الخطيئة والسقوط
رغم أنه كان للآلهة معابدها، التي كانت في الوقت نفسه مسكنًا لها، ومركزًا إداريًّا
للمشترك المعبدي، ومحل إقامةٍ لكبير الكهنة وبطانته، أُطلق عليها اسم «إى
E»، فإنَّ هذه المعابد لم تكن مقارَّ دائمةً للآلهة، قدْر
ما كانت بقاعًا أرضية مُقدسة، تلتقي فيها الآلهة بكهنتها، لتفسير النذر أو قَبول
القرابين، أو لإصدار قرارات تتعلق بأمورٍ مُستعجلة، بينما كان مقرُّها الدائم كما جاء
في الأساطير هو جبل السماء والأرض. أما أين هذا الجبل؟ فهو ما لا تُجيب عنه المُدوَّنات
الموجودة بشكلٍ واضح، لكن يمكن الاستنتاج من مجموعة وثائق وأساطير، أنه كان في مكان
يُدعى «دلمون
DILMOUN» حيث وردتْ كمكانٍ تجري فيه
أحداثٌ عظام، بين الآلهة السومرية، فظهرت «دلمون» كما لو كانت مسكنًا دائما للآلهة. وفي
مجموعةٍ أخرى من الأساطير تبدو «دلمون» كما لو كانت مسكنًا وموطنًا للإله خالق البشَر
«آنكي» أو «أنسي»، إذا اعتبرناه أبا البشر الأول، وأنه أنجب هناك عددًا من الآلهة.
١
وننفرد نحن في بحثِنا هذا بزعمٍ يدعَمُه ما تحت أيدينا من وثائق، هو أنَّ «دلمون»
كانت المكان الذي قامت فيه الآلهة بخلْق أول بشرٍ على الأرض، فقد وَصفت هذه المآثر
«دلمون» بأنها:
الأرض دلمون هي الموطن الطاهر
الأرض دلمون هي المحلُّ النظيف
الأرض دلمون هي الأرض المُشرقة
هو ذلك الذي اضطجع وحدَه في دلمون
المحلُّ الذي اضطجع فيه آنكي مع زوجته.
٢
•••
في دلمون لا ينعق الغراب الأسود …
ولا يصيح طائر الأندو «الحدأة» ولا يصرخ
ولا يفترس الأسد
والذئب لا يفترِس الحمَل
ولم يعرفوا الكلب المتوحِّش الذي يفترس
الجداء
ولم يعرفوا «خرم بالنص» الذي يفترس الغلَّة
ولم تُوجَد الأرملة
والطير في الأعالي «خرم بالنص» …
والحمامة لا يُحنى رأسها
وما من أرمد يَشتكي ويقول عيني مريضة
ولا مصدوع يقول في رأسي مرَض الصداع
٣
وامرأة دلمون العجوز لا تشكو من الشيخوخة
ورجل دلمون الشيخ لا يتبرَّم من كِبَر السن.
٤
أما السر في كون «دلمون»، أخذت شكلَ المدينة السعيدة الفاضلة فيرجِع إلى حلول الإله
«آنكي» فيها،
٥ وتقول أسطورة «آنكي وننهور
ساج
ENKI & NIN HURSAG» التي بدأت بوصف «دلمون» كموطنٍ طاهر نظيف مُشرق، يسُوده السلام
والأمن والطمأنينة: إنَّ الإله «آنكي» حلَّ فيها، وأمر الإله «أوتو» أن يملأها بالماء
العذب، لكونها كانت تفتقِده، وعند ذلك أصبحت:
مدينتها تشرب الماء الوفير
دلمون تشرب ماء الرخاء
آبارها ذات الماء المر
انظُر
تراها أصبحت مياهها عذبة
حقولها ومزارعها أنتجت الغلَّة والقمح
مدينتها، انظُر، تراها
وقد أصبحت دارًا للشواطئ
لكن حتى يتأتَّى لهذه الأرض زرع، كان لا بدَّ من إلهة للزرع والنبات جاءت عبر عدَّة
عمليات خلق، فأوَّلًا يقوم الإله «آنكي» بوصفه المُخصِّب، بتخصيب الإلهة «ننهور ساج»،
فتحمِل لمدة تسعة أيام، وتضع إلهة الزرع،
٧ وأتصوَّر إلهة النبات هذه هي حبَّة القمح، أو أول حبَّة قمح، فاسمُها «نن
شال»، و«شال» كلمة تدلُّ على الفرْج الأنثوي كمصدرٍ للحياة فهي السيدة الفرْج أو الإلهة
الفرْج، مع ملاحظة التشابُه بين حبَّة القمح المَفلوقة وبين الفرْج الأنثوي، وما قد
يخطُر على بال القدماء، عندما يُشاهدون فلقةَ حبَّة القمح تُخرِج حياةً جديدة، بعد
رَيِّها بماء الخصب كما ينفلِق الفرج الأنثوي عن ميلادٍ جديد بعد ريِّهِ بماء
الذَّكر.
