الشريعة بين التاريخ والقرآن
كيف سيعود الإسلام غريبًا؟
تنسب مدونات الحديث للنبي الكريم ﷺ قوله: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء.» وبحسب مفسري الحديث، فإن غربة الإسلام الأولى قد ارتبطت بقلة عدد المؤمنين به عند ابتداء ظهوره؛ وعلى النحو الذي اضطرَّهم إلى إخفاء الرسوم والأشكال الخارجية لإسلامهم، لِمَا يمكن أن يتعرضوا له من المساءلة والإيذاء في حال إظهارهم لها. والملاحظ أن القرآن نفسه قد رخَّص لهم، ليس مجرد هذا الإخفاء فحسب، بل وأباح لهم أن يعلنوا براءتهم من الدين بالكلية في حال الإكراه والضرورة إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. ورغم ما يبدو من أن الحديث النبوي يعتبر إخفاء أشكال الإسلام ورسومه نوعًا من الغربة، فإنه يلزم التأكيد على أن ترخيص الله بهذا الإخفاء للرسوم — وإلى حد قَبول إعلان البراءة منها كليًّا في حال الاضطرار — إنما يكشف عن أن حقيقة الإسلام ومعناه تتجاوز تلك الرسوم والأشكال. وبالطبع فإنه حين يظل البعض، مع ذلك، يُلِح على ربط غربة الإسلام بما يتعلَّق بالشكل والرسم فحسب، فإنه لا يفعل إلا أن يكشف عن فهم منغلق للإسلام لا يُجاوز حدود الرسم والحرف إلى الجوهر والروح.
وإذا كانت غربة الإسلام الأولى تُحيل، على هذا النحو، إلى الاضطرار لإخفاء شكله ورسمه، فإنه لا معنى — مع استقرار الشكل والرسم القائم على مدى القرون — إلا أن ترتبط عودته غريبًا مرةً أخرى بتغييب جوهره وروحه. ومن هنا إمكان المصير إلى أن كل غربة للإسلام لاحقة على غربته الأولى إنما تتعلق بما يُجاوز الشكل الظاهر إلى المعنى الكامن الذي هو في حاجة، على الدوام، إلى الاكتناه والرصد. والحق أن غربة المعنى هي الأشد وطأةً على الإسلام من غربة الشكل؛ وذلك من حيث ما بدا من أنه في حين يتقبَّل الله من عباده إخفاء رسوم الإسلام الظاهرة، أو حتى البراءة منها كليًّا في حال الاضطرار، طالما أن معناه العميق حاضر في وعيهم، فإنه لا يمكن أبدًا تصوُّر أن يقبل الله تغييب المعنى العميق للإسلام مع استمرار مجرد رسومه وأشكاله. وإذ يُحيل ذلك إلى أن غربة المعنى هي الغربة الحقة للإسلام، فإن للمرء أن يتوقع أن يكون هؤلاء الصاخبون على سطح المشهد المصري الراهن من الذين يبين خطابهم عن معرفة بالإسلام تقف عند حدود شكله ورسمه، هم الذين سيعود معهم الإسلام غريبًا فعلًا. وللمفارقة، فإنهم يتصوَّرون أنفسهم هم القائمين على تحرير الإسلام من غربته، دون سواهم.
ومن جهة أخرى، فإنه يمكن القول بأن الغرباء (الذين لهم الطوبى حسب بشارة النبي الكريم) هم كل أولئك الذين يُلِحون على ضرورة استحضار الإسلام بما هو معنًى وجوهر؛ على أن يكون مفهومًا أن ذلك لا يعني ما هو أكثر من إمساك العقل بالمعنى المتحرك، والجوهر المنفتح للإسلام. ومن حسن الحظ أن ذلك هو ما يبدو وكأن الله قد أراده للإسلام فعلًا؛ وأعني من حيث جعل خطاب وحيه وحدةً منفتحة تنطوي، في بنائها، على ما يُشير إلى تحرك نص التنزيل مع اتجاه حركة الواقع ومساره. فإنه ليس من شك أبدًا في أنه كان يمكن لله أن يتنزَّل بوحيه للعباد دفعةً واحدة، ولكنه أراد له — فيما هو معلوم للكافة — أن يتشكَّل على مدًى يقترب من ربع القرن، في صيرورة راح يتحرَّك فيها نص التنزيل في تجاوب منقطع النظير مع حركة الواقع الإنساني الحي.
وغني عن البيان أنه إذا كانت حركية الواقع قد تركت أثرها العميق على بناء نص التنزيل (الأمر الذي راح يستوعبه علماء القرآن من خلال فرضية الناسخ والمنسوخ)، فإن ذلك يفتح الباب أمام ضرورة تحرُّك فعل الفهم والتفسير، وعلى النحو الذي يتأكَّد معه مفهوم المعنى المتحرك والروح المنفتحة للإسلام؛ فإنه من المستحيل أن ينفتح فعل التنزيل على حركة السياق، فيما ينغلق فعل التفسير أمام هذه الحركة ذاتها.
ورغم ما يبدو، هكذا، من أنه لا معنى لانفتاح فعل التنزيل وتحرُّكه مع الواقع، إلا ضرورة أن ينفتح فعل الفهم والتفسير ويتحرَّك مع الواقع أيضًا، فإن الكسل العقلي الذي تعيش التيارات الصاخبة على سطح المشهد المصري الراهن، تحت وطأته، قد جعلهم يستبدلون بفعل الفهم المنفتح مجرد استعارة منظومات تفكير جاهزة من السلف. ورغم ما يبدو من أن تلك المنظومات هي في حقيقتها، نتاج فعل فهم منفتح على سياق الواقع الذي نشأت فيه، فإن ما يجري من عزلها عن هذا السياق، ليتسنَّى فرضها على سياق مغاير، لا يئول إلى تشويهها فحسب، بل ويجعلها عنوانًا على فهمٍ منغلق. ولسوء الحظ فإن هذا التفكير بالجاهز — عوضًا عن الإبداع الفاعل — هو آخر ما يحتاجه الظرف الراهن؛ الذي لا يمكن فهم أزمته بعيدًا عن أزمة مشروع في التحديث المُشوَّه الذي قام على الفرض الإكراهي للحداثة كنموذج (مُعطًى) جاهز على مجتمعات كانت تقع خارج سياق تبلورها التاريخي والمعرفي. ولسوء الحظ، فإن الطريقة الراهنة في استدعاء الإسلام — كبديل لمشروع التحديث المُشوَّه — لا تتجاوز حدود السعي إلى فرضه كمنظومة جاهزة على الواقع. وإذ يبدو — هكذا — أن الآلية التي أنتجت الحداثة المُشوَّهة تكاد أن تكون هي تلك التي يجري بها التعاطي مع الإسلام في التجربة الراهنة، فإنه يمكن القطع بأن هذه التجربة لن تتمخَّض — لسوء الحظ — إلا عن أسلمة مشوَّهة، تمامًا كالتحديث الذي سبقها.
وبالطبع فإنه لا يمكن القول بأن غربة الحداثة عن واقع العرب هو ما أدَّى إلى ضرورة فرضها على مجتمعاتهم قسريًّا، وذلك ما لا يمكن أن ينطبق على الإسلام الذي لا يمكن أن يكون غريبًا عن الواقع لأنه دين غالبية الناس؛ إذ الحق أنه ليس من فارق أبدًا بين غربة الحداثة عن واقع العرب الراهن، وبين غربة الإسلام عنه؛ وأعني من حيث لا تعني الغربة، في حقيقتها، إلا أن يحضر الواحد من الحداثة أو الإسلام، بمجرد «الرسم والحرف» وليس «الجوهر والروح». وهكذا فإن استحضار الإسلام بمجرد «الحرف» وليس «الروح» — وهو ما يغلب على الطرح المصري الراهن — لا بد أن يجعله غريبًا عن الواقع، وعلى النحو الذي يستدعي فرضَه قسريًّا عليه. تمامًا بمثل ما إن استحضار الحداثة كمجرد «رسم وحرف»، وليس كجوهر وروح، قد تأدَّى إلى لزوم الفرض الإكراهي لها على الواقع ذاته. وهكذا فإن ما يجعل الموضوع غريبًا عن واقع بعينه، ليس أبدًا زمان نشأته أو مكانها، بل آلية مقاربته التي يمكن أن تجعل منه موضوعًا للفهم (فيُنتج ويطوِّر)، أو تجعل منه موضوعًا للفرض (فيعيق ويُجمِّد).
ولعل ذلك يعني أن الأمر يقتضي استدعاءً للإسلام يغاير بالكلية ذلك الذي يقوم به الصاخبون على سطح المشهد المصري؛ وأعني استدعاءً له كجوهر وروح، وليس كرسم وحرف، الأمر الذي لن يكون ممكنًا إلا بجعل الإسلام موضوعًا لفعل فهم منفتح، وإلا فإنه سيعود غريبًا.
الشريعة بين التاريخ والقرآن
يئول عدم الانضباط المعرفي للمفاهيم إلى التباسها وتشوُّشها، على النحو الذي يجعل منها موضوعًا للتلاعب، وليس الفهم. وغني عن البيان أن المفاهيم تتحوَّل، حين تُصبح موضوعًا للتلاعب وليس الفهم، إلى أدوات يتحارب بها الناس ويتناحرون، بدل أن تكون ساحات يتواصلون عبرها ويتحاورون. ولسوء الحظ، فإنه إذا كان الفضاء المصري الراهن يزدحم بما يجري تداوله فيه من مفاهيم متناحرة، فإن ما يغلب عليها من التشوش وعدم الانضباط المعرفي، قد أحالها إلى أدوات تتبادل بها النخبة الاحتراب والقصف. ومن بين هذه المفاهيم تتجلى، ملفتة، القيمة القصوى لمفهوم «الشريعة»؛ الذي تشهد اللحظة الراهنة استخدامًا متزيدًا له من جانب جماعات الإسلام السياسي التي تستثمره في صعودها المتسارع نحو السلطة في العالم العربي على العموم. ولعله يمكن القول إن الاستخدام الراهن للمفهوم كأحد أسلحة هذه الأيديولوجيا الزاحفة نحو السلطة قد جعل منه أداة إقصاء، أو حتى سحق، للخصوم بالكلية، وذلك — وللمفارقة — على حساب ما أراده القرآن من أن يكون المفهوم ساحةً يتواصل عبرها البشر، على اختلاف الأقوام والأزمان. وهنا يلزم التنويه بما يبدو من أن التلاعب الأيديولوجي بالمفهوم إنما يتأسَّس على التشوُّش الناتج عن الخلط بين الشريعة وبين الفقه؛ وهو الخلط الذي لا يكتفي بتجاهل التمييز القرآني الحاسم بينهما، بل ويُلِح — ابتداءً من ذلك — على تصور بالغ الضيق والتحيُّز والانغلاق للشريعة؛ وعلى النحو الذي يناقض — وللمفارقة — الطرح القرآني لها.
ولعل ذلك يكشف عن أن إمكانية قول جديد في الشريعة لا بد أن تؤسِّس نفسها على استعادة الفهم القرآني (المنفتح) لها، وذلك في مواجهة ما يبدو أنه تاريخ من الفهم (المنغلق) الضيق الذي تتحكَّم فيه مفاهيم صنعتها عصور الجمود والركود الطويل التي عاشتها المجتمعات الإسلامية. ولسوء الحظ، فإن الأمر لا يقف عند مجرد ركود المفاهيم وجمودها، بل يتجاوز إلى الانحراف بها عن المجال التداولي لها في القرآن. وبالرغم من ذلك، فإن مُنتجي هذا الفهم وحُرَّاسه لا يكفون عن الادعاء بأن القرآن هو مصدر تلك المفاهيم؛ لكي يهبوها حصانته وقداسته؛ وذلك بمثل ما هو حاصل مع مفهوم الشريعة. وعلى هذا النحو، فإن المفهوم لا يقدر على تفجير الطاقة المعرفية التي يكتنزها القرآن، بقدر ما ينتصب كأداة يتلاعب بها الخصوم في حروب الهيمنة والإقصاء.
وعلى العموم، فإن الاستخدام الراهن للعديد من المفاهيم — التي يقال إنها إسلامية — يرتبط بذلك التاريخ الطويل من الفهم الذي وجَّهته حاجات وإكراهات الواقع الاجتماعي والسياسي الذي عاشه المسلمون، بأكثر من ارتباطه بما يمكن أن يكون التوجيه القرآني لها. ولسوء الحظ، فإن التاريخ قد اتجه بالمفاهيم إلى أُفق أكثر ضِيقًا ممَّا أراده لها القرآن. وكمثال، فإنه إذا كان ما يغلب على الاستخدام الراهن لمفهوم الشريعة هو ربطه بالأحكام والحدود، فإن هذا الربط يجد ما يؤسِّسه في التاريخ، وليس في القرآن الذي يربط الشريعة بما يقوم فوق الأحكام والحدود. وإذا كان المُتَصَور أن ربط المفهوم (أي مفهوم) بالتاريخ يجعله أكثر اتساعًا، فإن الأمر يبدو على العكس تمامًا من ذلك، فيما يخص مفهوم الشريعة الذي يبدو أن ربطه بالقرآن — وليس التاريخ — هو الذي يجعله أكثر اتساعًا ورحابة. وبالطبع فإنه حين يراوغ البعض فيُخفي هذا المفهوم الضيق للشريعة، الذي أنتجه التاريخ، وراء القرآن، فإنه لا سبيل إلى فضح تلك المراوغة إلا عبر استعادة مقاربته القرآنية الأرحب.
