تاريخ اليهود في التوراة
تزعم التوراة أنَّ اليهود هم نسْل اثنَي عشر ولدًا هم الأسباط، أبناء النبي «يعقوب» المُسمَّى «إسرائيل»، ومن هنا سُمُّوا «بني إسرائيل»، وحتى تجعل التوراة من هذا النسل خلاصة البشرية، ومدار حديثها المقدَّس فإنها تُجري تصفياتٍ عجيبة بين الشعوب سنلاحظها مع خَطونا داخل التوراة.
تبدأ التوراة تاريخ اليهود بالعودة إلى بداية الإنسانية لإنسانيتها على الأرض، فتحكي لنا رواية تقول: إنَّ الله خلق زوجَين من البشر، ووضعهما في مكانٍ أطلقت عليه «جنة عدن»، وإنَّ هذا المكان كان على هذه الأرض ذاتها، لكن الزوجَين البشريَّين ارتكبا خطيئةً عُظمى، عندما عصيا أوامر الإله في أمرٍ هائل؟ فقد أكلا من ثمرة شجرة حرَّمها عليهما! فثارت ثائرة الإله، وطردهما من هذا المكان إلى مكانٍ آخَر على الأرض، شرقي عدن. وأنجب الزَّوجان البشريَّان الأوائل، اثنَين من الذكور هما هابيل الذي اشتغل بالرَّعي، وقايين الذي عمِل في الأرض فلَّاحًا (ويبدو أنَّ ذلك تسجيل قديم لبداية التخصيص في العمل، وفق ظروف البيئة، والصراع الذي نشأ بين هذين النظامين)، وقام الأخوان يُقدِّمان للإله القرابين لإرضائه، فقدَّم هابيل من لحم غنمه، وقدَّم قايين من زرع أرضه. وكما فيما بعد، فإنَّ الإله كان على ما يبدو من اللواحم، فقبِل قُربان هابيل، ورفض قربان قايين (والتحيُّز هنا واضح للبداوة والنظام الرعوي، ولنتذكَّر أن اليهود بدو رُعاة)، ممَّا أوغر صدْر قايين الفلَّاح، على أخيه الراعي، فقتَلَه، ثم يختفي ذِكر قايين من التوراة، ليظهر ابنٌ ثالث لأبي البشرية المدعو آدم، هو «شيث» (وهكذا كان واضحًا، ومن شيث تناسلَتِ البشرية وتكاثرت على الأرض. وأن دور هابيل وقايين لم يكن له أي علاقة بالتكوين، بعد أن مات هابيل وتبعه قايين وجاءت البشرية من أخٍ ثالث هو شيث؛ وهو ما يؤكد أن قصتهما إنْ هي إلا تسجيل بدئي وتفريق بين نظامَين، أقربهما إلى الإله هو الرعوي).
ومرةً أخرى يَعصي النسْل البشري ربَّه، فيُقرِّر الربُّ إفناء مخلوقاته العاصية دومًا، بالطوفان، ورغم تأكيد التوراة المُتواتر على ندَم الإله المُستمرِّ لخلقِه البشر، فإنه مع ذلك، يُضمِر بينه وبين نفسه الإبقاء على بذرة الحياة، فيختار من بين نسْل «شيث» فردًا واحدًا هو «نوح»، ويُخبره بقرار الدمار الذي انتواه، ويأمُرُه أن يصنع ويجمع فيه من كلِّ الأحياء، وأن يأخُذ أبناءه معه، وتستمرُّ القصة فتُعلِّمنا بتفجُّر الأرض بالعيون، وتفتُّح أبواب السماء بماء منهمر، ممَّا أدَّى إلى طوفان عاتٍ، حمَل السفينة النوحية بركَّابها، الذين تمَّ اختيارُهم عشوائيًّا، بينما فَنيَ كل حيٍّ آخر على البسيطة، وانتهى الأمر بالسفينة بعد هدوء الغضب الإلهي، إلى التوقُّف فوق جبل «أرارات»، قُرب بحيرة «فان»، إلى الشمال من بلاد الرافدين، داخل بلاد أرمينيا.
