الشعراء المولدون١
(١) ميزة الشعر
لم يكن انتقال الشعر من البداوة إلى الحضارة مرهونًا بانتقال الخلافة من الأُمويين إلى العباسيين، بل أخذ الشعر يتحضر في صدر الإسلام على أثر الفتوح الكثيرة، وملابسة العرب للأعاجم، وانتقال الخلافة إلى دمشق، وفيها القصور والجنائن والأنهار، وفيها أثر كبير من حضارة البيزنطيين، ولكن العصر الأموي كان عصر حروب وفتن، فلم يهدأ هادئه، ولم يطل عهده، فيبلغ أهلوه غايتهم من الترف والعمران، أضف إلى ذلك أنَّ خلفاء بني أمية كانوا على تحضرهم ينزعون إلى الحياة البدوية، ويؤثرون العرب الخلَّص على غيرهم من الشعوب، ويرتاحون إلى أساليب الجاهليين وطرقهم، فما أتيح للشعر أن يبلغ الطور الذي بلغه بعد أن أُديل العباسيون من الأمويين، وبنيت بغداد وجعلت عاصمة الخلافة، واشتد اختلاط العرب بالأعاجم، وساد النفوذ الفارسي، وامتلأت خزائن الدولة بما أفاء الله على المسلمين من أموال الفرس والروم، فانهل من فيضها على الناس؛ فوفَّرت لهم أسباب الرزق، فانبسطت حياتهم فأُترفوا وأمعنوا في الترف.
وكان للشعراء القسط الأوفر من هذا العيش الخضيل، فإنَّ الخلفاء بعد أن استتب لهم الأمر، ودانت لهم الأعداء، وخضدوا شوكة الأحزاب، انصرفوا إلى الحياة يتذوقون نعيمها، والشعر من نعيم الحياة؛ فقربوا الشعراء وجعلوهم ندماءهم، فأيسر الشعراء واتسعت ذات يدهم، فرفهُوا وأسرفوا في اللذة؛ فرقت طباعهم، ولانت نفوسهم، ورقَّ شعرهم، ولانت ألفاظه، وقلَّ استعمال الغريب فيه، والشعر مرآة النفس؛ فإذا كانت النفس قاسية خشنة خرجت الألفاظ وحشية صلبة، وإذا كانت لطيفة ناعمة خرجت الألفاظ سهلة لينة.
ولم يكن للشعراء الموالي حظ في صدر الإسلام، فلم يرتفع شأنهم، ولم يكثر عددهم. وأمَّا في هذا العصر فقد تكاثروا ونموا، واشتد خطرهم ونبغت منهم طائفة تقلدت زعامة الشعر، واعترف لهم الشعراء.
وقد علمنا أنَّهم يكرهون العرب؛ فأنفوا أن يتشبهوا بهم ويقلدوهم في أساليبهم، وكان لهم من حضارتهم ومن عنصرهم العجمي ما يبعدهم من وحشي اللفظ وبدوي المعنى، فكان لهم الفضل في تجدد الألفاظ، وفي تجدد المعاني.
(٢) التجدد اللفظي
فأما التجدد اللفظي فلم يقتصر على تسهيل الألفاظ وتليينها، بل تعداهما إلى تزيينها وتنميقها، فقد عُنِيَ الشاعر العباسي بتوشيتها كما عني بتوشية ثوبه وداره وماعونه؛ فأكثر من الاستعارات والتشابيه والتزمها التزامًا. وافتنَّ في أنواع البديع وتعمده تعمدًا، وأول من تَكَلَّفَهُ وخرج به عن عفو الخاطر بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ، فمُسْلِمُ بْنُ الْوَلِيدُ، فَأَبُو نُوَاس، فَأَبُو تَمَّام.
والحياة العباسية كانت تدعو إلى هذا الوشي والتنميق من جميع نواحيها، فمن انغماس في الرخاء والترف إلى تَخَلُّقٍ بأخلاق فارسية يلائمها الافتنان والتصنع لبعدها من السذاجة والفطرة.
ودخل على لغة الشعر ألفاظ غريبة دعت إليها الحاجة، كالألفاظ العلمية والفلسفية وغيرها؛ مما يدل على أشياء حديثة العهد عند العرب، ودخل عليها أيضًا ألفاظ استعيرت من صلب اللغة لمعانٍ مستحدثة خلقتها الحضارة الجديدة.