فقد أورد القرآن الجذر «شرع» ومشتقاته لأربع مرات؛ كان في ثلاث منها منسوبًا إلى الله وحده، وفي المرة الوحيدة التي نسب فيها القرآن الفعل «شرعوا» إلى البشر، فإن ذلك كان على سبيل الاستنكار والتعريض؛ وبما يعنيه ذلك من عدم تصور إمكانية نسبة هذا الفعل إلى غير الله. وحين يُضاف إلى ذلك أن القرآن قد أورد مشتقات الجذر «فقه» لعشرين مرةً كان فيها جميعًا في صيغة الفعل المنسوب إلى البشر فقط، فإن الدلالة القصوى لذلك تتمثَّل في «إلهية» ما يربطه القرآن بالفعل «شرع»، في مقابل «بشرية» ما يربطه بالفعل «فقه». ولعل قراءةً لِما أضافه القرآن إلى الله من أنه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، لتكشف عن صرف القرآن لدلالة الفعل «شرع» إلى ما قال «القرطبي» أنه «توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء»، وما قال «الفخر الرازي» في تفسيره الكبير، أنه «ما يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان، كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان، والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء.» إن ذلك يعني أن الفعل «شرع» الذي اختص به القرآنَ اللهُ وحده، ينصرف إلى المشترك بين بني البشر ممَّا ينضوي تحت كليات الدين وأمهات الفضائل؛ أو هو الدين الذي تطابقت الأنبياء على صحته، والذي يجب أن يكون المراد منه — على قول الرازي — شيئًا مغايرًا للتكاليف والأحكام؛ لأنها مختلفة متفاوتة. وهكذا يتبلور القول صريحًا بأن دلالة الفعل «شرع» لا تنصرف إلى «التكاليف والأحكام»، بل إلى ما يقوم فوقها من الكليات التي يتشارك فيها بنو البشر جميعًا، والتي تنتصب كمسلَّمات تتعدى التفكير والمساءلة، وذلك على عكس «التكاليف والأحكام والحدود» التي هي موضوع للتفكير؛ وذلك بحسب ما يبدو من انشغال المصريين الراهن بالتفكير في حد «الحرابة».
وبالطبع فإن كون «التكاليف والأحكام والحدود» موضوعًا للتفكير (اكتناهًا لحكمتها ووعيًا بعللها، وشروط إنفاذها، والموانع التي تحول دون هذا الإنفاذ)، لمما يجعلها من قبيل ما يندرج تحت مظلة «الفقه» الذي أضاف القرآن فعله إلى البشر، بحسب ما تشير الآية َلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ. ولعل هذا التمييز القرآني بين «كلي ثابت مشترك» مردودٌ إلى الله بالفعل «شرع»، وبين «جزئي متغير خاص» مردودٌ إلى البشر بالفعل «يتفقهوا»، يؤسس لقراءة للآية: لِكُلٍّ مِنْكُمْ جَعَلْنَا شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا على أساس تباين لفظتَي «الشِّرعة» و«المنهاج»، وليس ترادفهما؛ وبحيث ينصرف مدلول «الشِّرعة» إلى الكلي المشترك، فيما ينصرف مدلول «المنهاج» إلى الجزئي المتغير. وحين يُدرك المرء أن الأمر لا يقف عند مجرد تأكيد هذا التمييز، بل يتجاوز إلى ما أدركه البعض (وأعني الرازي) من «أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول (الكلي المشترك) أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني (الجزئي المتغير)»، فإن له أن يهيب من سعَوا إلى حسم معركة الدستور بسلاح الشريعة إلى الانصات إلى صوت القرآن الذي يُلِح على «الكلي المشترك»، بدلًا من التاريخ الذي يُلِح، في المقابل، على «الجزئي المتغير». وللمفارقة، فإن الإنصات إلى القرآن هو بمثابة الإنصات إلى صوت الوطن، وعلى النحو الذي تصبح معه الشريعة — بما هي على قول القرطبي «دينًا واحدًا وملةً متحدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم» — إطارًا جامعًا للمصريين كافة.
في التباين بين الشريعة والفقه
يكشف ما جرى في عقب ثورات العرب عن احتياج الإسلام إلى إعادة النظر في أصوله التأسيسية الكبرى، على النحو الذي يسمح لها باستعادة ما كان لها من رحابة وانفتاح، ليس فقط لكي تصبح قادرةً على التفاعل المُنتِج مع العصر، بل لكي تقدر — وهو الأهم — على تحقيق ما يبدو أنها موضوعة من أجله.
فإن هذه الأصول هي موضوعة — بحسب ما تكشف القراءة المتأنية للقرآن — من أجل أن تكون ساحاتٍ للتلاقي والتقارب بين البشر. وإذ يبدو — هكذا — أن القصد من «الوضع الإلهي» لتلك الأصول هو أن تكون ساحات تواصل بين البشر، فإن ما يُثير الغرابة حقًّا هو أن «الوضع الإنساني» لهذه الأصول يُحيلها إلى أدوات لترسيخ التفاوت والتمايز بينهم. ويظل مفهوم «الشريعة» هو النموذج الكاشف عن هذا التباين بين وضعين؛ أحدهما إلهي منفتح، والآخر إنساني منغلق. ولعل هذا الوضع المنغلق يرتبط بما خضع له هذا المفهوم من تحوُّلات انتهت به إلى أن يصبح — منذ منتصف القرن الماضي — سلاحًا سياسيًّا تحارب به جماعات الإسلام السياسي معركتها من أجل قلب الدولة القائمة، والإمساك بالسلطة بدلًا منها. ولقد ارتبط هذا التحول لمفهوم الشريعة بتبلور ما يمكن القول إنه الإسلام الجهادي أو الانقلابي الذي غرس «سيد قطب» بذرته في التربة المصرية قبل ما يزيد على النصف قرن.
وقد تمثَّلت استراتيجية تيارات هذا الإسلام الجهادي أو الانقلابي في تحويل الشريعة إلى سلاح سياسي — يحاربون به الدولة — في القول بالتطابق الكامل بين الشريعة والفقه، الذي كان القصد منه هو إضفاء هكذا قداسة الإلهي (الشريعة) على المنتج الإنساني (الفقه). فإذا ركَّز هؤلاء الانقلابيون نقدهم للدولة القائمة في أنها دولة كافرة؛ لأنها لا تحكم بشرع الله، فإنهم قد اختزلوا هذا الشرع في مجرد النظام القانوني الموروث من الماضي، وهو الفقه الذي أنتجه البشر بالطبع. وبالطبع فإنهم كانوا — عبر اختزالهم لشرع الله في الفقه — يقصدون إلى إضفاء قداسة الشرع الإلهي على الفقه الإنساني.
ولعل الأمر لا يقف عند مجرد التمييز الذي يظهر في تمييز القرآن للفعل «شرع» بنسبته إلى الله وحده عن الفعل «فقه» المنسوب إلى الإنسان، بل يتجاوز إلى أن ما يقرِّره القرآن بالفعل «شرع» من «الكليات التأسيسية» هو شيء مغاير للتكاليف والأحكام المتقرِّرة في الفقه. ولعل مثالًا على ذلك يأتي من التباين الظاهر بين التوجيه القرآني وبين الحكم الفقهي بخصوص قتل الأنفس؛ فإذ يحرم في القرآن قتل الأنفس على العموم، ومن دون أي تمييز، وعلى النحو الذي جعل القرطبي يقرِّر أن «تحريم القتل» من كليات الدين المقررة بالفعل «شرع»، فإن الأحكام الفقهية قد راحت تُمايز في الدماء بحسب الدين والمكانة الاجتماعية والنوع؛ فقد مضى التوجيه القرآني إلى تقرير المساواة الكاملة في الدماء بين بني البشر من دون أي تمييز بينهم، حيث «يُقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي»، واحتجوا بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، فعم، وقوله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وقالوا: والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص، وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد؛ فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل الإسلام، والذي يحقِّق ذلك أن المسلم تقطع يده بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدلَّ على مساواته لدمه؛ إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. وعلى العكس من هذا التوجيه القرآني إلى التسوية بين بني البشر في القصاص، فإن منظومة الفقه قد سارت في اتجاه تثبيت التمييز، وبما يعنيه ذلك من أن ما يقرِّره القرآن بالفعل «شرع» من تحريم قتل النفوس هو أمر مغاير لِما تقرِّره أحكام الفقه، التي تقطع بأن «الجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد، وقال أبو ثور: لمَّا اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس، كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرَّق منهم بين ذلك فقد ناقض.» إذا كان «حفظ النفوس» هو من قبيل المبدأ التأسيسي الكلي، فإنه لا يمكن قياسه على ما دون النفوس الذي يمكن أن يكون مجالًا للتمييز وعدم المساواة، وبمعنى أن التمييز بين الحر والعبد في ما دون النفوس، كالمال والمِلكية وغيرها من الأمور ذات الطابع الإجرائي، لا يمكن أن يكون أصلًا للتمييز في النفوس. ويرتبط ذلك بأن ما يخص حفظ النفوس هو من «الكلي التأسيسي» الذي لا يمكن أبدًا أن يُقاس على ما دونه مما يتعلَّق بأمور المال والمِلك وغيرها من الأمور «الجزئية الإجرائية». وفيما يخص «حرمة الدماء التي تؤسِّس للقصاص»، فإن المرء يلحظ أن منظومة الفقه قد راحت تؤسِّس التمييز في الدماء على السنة أو الإجماع، وذلك فيما كانت التسوية في الدماء تؤسِّس نفسها، بالكامل، على ما ينتمي إلى القرآن؛ فقد قال المالكية — بحسب الجزيري في (الفقه على المذاهب الأربعة) — «يُقتل الأدنى صفةً بالأعلى، كذمي قتل مسلمًا، أو كحر كتابي يُقتل بعبد مسلم؛ لأن الإسلام أعلى من الحرية. ولا يُقتل الأعلى بالأدنى، كمسلم بكافر، وكمسلم رقيق بحر كتابي. واحتجوا على مذهبهم بما رُوي من حديث الإمام علي كرَّم الله وجهه، أنه سأله قيس بن عبادة والأشقر: هل عهد إليه رسول الله ﷺ عهدًا لم يعهده إلى الناس؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، وأخرج كتابًا من قراب سيفه، فإذا فيه «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ولا يُقتَل مؤمن بكافر.» واحتجوا على مذهبهم أيضًا بإجماع العلماء.» وإذن فإنه الاحتجاج من الحديث والإجماع على ما يؤسِّس للتمييز وعدم المساواة في الدماء. وحتى إذا جرى الاحتجاج بأن القرآن نفسه ينطوي على التمييز بين الحر والعبد، فإن الرد على ذلك يكون بالتأكيد على أن القرآن لم يكن هو الذي وضع هذا التمييز، بل إنه كان وضعًا قائمًا وجد القرآن نفسه في مواجهته، وكان عليه أن يتعامل معه بما يؤدِّي إلى رفعه في نهاية المطاف. وهكذا فإنه قد وضع جملة أحكام وتحديدات إجرائية ليس فقط لتنظيم الوضع القائم، بل وتنطوي على السعي إلى تجاوزه ورفعه، وبما يعنيه ذلك من أنها ليست أحكامًا نهائية ومطلقة أراد لها القرآن أن تدوم وتستمر. بل إنها مشروطة، ليس فقط بوقتها، بل وبقدرتها على تحقيق المبدأ الكلي التأسيسي الأسمى، الذي هو المساواة بين البشر جميعًا.
عن الدستور والشريعة والعقل والجمهور
تصاعدت في الفضاء المصري الراهن حرب طاحنة، دارت رحاها بين الفرقاء المتناحرين حول مادة «الشريعة» في الدستور الذي جرت كتابته في ظل استقطابات وتجاذبات سعى البعض ضمنها لحسم الأمر لصالحه عبر التهديد باستدعاء الجمهور المتحمِّس إلى ساحات الصدام والمواجهة. وإذا كان التهديد بالجمهور يصدر — بالأساس — عن جماعات الإسلام السياسي، فإن ذلك لا يرتبط، فحسب، بقدرتها على تحشيد الجمهور الملتزم التابع، بقدر ما يرتبط — فضلًا عن ذلك — بتعارض ما تطرحه من آراء مع منطق العقل، وعلى النحو الذي يبدو معه أنها لا تجد ما تجابه به «منطق العقل»، إلا «حماس الجمهور». وهكذا فإن الجمهور الذي يجري التهديد به هو أقرب ما يكون إلى «قوة القمع» منه إلى «شاهد العدل»؛ لأنه يحضر إلى الساحة، لا كأفراد يمتلكون إرادةً حرة، ويقدرون على التفكير المستقل، بل كقطعان يجري تحشيدها بقصد الدفع بها إلى لجان «المبايعة»، أو تحميسها بقصد الزج بها في ساحات «المنازلة». فإن هذا الجمهور لا يصدر في اختياراته عن «العقل»، بل يصدر فيها عن انفعالاته — أو حتى غرائزه — الأولية؛ حتى وإن تعلَّق الأمر بما لا يمكن أن يكون موضوعًا للانفعال والغريزة، كالشريعة. ولسوء الحظ، فإنه إذا كانت جماعات الإسلام السياسي لم تجد ما تحسم به معركة الشريعة إلا هذا الجمهور (الذي يبدو أن أحدًا لا يريد له أن يغادر موقع الضحية)، فإن ذلك يكشف عن مفارقة التوافق بين نظام مبارك وبين هذه الجماعات الوارثة له؛ وأعني من حيث لا يريدان لهذا الجمهور أن يغادر موقع من يمارس الاختيار (على فرض أنه اختيار) بمنطق الغريزة والانفعال. ولكن فيما كان نظام مبارك يخاطب غرائز وانفعالات جمهوره بالفن الرديء وكرة القدم بالذات، فإن ورثته من جماعات الإسلام السياسي يخاطبون غرائز جمهورهم وانفعالاته بالدين. وبالطبع فإن الجمهور مستعد للتجاوب معهم، ولو حتى على سبيل التكفير عما يراه خطايا انغماسه في رذائله السابقة، من دون أن يدري أن ارتقاءه الحقيقي سوف يتحقَّق، فقط، بتوقفه عن التفكير بالغريزة والانفعال، وليس بمجرد جعل الدين موضوعًا لهذا النوع من التفكير الأولي. والمؤسف أنه إذا كان لا يقدر بذلك على الارتقاء بنفسه، فإنه يتنزَّل بالدين إلى حيث يجعل منه ساحةً للانحيازات والتعصبات الذميمة.