وكان بنو نوحٍ الذين خرجوا من الفُلك: سامًا، وحامًا ويافث، وحام هو أبو كنعان، وهؤلاء الثلاثة هم أبناء نوح، ومن هؤلاء تشعَّبت كل الأرض. (تكوين ٩: ١٤-١٥)
ولأن اليهود يعدُّون أنفسهم في الأسطورة أبناء سام، فكان لا بدَّ من التصفية، التي بدأت باستبعاد حام وبَنيه من التاريخ المقدَّس، وهو في التوراة أبو كلٍّ من «كوش» أو الزنوج، و«مصرايم» أبو المصريين و«كنعان» أبو الكنعانيين، أصحاب الأرض المطلوب الاستيلاء عليها، لبني سام. ولا مجال للاستبعاد، إلا أن يأتي حام وبنوه مُنكرًا، لخَّصَتْه التوراة في القول: إن نوحًا بعد هبوطه السفينة، قد شرِب خمرًا حتى ثمِل، وتعرَّى من ثيابه ثم غاب عن وعيه «فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه … فأخذ سام ويافث الرداء … وسترا عورة أبيهما … فلمَّا استيقظ نوح من خمرِه، علِم ما فعل به ابنه الصغير، فقال ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الربُّ إله سام، ليفتح الله ليافث، فيسكُن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدًا لهم» (تكوين ٩: ٢٠–٢٧).
وواضح من هذه التصفية الأخلاقية، والتي كان المُلام فيها أصلًا — حسب الرواية التوراتية — نوح ذاته، القصد باستبعاد الكوشيين الأحباش والمصريين من الترِكة المقدَّسة، مع التركيز على استبعاد كنعان بن حام بوجهٍ خاص مع خَصِّه باللعنة والعبودية لسام، رغم أنه لم يشاهد العورة النوحية ولم يرتكب ذنبًا، إنما كان الذنب ذنب الجد الذي سَكرَ، وذنب الأب حام الذي شاهد هذه العورة وعاينها.
ثم تُمطر التوراة بركاتها على الابن سام بالتحديد والخصوص، بحسبانه الجد البعيد لليهود، ثم تُركِّز جهودها بعد ذلك، وطوال أسفارها حول نسلِه المجيد، فتُخبرنا أنه أنجب كلَّ بني عابر، وتُعدِّد بني عابر بأنهم: «عيلام» أبو الإيرانيين، و«آشور» أبو الرافديين، و«أرفخشد» أبو الأرمينيين، ثم تصطفي من بينهم «أرفخشد» الذي أنجب شالح، وأنجب شالح عابر، وأنجب عابر فالج، ويقطان أبو حضرموت (ولا ندري سرًّا لهذا الخلط بين أناس يعيشون في أقصى الشمال، في «أرمينيا»، وأناس يعيشون في أقصى الجنوب، في «حضرموت»).
(عند مُراجعتنا للبروفة الأولى لطباعة هذا الكتاب كنَّا قد انتهينا من كتاب: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول — دار سينا — ونظن أنَّنا قد كشفْنا فيه السرَّ وراء هذا الخلط.)
أما فالج أخو يقطان، فقد كان هو الفرع المبارك في الشجرة المباركة فهو جدُّ النبي «إبرام» أو «إبراهيم» الذي أنجب بدَوره إسماعيل وتُقرِّر التوراة استبعاد إسماعيل، فتقول: إنَّ إبراهيم قد أنجبَه من جاريته هاجر، وأنَّ الأمر لم يرُقْ لسارة زوجة إبراهيم، فأمرت بطرد الجارية وولدِها فأخذهما إلى باديةٍ من البوادي، وتركهما هناك، حيث ترعرع إسماعيل واستوطن في تلك البوادي نهائيًّا، تاركًا الأرض للنسْل الآتي، فقد أنجبت سارة حسب الرغبة التوراتية إسحق الذي تمَّ استبقاؤه في المصفاة التوراتية ليكون جدًّا لليهود.
وأنجب إسحق ولدَين هما: «عيسو» البكر، ثم «يعقوب». وحسب منطق القواعد السامية، كان المفتَرَض أن يكون البِكر «عيسو»، هو وريث النبوَّة والأرض والأملاك، لكن الذي حدث في التوراة هو العكس، بعد أن استخدمت مِصفاتها مرةً أخرى لاستبعاد البكر، واستبقاء آخِر العنقود «يعقوب»، الذي سيكون هو «إسرائيل» أبو الأسباط أو بني إسرائيل، وقد أوردتِ التوراة ذلك في أسلوبٍ طريف، في قصةٍ أطرفَ لا يصحُّ تجاوزُها.