وأمَّا أوزان الشعر وقوافيه فلم تتجدد تجددًا يذكر، ولكن الشعراء أخذوا يُعْنَوْنَ بالنظم على الأوزان الرشيقة التي تصلح للغناء، وأكثر ما كانوا يصطنعونها في الغزل والمجون والخمريات.
وعلى الجملة فإنَّ التجدد اللفظي ظهر ظهورًا جليًّا في شعر العباسيين، ولم يكن دونه التجدد المعنوي.
(٣) التجدد المعنوي
واتسع عليهم باب الخيال لاتساع سبل اللهو ووسائل العمران، فمن قصور شواهق وحدائق نواضر إلى نهور دوافق وسفائن مواخر، فأصبحوا إذا عمدوا إلى التشبيه استمدوا أكثره من البساتين والحلى والرياش والطيوب، فذاع عندهم تشبيه الخَدِّ بالتفاح والورد والياسمين، والبنان بالعناب، والعيون بالنرجس، والخمر بالياقوت والذهب، والكأس باللؤلؤ، وقوس السحاب بأذيال مصبغة، والهلال بين الغيوم بزورق من فضة عليه حمولة من عنبر، وغير ذلك من ألوان الحضارة الجديدة.
على أنَّ هذا الخيال كان يرافقه العقل، فما يدعه ينطلق على هواه، كما كان ينطلق خيال الشاعر الجاهلي والإسلامي، بل عُنِيَ بتهذيبه وتنظيمه؛ فنشأ عن ذلك اتساق في الأفكار، فأصبح الشاعر إذا تغزل وأراد الانتقال إلى المدح لا يثب إليه وثبًا بل يمد جسرًا يعبر عليه، وهذا ما يسمونه حسن التخلص.
ولا ريب في أنَّ نقل الفلسفة والمنطق كان أثره بليغًا في تثقيف أفكار الشعراء وتنسيق خيالاتهم، وأثَّر فيهم نقل العلوم؛ فاستعملوا الأغراض العلمية في شعرهم ولم تكن معروفة من قبل، كقصيدة صَفْوَانَ الْأَنْصَارِيِّ التي يصف بها معادن الأرض رادًّا على بشار بعد أن مدح بشار إبليس، وزعم أنَّ النار خير من الأرض، وحسبك أن تقرأ منها هذين البيتين لتعلم مبلغ تأثير العلوم الدخيلة في الشعر العباسي، قال:
ولكن هذا التجدد في اللفظ والمعنى لم يشمل أبناء العصر كلهم، بل كان هناك جماعة المحافظين على القديم، يدافعون عنه دفاع المستميت، ويناهضون الجديد بجميع قواهم، حتى إنَّ الشعراء المجددين كانوا يتكلفون الأساليب القديمة بعض الأحيان إرضاءً لهؤلاء.
(٤) الدفاع عن القديم
وغير طبيعي أن يحدث شيء جديد مكان شيء قديم دون أن يدافع هذا القديم عن نفسه؛ سنة تنازع البقاء، ويستوي في ذلك الممالك والقبائل والأديان والمعايش والأخلاق والعادات والأزياء والعلم والأدب «شعره ونثره»، فقد أغار الأدب الجديد على الأدب القديم في العصر العباسي الأول؛ فثبت له هذا، وأعد ما لديه من قوى الدفاع ليرد عنه غائلة غازيه.
ومن المعقول أن يكون للأدب القديم أنصار وأتباع يقاومون دعاة المذهب الجديد؛ فإنَّ جماعة العلماء والرواة وذوي السلطان كانوا يستغربون هذا الجديد، وينعونه على أصحابه، وربما أنف الرواة من روايته والاستشهاد به، ولو جاء آية في الإبداع.
وقد أخذ يظهر كره الجديد والدفاع عن القديم في الصدر الثاني للإسلام، فإنَّ بعض الرواة كانوا يعدون شعراء بني أُمَيَّةَ مولّدين، بالإضافة إلى شعراء الجاهلية والصدر الأول، ويرفضون الاحتجاج بأقوالهم، وأقدم أصحاب هذا المذهب أبو عمرو بن العلاء، وكان لا يرى خيرًا إلَّا في الشعر الجاهلي والمخضرم، فإذا سئل عن المولّدين قال: «ما كان مِنْ حسن فقد سُبِقُوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم.» وربما أعجبه شعر جَرِير والفرزدق فيقول: «لقد حسن هذا المولَّد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته.»