وهنا فإنه إذا كان البعض — ولأسباب سياسية ظرفية خالصة — يتعامل مع ما يقول إنها «إرادة الجمهور» على أنها «البقرة المقدسة» التي ينبغي السجود لها، فإنه يلزم التنويه بأن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون موضوعًا للقَبول أبدًا. بل إنها كثيرًا ما تكون موضوعًا للإدانة والوصم. فليس من شك في أن مُنتجي الفن الغرائزي الهابط كانوا — وسيظلون — يتخفَّون وراء ما يقولون إنها «إرادة الجمهور» لتبرير ما يُقدِّمون من نتاجات رديئة. ليست إرادة الجمهور مرادفًا للحق والصواب، إذن، بل إنها قد تكون غطاءً للرداءة والانحطاط. وبالطبع فإنه يستحيل الاحتجاج بأن تعلُّق إرادة الجمهور بالدين (بعد أن كانت تتعلَّق — قبلا — بالفن الهابط)، قد ارتقى وتسامى بها؛ إذ الحق أنها هي التي تُحيل الدين — بل وأحالته بالفعل — إلى ساحة لانكشاف كل ما يرتبط بالغريزة والانفعال من التعصب والنزوع لتحقيق السيادة والهيمنة وسحق الآخرين. ومن هنا غرابة تخفي جماعات الإسلام السياسي وراء هذه الإرادة (التي كانت موضوعًا لإدانتهم، لا شك، حين تعلَّقت بالفن المُنحَط)، لتضمين الدستور المُقترح كل ما يتدنى به إلى حيث لا يمكن أن يكون الوثيقةَ المحددة لملامح المسار المصري في القرن الحادي والعشرين.
ولا بد، هنا، من التأكيد على أن هذا التدني لا يرتبط أبدًا بالشريعة، بل بفهم القطاع الصاخب، على الأقل، من هذه الجماعات للشريعة؛ وأعني القوى السلفية بالذات. ولسوء الحظ، فإن التطابق يبدو كاملًا بين كل من نوعَي «الجمهور» و«الشريعة» اللذين تستدعيهما هذه القوى الصاخبة. فإنه إذا كان قد بدا أن الجمهور الذي تُهدِّد هذه القوى باستدعائه، هو الجمهور كقوة تعمل خارج منطق العقل، فإنها لا تكتفي باستدعاء مفهوم للشريعة يتعارض مع منطق العقل، بل يعاكس — وهو الأخطر — المجال الدلالي للمفهوم في القرآن، وبما يومئ به ذلك من أن الخروج على «مقتضى العقل» يئول إلى الانحراف عن «مقصد القرآن». وإذا كان خروجهم بالمفهوم عن مقتضى العقل يتأتى من تصورهم له كبناءٍ مكتمل ومغلق، وبما يخرج به منطق العقل الذي يُعادي الأبنية المغلقة على العموم، فإن إخراجه عن «مقصد القرآن» يبين جليًّا في مقصد السلفيين تحويل دلالته من «المبادئ الكلية» إلى «الأحكام التفصيلية الجزئية». والحق أن الصراع الراهن، في مصر، هو — في جوهره — صراعٌ حول هذا التحويل الدلالي، وليس أبدًا حول وجود الشريعة أو عدمه، في الدستور؛ فإنه ليس في مصر من يصارع من أجل عدم تضمين الشريعة في الدستور، بل هي المواجهة مع التحويل الدلالي لها من «المبدأ الكلي» إلى «الحكم الجزئي»؛ وهو التحويل الذي تُريد القوى السلفية فرضه على الكافة، رغم ما يبدو من تعارضه الصريح مع دلالة القرآن.
فقد مضى الفخر الرازي في «مفاتيح الغيب» إلى أن «المقصود من الآية (شرع لكم من الدين)، دينًا تطابقت الأنبياء على صحته، وأقول يجب أن يكون المُراد من هذا الدين شيئًا مغايرًا للتكاليف والأحكام؛ وذلك لأنها مختلفة متفاوتة»؛ وبما يعنيه ذلك من أن دلالة الجذر «شرع» (ومنه الشريعة) تنصرف إلى «المبادئ الكلية المشتركة» التي تَوافَق عليها جميع الأنبياء. وحتى إذا جاز إمكان التمييز — والقول للرازي — بين قسمين من الشرائع بحسب هذه الآية؛ «منها ما يُمتنع دخول النسخ عليه والتغيير فيه، بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان، كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان، والقول بقبح الظلم والإيذاء»، ومنها ما يتغيَّر ويختلف «ممَّا اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة (المختلفة) على الأمم»، بحسب قول القرطبي، فإن الرازي يقطع بأن الآية «دلَّت على أن سعي الشرع (أو القرآن) في تقرير النوع الأول (المتعلق بالمبادئ الكلية) أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني (المتعلق بالأحكام الجزئية)». إن ذلك يعني أن القرآن — على قول الرازي — يصرف دلالة الشريعة إلى «القواعد العامة كالصدق والعدل والإحسان، التي يتوافق فيها الإسلام مع غيره»، وهو ما بدا أن داعية السلف يرفضه على نحو كامل.
وإذ يحيل ذلك إلى أن المعنى الذي يقول به داعية السلف للشريعة، لا يمكن رده إلى «القرآن»؛ فإنه لا يبقى إلا أن يكون الأصل فيه هو «التاريخ». وإذن فإنه الإبدال السلفي للدلالة التي يصنعها «التاريخ»، بتلك التي يتداولها القرآن؛ وبما يئول إلى تأكيد الفرضية القاضية بأن الوعي السلفي لا يفعل إلا أن يجعل من التاريخ دينًا، أو أنه يتعبَّد «تاريخًا» يظنه «دينا». والمهم أن ذلك يعني أن السلفي يحارب معركته حول مفهوم للشريعة يتعارض مع دلالة القرآن والعقل معًا، وبجمهور وضعته ظروفه في موضع الخارج عن مقتضى العقل أيضًا، وبما يعنيه ذلك من أنها معركة اللاعقل، بل وحتى اللاقرآن.
عن الشريعة وما هو قطعي الدلالة
لا يشتغل المفهوم (أي مفهوم) منفردًا، بل يشتبك مع غيره، من مفاهيم أخرى، تتضافر معه في إنتاج وتثبيت الدلالة التي يريدها لها مستخدموه.
وإذا كان قد بدا أن دلالة مفهوم الشريعة في الاستخدام الجاري له في الوقت الحاضر، يرتبط بتاريخ طويل من الفهم المنغلق الضيق، بقدر ما يفارق رحابة وانفتاح التداول القرآني له، فإن ثمة مفاهيم تتضافر معًا في إنتاج تلك الدلالة المتزمتة لهذا المفهوم. فإن روح القطع والجزم وتعطيل التفكير التي تفيض بها مفاهيم مثل: النص القطعي، الثبوت والدلالة، ولا اجتهاد مع نص، هي الروح التي يتغذَّى عليها البناء المنغلق الضيق الذي استقر لمفهوم الشريعة. وغني عن البيان أن سعيًا إلى استعادة ما أراده القرآن للمفهوم من رحابة وانفتاح لن يكون ممكنا إلا عبر الحوار مع تلك المفاهيم الداعمة التي تأدَّت إلى تثبيت المفهوم الضيق للشريعة (كمحض أحكام وحدود)، وهي المفاهيم التي ترسَّخت كمُصادرات تتعدَّى منطق التفكير والمناقشة. ولعل القيمة القصوى للحوار مع تلك المفاهيم يتأتى من أنها تمثِّل الأسس التي يعتمد عليها الساعون إلى احتلال المجال العام في مصر (من مؤدلجي الإسلام) في التأثير على وعي الجمهور، بعد أن أفلحوا في التلاعب بعواطفه.
ومن حسن الحظ أن تحليلًا لتلك المفاهيم يكاد يكشف عن أنها لا تقدِّم معرفةً حقة، بقدر ما تعمل كأقنعة تتخفى وراءها رؤًى وتصورات يراد تحصينها خلف القداسة المفترضة لما يخايل به السطح الظاهر لتلك المفاهيم غير المنضبطة، وإذن فإنها من قبيل المفاهيم التي تكون مرادة، لا لِمَا تُجليه وتكشف عنه، بل لِمَا تخفيه وتغطِّي عليه. ولكي تكون مثل تلك المفاهيم قادرةً على أداء وظيفتها في التمويه والإخفاء، فإنه يغلب عليها بساطة الصياغة اللغوية على نحو يسهل معه ترديدها، بما يئول إلى ترسيخها وتثبيتها. وهكذا فإن البساطة اللغوية لمفهوم قطعي الثبوت قطعي الدلالة لا تعكس الإحكام والدقة، بقدر ما تعكس مراوغة تيسير الترديد الذي يقصد إلى تثبيت حكم المقدم (قطعي الثبوت) للتالي (قطعي الدلالة) على رغم انتماء الواحد منهما إلى مجال مغاير لذلك الذي ينتمي إليه الآخر؛ إذ فيما ينتمي الثبوت إلى مجال التاريخ الذي يقبل كل ما يحدث فيه أن يكون موضوعًا للقطع والتثبت، فإن الدلالة تنتمي إلى مجال المعنى الذي لا يقبل بطبيعته أن يكون موضوعًا للقطع والتثبيت أبدًا. وهكذا فإن ما ينسحب على الثبوت لا يمكن أن ينسحب آليًّا على الدلالة بحسب ما يقصد إليه المفهوم، وما يعنيه ذلك مباشرةً من أن الثبوت القطعي لأصول الإسلام (قرآنًا وسنة) لا يعني أبدًا إمكان القول بقطعية الدلالة التي يربطها البعض بهما.
وإذا كان ثمة من يسعى إلى تثبيت القطعية فيما يخص دلالة القرآن، عبر القول بأن عدم القول بقطعية دلالته لا يعني ما هو أكثر من القول بظنية تلك الدلالة، وأن وصف دلالة الآيات بالظنية يوجب على قول أحدهم كونَ القرآن حجةً ظنية ومعجزة غير قطعية، مع أن الإعجاز يقوم على القطع واليقين، فإنه يلزم كشف ما ينطوي عليه هذا القول من مراوغة التسوية بين القطعي وبين اليقيني، في حين أن القطعي إنما يرادف في الحقيقة، المنغلق والجامد، وذلك فضلًا عن التسوية من جهة أخرى بين عدم القطع وبين الظن (بما هو نقيض الحق)، في حين أن المعنى غير القطعي لا يعني أكثر من المعنى المنفتح المتحرك. وهكذا فإن الأمر يتعلَّق بالدفاع عن الدلالة المفتوحة في مقابل الدلالة المغلقة، وليس أبدًا بتكريس الدلالة الظنية في مقابل الدلالة اليقينية، وليس من شك في أن إعجاز القرآن يكون أكثر رسوخًا في حال الدلالة المفتوحة منه في حال الدلالة المغلقة الجامدة، وأعني من حيث لا ينكشف إعجازه إلا مع انفتاح دلالته واتساعها، وليس العكس.
وإذا كانت سهولة ترديد مفهوم قطعي الثبوت قطعي الدلالة قد أتاحت له تداولًا واسعًا نسبيًّا بين الجمهور، فإن الغريب حقًّا أن هذا القطعي الدلالة هو بحسب تعريف الأصوليين له ممَّا يعز حصوله في القرآن. فإذا كان القطعي الدلالة هو ما دل على معنًى متعيِّن فهمه منه، ولا يحتمل تأويلًا، ولا مجال لفهم معنًى غيره منه، أو إنه على قول آخر ما ينتقل بإفادة المعنى على قطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال، فإن ذلك ممَّا يندر وجوده في القرآن، وإلى حد أن السيوطي لم يجد إلا مثالًا واحدًا له، في قوله تعالى: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ، وبما يعنيه ذلك من أنه لم يجد في القرآن ما ينطبق عليه معنى القطع إلا في شطر آية هو عبارة عن مسألة حسابية. وأما إذا جرى تعريف القطعي الدلالة بأنه كل نص دل على فرض في الإرث مقدر أو حد في العقوبة مقرر أو نصاب محدد، فإن ثمة من فروض الإرث المقدرة تصريحًا في القرآن، ما كان موضوعًا لاختلاف الصحابة أنفسهم، وبما يعنيه ذلك من استحالة أن تكون محلًّا لدلالة قاطعة.
وكمثال فإنه يمكن الإشارة إلى ما أورده ابن العربي في كتابه أحكام القرآن بخصوص قوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، فعلى رغم أنه فرض في الإرث مقدر، وبما يعنيه ذلك من وجود أن يكون من قبيل القطعي الدلالة بحسب التعريف الآنف، فإن ابن العربي قد اعتبره معضلةً عظيمة، فإنه تعالى لو قال: فإن كن اثنتين فما فوقهما فلهن ثلثا ما ترك، لانقطع النزاع. فلما جاء القول هكذا مشكلًا وبيَّن «القرآن» حكم «البنت» الواحدة بالنصف، وحكم ما زاد على الاثنتين بالثلثين، وسكت عن حكم البنتين أشكل الحال، بما يعنيه ذلك من أنه من قبيل المشكل الذي يستحيل معه الجزم والقطع. وحين يضاف إلى ذلك الاختلاف الحاصل في نفس الآية بخصوص قوله تعالى: َإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، والذي لم يكن قاطعًا رغم أنه فرض مقدر، حيث أورد القرطبي أن «ابن عباس» قال في امرأة تركت زوجها وأبويها: للزوج النصف، وللأم ثلث جميع المال، وللأب ما بقي، وذلك في حين أورد عن «زيد بن ثابت» قوله: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي (وليس ثلث جميع المال). والمهم أنه حين سأل ابنُ عباس زيدًا: أتجد ما تقوله في كتاب الله، أم تقوله برأي؟ فإن ما رد به زيد من أنه يقوله برأيه، لا يعني إلا دلالة القول ليست قطعيةً أبدًا، على رغم أنه فرض مقدر. والحق أنه، وعلى فرض بيان القول ووضوحه، فإنه لا يجوز القول بقطعية الدلالة مطلقًا، فإنه لو صحَّ ذلك لَمَا كان لعمر بن الخطاب أن يوقف دفع سهم المؤلفة قلوبهم مع بيان القرآن له صراحة، وهو ما يعني أن أمر الدلالة لا يتوقف فقط على بيان المقال، بل وكذا على سياق الحال. فهل يستوعب مؤدلجو الإسلام سياق الحال؟
«بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية»
يكاد انشغال السلفيين بتضمين تعبير «أحكام الشريعة الإسلامية» في نص الدستور أن يبلغ إلى حد الهوس الفعلي، ويبدو أن السعي إلى هذا التضمين يمثِّل أحد أهم استراتيجياتهم الثابتة، التي قد تختلف الآليات المُحقِّقة لها فقط. فبعد أن أخفقت آلية السعي الصريح إلى إحلال لفظة «أحكام» محل لفظة «مبادئ» في المادة الثانية المحددة — أو الحاكمة بالأحرى — لكيفية حضور الشريعة واشتغالها في الدستور، فإنهم قد انتقلوا — فيما يبدو — إلى الاشتغال بآلية التحايل عبر السعي إلى إلحاقها بأحد المواد الفرعية الخاصة بالمساواة بين الرجل والمرأة؛ حيث يُصرون على تقييد مبدأ المساواة بتعبير «بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية».
