتضافر في تثبيتها. وهنا يشار، بالذات، إلى قاعدتي «النسخ» و«الإجماع»، اللتين لعبتا الدور الأبرز في ضروب الإكراه التي مورست على القرآن.
عدم جواز ولاية غير المسلمين
الحضور الطاغي لفعل القراءة، حتى في حال اكتفاء المرء بمجرد ترديد «آيات» القرآن، فإنه يلزم التأكيد على أن القرآن يصبح، عبر هذا الفعل، موضوعًا لضروب من التوجيه (الناعمة والغليظة) التي لا تكون — في غالب الأحوال — موضوعًا لوعي الممارسين لها. ويتحقَّق هذا التوجيه ليس فقط عبر إنطاق وإسكات دلالات بعينها ينطوي عليها القرآن، بل وعبر ما يبدو وكأنه إبدال الدلالات التي فرضها «التاريخ» بتلك التي يتضمَّنها «القرآن». ولعل مثالًا على هذا الضرب الأخير من التوجيه، الذي يجرى فيه استبدال دلالة التاريخ بدلالة القرآن، يأتي من قراءة آية قرآنية تنشغل بتعيين معنى المسلم والإسلام، وبما لذلك من تعلُّق مباشر بمسألة «عدم جواز ولاية غير المسلمين»؛ وأعني بها قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ. فالدلالة المستقرة، في وعي الجمهور، للآية تنبني على أن معنى «الإسلام» ينصرف إلى ذلك الدين الذي ابتعث به النبي الكريم محمد ﷺ، وبما لا بد أن يترتَّب على ذلك من أن المسلمين هم — وفقط — أتباع هذا النبي الكريم. ولسوء الحظ، فإن هذه الدلالة التي استقرَّت، في وعي الجمهور، للفظتي «إسلام» – «مسلمين»، تمثِّل تضييقًا أو حتى نكوصًا عن الدلالة التي يقصد إليها القرآن خلال استخدامه لكلتا اللفظتين. بل إن اختبارًا لهذا الاستخدام القرآني يكشف عن أن هذه الدلالة المستقرة للفظتي «إسلام» – «مسلمين»، تكاد أن تكون قد تبلورت — وتطورت — خارج القرآن، على نحو شبه كامل. وإذن، فإنها تبدو أقرب ما تكون إلى الدلالة الاصطلاحية، التي تمتزج فيها المقاصد الواعية وغير الواعية لمن اصطلحوا عليها، وعلى النحو الذي تعكس فيه عناصر تجربتهم التاريخية، ولو كان ذلك على حساب القرآن ذاته.
فإذ تنبني الدلالة الاصطلاحية على صرف معنى لفظة «مسلمين» مثلًا إلى أتباع النبي محمد ﷺ فحسب، فإن الدلالة السيمانطيقية الغالبة على الاستخدام القرآني لتلك اللفظة ذاتها، لا تقصر المعنى على هؤلاء فقط، بل تتسع به ليشمل غيرهم من أتباع الأنبياء السابقين أيضًا. وهكذا، فإن اللفظة «مسلمون» – «مسلمين» قد وردت، في القرآن، حوالي ست وثلاثين مرة، انطوت فيها، في الأغلب، على دلالة تسليم المرء وجهه لله، من دون أن يكون ذلك مقرونًا باتباع نبي من الأنبياء بعينه، بل إن بعض الآيات يستخدم لفظة «مسلمون» – «مسلمين» صراحة، للإشارة إلى من هم من غير أتباع النبي محمد ﷺ. ومن ذلك، مثلًا، إشارته إلى بني يعقوب باعتبارهم من المسلمين، وذلك في قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (البقرة: ١٣٣). والحق أن المرء يكاد يلحظ أن القرآن يكاد، على العموم، أن يصرف دلالة اللفظة إلى فعل «التسليم لله» وذلك فيما تُلِح الدلالة الاصطلاحية على صرف الدلالة إلى فعل الاتباع لنبيٍّ من أنبياء الله بالذات.
