التكوين الكائني
مع أسطورة «جلجامش وإنكيدو والعالَم السُّفلي» نُتابع بحثنا عن حقائق سِفر التكوين
السومري، فيوقِفنا مقطع واضِح في مُقدمتها.
يقول:
بعد أن ابتعدت السماء عن الأرض
بعد أن انفصلت الأرض عن السماء
بعد أن عُيِّن اسم الإنسان
بعد أن أصبحت السماء بحوزة «آن»
بعد أن أصبحت الأرض بحوزة «آنليل».
١
ونفهم من ذلك، أنه بعدما انتهى «آنليل» من فصل السماء عن الأرض وبعدما نظَّم كونَه،
وبعدما تقرَّر خلق البشر على الأرض (بعد أن عُيِّن اسم الإنسان)، اتَّحد «آنليل»
بأمِّهِ الأرض، بعد أن أزاح أباه، وهو ما يلتقي مع فروض مدرسة التحليل النفسي، في رغبة
الابن إزاحة الأب والاستيلاء على الأم، خاصَّة أن أفعال «آنليل» الخالِقة تتوقَّف عند
هذا الحد، ولا يظهر له دور في عملية خلق الإنسان، فيما تحت أيدينا من نصوص، كما لو كان
تحقيقًا لرغبةٍ موقوفة التحقيق والنتيجة، فلا هو يُنجِب من أمِّهِ الأرض، ولا هو
يُعاشرها أصلًا (كما لو كان تحقيقًا لفكرة التابو والتحريم ضدَّ الرغبة)، إضافة إلى
أنَّ النص: «بعد أن أصبحت الأرض بحوزة آنليل.» يلتقي مع ما سبق وافترضناه في اقتران
ظهور «آنليل» على سائر الآلهة، أو على الأب «آن»، ببداية سلطة الحاكِم الكاهِن في
المُشترك المَعبدي (بعد أن أصبحت الأرض بحوزة آنليل).
وفيما يتعلَّق بخلق الإنسان هناك أسطورة أُخرى تقول: إن الأرض أنجبت الزرع والحيوان
والإنسان، خرجوا من طِينها كالدُّود والحشيش، ثم تصوَّر هؤلاء البشر تصويرًا يكاد
يُعطيها مشروعية علمية فتقول:
البشر الأول لم يعرِفوا أكلَ الخُبز بعدُ
يسيروا على أيديهم وأرجلهم
كالخِراف يعلفون الحشائش
ومن القنوات كانوا يشربون الماء آنذاك
في المكان الذي كانت فيه الآلهة في
مَعبدها
التل المُقدَّس … المعبد …
المكان الذي تأكُل فيه الآلهة الخُبز.
٢
فهل كان هذا النص تسجيلًا لقصة بشَرٍ تطوَّروا
وسط بشرٍ ظلُّوا على حالتهم الحيوانية؟ ربما.