فيُسْتَدَلُّ من ذلك أنَّ العلماء كانوا لا ينكرون الجمال على الشعر المولَّد، ولكن يعتقدون أنَّه مستمد من الشعر القديم، ويأبون الاستشهاد به؛ لقلة ثقتهم بلغة المولّدين من أهل عصرهم.
وقد يستشهد بعضهم مكرهًا بشعر مولَّد كما فعل سِيبَوَيْه والأَخْفَش، فإنهما لم يحتجَّا بشعر بشار إلَّا بعد أن هددهما بالهجاء.
ولأبي نُوَاس مداعبات كثيرة مع أنصار القديم، فقد كان يستهزئ منهم وهم ينكرون عليه شذوذه عن مذهبهم.
ولطالما تعرض الشعراء المجددون للضرب والطرد والحبس؛ لأنَّ الخلفاء العباسيين كانوا يؤثرون مسايرة المحافظين على القديم؛ لما يتعلق بهذا القديم من تقاليد دينية وروابط عصبية، وربما اتهم الشاعر المجدد بالزندقة فلا ينجو من العقاب؛ لذلك كان يعتصم بالتُّقْيَةِ بعض الأحيان، فيتحدى مذهب الأقدمين ولا سيما في المدح والرثاء، فيقف على الطلول ويبكي الدِّمْن، ويصف ناقته، ويكثر من الغريب؛ ليرضي ممدوحه أو أهل مرثيِّه، وليظهر لأصحاب اللُّغة أنَّه خالط العرب الصرحاء وأخذ عنهم لغاتهم واصطلاحاتهم، حتى استوى لسانه وسلم من العثار.
فإذا أنت درست شعر هذا العصر رأيته يختلف في تجدده ومحافظته باختلاف فنونه وأغراضه، وأكثر ما يظهر لك الجديد من الشعر في الغزل والمجون، والخمر واللهو، ووصف القصور والحدائق، والطبيعة والرياض؛ لأنَّ الشعراء كانوا يصورون في هذه الفنون عواطفهم وأخلاقهم، ويصورون عادات عصرهم وأخلاق أبنائه، وما فيه من ترف وخلاعة، وما تقع عليه عيونهم من جمال مطبوع وجمال مصنوع. وأمَّا في وصفهم القفار والطلول والإبل فيصورون عصرًا يختلف كثيرًا عن عصرهم، فهم في تجددهم صادقون ينطقون بما يرون ويحسون، وهم في تقليدهم كاذبون مسيَّرون.
(٥) أغراض الشعر وفنونه
تعددت أغراض الشعر في هذا العصر وتنوعت بتنوع أسباب الحضارة، ولكنها لم تكن كلها في مستوى واحد؛ فمنها ما كان قويًّا فَضَعُفَ، ومنها ما كان ضعيفًا فَقَوِيَ، وأُهمل بعض الفنون، وبقي بعضها على حاله، واسْتُحْدِثَتْ فنون أخرى لم تكن معروفة في الشعر القديم، ولضعف هذه الأغراض وقوتها وإهمالها واستنباطها أسباب نأتي على ذكرها:
(٥-١) الشعر السياسي
شاع هذا الفن في الصدر الأول للإسلام بين شعراء النبي وشعراء المشركين، ثم ازدهر في الصدر الثاني يوم كانت الأحزاب السياسية تتطاحن، وبنو أمية يصطنعون الشعراء للدفاع عن حقوقهم، ولكنه لم يلبث أن أخذ يتضاءل بعد قيام الدولة العباسية، واعتمادها على السيف في قهر أعدائها؛ فتفككت عُرَى الأحزاب، فتلاشى بعضها وضعف خطر الآخر منها، كالعَلَوِيِّين والخَوَارِج؛ لانقسامهم وكثرة ما نالهم من التقتيل.
وكان أكثر الشعراء النابهين من الموالي، وهؤلاء لا عصبية لهم في القبائل العربية؛ فيكون لشعرهم السياسي تأثير بليغ كتأثير شعراء الجاهلية والإسلام؛ لأنَّ أولئك كان لهم منزلة رفيعة في نفوس القبائل التي ينتسبون إليها، وفي نفوس القبائل التي تناصبهم العداء، فبنو أُمَيَّةَ لم يصطنعوا الأخطل شاعرًا سياسيًّا إلا لأنَّ بني تَغْلِبَ كانت تقوم وتقعد لشعره، ولأنَّ القبائل المعادية كانت تتضور من هجائه المقذع الأليم، فهيهات أن يكون لشاعر من الموالي مثل هذا التأثير مهما علا قدره في دولة القريض.