وتبعًا لذلك، فإنه إذا كان غير المسلم — هو بحسب دلالة الاصطلاح المستقرة، في وعي الجمهور — كل من لا يتبع دين النبي محمد ﷺ، فإنه، ويحسب الدلالة المتداولة في القرآن، هو كل من لا يُسلِم وجهه لله، وبما لا بد أن يترتَّب على ذلك من أن كل من يُسلِم وجهه لله حقًّا هو من المسلمين، حتى ولو لم يكن متبعًا لدين النبي الخاتم. وإذ يفتح ذلك الباب أمام إدخال البعض ممن يُقال إنهم من غير المسلمين إلى دين الإسلام، ابتداءً من تسليمهم الوجه لله، فإنه سوف يفتحه بالمثل أمام إخراج الكثيرين ممن يقال إنهم من المسلمين، من دين الإسلام؛ لأنهم لا يعرفون الإسلام بما هو تسليم الوجه لله، بل بما هو قناع لتسليم الناس — أو حتى استسلامهم — لهم، بدلًا من الله. فإنه إذا كان القصد من تسليم الناس وجوههم لله وحده، هو تحريرهم من الخضوع لكل آلهة الأرض الزائفة، فإن ما يجري من تحويل الدين إلى قناع لاستعباد الناس وتيسير السيطرة عليهم لا يمكن أن يكون من قبيل الإسلام أبدًا.
ولعل ذلك يكشف عن عدم انضباط مفهوم «غير المسلم»؛ وأعني من حيث تبقى المسافة قائمةً بين المعنى الذي يصرفه إليه «القرآن» من أنه زمن لا يُسلِم وجهه لله وبين المعنى الذي فرضه عليه «التاريخ» من أنه زمن لا يتبع نبوة محمد ﷺ. وبالطبع فإنه لا مجال للاحتجاج بأن معنى الإسلام، بما هو تسليم الوجه لله، قد تحقَّق على الوجه الأكمل مع نبوة النبي الخاتم محمد ﷺ، فإن القرآن يتضمن بين جنباته ما يُزحزح هذا الاعتقاد، وذلك حين يمضي إلى أن ثمة من اليهود والنصارى والصابئة من يتشارك مع المؤمنين بنبوة محمد عليه السلام في تسليم الوجه لله حقًّا، وأنهم — لذلك — لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؛ إذ يقول تعالى: «إن الذين آمنوا (يعني بمحمد) والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم» (البقرة: ٦٢). وهكذا فإن القرآن لا يقصر معنى الإسلام بما هو «تسليم الوجه لله» — حتى بعد ابتعاث النبي محمد ﷺ — على المؤمنين بنبوته فحسب، بل إنه يتسع به ليشمل غيرهم أيضًا. وغني عن البيان أن ذلك يرتبط بحقيقة أن مدار تركيز القرآن هو على فعل تسليم الوجه لله وحده وليس على الباب الذي يتحقَّق من خلاله هذا الفعل، وحتى على فرض أن القرآن يمضي إلى أن الباب الأكمل لتحقُّق هذا الفعل هو باب النبي محمد ﷺ، فإنه لم يدحض إمكان تحقُّقه من غير هذا الباب أيضًا.
يبدو، إذن، أن التاريخ، وليس القرآن، هو ما يقف وراء تثبيت الدلالة المستقرة للآية القرآنية «إن الدين عند الله الإسلام»، وهو ما يدرك مَن يستدعي هذه الآية أنه سيلعب دورًا حاسمًا في توجيه المتلقين لها إلى إنتاج ذات الدلالة المستقرة. وهو يدرك أيضًا أن إثارة المعنى السيمانطيقي المتداول في القرآن للفظة «إسلام» سيؤدي، لا محالة، إلى زحزحة الدلالة التي قام التاريخ بترسيخها، ومن هنا أنه يسكت عنه تمامًا، رغم ما يبدو من ظهوره الجلي في القرآن. فهل يدرك المتلاعبون سياسيًّا بالإسلام أنهم ينحازون للتاريخ على حساب القرآن؟
عدم ولاية غير المسلمين … هل هي من الدين حقًّا؟