وبالطبع فإنهم يُدركون أن النص على «أحكام الشريعة»، ولو جاء في أحد مواد الدستور الفرعية، سوف يمثِّل تحييدًا — أو حتى إلغاءً فعليًّا — للقاعدة التي تقرِّر حضور الشريعة، بما هي المبادئ — في المادة الثانية التي هي إحدى مواد الدستور الأساسية، وليست الفرعية. فمن المعلوم أن النص على أحكام الشريعة في مادة فرعية تختص بمسألة جزئية (كالعلاقة بين الرجل والمرأة مثلًا) سيئول إلى تثبيت العمل بالأحكام كقاعدة ينبغي العمل بما تقرِّره في سائر المواد الفرعية المتعلقة بمسائل جزئية أخرى، وإن لم تتضمَّن ذات النص على الأحكام. وضمن هذا السياق، فإن ما ورد من النص — في المادة الثانية — على حضور الشريعة بما هي المبادئ سوف يُصبح مجرد زخرفة لغوية لا أثر لها في الواقع.
وإذا كان الافتراض المضمر في تفكير السلفيين هو أن أحكام الشريعة، بخصوص المسألة الواحدة، هي أحكام واحدة وثابتة، ولا تكون محلًّا للاختلاف أو التغيير أبدًا، فإن ذلك يبقى من قبيل الوهم الذي لا يقوم عليه أي دليل؛ حيث إن المصادر المعتبرة قد أوردت العديد من وقائع الاختلاف، حتى بين الصحابة أنفسهم، في تقرير حكم الشريعة في المسألة الواحدة؛ حتى ولو كان هذا الحكم منصوصًا عليه في القرآن نفسه. ومن ذلك ما قطع به الكثيرون من وقوع الاختلاف بين الصحابيين الكبيرين زيد بن ثابت وعبد الله بن عباس في حكم ميراث الأم مع الأب من أبنائهما الذين يموتون دون أن يكون لهم ولد؛ فرغم ما أورده القرآن من النص على أن ميراث الأم في هذه الحالة هو «الثلث» — لقوله تعالى: َإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ — فإن الخبر قد تواتر بوقوع الاختلاف بين زيد وابن عباس في المقدار الذي يؤخذ منه هذا الثلث. فهل يكون هذا المقدار هو الميراث كاملًا، أم إنه ما يتبقَّى منه بعد اقتطاع سهم الزوجة (إذا كان الابن هو المتوفى) أو سهم الزوج (إذا كانت الابنة هي المتوفاة)؟ فإذ مضى زيد إلى احتساب الثلث الخاص بالأم من المتبقي من الميراث بعد اقتطاع سهم «الزوج أو الزوجة»، فإن ابن عباس قد مضى إلى احتساب هذا الثلث من الميراث كاملًا، محتجًّا على زيد بالقول: «لم أجد ثلث ما بقي في كتاب الله.» وعندئذٍ فإن زيدًا لم يجد ما يرد به على هذا الاحتجاج إلا أن يقول: «إنما أنت رجل تقول برأيك، وأنا أقول برأيي»؛ وبما يعنيه ذلك من إقرار الصحابي بدخول الرأي في تقرير الأحكام، وبما يترتَّب على ذلك من ضرورة دخول الاختلاف فيها لا محالة.
وفي تفسير الاختلاف بخصوص الأحكام التي وردت بها نصوص القرآن فإن «ابن العربي» قد ربطه — في كتابه أحكام القرآن — بأن «البيان لا يكون قاطعًا، بل القرآن يسوق الأمر مساق الإشكال (حيث قد يورد القول مشكلًا أو يسكت عن القول بالكلية؛ فيجعل الحال مشكلًا)؛ لتتبيَّن درجةُ العالمين وترتفع منزلة المجتهدين.» وبالطبع فإن ذلك يعكس وعي الرجل بما يؤسِّس لِمَا تواتر من الاختلاف حول الأحكام. وحين يُدرك المرء أن ما يذكره ابن العربي ممَّا يؤسِّس للاختلاف؛ من «سوق القرآن للقول مساق الإشكال، وعدم وضوح البيان وضوحًا قاطعًا، أو السكوت عن القول بالكلية»، قد ورد في سياق تناوله لآيات من القرآن تتعلَّق بأحكام النساء، فإن له أن يستنتج أن الاختلاف حول الأحكام المتعلقة بالمرأة بالذات له ما يؤسِّسه في بناء القرآن ذاته. وهكذا فإن الأمر ليس كما يصوِّره السلفيون من أن للشريعة أحكامًا واحدة ثابتة لا ينبغي أن تكون موضوعًا للمخالفة؛ سواء فيما يخص المرأة أو غيرها.
وبمثل ما اختلف الصحابة حول الأحكام، فإن ما جرى من اعتبار الاختلاف حول الأحكام بين الفقهاء هو نوع من الرحمة والتيسير على الناس، ليكشف ليس فقط عن وقوع الاختلاف، بل وكذا عن استحباب وقوعه؛ من ذلك ما تورده المصادر مثلًا، من اختلاف الفقهاء حول القصاص من المسلم في حال قيامه بقتل غير المسلم؛ وبما يحيل إليه ذلك من وقوع الاختلاف فيما يخص غير المسلمين أيضًا؛ فقد «ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى ثبوت القصاص (في حق المسلم قاتل غير المسلم)؛ لعموم قوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ … (الإسراء: ٣٣). وإذا سقط القصاص لشبهة أو عفو، فإنه لا بد من الدية، وهي مثل دية المسلم؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ … (النساء: ٩٢). وفي المقابل، فقد ذهب جمهور الفقهاء وأكثر الصحابة إلى عدم ثبوت القصاص على القاتل المسلم، ولو كان القتل عمدًا. بل إن عقوبة المسلم تكون هي الدية، وتكون دية غير المسلم على نصف دية المسلم عند المالكية والحنابلة، وعلى ثلث دية المسلم عند الشافعية، واستدل جمهور الفقهاء على ذلك بحديث البخاري المنسوب إلى النبي الذي يقول: «لا يقتل مسلم بكافر»، ويستدلون أيضًا بما أخرجه أبو داود من أن النبي قال: «دية المعاهد نصف دية الحر.» واستدل الشافعية بأن عمر بن الخطاب جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، وهي ثلث دية المسلم، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فكان إجماعًا وحجةً عندهم.»
وإذ يبدو أن فقه التمييز بين المسلم وغير المسلم يؤسِّس نفسه على السنة والإجماع، بينما يؤسِّس فقه التسوية بينهما نفسه، في المقابل، على نصوص القرآن؛ فإن ذلك يحيل إلى ما يبدو أنه الحرص على الاختلاف، حتى ولو راح يؤسِّس نفسه على أخبار يشوبها الضعف والتعارض. وبدلًا من الإقرار بهذا الاختلاف الذي يمكن أن يفتح الباب أمام تجاوز كل ضروب التمييز بين بني البشر بصرف النظر عن اختلاف الجنس والدين، فإن السلفيين يوهمون بأن ما يؤمنون به من تصورات ضيقة هي «أحكام الشريعة» الثابتة التي يلزم عدم مخالفتها أبدًا … فمتى يُفيقون من أوهامهم؟!
الحدود هي الحل
إذا كانت نظرة على المشهد المصري الراهن تكشف للمراقب عن أن السعي إلى إدخال الدين (أو الإسلام في الغالب) إلى المجال العام، يتحقَّق تحت ثلاثة عناوين عريضة هي؛ الدين كمرجعية للدولة أو الحزب، وتطبيق الشريعة أو جعل الدولة تطابق الأحكام الشرعية على قول أحدهم، وأخيرًا إنفاذ الحدود وتطبيقها؛ فإن قراءةً للكيفية التي تجري بها مقاربة تلك الدعاوى الثلاث من جانب الداعين لها تُبيِّن عن ضروب من الفقر المعرفي الذي يجعل منها جميعًا عنوانًا على مشكلة، بدل أن تكون حلًّا — أو حتى جزءًا من هذا الحل — لها. لكنه يبقى أن بؤس الدعوة الأخيرة إلى إنفاذ الحدود وتطبيقها، كسبيل لإخراج مصر من مأزقها، يتجاوز ما تنطوي عليه تلك الدعوة من فقر معرفي — يتجلى زاعقًا في اختزالها للإسلام في مجرد المنظومة العقابية التي جرى ربطه بها — إلى ما تقوم عليه من تصور أكثر فقرًا لطبيعة المأزق المصري الراهن، والسبيل إلى الخروج منه.
فحين لا يجد البعض حلًّا لأزمة جماعة ما إلا في تفعيل منظومة عقاب، فإن ذلك يكشف عن تصور كامن لغلبة الطابع الإجرامي على تلك الجماعة؛ وعلى النحو الذي يعني أن لا سبيل إلى صلاحها إلا بالعقاب. وهكذا فإن مصر ليست — بحسب حاملي هذا التصور — أشتاتًا من جماعات مجرمة، لا صلاح لها إلا بما تقدِّمه السماء من العقاب الفعَّال الزاجر. وإذا كانت خُلاصة هذا التصور هي: «إن الشعب المصري في حاجة إلى الزجر»، فإن ذلك لا يعني إلا أنه السعي — من جديد — إلى إعادة إنتاج نظام «مبارك» الذي تنقل عنه السيدة كوندوليزا رايس قوله لها في لقاء خاص: «إن شعبي يحتاج إلى يد قوية.» وإذ لا خلاف بين «الزجر بقوة اليد» وبين «الزجر بسلطة الحد»، فإنه ليس من فارق بين مبارك، وبين أولئك الساعين إلى وراثته من دُعاة الحدود، إلا من حيث ما يبدو من أن الياء في كلمة «شعبي» هي ياء امتلاك «مبارك» للشعب بالأصالة، وذلك فيما سيتواضع الآخرون ويجعلون أنفسهم مُلَّاكًا للشعب بالوكالة؛ وأعني كوكلاء عن الله الذي هو المالك الأصيل الذي انتدبهم للحكم في ملكه.
ولسوء الحظ، فإن الأمر لا يقف عند مجرد هذا الافتراض الفاسد لجنوح المصريين نحو الجريمة، بل ويتعدَّى إلى ما يبدو من تعارض تصور «الحدود هي الحل»، مع منطق الشريعة ذاته؛ وأعني من حيث ينبني هذا المنطق على أن إنفاذ «حدودها»، ينبغي أن يكون مسبوقًا ببذل الجهد، أولًا، في تحقيق «مقاصدها». وفي كلمة واحدة، فإن إنفاذ العقاب لا يمكن — بحسب منطق الشرع ذاته — أن يكون سبيلًا لتحقيق المقاصد، بل إن تحقيق هذه الأخيرة يبقى هو شرط إنفاذ العقاب. ولعل ذلك ما جعل من هو في وزن عمر يُعلِّق إنفاذ الحدود، حين يتأكد من عدم تحقُّق ما تقصد إليه الشريعة من رفع حالة الإكراه والضرورة التي يزول معها عن الناس الحرج، فيكون مسموح لهم بخرق قواعد الضبط والسلوك القويم. وبالطبع فإن رفع حالة الإكراه والضرورة عن الناس الذي تقصد إليه الشريعة، لا يعني إلا تحريرهم من كل شروط العوز المادي والعقلي والروحي. وأما من دون تحريرهم من ذلك كله أولًا، فإن إنفاذ الحدود لن يكون إلا قناعًا لأعتى أشكال الاستبداد وأكثرها قسوةً ودموية. وإذا جاز التمثيل، فإن «عربة الحدود» مشدودة إلى «حصان المقاصد»، ولا يمكن أن تأتي العربة، أبدًا، في وضع تكون فيه سابقةً على الحصان.
ولعل الأمر لا يقف عند حد عدم الوعي بمكانة الحدود في بناء نظرية الشريعة، بل ويتجاوز إلى عدم الوعي بطبيعة الحدود كنظام للعقاب يخضع للديناميات الاجتماعية. وهكذا فإنه، وحتى فيما يخص الحدود الثابتة بنص القرآن (وهي ثلاثة من سبعة حدود)، فإن الفقهاء قد توسَّعوا في تفصيل الشروط التي لا بد من توافرها لإنفاذ الحدود، وأكثروا الموانع التي تحول دون هذا الإنفاذ، وأفاضوا في درئها بالشبهات؛ حتى لقد قال «لأن أعطِّل الحدود بالشبهات أحب إليَّ من أن أقيمها بالشبهات.» وضمن هذا السياق، فإنه إذا كان ما قيل إنها «شبهة المحل» قد تأدَّت بالفقهاء إلى أنه «لا قطع (لليد) على من سرق من بيت مال المسلمين، ولا على الشريك إذا سرق من مال الشركة … وأن الاختلاس ليس بسرقة»، فإن ذلك يعني أنه لا عقاب — بحسب هذا الفهم — على نهب المال العام؛ والذي هو المظهر الأهم لِمَا تعانيه المجتمعات المعاصرة من الفساد الذي آل إلى خراب البلاد والعباد. وغني عن البيان أن عدم شمول هذه الأفعال بالعقاب، إنما يعني أنها ليست معدودةً من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة بالحدود. إن ذلك يعني أن دعاة تطبيق الحدود، الساعين إلى وراثة مبارك، سوف يعيدون إنتاج نظامه البائس، وبنفس جناحيه اللذين أسقطاه تقريبًا؛ وأعني بهما الاستبداد (حيث لن يترك الشعب، مع مالكيه الجدد، وضعيته كمجرد مملوك لا رأي له؛ ومع ملاحظة أن ملكيتهم له سوف تكون مؤبدة؛ لأنهم يمارسونها بالوكالة عن الله)، والفساد (حيث لا عقاب على انتهاب المال العام؛ لأنه غير معدود من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة).