وأشهر شعراء القصر العباسي: مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وأَبُو الْعَتَاهِيَةِ، وأَبُو نُوَاسَ، وأَبُو تَمَّامٍ. وأشهر شعراء الشيعة: السَّيِّدُ الْحِمْيَرِيُّ، ودِعْبِل، ودِيكُ الْجِنِّ.
(٥-٢) الغزل والمجون
رأينا في الكتاب الأول كيف نهض الغزل في صدر الإسلام بنوعيه «البدوي العفيف، والحضري المتهتك».
فأما الأول فلم يبق له حظٌّ كبير في هذا العصر؛ لشيوع الخلاعة والفسق في جميع الحواضر والأمصار، ولأنَّ شعراء البادية كانوا يتهافتون على بَغْدَادَ متكسبين؛ فتستهويهم حضارتها، ورخاء عيشها، فتطيب لهم السكنى فيها؛ فما يلبثون أن يدب فيهم الفساد، فيتخلقوا بأخلاق أهلها.
وأمَّا الثاني فقد ازداد شيوعًا وكثر أتباعه، وولدوا منه نوعًا جديدًا صوروا به مبلغ ما انتهى إليه الفساد عندهم، وهذا النوع هو الذي يسمونه غزل المذكر، وكان سبب ظهوره اختلاط العرب بالأعاجم المترفين، وكثرة الرقيق من غلمان الترك والدَّيْلَم والروم، وربما اصطنع الشعراء غزل المذكر في الإناث تلطفًا، وتكنية أو مجاراة للوزن والقافية.
وكان للمرأة العجمية البيضاء نصيبٌ من الرق، وكانت على جانب من العلم والأدب، تقرض الشعر وتحسن الغناء، ولا تتحرج من مجالسة الرجال ومنادمتهم؛ فتحوَّل الغزل إليها بعد أن كان محصورًا في المرأة العربية، وكثرت مجالس اللهو، فكانت تعقد في دور الخلفاء والأمراء، كما تعقد في الحوانيت والمنازل الخاصة.
وأفرط الشعراء في المجون لاتساع رزقهم، ووَفْرَةِ أسباب لهوهم؛ فخلعوا رداء الحياء، وأرادوا التغزل فتعهَّروا، وأسرفوا في تعهرهم؛ فكان شعرهم صورة لتلك البيئة المريضة الأخلاق.
وكان الغزل في الجاهلية والإسلام تمازجه الأنفة والرصانة، فاكتسى في العباسيين ثوب العبودية والمذلة؛ فصار الشاعر لا يطيب له إلا أن يفرش خديه موطئًا لقدمي حبيبه، وإلا أن يدعوه مولاه وسيده ومالك رقه، والإسراف في اللَّذة يولِّد الذل والعبودية في نفس طالبها؛ لأنَّ النزول بالحب من الدرج الأعلى إلى الدرك الأسفل يميت الأنفة ويبعث الخنوع، ولا نرى حاجة إلى التبسط في الكلام على الغزل الذي كانوا يوطئون به قصائد المدح؛ فالتكلف ظاهر على أكثره؛ لأنَّ أصحابه كانوا ينظمونه ترسمًا للأقدمين، لا اندفاعًا مع الشعور الصادق.
(٥-٣) الشعر الخمري
ولا غَرْوَ أن يكون للخمرة سهمٌ وافرٌ من هذه الحياة الأثيمة، وهي آلة الإثم؛ فتذيع بين الناس ويذيع معها الشعر الخمري بعد أن كاد يتلاشى في صدر الإسلام، ولولا الأخطل والوليد بن يزيد وبعض الشعراء المغمورين لما كان له شأن.
وزاد الناسَ إقبالًا عليها إقدامُ بعضِ الخلفاء على شربها، فقد كانوا يقيمون مجالس اللهو في قصورهم؛ فتغني القيان لهم، ويدور الغلمان عليهم بالكئوس، فيشربون ويلهون ويعبثون، وكانت بَغْدَادُ وما جاورها من القرى حافلةً بالحوانيت والدساكر، فكان الشعراء يقصدونها للسكر واللهو، فافتنُّوا في وصف الخمرة وكئوسها، وتأثيرها في نفس شاربها، ووصف السكارى وعربدتهم، والساقي والساقية والقِينَة والنديم؛ فأبدعوا في هذا الفن أيَّما إبداع، وأحدثوا فيه أشياء جديدة لم يسبقوا إليها، ونستطيع القول إنَّ الشعر الخمريَّ بلغ غاية الجمال في هذا العصر لو لم يَشُبْهُ شيءٌ كثير من التعهُّر والمجون.