لكن هناك نصًّا آخر، يروي قصةً أخرى لخلق الإنسان وُجد منقوشًا على لوحَين مُكرَّرين
لنصٍّ واحد، جاء أحدُهما من مدينة «نفر» وهو حاليًّا في جامعة بنسلفانيا، والآخر محفوظ
في اللوفر، يقول:
الأم الأولى نمو تأتى إلى آنكي
(اتفقنا على ترجمة آنكي: السائل المُخصِّب
آبسو)
وتخاطبه: قُم يا بنى من فراشك
واعمل ما هو حكيم لائق
اصنع عبيدًا للآلهة
وعساهم أن يُضاعفوا من عددهم
فتدبَّر آنكي الأمر وقال لأمه نمو:
يا أمَّاه: إن المخلوق الذي نطقتِ باسمه
موجود
فاربطي عليه صورة الآلهة
اعجني لبَّ الطين الموجود فوق مياه العمق
(اتفقنا أن ماء العمق آبسو السائل
المُخصِّب)
واجعلي الصانعين المَهَرة يُكثفون الطين
عليك أنت أن تُوجدي له الأعضاء والجوارح
وستعمل ننماه (الأرض الأم أو السيدة
الأم)
الأم الإلهة
من فوق يدَيك
وستقوم بجانبك إلهةُ الولادة
(يبدو أنها ننماه ذاتها)
وستربط ننماه عليه صورة الآلهة
ونفهم من هذا النص أن الذي يجِب أن يُنسب إليه فعل خلق الإنسان هو الإله «أنكي»،
بوصفه سائل الخِصب أو مَنيَّ «آن» مُشخَّصًا في إلهٍ وأنه لم يفعل أكثر من تلقيح طين
الأرض «اعجني لبَّ الطين الموجود فوق مياه العُمق.» وأفضل ترجمتها «اعجني له الطين
وسيكون فوقَه آبسو المَنيُّ.» خاصة أنه رغم طلب الأم الإلهة من «أنكي» القيام بخلق
الإنسان، لا نجد له دورًا سوى ذلك، لأنَّ الأم الأرض «ننماه»، الوالدة «ننتو»، هي التي
عملت الطين «وستعمل ننماه الأم الإلهة من فوق يديك.» ثم إنها هي التي صوَّرته في هيئة
الإنسان على شبَهِ الآلهة «فاربطي عليه صورة الآلهة.» ومن هنا خَلقت الآلهة الإنسان على
شبَهِها ومثالها. ويُعقِّب «كريمر»، على ترجمته للنصِّ السالِف بقوله: «إنَّ
المُفكِّرين السومريين … اعتقدوا اعتقادًا جازمًا بأنَّ الإنسان صُنِع من طين، وأنه
خُلق من أجل غرضٍ واحد فقط، ذلك هو أن يعبُد الآلهة ويخدمها بتزويدها بالطعام والشراب
والمسكن ليتوافر لها وقتُ الفراغ لأعمالها الإلهية.
٤
لنلاحظ هنا كيف استطاع هؤلاء المُفكرون، وهم الكهَّان، وهم الحاكِمون، أن يُحقِّقوا
فائض إنتاجٍ ملائمًا بين أيديهم، مقابل تفرُّغهم لإدارة المُشترك المعبدي، والاتصال
بالآلهة، باعتبار ذلك مسألةً قدسية تتمثَّل في تزويد الآلهة بالطعام والشراب والمسكن،
أو بالقرابين تدخُل من فائض إنتاج الأفراد إلى ملكية خاصَّة بالآلهة والكهنة، إضافة إلى
المسكن الفاخر للآلهة «المعبد»، الذي كان في واقعه قصرًا سكنيًّا وإداريًّا
للكهنة.
وقد حاول «بوتيرو» تعليل إصرار أهل سومر على فكرة خلق الإنسان من مادة الطين بالذات،
بقوله: «إن هذا التمثيل والصُّنع من الطين لأجسام البشر الأوائل، يُعتبر صورة طبيعية
جدًّا، في بلدٍ يلعب فيه الفخار دورًا كبيرًا، حيث نجد صنع التماثيل من الطين الفخاري
بشكل إنسان، عملًا مُنتشرًا بصورة واسعة.»
٥
أما نحن فنعتقِد ببساطة، أنه كان يكفي للسومري أن يُلاحظ الطين وما ينشأ فيه من حياة
(فطر، نبات، ديدان … إلخ) حتى تنشأ لدَيه قناعة أن هذا هو مصدر ومنشأ الحياة عمومًا.
ولمَّا لم يكن لديه شاهد عياني على خروج إنسانٍ من الطين فجأةً دفعةً واحدة، كالزرع أو
الدُّود، فقد اعتقد أنَّ ذلك قد حدث بنوعٍ من التشكيل الفخاري لأجدادِه الأوائل.