لو تصوَّر المرء حوارًا بين من ينسب نفسه إلى «المدنية» وبين خصمه الساعي إلى أسلمة الدولة، في مصر هذه الأيام (وليكن حول قاعدة «عدم جواز ولاية غير المسلمين»)، فإنه سيجد أن من ينسب نفسه إلى «المدنية» لا يعرف ما يردُّ به على خصمه، إلا أن جملة دعاواه، ومن بينها دعوى «عدم جواز الولاية»، لا تتفق مع ما تقوم عليه «دولته» (المدنية!) من مبدأ عدم التمييز بين البشر على أساس الدين، أو غيره. وعندئذ، فإن الساعي إلى أسلمة الدولة سوف يرد على خصمه المسكين بأنه ليس مشغولًا بتعارض دعاواه مع ما تقول به «المدنية»، طالما أنها تأتي متفقةً مع ما يقول به «الدين». وبحسب ذلك، فإن صاحب خطاب «الأسلمة» لا يكتفي بإحراج خصمه المسكين عبر هذا الوضع للمدنية في تعارض مع الدين، بل وعبر ترسيخه لمقولة إن دعوى «عدم جواز ولاية غير المسلمين» هي مما يقول به الدين. ولعله يلزم التنويه، هنا، بأن دعاة الأسلمة يُقيمون احتجاجهم على سائر دعاواهم على العموم، على قاعدة أنها من فرائض الدين ولوازمه. فهل هي فعلًا هكذا، أم إنها محض قواعد اجتماعية وسياسية راحت تنسب نفسها إلى الدين لتكتسب منه الرسوخ والحصانة وقوة الإلزام؟
وإذا كانت الخطوة الحاسمة في جعل قاعدة ما جزءًا من «الدين» تتمثَّل في التماس أساس لها من القرآن بالذات، فإنه كان لا بد لفعل الالتماس هذا (وهو فعل معرفي بالأساس) أن يكون موضوعًا لتحليل يكشف عمَّا فيه من «قراءة» تعتبر نفسها «قرآنًا». ومن هنا ما جرى من انشغالنا سابقًا بالإلماح إلى الآلية المُهيمِنة على قراءة القرآن؛ على النحو الذي يؤدِّي إلى إنتاج دلالة بعينها لخدمة موقف اجتماعي وسياسي معين. وقد ارتبط هذا الاستهلال بالقصد إلى تحرير القرآن من المسئولية عن قول بعينه في مسألة محددة، لتوضع (هذه المسئولية) على كاهل آلية القراءة المهيمنة على التعامل معه. فمنذ اللحظة التي يصبح فيها القرآن موضوعًا لفعل القراءة (الإنساني بطبيعته)، فإنه ليس لأحد أن يقطع بأن القرآن «يقول كذا» في مسألة ما، بل يتوجَّب عليه تقرير أن فعله القرائي يوجِّه القرآن إلى هذا القول في تلك المسألة. وحين يدرك المرء أن القرآن قد أصبح من لحظة تنزيله موضوعًا لقراءة، فإنه يلزم التأكيد على أن الكثير مما يُنسَب للقرآن قوله، إنما هو نتاج فعل قراءته بالأحرى. وهنا فإنه إذا كان فعل القراءة هو فعلًا بشريًّا، بطبيعته (وبما يعنيه ذلك من أن ما ستجري نسبته إليه سوف يكون بشريًّا بدوره)، فإن نسبة القول إلى القرآن (ذي المصدر الإلهي) في المقابل، إنما تقصد إلى جعله «قولًا إلهيًّا»، وعلى النحو الذي تستحيل معه زحزحة الدلالة المُراد تثبيتها به. وهكذا يفعل كل من يقصدون إلى تثبيت موقف ما (اجتماعي أو سياسي بالذات)، حين يجعلون منه موضوعًا لقول «إلهي» أورده القرآن، متجاهلين أن ما يفعلونه هو فعل قراءة، ولو اكتفوا بمجرد الاقتباس من القرآن.
ولأن ثمة من قد يربط فعل القراءة بأعمال التفسير والتأويل فحسب، فإنه يلزم التأكيد على أنه يتجاوز مجرد ذلك؛ وإلى حد أن مجرد استدعاء «آية قرآنية» للقطع بها في مسألة ما، ومن دون أن يكون هذا الاستدعاء مصحوبًا بأي شروح أو تفسيرات، هو فعل قراءة. وذلك من حيث يعرف من يستدعي «آية» من القرآن في موقف بعينه، أن هذه الآية، واستنادًا إلى نوع المعرفة المستقرة بين الجمهور المتلقي، سوف تنتج الدلالة التي يقصد إلى تثبيتها بالذات. إن ذلك يعني أن إنتاج دلالة «القول القرآني» بمجرده لا تنفصل عن المعرفة السابقة المتداولة بين الجمهور؛ وهي معرفة إنسانية بطبيعتها، فضلًا عن أنها تكون نتاجًا لفعل القراءة. وهكذا فإن المرء يكون ممارسًا للقراءة، حتى وهو لا يفعل إلا أن يستدعي الآية بمجردها من القرآن، طالما أن ما أنتجته القراءات السابقة، سوف يلعب الدور الحاسم في إنتاج دلالتها.