(٥-٤) المدح
كانت بَغْدَادُ موردًا عذبًا لطوائف الشعراء، فأقبلوا عليها ينهلون من فيضها، فما ينضب معينه ولا يرتوون؛ فتكاثر عددهم، وأخذوا يتنافسون في مدح الخلفاء والأمراء، مستدرين أكفهم، مبالغين في مدحهم والزلفى إليهم، فأصبح الغلو ميزة خاصة لهذا النوع من الشعر؛ لأنَّه جعل آلة للتكسب، ولأنَّ أولي الأمر تبدلت أذواقهم بتبدل البيئة؛ فخرجوا عن السذاجة الفطرية التي كان يتحلى بها الأوائل، واستهوتهم أبهة الملك وعزة السلطان، وهزتهم الحضارة الفارسية بما فيها من صور وألوان، فأصبحوا وفي نفوسهم من الكبر والعتو ما يحبب إليهم مغالاة الشعراء في مديحهم، وصاروا يرتاحون إلى كاذب الأقوال، كما كان أسلافهم يطمئنون إلى صادقها.
ولم يربأ الشعراء بأنفسهم عن الكذب والتملق؛ فماتت أنفتهم، وأراقوا ماء وجوههم، وعفروا جباههم على الأعتاب، وقلَّ من صان نفسه عن الزلفى والتذلل.
(٥-٥) الهجاء
ظل الهجاء على ما كان عليه في صدر الإسلام من فحش وإقذاع، وكثرت مهاجاة الشعراء بعضهم لبعض، ولم يتنكبوا عن هجاء الخلفاء فِعْلَ بشار ودعبل، وجعلوا الهجو كالمدح آلة للتكسب، يهددون به من يمدحونه إذا أخلفهم غيثه أو أقل دره؛ فعرضوا أنفسهم للحبس والضرب والنفي، وللموت أحيانًا.
(٥-٦) الرثاء
اكتسب الرثاء العاطفي رقة وسهولة؛ فزاد تأثيره في النفوس. وأمَّا الرثاء المتكلف فكان كالمدح مشحونًا بالغلو والكذب، ومما ينبغي ذكره أنَّ الشعراء أكثروا من توطئة مراثيهم بالزهد والمواعظ، وذم الدنيا والتذمر على الدهر.
(٥-٧) الفخر والحماسة
من المعقول أن يضعف هذا النوع بعد أن انصرف الشاعر إلى اللهو والمجون والتزلُّف، وبعد أن فقد عصبيته وسيادته ونخوته وفروسيته، وخصوصًا أنَّ أكثر الشعراء من الموالي، وهم في جملتهم فرسان قصف لا فرسان حروب.
(٥-٨) الزهد
لم يُعرف الزهد على حقيقته إلَّا في هذا العصر بعد أن ترجمت الحكمة الفارسية الهندية، واطَّلع عليها الكتاب والشعراء، وكان أبو العَتَاهِيَةِ أولَ شاعرٍ تأثر بها فأظهرها في شعره، وافتنَّ في الزهد فأبدع بعد حياة قضاها بالعبث والمجون، وجاراه كثيرٌ من الشعراء فأجادوا، ولكنهم لم يبلغوا غايته.
(٥-٩) الحكم
والحكم أيضًا كان لها شأن يذكر، وارتفعت بعد نقل الفلسفة اليونانية، فاصطنعها الشعراء ومنهم من أكثر منها، وطبع بها شعره كأبي تَمَّام.
وتختلف الحكم في هذا العصر عنها في الجاهلية والإسلام أنَّها أصبحت قائمة على مذاهب فلسفية، وأدلة عقلية، وتفكير صحيح، ولم تبق محصورة فيما توحيه للشعراء تجارب الأيام وحوادثها.