إلا أنَّ الأسطورة تُشير إلى خلق ثمانية نباتات أُخرى خلقَتْها الأم «ننهور ساج»
فأكلها «آنكي»، فغضبت عليه «ننهور ساج» غضبًا شديدًا، حتى أنها قامت تصبُّ عليه اللعنات
قائلة: «لن أنظر إليك بعين الحياة حتى تموت.» وهنا أخذ المرض يشتدُّ ﺑ «آنكي» وبدأ
يتدهور ويذبُل.
٨
ولنقِف الآن قليلًا مع ما جاء في هذه الأسطورة، التي أراها أول تسجيلٍ حقيقي اكتشف
حتى الآن لقصة الخطيئة الأولى! فنتساءل: لماذا غضبتْ «ننهور ساج» كل هذا الغضب على
«آنكي» لو لم تكن قد أنذرتْهُ سلفًا، وحرَّمت عليه هذه الثمار قبلًا، وأعلمته بذلك
إعلامًا واضحًا؟ ومع ملاحظة أنَّ النص به خروم وتشوُّهات كثيرة أدَّت لفقد كثيرٍ من
الأبيات والمَضامين! إذن من المنطقي أن يكون هناك عِلم مُسبق أُحيط به «آنكي» برغبة
«ننهور ساج» عدَم المِساس بالنباتات الثمانية، وعندما عصى الأمر كان عقابه الموت «لن
أنظُر إليك بعين الحياة حتى تموت.» ويبقى التساؤل: كيف يمكن لإلهٍ مُفترَض فيه الخلود،
أن يمرض ويموت؟! من هنا نفهم أنَّ الأسطورة اعتبرت «آنكي» الأب الأول. وطبيعي أن
يتَّصِف بالألوهية بحُسبان عبادة الأب الأول، بخاصَّة ما جاء في بداية الأسطورة بعد
تقريظ دلمون كأرضٍ طَهور نظيفة، وفجأة وبلا مُقدِّمات تقول: «هو ذلك الذي اضطجع وحدَه
في دلمون.» إنها صورة تُلقي بنا في مرآة الزمان الآتي، عند ظهور التوراة وما قالته عن
أبٍ للبشر يعيش وحيدًا في مكانٍ يُسمَّى الجنة، ثم تقول أسطورتنا عن «دلمون» «إنها
المحلُّ الذي اضجع فيه آنكي مع زوجته.» فمن كانت هذه الزوجة؟
هل قصدت الأسطورة بالزوجة الإلهة «ننهور ساج»؟ ربما؛ لكن الأحداث التي تلتْ مرض
«آنكي» تُشير إلى منحًى آخر، رغم عَدَم النصِّ عليه في نصِّنا هذا المُهترئ، لأنَّ مرض
«آنكي» كان في واحد أضلاعه، واتَّفقنا أنَّ شفاءه تمَّ بنزْع الضِّلع المريض ليُصبح هذا
الضلع هو «نن تي» سيدة الضلع، فكان «آنكي» بذلك إلهًا مُعرَّضًا للموت بسبب خطيئته، وهو
ما يتعارض مع صفة الخلود الإلهية. وكان يجمع في ذاته الذكورة والأنوثة معًا، فهو ذكَر
خُلقت من ضلعه أُنثى ليتحوَّل الخلود الفردي الذاتي بالانقسام إلى خلود للنوع عبر
تناسُل الذكر والأنثى، وعليه تتَّضِح عدة حقائق هي:
-
كان للآلهة دار طهارة وسلام للمقام هي «دلمون».