وعلى العموم، فإن القرآن، وبمجرد دخوله دائرة الاستخدام الإنساني على أي نحو من الأنحاء (وأعني كموضوع للتفسير أو الاقتباس)، يصبح موضوعًا لفعل قراءة؛ وبما لا بد أن يتبع ذلك من أن كل ما ينتج عن هذا الفعل هو من قبيل النتاج البشري، فهو يدخل، بالقراءة، في بناء تراكيب تنتمي لعالم البشر، ولا يمكن الادعاء، أبدًا، بأن هذه التراكيب ذات أصل إلهي. ولعل الوعي بالطبيعة البشرية لتلك التراكيب، يظهر في حرص علماء المسلمين على إنهاء قولهم في مسائل الدين، بتعبير «والله أعلم»؛ إقرارًا منهم بالمسافة الفاصلة بين ما يُقدِّمون من «اجتهادات» محدودة، وبين «علم الله» اللامحدود. إن ذلك يعني أن أحدًا لا يمكنه الادعاء بأن ما يقوله، يتطابق مع قول الله أو علمه، حتى ولو كان لا يفعل إلا أن يردِّد «آيات» القرآن؛ وأعني أن قوله سيبقى مجرد تركيب بشري لا يطابق مُراد الله أو علمه أبدًا.
ولعل ما يدعم فكرة أن ما يقوله الناس، منسوبًا إلى القرآن، هو قول «القراءة» (أعني قراءتهم)، وليس قول «القرآن»، هو ما يكاد يبين للكافة من أنه ليس للقرآن قول واحد في المسألة بعينها، بل إن له أقوالًا فيها تنوُّع، بحسب تنوُّع السياق الذي يتم طرحها داخله. وغني عن البيان أنه حين يحتفظ القرآن، في بنائه، بتلك الأقوال المتنوعة حول تلك المسألة بعينها، فإن رفع دلالة قول منها، وتثبيت التي تخص القول الآخر، لا بد أن يكون مردودًا إلى فعل «القراءة»، وليس إلى «القرآن». وهكذا، مثلًا، فإنه حين يشتمل القرآن على قولين مختلفين عن غير المسلمين (وأعني النصارى بالذات)؛ أحدهما يحمل دلالةً إيجابية، كقوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى … (المائدة: ٨٢)»، والآخر ينطوي على دلالة سلبية، كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ … (المائدة: ٥١)»، فإن تثبيت دلالة أحد القولين على أنها موقف القرآن «المطلق والنهائي» من النصارى، لا يكون قولًا «قرآنيًّا»، بل فعلًا «قرائيًّا». حيث القرآن حامل للدلالتين (الإيجابية والسلبية) معًا، وفعل القراءة هو الذي يتجه إلى تثبيت إحداهما على حساب الأخرى.
وبالطبع، فإن وجهة الفعل القرائي تتحدَّد بنوع العلاقة التي تربط المسلمين بالنصارى في وقت تحقُّقه؛ وبمعنى أنه إذا كانت العلاقة الواقعية بين المسلمين والنصارى هي علاقة عداءٍ وخصام، فإن فعل القراءة سيقصد إلى تثبيت دلالة القول القرآني ذي الطبيعة السلبية، باعتبار أنها المحددة لموقف القرآن النهائي والمطلق من النصارى. وأما إذا كانت العلاقة الواقعية بين المسلمين والنصارى علاقة مودة وسلام، فإن فعل القراءة سيمضي — على العكس — في اتجاه تثبيت دلالة القول القرآني ذي الطبيعة الإيجابية؛ بما هي الحامل للموقف المطلق من النصارى. لكنه يبقى لزوم الوعي بالكيفية التي يجري بها هذا التوجيه للدلالة.