(٥-١٠) الطرديات
وعُنِيَ الشعراء بوصف الصيد والكلاب والجوارح، واتخذوا لذلك بحر الرجز؛ لسهولته ولينه وحسن مؤاتاته في الوصف، وكان هذا الفن قد ضعف في صدر الإسلام؛ لاشتغال الناس بالحروب عن الصيد واللهو، فلما قامت الدولة العباسية وتوطدت أركانها، واطمأنَّ الخلفاء إلى ملكهم، ووفرت لهم أسباب اللهو والترف، أُولعوا بالصيد، فصرفوا له وقتًا غير قليل من حياتهم الخاصة، وأُولع الناس به اقتداء بملوكهم؛ فأُولع الشعراء بوصفه، فاستعاد هذا الفن سابق عِزِّهِ في الجاهلية، ولكن الشعراء العباسيين كانوا متأثرين بحضارة الفرس وما فيها من جديد، فأمعنوا في وصف الكلاب والجوارح والديك والفهد، بخلاف الشاعر الجاهلي فإنَّه كان يجعل همته في وصف جواده الذي ينطلق به في أثر الحمر الوحشية.
(٥-١١) الفن التعليمي
لن تجد في هذا الشعر ما يروقك؛ لأنَّه غثٌّ بارد، اصطنعه أصحابه لنظم أنواع شتى من العلوم؛ تسهيلًا لحفظها بعد أن أصبح الإقبال على العلم عظيمًا.
والناظم في هذا الفن لا يسمو بنفسه إلى الخلق والإبداع، فالأفكار ماثلة أمامه فما عليه إلَّا أن يجمعها في كلام موزون مقفًّى، خالٍ من الروعة والرونق، وليس في هذا كبير أمر على من يحسن النظم.
وأول من طلب هذا الفن أبو الفضل سهل بن نُوبَخْت من خدم المنصور والمهدي، فإنَّه نظم كتاب كليلة ودمنة، ثم تلاه أبان بن عبد الحميد اللاحقي شاعر البرامكة، فنظم فنونًا مختلفة من العلوم، منها كتاب كليلة ودمنة، قدمه لآل برمك ليحفظوه، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل بن يحيى خمسة آلاف دينار، ولم يعطه جعفر شيئًا وقال له: «يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك.» قال في مستهله:
وعلى الجملة فقد تعددت أغراض الشعر المولَّد، وخصبت الأفكار بالمعاني الطريفة، واتسع باب الوصف وتعددت سبله، فبالغ الشعراء في التشبيب ووصف الخمرة والصيد والأخلاق والخصال والعادات، وهم وإن اقتصدوا في وصف القفار والطلول والإبل والوحش بعامل التطور الاجتماعي، لقد استعاضوا عنها وصف القصور وزخرفها، والبساتين ومياهها، والطبيعة ورياضها.
ومما ينبغي ذكره أنَّ هذا الشعر على تعدد أغراضه لم يجاوز النوع الغنائي، ونصرف النظر عن الفن التعليمي؛ لأنَّه خارج عن صفة الشعر الحقيقية، فما نعد نظم كليلة ودمنة وغيرها من النوع القصصي؛ لضعف الميزة الأدبية فيها، وخلوها من الروعة والطلاوة، ولا نعد الحوادث الصغيرة التي يرويها الشاعر بقالب قصصي؛ لأنَّنا نريد الملاحم الطويلة التامة كالإلياذة والأوديسة وسواهما.
ونرى أنَّ خلو الشعر من هذا النوع يرجع أولًا: إلى جهل العرب للأدب اليوناني؛ لأنَّهم لم ينقلوه كما نقلوا العلوم والفلسفة. ثانيًا: إلى أنَّ الشعراء لم يهتموا بنظم قصص طويلة؛ لانصرافهم إلى التكسب من أقرب الطرق، والملاحم تقتضي وقتًا طويلًا وربما كان كسبها قليلًا؛ لأنَّ الأمراء تعودوا ألَّا يجيزوا الشعراء إلَّا على المدح.
وكذلك النوع التمثيلي ظلَّ مفقودًا بتأثير هذين العاملين، ثم لأنَّ المجتمع الإسلامي في العصر العباسي — على تمتعه بحرية الفكر والدين — ما كان يسمح للمرأة بأن تمثل مع الرجل في ملأٍ من الناس، والمرأة عضو لا غنى عنه لانتشار هذا الفن، أضف إلى ذلك أنَّ التمثيل لا يظهر إلَّا بعد أن ينضج النوع الغنائي، وتتقدم الفلسفة والعلوم، وتوضع النظم السياسية والاجتماعية، وهو ينتشر غالبًا في الحكومات الديمقراطية أكثر مما ينتشر في حكومة الفرد التي تبسط يدها عليه وتقيده بمشيئتها المطلقة؛ لأنَّه يتناول العبر التاريخية والمسائل الاجتماعية، ويبين مغبة الإثم ونتيجة الخير؛ مما لا يخلو من أذاة ذوي السلطان المستبدين بأموال الشعب وأعناقه، ولو قدر له الظهور في بني العباس لما كان الحكم الإسلامي المصطبغ بالدين ليرضى عنه وهو عندهم تزوير للأشخاص.