فكبُر الغلامان، وكان عيسو إنسانًا يعرف الصيد، إنسان برية، ويعقوب إنسانًا كاملًا يسكُن الخيام، فأحبَّ إسحق عيسو، لأنَّ في فمِهِ صيدًا، وأما رفقة «الأم» فكانت تُحِبُّ يعقوب … وحدَثَ لما شاخ إسحق كلَّت عيناه عن النظر، أنه دعا عيسو ابنه الأكبر فقال: ها أنا ذا، فقال: إنني قد شِختُ لستُ أعرف يوم وفاتي فالآن خُذ عُدَّتك، جُعبتَك وقَوسَك، واخرُج إلى البرية، وتصيد لي صيدًا، واصنع لي أطعمةً كما أُحب، وائتني بها لآكُل، حتى تُباركك نفسي قبل أن أموت، وكانت رفقة سامعة … فكلَّمت يعقوب ابنها قائلة … يا بُني اسمع لقولي … اذهب إلى الغنَم، وخُذ لي من هناك جديَين جيِّدَين من المعزى، فأصنعهُما أطعمةً لأبيك كما يُحب، فتُحضرهما إلى أبيك ليأكل حتى يُباركك قبل وفاته، فقال يعقوب لرفقة أمِّه: هو ذا عيسو أخي رجل أشعَر وأنا رجل أملس، ربما يَجسُّني أبى فأكون في عينَيه كمُتهاون، وأجلُب على نفسي لعنةً لا بركة … فأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة … وألبست يعقوب ابنها الصغير، وألبست يدَيه وملاسة عُنقه جلود جدَيَي المعزى، وأعطت الأطعمة والخبز التي صُنعت في يد يعقوب ابنها، فدخل إلى أبيه وقال يا أبي، فقال ها أنا ذا من أنت يا بُني، فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك، فقد فعلتُ كما كلَّمتني، قُم اجلس وكُل من صَيدي لكي تُباركني نفسك فقال إسحق لابنه: ما هذا الذي أسرعتَ لتجد يا بني؟!
فقال: إنَّ الربَّ إلهك قد يسَّر لي!
فقال إسحق ليعقوب: تقدَّم لأجسَّك يا بني، أأنت هو عيسو أم لا؟ فتقدَّم يعقوب إلى إسحق أبيه، فجسَّه … ولم يعرفه لأنَّ يدَيه كانتا مُشعرتَين كيدَي عيسو أخيه، فبارَكَه … فقال له إسحق أبوه: تقدَّم وقبِّلني يا بني، فتقدَّم وقبَّله فشمَّ رائحة ثيابه وباركه، وقال: انظُر رائحة ابني كرائحة حقْل قد بارَكَه الرب، فليُعطِك الرب من ندى السماء ومن دسم الأرض وكثرة حنطةٍ وخمر، ليستعبد لك شعوب وتسجُد لك قبائل، كن سيدًا لإخوتك، وليسجُد لك بنو أمِّك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومُباركوك مُبارَكين. وحدث حين فرع إسحق من بركة يعقوب … أنَّ عيسو أخاه أتى من صيده … فعندما سمع عيسو كلام أبيه صرخ صرخةً عظيمة ومُرةً جدًّا، وقال لأبيه: باركني أنا أيضًا يا أبى، فقال: قد جاء أخوك بمَكرٍ وأخذ بركتك. (تك ٢٧: ١–٣٥)
حقيقةً، إنَّ هذا النص ذكرى وتسجيل واضح للتطوُّر التاريخي والاجتماعي؛ فقد قرَّر انتهاء زمن الصيد والمجتمع غير المُستقر، وظهور المجتمع المُستقر (عيسو كان إنسانًا يعرِف الصيد، إنسان برية، ويعقوب إنسانًا كاملًا يسكُن الخيام)، ورغم تمسُّك الأب بالصيد والنظام القديم، فقد كان لا بدَّ من الانتقال ولو بالخديعة.
فبقي يعقوب وحدَه، وصارَعَه إنسان حتى طلوع الفجر ولمَّا رأى أنه لا يقدِر عليه، ضرب حُقَّ فخذِه، فانخلع حُقُّ فخذِ يعقوب في مصارعته معه، وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أُطلقك إن لم تُباركني، فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يُدعى اسمُك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدتَ الله والناس وقدرت، وسأله يعقوب وقال: أخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي، وبارَكَه هناك، فدعا يعقوب اسم المكان فينيئيل، قائلًا: لأني نظرتُ الله وجهًا لوجه ونجَّيتُ نفسي. وأشرقت له الشمس إذ عبَر فنوئيل وهو يخمع على فخذه، لذلك لا يأكُل بنو إسرائيل عِرق النسا الذي على الفخذ إلى هذا اليوم، لأنه ضرب حُق فخذ يعقوب على عِرق النسا. (تك ٣٢: ٢٢–٣٢)
وهكذا تحوَّل الاسم «يعقوب» إلى «إسرائيل»، أو «صراع إيل» أو مصارع الرب أو الذي صرع الإله، وأنجب «إسرائيل» اثني عشر ولدًا هم الأسباط بنو إسرائيل، وكان أشهرهم أصغرهم سنًّا وأكبرهم شأنًا «يوسف».