-
في دلمون حدثت أول عملية خلق للنبات عن طريق تخصيب «آنكي» ﻟ «ننهور ساج»
لتُنجِب إلهة النبات.
-
«ننهور ساج» تخلُق بمفردها ثمانية نباتات مُحرَّمة.
-
يأكل «آنكي» النبات المُحرَّم فتَحيق به اللعنة الربَّانية فيمرَض بضلعه
ويحتضِر، لولا نزع هذا الضلع المريض منه، وتُخلَق منه سيدة الضلع أولى إناث
البشرية.
-
يفقد آنكي بذلك ألوهيته كسائلٍ مُخصِّب كوني، ويتحوَّل خلوده الإلهي إلى
خلودٍ عبر التناسُل. وهنا في رأيي تكمُن العلاقة بين «آنكي» وبين «إنسي»
فتحوَّل «آنكي» إلى «إنسي» مُهمته التخصيب المُستمر لسيدة الضلع «نن تي» أو
«نن تو» أو «سيدة الولادة» أو «ماما» أو «مامي» أو «أماه».
ولا يبقى لكي تترتَّب المسألة بشكلٍ أفضل سوى أن نستكمِلها بالختم الأسطواني الذي
صوَّر ذكَرًا وأنثى يأكلان من ثمار نخلة، بإيعازٍ من الحية «والحية رمز جِنسي» لنسُدَّ
به الثغرات الناقِصة في النص، ليُصبح أكل الثمرة المُحرَّمة هو رمز لمُمارسة الجنس مع
أخرى غير «ننهور ساج»، مما استوجَب غضبَها ولعنتَها، ولم تكن هذه الأخرى سوى «نن تي»
أو
«ننتو» أو «أنتي» أو الأنثى الأم الوالدة الأولى، بينما أصبح آنكي هو «إنسي» صاحب
المَنيِّ المُقدَّس، بينما تحوَّلت ثمار النخلة «التمر» (وهى رمز نن تي شافية المرض
التي مارس معها الجنس آنكي، ولنلحظ نواة التمر المَفلوقة وحبَّة القمح المفلوقة)،
لتُصبح ثمرًا مقدسًا وشافيًا ومُثيرًا للغلمة والشهوة، وسببًا لمزيدٍ من مَنيِّ الرجل
وخِصبه حتى اليوم؛ بل نعتقد أن كلمة «تمر» لغة، هي التي أصبحت بعد ذلك «ثمر»، لتدلَّ
على وجه الإطلاق على جميع أنواع الثمار بمعنى أنها كانت الأصل الأول للثمر عمومًا
وللخِصب عمومًا، ومثلها القمح وكل حَبٍّ مفلوق (ولنلحَظ العلاقة اللغوية بين الحَبِّ،
والحُبِّ)، فكان التمر والحبوب، الثمار الأم الأولى في «دلمون» إلى جوار الأب الأول
«آنكي» أو «إنسي» والأم الأولى «نن تي» أو «أنثى».
وبما أن «دلمون» يُشار إليها في الأساطير السومرية كمركزٍ إلهي خالد يُخالف دُنيا
السومريين في الرافدين، فقد بات واضحًا أن «آنكي» الإله الذي فقد الخلود، و«نن تي»
زوجته، أو الإنسي والأنثى كأبوَين للبشر، قد غادرا هذا المقرَّ الإلهيَّ من زمانٍ بعيد،
ليعيشا عيشة إنسانية، بينما ظلَّت «دلمون» موطن الآلهة الخالدة في الأساطير.