وبالبحث عن التسمية التي أطلقها السومريون على هذا المخلوق الطيني نجد الاسم
«إنسي
ANZI» وهي في تحليلِنا تعنى مثيل أو شبيه
الإله «آن»، باعتبار «سي
ZI» تعني الشبيه أو الحقيقي،
ويقول «حسن ظاظا» إنَّ الاسم «إنسي» قد تخلَّف في كل اللغات السامية للدلالة على
الإنسان، وأنَّ مُؤنَّثه كان يتأتى بقلب السين إلى «ش» فيُصبح «أنشي»، أو إلى «ت»
فيُصبح «أنتي» أو «ث» فيصبح «أنثى» كما في العربية وجمعها «إناث»،
٦ لكن «كريمر» يُشير إلى أنَّ الاسم «إنسي» وكان اللقب الذي يُعرَف به ملوك
المُدن السومرية.
٧ ونعتقد أنه لا خلاف، فالأمر راجع إلى تعظيم الملك باعتباره أبًا أولًا
للمُشترك المديني الذي كانت تَدين فيه كل عشيرة بالعبادة لأبيها، الذي تَمثَّل بتجميع
العشائر في مدينةٍ في شخص الملك، فأصبح هو أبَ الجميع الأول «إنسي» وكان يُلقَّب أيضًا
باللقب «لوجل»،
٨ أي الرجل العظيم، أو ذا الجلال، ونظنُّها الأصل في الكلمة الدالة على مذكر
الإنسان «رجل».
لكنَّا نعتقد أن مؤنَّث الكلمة «إنسي» السومرية، ليس «أنثى» أو «أنت
d»، لأن «إنسي» مركبة من مُلصَقَين هما «آن = الإله
أو السيد + سي»، وبما أن مؤنث «آن = سيد» هو «نن = سيدة»، فإن مؤنث «إنسي» يكون «نن سي»
أو «ننسي»، وبحُسبان ما أشار إليه «ظاظا» يسهل أن تتحوَّل «ننسى» إلى «ننشي» و«ننتي»
بشكل خاص، وقد وردَ الاسم «ننتي» في أسطورة ترجمَها «كريمر»، ممَّا يؤكد استخلاصنا هذا،
وقد جاء هذا الاسم في أسطورة تقول إنَّ «نن تي» إلهة خلقت أصلًا لغرَضٍ خاص جدًّا، هو
تمريض وعلاج الإله «آنكي» عندما أصابه المرَض في واحد من أضلاعه، والضلع بالسومرية هو
«تي»، لذلك سُمِّيت الإلهة الممرضة «نن تي» أي «سيدة الضلع». ويُعقِّب «كريمر» على ذلك
تعقيبًا يكاد يُوعز لنا فيه بحلِّ أُحجية خلق حوَّاء من ضِلع آدم، التي وردت في
الديانات السامية، حتى يكاد يُقنِعنا أنَّ نصوص سِفر التكوين في التوراة، قد أخذت ما
جاء في الأسطورة السومرية بشكلٍ شائه، بعد مرور زمانٍ نُسي معه الأصل، ولم يبق سوى سيدة
الضلع أو السيدة الضلع، فخالوا الأنثى الأولى مخلوقة من ضلع الإنسان الأول، وسقط كاتب
هذا الجزء من التوراة، في الشرَك السومري، ففسَّر حواء التي تدلُّ على الأنثى الأولى
في
اللغات السامية بأنها مأخوذة من «تلك السيدة التي تُحيي أي التي تُسبِّب الحياة.»
٩ وهو ما تَعنيه أيضًا الكلمة «تي»، لأن «تي» تدلُّ على الضلع عندما تكون
اسمًا، لكنها كفعلٍ تعني «أحيا»، أو جعله «يحيا» ويُصبح اسم «نن تي» أو «ننتي»، السيدة
التي تُحيي.
١٠
وأصرَّ كريمر على إفهامنا أنَّ التوراة قد أحدثت خلطًا ناتجًا عن سوء فهم للتراث
السومري، بين «ننتي» كسيدة للضلع مُهمتها شفاء ضلع «آنكي»، وبين «ننتي» بمعنى السيدة
التي تُحيي، لأن «تي» تعني «أحيا».