أما مصدر شهرة يوسف في التوراة فهو أنه كان جميلًا جمالًا فاتنًا! والثاني أنه كان كثير الأحلام! والثالث أنه كانَ مفسِّرًا أيضًا للأحلام! مما أثار مَوجِدة إخوته الذين كادوا له، حتى انتهى بكيدِهم عبدًا في بلاد مصر، لكنَّ قُدرته على التبصير وقراءة الطالع في الأحلام، أدَّت إلى ذيوع صِيتِهِ في البلاط الملكي، حتى تمكَّن بقُربِهِ من صاحب العرش أن يُصبح وزيرًا لخزانة المصريين. وبهذا المركز تمكن من استجلاب أبيه وإخوته إلى مصر، في وقتٍ حلَّ فيه الجفاف بالأرض، وفي مصر عاشوا زمانًا تكاثروا فيه وتناسَلوا وعلا شأنهم.
لكن الحال لم يستمرَّ على حاله، فقلَب لهم الفراعنة ظهر المجن، واتَّخذوهم عبيدًا مُسخَّرين في الأعمال الشاقة، حتى ظهر «موسى» النبي، وهو في زعم التوراة أحد أحفاد سبط «ليفي» أو «لاوي» أحد إخوة يوسف وهو الذي قُدِّر له قيادة اليهود للهرَب من مصر إلى كنعان، في أشهر الرحلات في التاريخ، تلك المُسمَّاة «رحلة الخروج».
وقد قُدِّر لهذا النبي حسبما جاء بالتوراة أن يكون صاحب مغامراتٍ كُبرى شهيرة، منذ ميلاده وحتى مَماته، فقد وُلِد في ظروفٍ صعبة، كان مطلوبًا فيها بأمر فرعون مصر، قتْل من يُولَد في هذا العام من ذكور، فألقته أمُّه في اليمِّ لكنَّ أقدار «الميلودراما» ساقته إلى قصر فرعون حيث عثرت عليه ابنة فرعون، فاتخذته لها ربيبًا، لكنه كان يعرف أصلَه العرقي، ممَّا دفعه يومًا للانتصار لأحد اليهود من بني جلدتِه، فقتَل بسبب انتصاره لعصبيته مصريًّا دون أن يتحقَّق حتى من مَوضع الحق، فكان أن طلبَه القانون للقصاص فهرَبَ إلى بلاد تُسمَّى «مديان»، حيث التحق هناك بضيافة كاهنها المدعو «يثران»، وصاهرَهُ فتزوَّج ابنته، وهناك قابله ربُّ اليهود في جبلٍ أسمته التوراة جبل الله «حوريب»، حيث أمره بالعودة إلى مصر، مُدعَّمًا بعددٍ من الخوارق، ليقود شعبه المُختار من مصر في رحلة خروج، أو رحلة عودة إلى كنعان.
ويظنُّ المؤرخون أن بداية بنى إسرائيل الحقيقية، هي مع رحلة الخروج حوالي ١٢٠٠ق.م. بعد أن قضَوا في مصر حوالي أربعة قرون، لكنَّ موسى لم يحظَ بدخول أرض كنعان، حيث تُخبرنا التوراة أنه قد مات ودُفن وهو من أرضِ الميعاد قابَ قوسَين أو أدنى، وخلَّف على القيادة رجلًا دمويًّا، هو «يشوع بن نون»، الذي اشتُهر بالقسوة المُرعبة، وبمعجزاتٍ كالمعجزات الموسوية كفلْق البحر، لكنه زاد عليها بالتخصُّص في معجزات يشوعية، منها ايقاف الشمس والقمر في مكانيهما، حتى يتمكَّن من الانتصار على أعدائه.