ولعل ذلك يعني أن منظومة الحدود، على حالها المتوارث، ستئول — وللمفارقة — إلى تكريس ما تتخبَّط فيه مصر من فساد هو، وقرينه الاستبداد، الأصل في كل مأزقها الراهن، وذلك بدل أن تكون مخرجًا منه. والحق أن استدعاء تلك المنظومة للاشتغال في غير السياق الذي تبلورت فيه، يستلزم إعادة التفكير فيها، بما يجعلها تتجاوب مع ما عرفته المجتمعات المعاصرة من تعقُّد أشكال الجريمة من جهة، وتطوُّر مؤسسات العقاب، من جهة أخرى. ولكن ذلك ما لا يقدر على التفكير فيه، أولئك الداعون إلى استدعائها كحل جاهز للمأزق الحاضر. ولعله يلزم التأكيد، هنا، على أن الأزمة لا تكمن أبدًا في تلك المنظومات القديمة التي تكشف قراءتها عن تجاوبها — على نحو مدهش — مع شروط المجتمعات التي اشتغلت فيها، بقدر ما تقوم في وعي بليد لا يعرف أصحابُه إلا مجرد السعي إلى فرضها، جاهزة، على الحاضر.
والحق أن ما تسجِّله مصادر أهل السنة المعتبرة — مثل «فتح الباري» لابن حجر، و«الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي وغيرها — من ارتباك الصحابة أنفسهم حول بعض الحدود (ومنها حد الرجم بالذات) لممَّا يؤكِّد على ضرورة إعادة التفكير في باب الحدود بأسره؛ فقد أورد «ابن حجر» — في فتح الباري — «أتى علي (بن أبي طالب) بامرأة فجرت (من الفجور)، وفي لفظ وهي حُبلى فضربها مائةً ثم رجمها»، وفي رواية أخرى، أنه «أمر بها، فحُبست، فلمَّا وضعت أخرجها يوم الخميس فجلدها مائة، ثم ردَّها إلى الحبس، فلما كان يوم الجمعة حفر لها ورجمها.» وفي تفسير إنفاذه لحدَّي الجلد والرجم معًا، فإن ابن حجر يورد قوله: «أجلدها بالقرآن وأرجمها بالسنة»؛ وبما يعنيه ذلك من رده الرجم إلى السنة، وليس إلى القرآن. وبالطبع فإن جمعه بين الحدين، في الفعلة الواحدة، يكشف عن أن «الرجم المردود إلى السنة» لا ينسخ «الجلد الثابت بالقرآن»؛ حيث السنة لا تكون ناسخةً للقرآن. وبالرغم من أن هذا الجمع يضعه خارج إجماع الجمهور على أنه «لا يُجمَع بين الحدين»، فإنه يبقى أنه لم يقع في ورطة رد «الرجم» إلى القرآن؛ الأمر الذي ساعده على تجنُّب الإرباكات التي تعرَّض لها مَن ردوه إلى ما قيل إنه القرآن المنسوخة تلاوته.
فقد روى البخاري «عن ابن عباس قال: سمعت عمر وهو على منبر رسول الله يخطب ويقول: إن الله بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكان ممَّا أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله في كتابه، فإن الرجم في كتاب الله حقٌّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان حمل أو الاعتراف. وايم الله لولا أن يقول الناس زاد (عمر) في كتاب الله لكتبتها.» وإذ يقطع عمر، هكذا، بأن آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» قد نزلت في كتاب الله، ولكنها مع ذلك غير موجودة في كتاب الله، فإنه يفتح الباب أمام معضلة أعتى من تلك التي جابهت «عليًّا» حين رد الرجم إلى السنة، وجمع بين الحدين. فإذ وجدت المصادر نفسها في مواجهة معضلة تفسير «عدم وجود آية الرجم في كتاب الله»، فإنها قد اضطُرت إلى إيراد ما يبدو عصيًّا على الاستيعاب حقًّا. فقد أورد صاحب فتح الباري عن النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: ألَا تكتبها في المصحف؟ قال (زيد): لا … ألَا ترى أن الشابين الثيبين يُرجمان؟ (يعني أن الآية تقصر الرجم على الشيخ والشيخة، وذلك فيما يُرجم الشاب والشابة، أيضًا، إذا كانا مُحصَنين بالزواج). وتواصل الرواية (التي تأبى إلا أن تستحضر عمر في كل ما يتعلق بتلك الآية) «فقال عمر: أنا أكفيكم (أي هذه الآية)، فقال: يا رسول الله اكتب لي آية الرجم (أي إيذن لي في كتابتها على قول السيوطي في الإتقان)، قال (أي الرسول): لا أستطيع (وفي رواية الإتقان أنه قال: لا تستطيع).»
وبصرف النظر عمَّا إذا كان ممكنًا لزيد بن ثابت (وهو كاتب الوحي) أن يرفض كتابة الآية، أو ألَّا يأذن الرسول لعمر بكتابتها، فإن للمرء أن يتساءل: هل يمكن للضمير المسلم أن يقبل هذا الثمن الباهظ مقابل الإبقاء على حد الرجم؟
عن معركة الشريعة بين الأحكام والمبادئ
أدارت جماعات الإسلام السياسي معركتها بخصوص ما ورد في الوثيقة الأولية للدستور من النص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع»، على ضرورة استبدال لفظ «أحكام» بلفظة «مبادئ»؛ أو — على الأقل — تعرية الشريعة من النص على المبادئ والأحكام. وهنا فإنه لزم الوقوف على ما احتجَّت به هذه الجماعات من وجوب هذا التحويل لدلالة الشريعة من «المبادئ» إلى «الأحكام»، ثم تفكيك هذه الحجج على نحو يكشف عمَّا يسكنها من الخلل والعوار.
استند التبرير السلفي لوجوب حذف لفظة «مبادئ» من مادة الشريعة في الدستور، إلى أن استخدام اللفظة يقصر الشريعة — حسب قول أحدهم — على «القواعد العامة من الحق والخير والعدل، التي يتوافق فيها الإسلام مع البوذية»؛ وبما يعنيه ذلك من أن الرجل لا يريد بالشريعة ما يربط الإسلام بغيره من أديان أهل الأرض التي تتوافق جميعًا على الأمور الكلية المشتركة، ويريد بها ما يفصله عن غيره من الأديان، من الأمور والأحكام التفصيلية الجزئية. وللمفارقة، فإن هذا الفهم ينتهك ما ينزع إليه القرآن من نسبة فعل التشريع (ومنه الشريعة) إلى الله وحده، مع صرف دلالته — بحسب المفسرين الثقات — إلى الأصول الكلية المتوافق عليها بين الأنبياء وأهل الأديان جميعًا، وهو ما جعل الإمام الشاطبي يؤكِّد، في «الموافقات في أصول الشريعة»، على أن هذه الأصول «مراعاة في كل ملة». وإذ يمضي مطلب جعل الشريعة أداة فصل بين الناس في اتجاهٍ معاكس للقرآن، فإنه لا يبقى إلا أن يكون تعبيرًا عن بناء عقلي ونفسي لا يرى في العالم إلا ساحةً للانقسام والتمايز. ولسوء الحظ، فإن هذه الصورة للعالم ليست — في جوهرها — إلا صورته المرذولة التي انبثقت مع ابتداء عصر الهيمنة الأوروبية، والتي عانى الكثيرون — والمسلمون بينهم — من تبعاتها الكارثية، ويسعون — لذلك — لزحزحتها، ليحلوا محلها صورة عالم يقوم على الشراكة والاندماج، ولا يعرف التمايز والانقسام. إن ذلك يعني أن داعية السلف لا يفعل بما يتصوَّره إلا أن يعيد إنتاج صورة العالم المرذول (الذي صنعه الغرب) بدلًا من أن يجترح أفقًا لتجاوزها (على نحو ما لا بد أن يفعل الإسلام).
ومن حسن الحظ، أنه إذا كان القرآن قد جعل ما «يشرِّعه» الله مخصوصًا بما يجمع بين بني البشر من «الكليات»، فإنه قد جعل ما يُفاصل بينهم من الأحكام التفصيلية الخاصة من فعل «الفقه» الذي اختصه بالإنسان. ولعل ذلك ما يكشف عنه التداول القرآني للجذرين «شرع»، و«فقه»؛ وأعني من حيث يجعل فعل «تشريع الدين» مختصًّا بالله وحده (في قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ (الشورى: ١٣))، وذلك فيما يجعل فعل «التفقه في الدين» مردودًا إلى البشر (في قوله: مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ (التوبة: ١٢٢)).
والحق أن داعية السلفية لا يرفض لفظة «مبادئ» في مادة الشريعة؛ لتعلقها — فحسب — بالكليات المشتركة التي تصل الإسلام بغيره من الأديان، بل ولكون هذه «المبادئ» تؤشِّر فقط على ما هو «قطعي الثبوت والدلالة»؛ وبما يعنيه ذلك — وعلى قول أحدهم — من أن ما هو «ظني الثبوت والدلالة» — والذي يمثِّل على قوله القدر الأعظم ممَّا يقول إنها الشريعة — سوف يُوضع خارجها. ولهذا فإنه يريد تعرية الشريعة عن لفظة المبادئ؛ ليتسنَّى له إلحاق هذا «الظني» بها. وحين يُدرك المرء أن «الظني» هو ما يتميَّز بانفتاح دلالته وحركيتها، وعدم قطعيتها، فإنه سيتحقَّق من أن الله قد أراد له أن يكون «ظنيًّا» ليصبح موضوعًا لفعل «التفقه في الدين» الذي ينسبه القرآن إلى البشر؛ بحيث يكون متروكًا لهم تحديد دلالته، بحسب ما يناسب طبيعة وعيهم وواقعهم، وتفعيلًا لمبدأ «رفع الحرج». إن هذا الدور البشري في تحديد دلالة الظني، لا بد أن يضعه — وبحسب دلالة القرآن — تحت مقولة «الفقه» المنسوب إلى فعل البشر، وليس تحت مقولة «الشريعة» التي يحرص القرآن — وكما سبق القول — على نسبتها إلى الله وحده.
وبالطبع فإن الناتج عن فعل تفقه البشر (في هذا الظني الدلالة) لا بد أن يكون عاكسًا لواقع تاريخهم؛ وعلى النحو الذي يمكن معه القول بأن السعي الملحاح من جانب دعاة السلفية إلى نقله من مجال الفقه (ذي الطابع الإنساني) إلى الشريعة (ذات الأصل الإلهي)، إنما يقدِّم الدليل العملي الواضح على ممارستهم الأثيرة في تحويل «التاريخ» إلى «دين». وليس من شك في أن فرض هذا التاريخ السابق على الناس، كدين واجب الاتباع، سوف يضع الناس في الحرج الذي ينطق القرآن صريحًا بأن الله لا يريده أبدًا للبشر، وذلك في قوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. ويرتبط هذا الوضع للناس في الحرج بحقيقة أن ما يكون به الصلاح في وقت بعينه، قد يستجلب الصلاح نفسه في غير هذا الوقت، وبما يعنيه ذلك من أن صلاح الشيء مرتبط بوقته، وليس أمرًا مطلقًا أبدًا. ولأن أحدًا قد يحتج بأن الفقه هو «وضع إلهي»، وبالتالي فإن صلاحيته مطلقة خارج الوقت؛ فإنه يلزم التأكيد — من جهة — على أن الفقه، بما هو نتاج فعل التفقه في الدين، مردود حسب القرآن نفسه إلى الناس، وليس إلى الله، وذلك فضلًا عما بدا من استحالة تفسير تعدُّد الوحي، وهو فعل الله حقًّا، لا مجازًا، إلا عبر قاعدة ربط الصلاح بالوقت.
فقد بدا أن تفسير التعدُّد الحاصل في فعل الوحي، هو ممَّا يستحيل تمامًا إلا عبر ربط الصلاح بالوقت؛ وإلا فإنه ستتم نسبة النقص إلى الله (جل شأنه). فإنه «لو قيل: إن الوحي الثاني أصلح من الأول (من دون ربط هذا الصلاح بوقته)، لكان (هذا الوحي) الأول ناقص الصلاح؛ فكيف يأمر الله به (وهو الناقص)؟ قلنا — والقول للرازي في «مفاتيح الغيب» — إن (الوحي) الأول أصلح من (الوحي) الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول، والثاني بالعكس منه.» وهكذا لا يتورَّع من هو في وزن «الرازي» عن التعامل مع الوحي (وهو فعل إلهي)، بحسب «قاعدة ربط الصلاح بالوقت»؛ لكي لا يُصار إلى نسبة النقص إلى الله. فهل يجوز ربط الصلاح بالوقت في حال الوحي (وهو فعل الله لا محالة)، بينما لا يكون ذلك جائزًا في حال الفقه (وهو فعل الناس بامتياز)؟
إن ذلك يعني أنه، وعلى فرض أن الفقه هو «وضع إلهي»، فإن ذلك لا ينبغي أن يحول دون ربط صلاحه بالوقت، قياسًا على ربط صلاح الوحي — وهو فعل الله الصريح — بالوقت. وإذ يحيل ذلك إلى اعتبار الله (جل شأنه) للسياق الإنساني المتغير، وذلك فيما يُصر هؤلاء — عن عمد أو جهل — على إهدار هذا السياق بالكلية، فإنه لا يمكن قَبول ما يزعمون من أن هذا الإهدار هو من أجل إعلاء كلمة الدين؛ وذلك إلا أن يكون دين «سلاطين الاستبداد»، وليس أبدًا دين «الله» الذي هو أكثر رحمةً بالعباد!