(٦) منزلة الشاعر المولّد
لم تكن للشاعر المولد تلك المنزلة التي تبوأها زميله في الجاهلية وصدر الإسلام يوم كان يدافع عن قبيلته، وينشر مخازي أعدائها، أو يخفض ببيت من الشعر شأن قبيلة نابهة، ويرفع ببيت قدر قبيلة خاملة، أو يؤيد حزبه السياسي بالرد على خصومه، وكان السبب في تجرده عن هذه الخصائص ضعف العصبية في القبائل لنفوذ الموالي، واختلاط العرب بهم، ونشوء شعب جديد غير صافي العروبة، وتلاشي الأحزاب وانحلالها، ثم إنَّ الخلفاء العباسيين اعتمدوا في تأييد سلطانهم على السيف دون الشعر.
على أنَّ الشاعر المولّد استبدل من المنزلة السابقة منزلة أخرى، وهي أنَّه صار نديمَ الخليفة على طعامه وشرابه، وسميره في لياليه الساهرة، ورفيقه في ملاهيه ومتنزهاته؛ فأصبح الشعر للتفكهة واللذة، يرغب فيه أولو الأمر كلفًا بالأدب، أو حبًّا للهو والعبث.
لذلك انحطت منزلة الشعراء عن ذي قبل، وفقدوا سيادتهم، وشيئًا كثيرًا من نفوذهم وتأثيرهم، وأصبحوا كأداة اللهو، يقبل عليها المتلهي مدة ثم يضجر منها فيهملها أو يحطمها؛ فرُبَّ شاعرٍ كان ذا حظوة عند الخليفة ثم أمسى طريدًا مجفوًّا، أو شاعر بات ليلته يسامر الأمير فما طلع عليه الصباح إلَّا كان السجن مأواه.
ولكن بقي للشعراء دالة على الملوك أكثر من غيرهم؛ لما للشعر من التأثير في النفوس، ثم لما للمدح — خصوصًا — من سحر يفتن أَلْبَابَ الأمراء.
ونحن نشرع الآن بدرس أشهرهم، مبتدئين بالمخضرمين منهم، وهم الذين أدركوا الدولتين «الأموية والعباسية»، ثم ننتقل إلى من جاء بعدهم، ونفتتح الكلام ببَشَّارٍ.
(٧) بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ ٧١٤–٧٨٤م/٩٦–١٦٨ﻫ (؟)
(٧-١) حياته
بشار في صباه
نشأ بشار في بني عقيل نشأة عربية خالصة، فاستوى لسانه على الكلام الفصيح، لا تشوبه لكنة ولا طُمْطُمانية، ولما أيفع أبدى فسلم من الخطأ.
وقال بشار الشعر وهو ابن عشر سنين، ونزعت نفسه إلى الهجاء؛ فلقي الناسُ منه شرًّا، ولم يحجم عن التعرض لجرير، فاستصغره جرير ولم يردَّ عليه.
وكان إذا هجا قومًا جاءوا إلى أبيه فشكوه، فيضربه ضربًا شديدًا، فكانت أمه تقول: «كم تضرب هذا الصبي الضرير، أما ترحمه!» فيقول: «بلى والله إني لأرحمه، ولكنه يتعرض للناس فيشكونه إليَّ.» فسمعه بشار فطمع فيه، فقال له: «يا أبتِ، إنَّ هذا الذي يشكونه مني إليك هو قول الشعر، وإنِّي إن ألممت عليه، أغنيتك وسائر أهلي، فإن شكوني إليك فقل لهم: أليس الله يقول: لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ. فلما عاودوه شكواه قال لهم برد ما قاله بشار؛ فانصرفوا وهم يقولون: «فِقْهُ بُرْدٍ أَغْيَظُ لَنَا مِنْ شِعْرِ بَشَّارٍ.»
فيتبين لنا من ذلك أنَّ بشارًا طُبِعَ على الشعر منذ حداثته، وطُبِعَ معه على الهجاء والشر وحب التكسب والسخر بالدين والناس، فقد عَرَفَ بذكائه الفطري أنَّ والده سَاذَجٌ جاهل، فعبث به لينجو من عقابه، ولم يتحوب من العبث بآية القرآن؛ فأوَّلها إلى غير معناها، وجعل الأعمى بريئًا من الإثم إذا اقترفه، والآية لا تقصد إلَّا إعفاءه من التكاليف التي لا قِبَلَ له بها كالجهاد.