ومع حفظنا لثِقَل «كريمر» وتقديرنا له كمصدرٍ غزير للسومريات، فنحن ننحو منحًى آخر
في
تصوُّرنا لِما حدث، فإذا افترضْنا أنه قد حدث خلْط فعلًا، فقد كان في الكلمة السامية
«حواء» من الفعل السامي «أحيا» وهو فعل له اشتقاقات عدة، منها «حوا» أي استدار حول
الشيء واحتواه، كحَمل الأم لطفلها في استدارة بطنها، و«حيا» وهو الفرج، ومن هنا يُصبح
الفعل «أحيا»، هو إخراج الحياة المَحوية في البطن من الحيا، وبعد أن تَعامَلْنا مع
الاسم «آن تي» كمؤنث ل «آنسي» وانتهينا إلى وجوب تصحيحه إلى «نن تي»، فإن قُمنا
بالاشتقاق منها على الطريقة السامية في «حواء» من «حيا»، فستُصبح «ننتي» هي «ننتو»، وهو
الاسم الذي عرفناه لإلهة الولادة السومرية وترجمته الحرفية «السيدة التي تلد».
أما لو افترضنا أنه لم يحدُث هذا الخلط في التوراة، فسيكون هناك خطأ ما في ترجمة
الأسطورة الخاصة بخلْق ممرضة ضلع «آنكي»، ونأسف لأنَّ أصولها ليست بين أيدينا. وفي مثل
هذه الحالة كان يُمكننا افتراض أن «ننتي» كانت أُنثى خُلقت من ضلع الذكر، وليكن «آنكي»
كما قال «كريمر» وليكن، «أنسي» بالفرض. وأنه كان يُعاني من مرضٍ في ضلعه، كان انتزاعه
منه كفيلًا بشفائه، وعليه لا تكون «ننتي» إلهةً وليست أُنثى بشرية، فهو ما لا يتناقض
مع
قوانين التطوُّر الفكري والاجتماعي، التي عبَدَت الأسلاف كآلهةٍ ذكورًا وإناثًا.
ولا يفوتنا أن نُشير إلى اختصاص الأم الأولى بلقبٍ آخر في السومرية هو «مونوس»، التي
هي فيما نظنُّ الأصل في الكلمة السامية «موموس» التي انحدرت إلى العربية «مومس»،
للدلالة على المرأة التي لا تعرف رجلًا واحدًا كما لو كان في اللغة خاصية الحفريات،
فاحتفظت لنا بكلمةٍ ذات معنًى حفري سحيق، لتُشير إلى عصرٍ كانت فيه المرأة مشاعًا في
المجتمع الأمومي أو النظام الغابر.
لكن أغرب ما في علاقة الفكر الديني السومري بالفكر الديني السامي، ولعلَّه ليس أغرب
إنما أقرب إلى طبيعة الأمور، هو ذلك الختم الأسطواني الذي كشف عنه مؤخَّرًا، ويُصوِّر
ذكرًا وأُنثى، بينهما نخلة، وخلف الأنثى تدلَّت حيَّة، رأسها بجوار رأس الأنثى، بينما
تمدُّ هذه الأنثى يدَها في شكل دعوة للذكر الجالس قُبالتها، ليتناول من ثمار النخلة،
ولنتذكَّر الآن الارتباط اللغوي بين الحية، وبين حيا الأنثى «فرجها»، وبين الحياة
(فالأنثى مصدر للمواليد، للحياة)، وبين التسمية «حواء». ويبدو أنَّ هذا الارتباط
المُتوارَث، كان ناتج تصور الأقدمين أن الحية دائمة التجدُّد، ودائمة الحياة، عن طريق
مشاهدتهم لها تنسلِخ من جلودها العتيقة لتخرج بجلود جديدة زاهية، في حركة تُشبِه خروج
الجنين من حيا الأم، ولعلَّ ذلك يفسِّر لنا الارتباط العجيب في العقل القديم، بين
المرأة كمصدرٍ للحياة باستمرار، وبين الحية التي تتجدَّد وتُولَد دائما بانسلاخها من
جلدِها، وبين تصوُّر كليهما «المرأة – الحية» كمصدرٍ للخُبث والأذى!