هل نهى القرآن فعلًا عن ولاية النصارى مطلقًا؟
يفتح القرآن أبوابًا واسعة للرحمة، تُيسِّر للناس سبل العيش المشترك في سلام ووئام؛ وذلك من خلال ما ينطوي عليه من ثراء الدلالات، على نحو يُتيح تعدُّد الأفهام وتنوُّع الرؤى. لكنه يبدو — ولسوء الحظ — أن الناس يُصِرون على إغلاق هذه الأبواب عبر ضروبٍ من التفكير والفهم الأحادي المغلق التي تعكس ما ينطوي عليه وجودهم من أشكال التحيُّزات والتعصبات والتمايزات والاستعلاءات وغيرها. فطرائق الناس في التفكير لا تنفصل عن طرائقهم في العيش أبدًا، وبمعنى أن المجتمعات التي تصهر كل أفرادها في تجربة حياة مفتوحة تخلو من كل أشكال التمييز والتعصب، تسود فيها طرائق أكثر انفتاحًا في التفكير، من تلك التي تُمايز بين أفرادها. ولقد كان ذلك ما عرفته تجربة الإسلام في بعض لحظاتها فعلًا؛ وعلى النحو الذي عرفت فيه نمطًا من التفكير المفتوح، كالذي ازدانت به تجربة الأندلس مثلًا (وهي التجربة التي لا تزال تأسر مخيال العديدين من الذين يتطلَّعون لمستقبل أفضل للعالم). ولسوء الحظ، فإن نمط التفكير المفتوح الذي تعانق فيه ابن رشد وابن عربي الذي صاحب هذه التجربة التي اتسعت لأتباع الأديان كافة، لم يُسمَح له بمجاوزة حدود الهامش؛ وبمعنى أن الهيمنة قد ترسَّخت لنمط التفكير الأحادي المغلق.
وإذا كان من الحتم أن ينشأ عن ضروب التفكير المُشبعة بالتمايزات والتحيُّزات قواعد ومبادئ للضبط السياسي والاجتماعي، فإن الإشكال ينشأ من تصور الناس أن هذه القواعد والمبادئ المتحيِّزة إنما تصدر عن القرآن، وليس عن طريقتهم في فهمه والتفكير فيه، التي لا تنفصل، بدورها، عن الكيفية التي يكون عليها حالهم في الواقع. ولو أن الناس يتعاملون مع هذه القواعد على أنها نتاجات فهمهم الخاص، لَمَا كان هناك أي إشكال على الإطلاق؛ إذ يؤدِّي تصوُّر أنها تصدر عن القرآن إلى جعلها من مصدرٍ إلهي (وبما يعنيه ذلك من تحويلها إلى مطلقات نهائية)، وأما تصوُّرها تصدر عن طريقة الناس في التفكير والفهم، فإنه يجعل منها تكوينًا ينتمي إلى عالم البشر (وعلى نحو تقبل فيه التجاوز).
ولعل مسألة العلاقة مع غير المسلمين (النصارى مثلًا) تطرح مثالًا لأبواب الرحمة التي يفتحها القرآن أمام الناس. فإنه إذا كان القرآن ينطوي على دلالة النهي عن اتخاذ النصارى أولياء، فإنه ينطوي بالمثل، ليس فقط على ما يسمح بجواز هذه الولاية، بل وعلى ما يقطع بحصولها فعلًا. وغني عن البيان أن ورود القول، في القرآن، بكلٍّ من النهي عن ولاية النصارى وتجويزها في آنٍ معًا، يرتبط بأن لكل من النهي والتجويز ما يُبرِّره في اللحظة التي ورد فيها؛ وبما يعنيه ذلك من أن القرآن لا يُقدِّم، في الحالين، موقفًا مطلقًا ينتهي فيه «النهي» إلى إلغاء «التجويز»، أو العكس، بل يقرِّر حكمًا مشروطًا بشروط الواقع الفعلي القائم. وبمعنى أنه إذا استدعى الواقع الفعلي ضرورة النهي عن ولاية النصارى (كما حدث فعلًا في لحظة كانت فيها علاقة المسلمين بهم غير مستقرة)، فليتقرَّر حكم النهي، وإذا استدعى الواقع حكم جواز تلك الولاية (كما حدث في لحظة أخرى كانت فيها العلاقة بين الطرفين مستقرةً وودية) فليتقرَّر حكم تجويزها، فإنه ليس من حكم نهائي ومطلق بخصوصها، بل الحكم يدور مع الواقع.
