لمحة تاريخية
(١) الدولة السلجوقية ١٠٣٦–١٣١٨م/٤٢٨–٧١٨ﻫ
كل أمة انقسمت على نفسها بادت، وانقسام المملكة العباسية دولًا أزال سلطانها الممنَّع، وقوَّض عرشها الرفيع، وجعلها عبرة في الغابرين. ولم يكن نشاط هذه الدول في بدء أمرها ليبشر بحميد العقبى، فإن تنابذ ملوكها وتنافسهم، وتكالبهم بالعدوان، وحرصهم على الامتلاك والتوسع، جعل ضعيفهم لقمة سائغة للقوي، وبلادهم دريئة للحروب والفتن والخروج والعصيان؛ فبتَّ لا ترى إلا دولًا تقوم وأخرى تضمحلُّ، وملوكًا تُخلع وملوكًا تستقلُّ. وهذه الأحوال المضطربة لا يستقيم معها نظام، ولا يستتب سلطان، ولا تأمن فيها البلاد سطوات الأجانب. والدولة العباسية كانت في اتساع ولاياتها، مطمح أنظار سائر الشعوب، فما إن تجزَّأت وحدتها، وتقطَّعت أوصالها، ونَشِبت فيها الثورات والفتن حتى مدت الأمم الأعجمية أنظارها، فرأت الفرصة سانحة، والشاة ممكنة للرامي، فتوغَّل السلاجقة الأتراك في بلاد الفرس، وزحفوا إلى العراق، وبنو بويه قد صار أمرهم إلى الضعف، فدخلوا بغداد، واستولوا عليها، ودانت لهم البلاد من حدود الصين إلى آخر حدود الشام، ولكنهم لم يحفظوا وحدتهم، بل تقسَّموا ممالك، فكان منهم في الفرس والعراق وكردستان والشام وآسيا الصغرى. وفي أيامهم حدثت الحروب الصليبية، فإن أوروبا كانت كغيرها من الأمم، تلاحظ المملكة الإسلامية، وتتحفز للوثوب عليها.
وفي أوائل القرن السابع للهجرة ظهر جنكيز خان المغولي، فغزا البلاد الإسلامية حتى خراسان، فخرَّب مدنها، وحرق مكاتبها، ومثَّل بأهلها. وجاء بعده حفيده هولاكو، فأناخ على العراق ودخل بغداد سنة ٦٥٦ﻫ. وبطش بأهلها، وانتهبها، وألقى كتبها في دجلة، وقتل المستعصم الخليفة العباسي، وفتك بأولاده وأهله، واستولى على ما في قصره من الجواهر واللآلئ. وهرب من نجا من بني العباس إلى مصر، وجعلوا الخلافة فيها، وكانت يومئذ في حكم الأيوبيين.
وما زال المغول يتوغَّلون في بلاد المسلمين حتى افتتحوا الشام وآسيا الصغرى، وأزالوا ملك السلجوقيين.
وامتاز عهد السلجوقيين في إنشاء المدارس، وأشهرها المدرسة النظامية في بغداد، أنشأها نظام الملك الفارسي — وزير ملكشاه السلجوقي — وكان من أستاذيها الغزالي.
(٢) الدولة الأيوبية ١١٧١–١٢٦٠م/٥٦٧–٦٥٩ﻫ
هذه الدولة كردية الأصل، وزعيمها يوسف بن أيوب المعروف بصلاح الدين، وكان أبوه أيوب وعمه شيركوه من قوَّاد السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام من قِبَل الفاطميين. وكانت الدولة الفاطمية قد ضعف أمرها. واستبدَّ عليها عمالها ووزراؤها. وحدث أن الصليبيين زحفوا إلى مصر يريدون الاستيلاء عليها، فاستنجد العاضد الخليفة الفاطمي بعامله السلطان نور الدين بن زنكي، فأرسل إليه قائده شيركوه، ومعه صلاح الدين ابن أخيه. ثم ارتد الفرنجة عن مصر صلحًا، واستوزر العاضد شيركوه. ومات شيركوه فاستوزر صلاح الدين، ولقبه الملك الصالح، فاستولى على الأحكام، ولم يدع للخليفة إلا السلطة الدينية. وكان السلطان نور الدين زنكي يراقب حالة مصر عن كثب، فكتب إلى صلاح الدين يخبره بأنه سيقطع الخطبة عن الفاطميين، ويقيمها لبني العباس، ويطلب منه أن يفعل فعله؛ فوافقه صلاح الدين، وكلاهما سُنِّيٌّ. ومات العاضد على أثر ذلك، وكان مريضًا، فانقرضت به دولة الفاطميين، وصار الملك إلى صلاح الدين، فاستقلَّ بالأمر، وفتح دمشق واستولى على ملك آل زنكي، وحدثت بينه وبين الصليبيين حروب كثيرة، فاستردَّ منهم بيت المقدس، وغيره من البلاد التي افتتحوها في سورية. وكان قد تولاهم الضعف بعد أن دبَّ فيهم الخلاف. وملك صلاح الدين من سنة ٥٦٧–٥٨٩ﻫ/١١٧١–١١٩٣م.
وأصاب الدولة الأيوبية ما أصاب السلاجقة من التجزُّؤ، فصار منهم ملوك في مصر ودمشق وبعلبك وحلب وحماة وحمص وما بين النهرين واليمن، وناوأ بعضهم بعضًا، فوهن سلطانهم، ثم زال سنة ٦٥٩ﻫ، بغارات هولاكو، واستئثار مماليكهم التركمان بالسلطان.
وللأيوبيين يد بيضاء على اللغة؛ فإن بلادهم أصبحت قرارة العلماء والأدباء؛ لشغفهم بالعربية وعنايتهم بتعزيز العلم والأدب. ونبغ منهم شعراء كبهرام شاه صاحب بعلبك، ومؤرخون كالسلطان الملك المؤيد صاحب حماة، والمعروف بأبي الفداء، وعلماء كالملك المؤيد صاحب اليمن. وعنوا بلغة الدواوين كالفاطميين، فأقاموا عالمًا بالنحو يراقب الإنشاء، ويصلح الخطأ.
(٣) ميزة العصر
فيتضح مما تقدم أن الحالة السياسية كانت على أسوأ ما يكون، فمن حروب متواصلة، ودولة متداولة، وفتن مشتعلة، إلى تشقُّق مطَّرد، حتى أصبح على كل بلد ملك ذو عرش وصولجان. وهذه الحالة القلقة كانت لا جَرَم نذيرًا بمصير البلاد إلى الانحطاط، وبئس المصير.