ماذا لو أن أحدًا يفكر الآن مثل هذا الرجل؟!
وأما الرجل فهو فقيه القرن السابع الهجري الكبير نجم الدين الطوفي الحنبلي؛ الذي تروي عنه المصادر أن ميلاده كان بالعراق، وأنه قد سكن الشام ومصر، ومات بفلسطين (وبما يعنيه ذلك من أن تفكيره الفقهي قد تحدَّد بالشروط المنفتحة التي عرفتها مراكز الحضارة الكبرى في عالم الإسلام)، وأنه أقبل على قراءة الحديث، وشرح الأربعين للنووي، واختصر الترمذي وروضة الموفق على طريقة ابن الحاجب، وكتب على المقامات شرحًا، وشرح مختصر التبريزي في الفقه على مذهب الشافعي (وبما يعنيه ذلك من تضلُّعه في الحديث والفقه والأصول واللغة؛ وعلى النحو الذي يستحيل معه اتهام الرجل في علمه).
وأمَّا تفكير الرجل، الذي لا يمكن تصور إلا أن يكون موضوعًا لتكفير الجهَّال فيما لو نطق به أحدهم الآن، فإنه يدور حول مركزية «المصلحة» في بناء ما يتعلَّق بفقه المعاملات الإنسانية (في مجالاتها السياسية والاجتماعية والإدارية والقضائية وغيرها)؛ وإلى الحد الذي يقوم فيه، ليس فقط بإخراج كل ما يتعلَّق بهذه المعاملات من مجال النصوص، بل وكذا تقديم المصلحة على النص في حال تعارضهما. وهكذا فإنه ينطلق من التمييز بين ما يسميه «العبادات والمقدرات» التي يكون التعويل فيها على «النصوص والإجماع» وبين «المعاملات والعادات» التي تقوم على مبدأ «رعاية المصلحة» بالأساس. وإذ يجعل من هذا المبدأ الأصل الذي تقوم عليه تلك المعاملات، فإنه يقطع بوجوب تقديم «رعاية المصلحة» على «النص والإجماع» في حال تعلقهما بالمعاملات. وهو يُقيم حجته على أنه «إن وافقها النص والإجماع وغيرها من أدلة الشرع، فلا كلام، وإن خالفها دليل شرعي وُفق بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه (أي النص والإجماع)، وتقديمها (أي المصلحة) بطريق البيان.» ويؤسِّس الرجل هذا التقديم للمصلحة على النص على الأولوية شبه المطلقة للمصلحة التي تجعلها تعلو على النص والإجماع. فإنه «مما يدل على تقديم رعاية المصلحة على النصوص والإجماع على الوجه الذي ذكرناه وجوه: «أحدها» أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصالح؛ فهي إذن محل وفاق. والإجماع محل الخلاف، والتمسك بما اتفقوا عليه أولى من التمسك بما اختلفوا فيه. و«الوجه الثاني» أن النصوص مختلفة متعارضة؛ فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعًا، ورعاية المصلحة أمر متفق (عليه) في نفسه، لا يُختلف فيه؛ فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعًا، فكان اتباعه أولى، وقد قال الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا.» وهكذا يبلغ الأمر بالطوفي إلى حد قراءة «المصلحة» على أنها «حبل الله» الذي يلزم الاعتصام به.
وإذ يدرك الطوفي أن ثمة من قد يعترض على طريقته في التفكير، فإنه يورد الحُجة التي يمكن الاعتراض بها عليه، ليرد عليها. وتتلخَّص حجة الخصم في أن «هذه الطريقة التي سلكها الطوفي في رعاية المصلحة، إما أن تكون خطأ، فلا يلتفت أحد إليها، أو تكون صوابًا. وفي حال كونها صوابًا، فإما أن ينحصر الصواب أو الحق فيها، أو لا ينحصر، فإن انحصر الصواب فيها، لزم أن الأمة من أول الإسلام إلى حين ظهور هذه الطريقة على خطأ؛ إذ لم يقل بها أحد منهم (قبل الطوفي). وإن لم ينحصر فهي (مجرد) طريقة جائزة من الطرق. وفي هذه الحالة فإن طريق الأئمة التي اتفقت الأمة على اتباعها يكون أولى بالمتابعة، لقوله عليه السلام: اتبعوا السواد الأعظم، فإن من شذ شذ في النار.» ويلخِّص الطوفي رده على هذه الدعوى في القول بأن طريقته في رعاية المصلحة «ليست خطأً لِمَا ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصر فيها قطعًا، بل ظنًّا واجتهادًا؛ وذلك يوجب المصير إليها، والأخذ بها؛ حيث الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها.» وإذا قيل بأن صحة طريقة رعاية المصلحة تُحيل إلى فساد طرق الأئمة السابقة عليها، فإن الطوفي يرد بأن ذلك يعني أن لا يقول أي أحد بقول أو طريقة جديدة لكي لا يكون الخطأ من نصيب كل ما قيل قبله. ويصل أخيرًا إلى القول بأن السواد الأعظم الواجب اتباعه هو الحجة والدليل الواضح، وإلا لزم أن يتبع العلماءُ العامةَ إذا خالفوهم؛ لأن العامة أكثر، وهو السواد الأعظم؛ وبما يعنيه ذلك من تقديم حجة «العقل» على حجة «الجمهور» والإجماع التي تمثِّل مركز الثقل في الثقافة السائدة في الإسلام.
ولعل ذلك يتفق مع ما يؤكِّده الطوفي من أن العقل هو الوجه الذي تتقرَّر منه المصالح في معاملات الناس. ومن هنا ما يقرِّره من «إنَّا اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشارع (الله) خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا، وزمانًا ومكانًا، إلا إذا امتثل (العبد) ما رسم له الله، وفعل ما يعلم أنه يرضيه. ولهذا لمَّا تعبدت الفلاسفة (الله) بعقولهم، ورفضوا الشرائع أسخطوا الله عز وجل، وضلوا وأضلوا. وهذا بخلاف حقوق المُكلَّفين (التي هي المعاملات)، فإن أحكامها سياسية وشرعية، وُضعت لمصالحهم، وكانت هي المعتبرة، وعلى تحصيلها المعوَّل، ولا يُقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم، فلتؤخذ من أدلته؛ (لأن) هذا إنما يُقال في العبادات التي تخفى مصالحها عن مجاري العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلَّفين في حقوقهم ومعاملاتهم، فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل.» وبالطبع فإن ذلك يعني أن كل ما يتعلَّق بمعاملات الناس، من قواعد الضبط السياسي والاجتماعي، هي ممَّا يتقرَّر بالعقل بحسب دواعي المصلحة؛ وليست ممَّا يتقرَّر بالنص — أو حتى الإجماع — أبدًا، بل إنه، وحتى على فرض أن يكون للنص مدخل في تقرير تلك القواعد، فإن العقل يظل حاضرًا من خلال ما يلعبه من دور جوهري في توجيه دلالة النص؛ أو حتى تعطيله.
ومن حسن الحظ أن التفكير بهذه الطريقة لن يقف عند فقيه القرن الثامن الهجري الكبير؛ بل إنه سيصل إلى فقيه القرن العشرين «السيد رشيد رضا» الذي سيمضي في المنار إلى «أن الأحكام السياسية والقضائية والإدارية — وهي ما يعبِّر عنها علماؤنا بالمعاملات — مدارها في الشريعة الإسلامية على قاعدة «درء المفاسد وحفظ المصالح أو جلبها»؛ وهي القاعدة التي يُستشهد عليها بترك سيدنا عمر وغيره من الصحابة إقامة الحدود أحيانًا لأجل المصلحة؛ فدل ذلك على أنها تُقدَّم على النص.»
وبالطبع فإن للمرء أن يتصوَّر أنه لو عاد فقيه القرن السابع الحنبلي إلى الدعوة لطريقته في هذا الزمان، فإن مصيره لن يختلف أبدًا عن مصير المسيح الذي بعثه «ديستوفسكي» ليُبشِّر بموعظته في إسبانيا على عهد محاكم التفتيش، فقام كهنة كنيستها بصلبه من جديد؛ لأن رسالة الحب التي يكرِّز بها تتعارض مع ما لا يعرفون سواه من الكراهية والتعصب.
عن الفقه والسياسة
يكاد الدارس لمنظومات المعرفة الإنسانية، على العموم، أن يقطع بتبلورها في ارتباط جوهري مع السياق الذي تنشأ داخله. وهنا فإن المضمون المعرفي للمنظومة لا يؤثِّر في الفاعلية شبه المطلقة لهذه القاعدة؛ وبمعنى أن منظومات المعرفة التي تنشأ حول الوحي النازل من السماء، لا تخرج في تبلورها عن قاعدة الارتباط بالسياق أيضًا. وضمن سياق المعرفة ذات الطبيعة الدينية، فإن المنظومة الفقهية تكتسب قيمةً كبرى بالذات؛ وذلك من حيث أن ما يقصده دُعاة الإسلام السياسي بأسلمة الدولة لا يتجاوز مجرد السعي إلى إدارة السلطة من خلال قواعد هذه المنظومة. ولقد كان ذلك إلى الحد الذي اندفع معه أحد كبار قادتهم (وكان مرشحًا رئاسيًّا صاخبًا في مصر) يصرِّح بأن جوهر مشروعه السياسي يقوم — وبالأساس — على جعل الدولة تتطابق مع الأحكام وبالأساس الفقهية/الشرعية. ولكي يتسنَّى لهؤلاء الدعاة إنجاز ما يطمحون إليه، فإنهم يتبنَّون استراتيجية عزل المنظومة الفقهية عن السياق (الحضاري والمجتمعي) الذي نشأت داخله، والنظر إليها على أنها من أصلٍ إلهي وقرآني. وإذ يعتقدون أنهم — حين يفعلون ذلك — يمارسون عملًا دينيًّا أو شرعيًّا، فإنه يلزم التأكيد على أن ما يقومون به هو عمل سياسي بالأصالة.
وضمن سياق هذا العمل السياسي، فإن الغريب حقًّا أن يكون رجل الفقه أكثر انفتاحًا ومرونةً من رجل السياسة؛ وأعني من حيث يدرك رجل الفقه ارتباط فقهه بالسياق الذي ينشأ فيه؛ فيما يُصر رجل السياسة على إطلاقه خارج السياق. ولعل ذلك يتأكد من خلال ما جرى بين رجل السياسة (الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور) وبين رجل الفقه (مالك بن أنس)؛ فمن المشهور ما يُروى عن رفض الإمام مالك لطلب المنصور بتطبيق قواعد فقهه في العراق وسائر أمصار المسلمين؛ على النحو الذي يسمح بتحقيق وحدة فقهية/تشريعية تتجاوز معها دولة الخلافة الاختلافات الشرعية التي بدا أنها تمثِّل تهديدًا لوحدتها السياسية. يصوِّر ابن المقفع (وهو الناصح الأيديولوجي لأبي جعفر المنصور) أمر هذه الاختلافات المُهددة قائلًا: «وممَّا ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين (الشام والعراق) وغيرهما من الأمصار والنواحي اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرًا عظيمًا في الدماء والفروج والأموال، فيُستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما يُحرَّمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة فيُستحل في ناحية منها ما يُحرَّم في ناحية أخرى.» ومن هنا ما يوصي به الخليفة من أنه «لو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة، فتُرفع إليه في كتاب ويُرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله إليه ويعزم له عليه، وينهي عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابًا جامعًا لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكمًا واحدًا صوابًا، ورجونا أن يكون اجتماع السير قربةً لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر (إلى) آخر الدهر إن شاء الله.» ويبدو أن الخليفة لم يجد في نفسه القدرة على أن يكتب هذا الكتاب الجامع، فعرض الأمر على فقيه زمانه الكبير الإمام مالك.
ومن هنا ما أورد «ابن سعد (في الطبقات) عن الواقدي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لمَّا حجَّ أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه وحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها، يعني الموطأ، فتُنسخ نسخًا، ثم أبعث إلى كل مِصر من أمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، لا يتعدَّوه إلى غيره، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المُحدَث؛ فإني رأيت أصل العلم رواية المدينة وعلمهم، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم، وإن ردهم عمَّا قد اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال: لعمري لو طاوعتَني على ذلك لأمرت به.» وهكذا فإن الأصل في رفض مالك لمَطلب الخليفة هو وعيه باختلاف بيئات الأمصار عن بيئة المدينة التي يتحدَّد بها فقهه. وإذا كان الخليفة يقيم دعواه على حمل الأمة على ما في الموطأ على أن «أصل العلم (هو) رواية (أهل) المدينة وعلمهم»، فإن مالكًا لا يتردَّد في القطع بأن «اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة، كلٌّ يتبع ما صحَّ عنده، وكلٌّ على هدًى، وكلٌّ يريد الله»، وبما يعنيه ذلك من إقراره بأن علمه ليس أصحَّ أو أهدى من علم غيره، وأنه ليس النموذج الذي ينبغي على الجميع أن يتبعوه. وانطلاقًا من قَبوله لمبدأ الاختلاف على هذا النحو، فإنه يقرِّر ضرورة ترك الناس وما هم عليه من الفقه، وما اختاره أهل كل بلد لأنفسهم. ولأن الناس يختارون لأنفسهم ما يتفق مع عوائدهم، فإن ردهم عنه — ليأخذوا بغيره — يكون سببًا في إدخالهم في الحرج والمشقة، فإنه ليس من شكٍّ في أن فرض الفقه الخاص ببيئة المدينة (ذات الطابع البدوي المتجانس) على بيئة العراق (الأكثر تحضرًا واختلافًا) يكون من قبيل الإثقال على الناس بما لا يُطيقون على قول مالك. وهكذا تكون البيئة — حسب مالك — هي الأصل الذي تنضبط به عملية تبلور الفقه وتلقيه في البيئات المتباينة. ولعل ذلك هو الأصل في اختلاف الأقوال الفقهية وتعدُّدها الذي يرده مالك إلى عنصرَي الزمان والمكان؛ حيث «إن أصحاب رسول الله ﷺ قد تفرَّقوا في البلاد، فأفتى كلٌّ في عصره بما رأى، وإن لأهل هذا البلد (يعني مكة) قولًا، ولأهل المدينة قولًا، ولأهل العراق قولًا.»