ومن بعدِ يشوع، استمرَّ اليهود يعيشون زمانًا، على هامش حياة الكنعانيين في الوقت الذي يزعُم فيه الباحثون قُدوم أقوامٍ إيجية من جزيرة كريت، باسم الفلسطينيين، ليستوطنوا الساحل الكنعاني، ويُكسِبوا أرض كنعان اسمها «فلسطين»، ممَّا خلق أمام اليهود عقبةً جديدة، فبدأ صراع طويل بين الشعبَين، استطاع اليهود بعد انتصارهم فيه أن يُقيموا لهم مُلكًا ودولة، كان أول ملوكها «شاءول» ثُم تلاه على العرش الملك «داود»، الذي استطاع أن يكسِر شَوكة الفلسطينيين بشكلٍ حاسم، مما أتاح للدولة الناشئة الاستقرار، وهيَّأ لوريثه الملك «سليمان» الفُرصة ليبلُغ بالدولة أوْج شُهرتها.
وقد قُيض للملك سليمان أن يحوز في مقدَّسات المنطقة وتاريخها، شهرة لا تُضارَع، ربما لأنه أشهر ملوك اليهود، وربما لأنه ضرب بالأنبياء المُتنبِّئين عرض الحائط — كما تقول التوراة — ولم يسِر وراء الشعوذات وركَّز اهتمامه في الشئون الدنيوية وفقَ خططٍ عقلانية، فتغنَّوا بحكمتِهِ وربما أضاف إلى ذلك مُيولَه الفنيَّة التي دفعته إلى بناء قصرِه، والهيكل وفقَ أحدث الطرُز المعمارية، فجلب لهذا الغرَض فنَّانين من مختلف الأقطار المُحيطة بدولته، وأشرف بنفسه على عمليات البناء والنحت والتشكيل والتجميل والنقش.
أما الباحث أحمد سوسة فيقول: «أما الوصف الذي اعتاد الباحثون ترديده عن اتِّساع وامتداد حدود مملكة سليمان فيَعدُّه أكثر الباحثين من قبيل المُبالغات، التي درجَت عليها دويلات تلك العصور. والحقيقة أن مملكة سليمان التي تُبُجِّح بعظمتها، كانت أشبهَ بمحميَّةٍ مصرية مُرابطة على حدود مصر، قائمة على حراب أسيادها الفراعنة … وكان سليمان يريد أن يُجاري الفراعنة في البذخ، والظهور بما هو فوق طاقاته وإمكانياته الاقتصادية … فأثقل كاهل الشعب بكثرة الضرائب … ولمَّا عَسُر على سليمان أن يحتلَّ أرض الفلسطينيين الساحلية، طلب معونة فرعون مصر، فأرسل جيشًا مصريًّا صغيرًا احتلَّها له وسلَّمَها إليه، مهرًا لابنته.»
ثم يتساءل «سوسة»: «كيف صوَّر كتبَةُ التوراة مملكة سليمان، صورة تفوق الواقع بكثير … فسليمان لم يكن وهو في أوْج مجدِه إلَّا ملكًا صغيرًا يحكُم مدينة صغيرة، وكانت دولته من الهزال وسرعة الزوال، بحيث لم تنقَضِ بضعة أعوامٍ على وفاته، حتى استولى شيشنق أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم.»
والمهم أنَّ هذا النفوذ السُّليماني المزعوم، قد انتهى بانقسام المملكة من بعدِه إلى دوَيلتَين: واحدة في الشمال سُمِّيت إسرائيل وعاصمتها السامرة، وأُخرى في الجنوب سُمِّيت يهوذا وعاصمتها أورشليم. ولم تلبَث المملكة الشمالية أن وقعت في قبضة الرافديين الآشوريين، بعد أن سحقَها العاهل الآشوري سرجون الثاني، بينما انتهت المملكة الجنوبية يهوذا إلى المصير ذاته على يدِ العاهل البابلي الكلداني نبوخذ نصر الثاني، وذهب ألوفٌ من كليهما أسرى إلى بابل وآشور، وهناك ظلوا في الأسر حوالي أربعة قرون.
وفي العقود الأخيرة من القرون الأربعة ظهرت في الأفق دولة كبرى جديدة في إيران هي دولة الفرس، بقيادة رجل حديدي غير عادى هو «كورش»، الذي اتجهت طموحاته إلى الاستيلاء على بلاد المشرق وتكوين إمبراطورية كبرى، وكان لحنكته السياسية دورها الحاسم في تحقيق أحلامه، فقد قبل عروضًا بتعاون اليهود وعلى رأسهم «أشعيا» و«إرميا»، بموجب شروط ومطالب محددة لليهود، وعلى رأسها تحريرهم من الأسر وعودتهم إلى أرض كنعان لإقامة هيكلهم ودولتهم مجددًا، مما انتهى بفتح أبواب بابل للفرس.