تربط المصادر القديمة (موسوعات التفسير وكتب أسباب النزول) نزول آية النهي عن موالاة اليهود والنصارى بما جرى في وقعة «أحد» (بين المسلمين وقريش)، حين أصرَّ فريق من مسلمي يثرب (المدينة) على ربط انخراطهم في جيش النبي الكريم ﷺ باستمرار موالاتهم لليهود؛ وبما يعنيه ذلك من إدخالهم كطرف يلعب دورًا حاسمًا في المواجهة مع قريش. ولمَّا كانت علاقة المسلمين باليهود (وربما النصارى) غير مستقرة منذ الهجرة إلى يثرب، فإن القرآن قد أورد النهي عن موالاتهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ؛ لكي لا يكون لتلك العلاقة غير المستقرة أثر في الإضرار بمصالح المسلمين. إن ذلك يعني أن اضطراب علاقة المسلمين مع يهود يثرب (ومع النصارى) هو الأصل في النهي عن موالاتهم، وليس لكونهم يهودًا أو نصارى. إنه، بلغة الفقه، هو «العلة» التي إذا غابت جاز أن يتغيَّر حكم النهي إلى الجواز. ولعل ذلك بالذات هو ما يقف وراء ما أورده القرطبي، في تفسيره لهذه الآية، من أن أبا حنيفة قد «أجاز للمسلمين موالاتهم (أي اليهود والنصارى) والانتصار بهم على المشركين»؛ حيث الحكم عنده يدور مع العلة وجودًا وعدمًا. فإنه لو كان النهي عن موالاتهم مطلقًا؛ وأعني صادرًا عن مجرد كونهم يهودًا أو نصاري، لكان القرآن قد قرَّره منذ البدء، ولم يكن ليسمح للمسلمين بموالاتهم أو طلب النصرة منهم أبدًا.
وأما أن يكون القرآن قد سمح للمسلمين بموالاة النصارى، والاستنصار بهم بالذات، وأقر ذلك، بل وأثنى عليه، فإن ذلك ما تقطع به آيات التنزيل المتعلقة بواقعة الهجرة إلى الحبشة؛ فقد أورد الواحدي النيسابوري في كتابه «أسباب النزول» أن آية وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى قد «نزلت في النجاشي وأصحابه». حيث يُروى عن «ابن عباس قوله: كان رسول الله ﷺ بمكة يخاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفر ابن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه إلى النجاشي، وقال: إنه ملك صالح، لا يظلم، ولا يُظلَم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجًا، فلمَّا وردوا عليه أكرمهم، وقال لهم: تعرفون شيئًا مما أُنزِل عليكم، قالوا: نعم، قال: اقرءوا، فقرءوا وحوله القسيسون والرهبان، فكلما قرءوا آيةً انحدرت دموعهم ممَّا عرفوا من الحق، قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ. وهكذا تتضافر الرواية النبوية مع القرآن في التأكيد، ليس فقط على جواز ولاية النصارى بالذات، بل وعلى وقوع هذه الولاية فعلًا؛ حيث يروي الطبري عن المهاجرين من المسلمين قولهم: «قدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار، أمِنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نُؤذَى ولا نسمع شيئًا نكرهه.» وإذن، فإنه الجوار والإكرام، والأمن على الدين والدنيا، وعدم الأذية (وكلها من معاني النصرة التي هي معنى الولاية في القرآن)، وقد عاشها المسلمون واقعًا متحققًا مع نصارى الحبشة. فهل لأحد، بعد ذلك، أن ينهى عن هذه الولاية مطلقًا، أم إنه يلزمه الوعي بشروط السياق المُحدد لحكمها؟
وفضلًا عن كل ما سبق، فحين يدرك المرء أن مفهوم الولاية لم يرد، في القرآن، بمعنى الحكم السياسي أبدًا، بل بمعنى طلب النصرة فقط، فإنه لا يملك إلا القطع بأن القائل بدعوى عدم جواز ولاية النصارى، يتخفَّى وراء نهي القرآن — في ظل ظروف بعينها — عن الاستنصار بهم، ليجعل منه نهيًا عن توليهم مناصب الحكم السياسي، وهو ما لا يعنيه القرآن أبدًا، بل إن ذلك ما يبدو وكأن التاريخ قد فرضه؛ وهو ما يحتاج إلى بيان.