إن المفارقة هنا تأتي من التباين الواضح الذي يبدو فيه رجل «الفقه» أكثر قَبولًا للتعددية من رجل «السياسة» الذي تبدو هذه التعددية مصدرًا لقلقه الواضح؛ إذ فيما يبدو رجل «الفقه» حريصًا على ترك أهل كل بلد وما اختاروا لأنفسهم من الفقه الذي يتفق مع عوائدهم، وعدم الإثقال عليهم بردهم عمَّا ألفوه، وبما يعنيه ذلك من القَبول باختلافهم، فإن رجل «السياسة» يسعى إلى أن يحمل الناس على العمل بفقه واحد لا يتعدَّوه إلى غيره، ولو اقتضى الأمر حملهم على ذلك بالسيف أو السوط. ولكن الأخطر من ذلك هو الاستراتيجية التي يتبناها رجل السياسة في إنجاز مطلبه؛ والتي تقوم — وبالأساس — على التعالي بهذا الفقه إلى مقام العلم/الأصل، وذلك في مقابل الانحطاط بغيره إلى مقام العلم المحدث. وبالطبع فإن ذلك يؤكِّد على حقيقة أن السياسة كانت هي الأصل في إطلاق سيرورة التعالي بمنظومة المعرفة التي تحقَّقت لها السيادة في الإسلام.
في أصول الاختلاف حول التحسين والتقبيح في الإسلام
كغيرها من الثقافات التي انبثقت حول نص كتاب مُوحًى به، كان لا بد أن تُجابِه ثقافةُ الإسلام إشكالية ترتيب العلاقة بين النقل/الوحي من جهة، وبين العقل/الوعي من جهة أخرى. ورغم تعدُّد إمكانيات ترتيب هذه العلاقة على أنحاء شتى تبلغ حد التعارض، وعلى النحو الذي ينعكس في تباين المواقف والفرقاء داخل الثقافة التي تكون ساحةً لانبثاق تلك الممكنات أو بعضها، فإنه يلزم التأكيد على أن جوهر العلاقة بين تلك الممكنات إنما يعكس تصارعها وسعي الواحد منها إلى إزاحة غيره تثبيتًا لسيادته وهيمنته. وبالطبع فإن قدرة الواحد من تلك الممكنات على إزاحة غيره وتثبيت هيمنته لا ترتبط أبدًا بجدارة معرفية يكون معها الأكثر تعبيرًا عن خطاب «الحقيقة»، بقدر ما ترتبط بتجاوبه مع خطاب «السلطة» المهيمنة. وهكذا فإنه إذا كانت السيادة قد استقرَّت في الإسلام لأحد الأشكال الممكنة في ترتيب العلاقة بين العقل والنقل؛ وعلى النحو الذي راح يجري معه إزاحة غيره من أشكال أخرى توقَّف النظر إليها كممكنات تملك بدورها جدارة التحقق في الوجود، بل كهرطقات لا تستأهل إلا الإقصاء والطرد خارج حدود الأمة والملة، فإن استقرار تلك السيادة لا يرتبط بكون هذا الممكن — الذي ساد واستقر — هو المعبر — لا سواه — عن «حقيقة» الإسلام، بقدر ما يجد تبريره في ارتباطه بمنطق «السلطة» التي تحقَّقت لها السيادة داخله. وفي كلمة واحدة فإن السيادة لم تتحقَّق لهذا الشكل الممكن لأنه «الحقيقي»، ولكن لأنه «الأقوى»، أو الأكثر تجاوبًا مع رؤية «السلطة» ونظامها بالأحرى، بل إنه يبدو — وللمفارقة — أن هذا التصور الذي ساد للعلاقة بين العقل والنقل داخل الإسلام يكاد يمثِّل انحرافًا عمَّا يبدو وكأنه الجوهر العميق للعلاقة بينهما، الذي تتكشَّف عنه قراءة المنطق الكامن لفعل الوحي ذاته (والذي هو أصل النقل ومصدره) في التاريخ. وبالطبع فإن ما يمثِّل انحرافًا عن المنطق الكامن لفعل الوحي، في شموله وكُلِّيته، لا يمكن تصوُّره متسقًا مع الإسلام بما هو محض التعين الجزئي الأخير داخل فعل الوحي الكلي.
والحق أن مركزية العقل تتجاوز مجرد الدور الحاسم الذي يلعبه في إنتاج الدلالة المتجدِّدة ضمن بناء واحدة من لحظات الوحي (القرآنية أو التوراتية مثلًا) إلى دخوله (أي العقل) في تركيب الوحي كظاهرة كلية شاملة. فإن تحليلًا للمنطق الذي ينتظم تطور الوحي كظاهرة كلية، تذوب داخلها كل لحظاته الجزئية، يكشف عن وقوع هذا التطور بالكامل في قبضة المنطق الحاكم لتطور العقل؛ حيث تكاد كل واحدة من لحظات تطور الوحي أن تعكس طبيعة بناء الوعي أو العقل الإنساني المساوق لها. وهكذا فإنه ومع إمكان التمييز بين صور حسية أو حتى أسطورية، وأخرى مجاوزة للحسي والأسطوري في بناء ظاهرة الوحي، فإنه يلزم التنويه بأن منطق ذلك التمييز يقوم في حقيقة تطور الوعي من الحسية والأسطورية إلى ما يجاوزهما. إن الأمر الحاسم هنا هو أن طبيعة بناء الوحي وتحولاته في التاريخ مشروطة بجوهر ما يبلغه العقل في مسار تطوره، أو أنها تكون حتى تابعةً له؛ وبما يترتَّب على ذلك من أن طبيعة الوحي وتحولاته هي التي تدور (دوران المعلول مع العلة) مع طبيعة العقل وتحولاته، وليس العكس، وإلا فإنه المصير إلى إضافة التبدُّل والبداء (بل وحتى الجهل) إلى الله (جل علاه).
وإذا كان الترتيب الذي استقرَّ في الإسلام للعلاقة بين العقل والنقل على نحو تترسَّخ فيه تبعية العقل للنقل، يتعارض — على هذا النحو — مع الوضع الذي يفترضه الوحي في جانبيه الكلي والجزئي لنظام العلاقة بينهما، فإن ذلك لا بد أن يدفع إلى افتراض أن الجذر المؤسس لعلاقة تبعية العقل للنقل التي استقرَّت في الإسلام إنما يقع خارج حدود ما فرضه الدين.
ومن حسن الحظ أن ما يخص السياسة والاجتماع لا يبقى متواريًا، طوال الوقت، في خطابات القدماء، بل إنه يسعى إلى أن يجد لنفسه ثقوبًا ينكشف من خلالها. ولعل أحد هذه الثقوب التي يظهر من خلالها هذا «السوسيوسياسي» المتواري يتمثَّل في ذلك الربط المتواتر في نصوص القدماء، بين مسألة «التحسين والتقبيح» (في أصول الدين) وبين باب «الأحكام الشرعية» (في أصول الفقه)؛ إذ الحق أنه يستحيل إنكار حقيقة التعلُّق المباشر للأحكام الشرعية بمسائل الاجتماع والسياسة؛ التي هي موضوع هذه الأحكام؛ وذلك بالرغم من تعلُّق جانب منها بأمور الفرائض والعبادة (وهي الجانب الذي يعتبره المعتزلة من قبيل ما لا يمكن معرفته إلا من الشرع).
وإذ يكون الشرع في احتياج إلى العقل لكي يظل قادرًا على التجاوب مع مقتضيات الحال والوقت التي لا تقبل الثبات، فإن ذلك يعني أن في عزل العقل وإبعاده ما سيؤدِّي إلى تقويض نظام الشرع بالكلية. ومن هنا لامنطقية ما يُقال من أن القصد من عزل العقل هو تثبيت سلطة الشرع، بعد أن بدا أن في عزله خلخلةً للشرع ذاته. وإذ الأمر كذلك، فإنه لا يبقى إلا أن سلطةً أخرى تتخفَّى وراء الشرع، وتبتغي — عبر هذا العزل للعقل — تحصين نفسها في مواجهة ما يتهدَّدها. وعلى مدى التاريخ، فإنه ليس من سلطة تفعل ذلك إلا سلطة «السياسة» التي لم تتوقف أبدًا عن التلاعب بالشرع من أجل عزل العقل.
إنها السلطة التي راحت تتخفَّى وراء الشرع، وتَدَّعي أنها لسانه الذي ينطق به؛ وذلك بالرغم ممَّا هو معلوم من أن الشرع «لا ينطق بلسان، وإنما ينطق عنه الإنسان»، بحسب قول الإمام علي (كرَّم الله وجهه). لكنها أصرَّت على أن تكون اللسان الذي ينطق به الشرع؛ لكي يتسنَّى لها قطع لسان العقل؛ الذي لن يكون مطلوبًا منه إلا تبرير حضورها غير القابل للزحزحة أو التحدي. وهكذا فإن مسألة الحسن والقبح في الأفعال ليست مجرد مسألة تتعلَّق بالعلاقة بين الشرع والعقل، بقدر ما هي كاشفة عن التقابل بين «الاستبداد» يتخفَّى وراء ادعاء قصور العقل واحتياجه إلى سلطة تُلزمه من خارجه، وبين «العقل» يؤكِّد على مركزية الدور الذي يلعبه العقل بالنسبة للشرع؛ إثباتًا له وتحريكًا لدلالة أحكامه.
سلطة البخاري والمعضلة المستعصية
كان أداء الرجل مخيبًا للآمال على نحو كامل، أما الرجل فهو أستاذ الحديث الأزهري الذي جاءوا به على شاشة التليفزيون ليرد شبهات ويُزيل شكوكًا بدأت تتناثر حول أحاديث البخاري، ولكن الرجل يفلح — لسوء الحظ — في رفع شكٍّ أو رد شبهة، بقدر ما ترك للناس المزيد من دواعي الحيرة والاضطراب. وقد ارتبط ذلك بحقيقة أن الرجل لا يتقبَّل فكرة أن يكون حديث البخاري موضوعًا لشكٍّ أو شبهة، ولهذا فإنه لم يكن ليشغل نفسه بما لا يتقبَّله أصلًا، بل كان شاغله الرئيس هو تثبيت سلطة البخاري؛ على نحو ينأى بها عن إمكان المنازعة أو التحدي. وضمن سياق هذا الانشغال فإنه اختار أن يكون القرآن هو أداته في تثبيت تلك السلطة؛ وبمعنى أنه راح يؤسِّس سلطة صحيح البخاري على إقامة ضربٍ من التماثل الكامل بينه وبين القرآن، وبحيث ينبغي الإقرار للصحيح بما جرى الإقرار به للقرآن، كما يلزم أن يُدفع عنه ما يُدفع عن القرآن سواءً بسواء. وهكذا فإنه قد جعل الشبهة المثارة حول صحيح البخاري، هي مما يُثار حول القرآن بدوره، وبما يئول إلى أن دفعها عن القرآن لا بد أن يؤدِّي إلى دفعها عن الجامع الصحيح أيضًا، وإلا فإن إقرارها بخصوص «الصحيح» لا بد أن ينتهي إلى إقرارها بخصوص «القرآن».
وترتيبًا على تلك القاعدة، فإنه إذا كانت الشبهة المثارة حول صحيح البخاري تتمثَّل فيما يُقال من تناقض بعض أحاديثه، فإن الرجل يدفعها بالقول بأن القرآن ينطوي بدوره على بعض الآيات التي تتناقض الواحدة منها مع الأخرى. ويرتِّب على ذلك طبعًا أنه إذا كان التناقض بين بعض آيات القرآن لا يمنع المسلم من الإيمان به مطلقًا، فإنه يلزم — ابتداءً من تماثله الكامل مع البخاري — أن يكون للمسلم نفس الموقف من «الجامع الصحيح»؛ وبمعنى ألَّا يمنعه التناقض بين بعض أحاديثه من الإيمان به مطلقًا. وبالطبع فإن قياس «صحيح البخاري» على القرآن، على النحو الذي يلزم معه أن يكون موقف المسلم في التعامل مع القرآن هو نفس موقفه في التعامل مع الجامع الصحيح، لا يعني إلا أن هذا الجامع لا بد أن يتشارك مع القرآن في رتبة القداسة والتعظيم.
وبصرف النظر عن أن الرجل يرفع البخاري، هكذا، إلى مقام من يتساوى كتابه «الجامع» مع كتاب الله؛ وبما يخايل به ذلك من التعالي بالبشري إلى مقام الإلهي، فإن للمرء أن يتساءل عمَّا إذا كان ممكنًا التعامل مع التناقض بين بعض الأحاديث بنفس الآلية التي تعامل بها الأصوليون مع التناقض بين بعض آيات القرآن؛ والتي هي آلية الناسخ والمنسوخ. فقد بدا للأصوليين أنه لا سبيل لرفع التناقض البادي بين بعض آيات القرآن إلا من خلال افتراض أن واحدةً من تلك الآيات تكون قد نزلت لاحقةً على أخرى سابقةٍ لها؛ وعلى النحو الذي تكون فيه تلك الآية اللاحقة رافعةً أو ناسخةً لحكم الآية السابقة، ومُقرِّرةً حكمًا مناقضًا له. وبالرغم من الإقرار بوقوع الناسخ والمنسوخ في الحديث بدوره، فإن ابن خلدون قد أورد عن ابن شهاب الزهري (وهو صاحب أول محاولة لجمع السنة بتكليف من عمر بن عبد العزيز في القرن الأول الهجري) قوله: «لقد أعيى الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله (صلعم) من منسوخه، وكان للشافعي رضي الله عنه فيه قدم راسخة.»
وقبل بيان السبب في العجز الذي يُشير إليه الزهري، فإنه يلزم التنويه بالطابع الإشكالي لمسألة الناسخ والمنسوخ حتى بخصوص القرآن نفسه؛ والذي ينشأ من عدم تفعيل القواعد التي أقرَّها الأصوليون بأنفسهم في هذا الباب. فإذ يُقِرون — بحسب ما أورد السيوطي — بوجوب أن يكون «المرجع في النسخ هو النقل الصريح عن رسول الله (صلعم)، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا … وأنه لا يُعتَمد فيه قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيِّنة؛ لأن النسخ يتضمَّن رفع حكم وإثبات حكم تقرَّر في عهده (صلعم)، والمُعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد»، فإن منهم «من تساهل واكتفى فيه بقول مفسر أو مجتهد.» وليس من شك في أن هذا التساهل الذي جعل البعض يكتفي في النسخ بقول المفسر أو المجتهد؛ وبما يعنيه ذلك من أن رفع حكم وإثبات حكم آخر مناقضٍ له يكون من عملهما (أي المفسر والمجتهد)، إنما ينشأ عن عدم وجود النقل الصحيح الذي تتعذَّر معارضته. ومن هنا أن معظم أخبار الناسخ والمنسوخ — في القرآن — تكاد جميعًا أن تكون منقولةً في صيغة المبني للمجهول.
وإذ الأمر هكذا بخصوص الناسخ والمنسوخ في القرآن، فإن الطابع الإشكالي يتزايد في حال ناسخ الحديث ومنسوخه. فإذ يلزم أن يكون النقل الصحيح عن النبي أو الصحابي هو المرجع في معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه، فإنه لا وجود أبدًا لمثل هذا النقل الذي يقرِّر أن حديث كذا قد نسخ حديث كذا سواء عن النبي أو الصحابي، بل ثمة الأحاديث المتعارضة منقولة من طريق الصحابة من دون أن يقرِّر أحدهم أن الحديث الذي ينقله ناسخ لحديث الآخر. وإذ لا حجة منقولة — والحال كذلك — في تقرير أن حديثًا بعينه يكون ناسخًا لحديث آخر، فإن ذلك قد جعل للفقيه القدم الراسخة في تعيين ناسخ الحديث ومنسوخه؛ بحسب نوع الحكم المراد تثبيته. وهكذا فإن تعيين النسخ يكون من عمل الفقيه.
وعلى فرض إمكان التساهل وإرجاع تعيين ناسخ الحديث ومنسوخه إلى رأي الفقيه، فإن إشكال الأحاديث المتناقضة يظل قائمًا؛ فإنه إذا كانت القاعدة تقول — حسب السيوطي — إنه «لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب، فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد، وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أدخل في كتب النسخ كثيرًا من آيات الأخبار والوعد والوعيد»، فإن ذلك يعني وقوع النسخ في أحاديث الأمر والنهي فقط. وأما أحاديث الإخبار — ولو في الوعد والوعيد — فإنها لا يدخلها النسخ أبدًا. وحين يدرك المرء أن معظم ما يُشار من الأحاديث المتناقضة هو من أحاديث الإخبار، فإن ذلك يعني أنها لا يدخلها النسخ؛ وبما يؤشِّر عليه ذلك من أن التناقض بينها سيظل قائمًا، وبحيث لا يكون من سبيل إلا للجمع التجاوري بينها، والذي هو آلية أشعرية تُتيح الجمع بين المتناقضات.
من أين جاءت داعش؟
يمكن التمييز في تفسير أي حدث بين دوائر متداخلة من الأسباب المتفاعلة فيما بينها، والتي يكون بعضها مباشرًا وقريبًا يظهر عنده الحدث في لحظة ما، بينما يكون بعضها الآخر بعيدًا وغير مباشر لأنه يتعلَّق بالعوامل التي تظل فاعلةً في تكوين الحدث على مدًى زمني متطاول. وبحسب هذه القاعدة فإنه يمكن التمييز في الحدث الذي تمثِّله دولة الإسلام في العراق والشام (داعش)، بين أسباب قريبة مباشرة تقف وراء ظهورها في الوقت الراهن بالذات، تتعلَّق بالانسداد والركود السياسي الذي عجزت معه الأنظمة الحاكمة في المشرق عمومًا عن التعامل بإيجابية مع حقائق الواقع ومتغيراته، وبين أسباب أخرى بعيدة وغير مباشرة لأنها ظلَّت تتفاعل على مدى العقود الماضية منذ القرن التاسع عشر، حتى بلغت أخيرًا بما يقال إنها دولة الخلافة (في العراق والشام مؤقتًا) إلى صدارة المشهد الراهن. وإذن فإنه السعي إلى فهم «الحدث» من خلال مفهوم المدتين؛ القصيرة (التي تنشغل بما هو قريب من السطح) والطويلة (التي تغوص إلى ما تحت السطح لتلامس الجذور الغائرة في العمق). وهنا فإنه إذا كانت «السياسة» هي موضوع التحليل على مستوى المدة القصيرة، فإن «الثقافة» هي إطار التحليل على مستوى المدة الطويلة. ولأن القول السياسي في داعش يبقى هو الشائع، فإن القول الثقافي فيها سوف يكون هو مركز التحليل هنا.
وفي إطار هذا القول الثقافي، فإنه يمكن التمييز بين سياقات ثلاثة هي التي لعبت الدور الحاسم في إحضار داعش إلى صدارة المشهد الراهن. يتعلق السياق الأول بخطاب النهضة العربي ونظام اشتغاله، والذي تؤشر ثورات العرب الأخيرة على بلوغه إلى ذروة أزمته لِمَا بدا من عجزه المزمن عن إخراج واقع العرب من حالة الانسداد التاريخي، وعلى النحو الذي جعلهم يدخلون إلى القرن الحادي والعشرين وهم خاوو الوفاض إلا من دولة الاستبداد والفساد؛ وهي الدولة التي سرعان ما انتهزت أجيالهم الغاضبة فرصة بلوغها حال العجز والشيخوخة حتى انقضُّوا عليها ثائرين، فراحت تتهاوى تحت ضربات معاولهم الهائجة.
ولأن هذه الدولة كانت تفرض على الجماعات المكوِّنة للمجتمع — والمتنافرة (عرقيًّا أو دينيًّا أو مذهبيًّا) — نوعًا من التعايش الهش الذي تحرسه القوة الباطشة، فإن المجتمعات العربية قد ارتدَّت بعد ما بدا من تضعضع دولة القوة إلى حالة من التفكك الذي اتخذ طابعًا صراعيًّا، راحت فيه كل واحدة من الجماعات المكوِنة لها تتصارع مع غيرها من أجل تأكيد هُويتها الخاصة التي كثيرًا ما تعرَّضت للظلم والتهميش من منظور أصحابها طبعًا. وإذن فإن الوحدة التي كانت تعيشها تلك المجتمعات لم تكن إلا محض وحدة خارجية تصنعها عمليات الإدماج القسري التي ترعاها السلطة من أعلى، ولم يكن لها ما يؤسسها في وعي هذه الجماعات بمصلحة عليا تستدعي اندماجها الطوعي في وطن. وهكذا فإن كل جماعة قد راحت ترى في تضعضع دولة القوة فرصتها التاريخية لتحسين وضعها في التركيب الاجتماعي والسياسي القائم؛ وإلى حد أن بعضها قد صرف همَّه إلى مجرد الإمساك بالسلطة ليُصفِّي حسابه التاريخي مع غيره من المنافسين الذين مارسوا التهميش والتمييز ضده قبلًا. ومن هنا تحديدًا كان اندلاع حرب الطوائف التي ابتدأت أولًا في العراق الذي تصوَّر الأمريكيون أنه يمكن أن يكون حقلًا لاستنبات ديمقراطية تكون نموذجًا يتم احتذاؤه في العالم العربي كله، وتجاهلوا أن غياب الشروط الأولية للديمقراطية، والتي منها الاندماج الطوعي للجماعات المكوِّنة للمجتمع، لن يُنتج إلا شكلًا في الحكم يُغذِّي الطائفية بدل أن يرفعها.
وحين يدرك المرء أن هذه الدولة قد كانت هي النتاج المباشر لمشروع النهضة الذي انبنى — بحسب ما صرَّح أحد الآباء الأوائل — على أنه محض تغيير تُجريه قوة قاهرة على قوم وادعين جهلاء، فإنه يصل إلى الاقتناع بأن الطبيعة البنيوية لِمَا قيل إنها الدولة العربية الحديثة هي — وللمفارقة — أحد أهم السياقات التي أدَّت في النهاية إلى ظهور دولة الخلافة (داعش). وهكذا فإن دولة الحداثة المشوَّهة قد جاءت لتغطي، بزخارفها وبريق ألوانها، على واقع طائفي دميم؛ والتي ما إن انكشف ضعفها وخواؤها، إلا وانفجر هذا الواقع بطائفيته البغيضة في وجوه الكافة.
ولقد كان الطامحون إلى الإفادة من هذه الطائفية ينتظرون جميعًا هناك؛ وبحيث راح كل واحد منهم يسعى لتسمين الطائفة التي يريد منها التهام الأخريات. ومن لم تكن له طائفة ينصرها، فإنه لم يتوقف عن إذكاء المناخ الطائفي. وبالطبع فإن هؤلاء الطامحين لم يخرجوا عن مجمل القوى الإقليمية الكبرى (إسرائيل وتركيا وإيران) المتصارعة على الإقليم، والتي توافقت رغم كل ما يقوم بينها من صراع وتنازع على ضرورة تفريغ المنطقة من الفكرة القومية التي بدا أنها تمثِّل التهديد الأكبر لطموحاتها؛ ففي كل المواجهات الكبرى التي كان الإقليم ساحتها الكبرى على مدى القرن العشرين بأسره، كانت «قومية العرب» هي الفكرة الموجهة لعلاقاتهم مع تلك القوى؛ ابتداءً من المواجهة مع الخلافة العثمانية قبل سقوطها، والتي اتخذت في المشرق طابعًا قوميًّا حادًّا، ثم أثناء الحروب مع إسرائيل، وأخيرًا في الحرب العراقية الإيرانية. ويبدو أن ثمة السعي الآن إلى محاصرة الفكرة القومية، واستبدال الفكرة الطائفية بها لتصبح العامل الحاكم للصراع في المشرق كله. ويعني ذلك أن الجهود الحثيثة لإنهاء الفكرة القومية هي بدورها أحد السياقات التي أحضرت داعش إلى الوجود.
وأما ثالث السياقات المحدِّدة لظهور داعش، فإنه يتعلَّق بظاهرة الإسلام السياسي التي يلزم التأكيد هنا على أنها — وللغرابة — ظاهرة حداثية بامتياز، وبمعنى أن كل الشروط التي جعلت وجودها ممكنًا لم تكن لتحضر خارج إطار اجتياح الحداثة الأوروبية للمجتمعات الإسلامية على مدى القرن التاسع عشر؛ فقد بدا أن الظاهرة تمثِّل بكليتها محض استجابة من نوع خاص تجاه التحدي الذي فرضته الحداثة على المجتمعات الإسلامية. فإن التحدي الذي فرضته الحداثة قد خلق استجابات مختلفةً تباينت بحسب الكيفية التي جرى بها فهم الأزمة التي ترتَّبت على الاجتياح الحداثي. ويبقى أن تباين الاستجابات لم يرفع عنها اندراجها تحت نظام بنيوي واحد؛ وبمعنى أنها جميعًا لم تخرج عن إمكان — بل وجوب — استثمار المنتج البراني التقني للحداثة مع تركيبه على مكوِّن جواني تراثي. وفقط فإن التباين قد جاء من كيفية التعاطي مع هذا المكوِّن التراثي؛ حيث راح البعض يتعامل معه بما هو ساحة للكثير ممَّا يتعارض مع أصول التمدُّن الحديث (وبما ترتَّب على ذلك من وجوب أن يكون موضوعًا للإصلاح، وحتى النقد)، بينما راح البعض يراه مكتملًا وصالحًا للاستخدام على حاله الموروث (وبما ترتَّب على ذلك من استعماله كملاذ للتحصُّن خلفه دفاعًا عمَّا قالوا إنه الهُوية المهدَّدة).
من رَحِم هذا التزاوج بين الحداثة لا كقيمة وفكرة، بل كإجراء وتقنية، وبين الإسلام — النموذج الأكمل كمركز أوحد للهوية (بمعناها السياسي) — خرجت ظاهرة الإسلام السياسي التي وفدت موجتها الأولى على العرب من شبه القارة الهندية — عند منتصف القرن التاسع — مع جمال الدين الأفغاني الذي حارب معركته السياسية تحت راية الإسلام متأثرًا بانهيار دولة المسلمين في الهند. ثم وفدت الموجة الثانية من هذه الظاهرة من الهند أيضًا — مع انتصاف القرن العشرين بالضبط — مع أبي الأعلى المودودي الذي أراد دولةً لا مكان فيها لغير الإسلام والمسلمين، فأخرج الإسلام من كونه دينًا للبشر إلى أن يصبح دينًا لدولة ظلَّت تدغدغ مشاعر الحالمين بها حتى ظهر لهم أمير المؤمنين الخليفة أبو بكر البغدادي على منبر الجامع الكبير في عاصمة الخلافة الجديدة (الموصل)، معتمرًا عمامته السوداء التي يؤكِّد بها على وراثته لتراث النبي الأكرم، ولكن من دون أن ينسى أن يُزيِّن يده بساعته الرولكس الأكثر بريقًا وحداثة.
ويبقى السؤال: هل ستنطق له الساعة بزمانها الحي المتجدِّد والمتحرِّك دومًا للأمام أم إنه سيطلب منها أن تولِّي عقاربها للخلف لتعود به إلى لحظة الفضل الأولى التي لم يكن ما بعدها إلا محض زمان راكد ميت؟! لكن الشيء المؤكد هو أن التاريخ سيُثبت له أنه ودولة خلافته هما أحد مساخره.