بشار في العصر الأموي
أدرك بشار بني أُمَيَّةَ وبني العباس؛ فهو من مخضرمي شعراء الدولتين، ويقول صاحب الأغاني: «إنَّه شُهِرَ في العصرين، ومدح وهجا، وأخذ سَنِيَّ الجوائز.» ولكن لم يصل إلينا من شعره ما يدلنا على اتصاله بالخلفاء الأُمويين، ولو اتصل بهم ومدحهم لذكر ذلك أبو الفرج وغيره من مؤرخي الأدب الأقدمين، ولا نخالهم يُغْفِلُون هذا الأمر وقد عُنُوا بتدوين أتفه الأخبار عنه.
وروي أنَّ الوليد بن يزيد كان يطرب لشعر قاله بشار متغزلًا، ويرويه ويبكي، وهو الذي أوله: «أيها الساقيان صُبَّا شرابي.» ولكن بشارًا لم يتصل بالوليد بل لبث في البصرة لا يبرحها.
ولعل أول رحلة تجَشَّمَها كانت إلى حَرَّانَ، فوفد إلى سليمان بن هشام بن عبد الملك فمدحه بقصيدة بائية، وكان سليمان بخيلًا فلم يعطه شيئًا، وقيل: بل أعطاه خمسة آلاف درهم؛ فاستقلَّها وردَّها عليه، وخرج من عنده ساخطًا وهجاه، وربما كانت له وفادة على مروان بن محمد فلم يعطه، أو أنَّ مروان وعده بشيء وأخلف وعده؛ فهجاه بأبيات لم يصل إلينا منها غير بيت واحد يقول فيه:
وجملة القول أنَّ بشارًا لم يحظ عند خلفاء بني أمية، ولم يجشم نفسه دلج السرى إليهم، وإنما لبث في البصرة يمدح الولاة والقواد، ويشبب بالنساء، وله فيهنَّ عدة صواحب أشهرهن عَبْدَة أو عُبَيْدَة.
بشار في العصر العباسي
كان بشار مبعدًا عن البصرة لما انتقلت الخلافة إلى بني العباس، ومات السفاح ولم يتصل به شاعرنا، ولا تمكن من العودة إلى البصرة، وما كاد يُستخلف أبو جعفر المنصور حتى هبَّ الحزب العلوي من رقدته يطالب بالإمامة بعد أن رضي بالصمت على عهد السفاح؛ لأنَّ السفاح قرب الطالبيين وأنعم عليهم وأحسن مصانعتهم، وأمَّا أبو جعفر فكان بخيلًا لا يدر دره، وعاتيًا ظلَّامًا يضطهدهم ويسيء معاملتهم، فخرج عليه الأخوان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي، فثار محمد في المدينة فبايعه أهلها، وأفتى بصحة البيعة الإمام مالك بن أنس، وثار إبراهيم بالبصرة، وكان بشار منفيًّا عنها، فأرسل إليه من الكوفة بقصيدته الميمية الشهيرة يحرضه بها على المنصور، ويمدحه ويشير عليه، ولكن الأخوين لم يوفقا في ثورتهما، وظفر بهما المنصور وقتلهما.
بشار والمهدي
ولما ولي المهدي الخلافة اتصل به بشار اتصالًا وثيقًا، وأخذ يفد إليه ويأخذ جوائزه، وكان شعره قد طار وتناقله الناس، وكان المهدي شديد الحب للنساء غيورًا عليهن، فبلغته أبيات لبشار فيها مجون وتعهر، فلما قدم عليه استنشده الشعر فأنشده إياه، فغضب الخليفة وقال: «ويلك أتحض الناس على الفجور، وتقذف المحصنات المخبآت! والله لئن قلت بعد هذا بيتًا واحدًا في نسيب لآتين على روحك.»
فلما ألحَّ على بشار في ترك الغزل، شرع يمدحه ويقول إنه قد ترك الغزل وودع الغواني، ثم يأخذ في قص حوادثه الماضية، فيتأسف عليها ويصف النساء اللواتي صاحبهن، فلا يخلو كلامه من الغزل، ولم يكن خبثه في هذا الأسلوب ليخفى على المهدي؛ فأظهر له جفوة، وحبس عنه عطاياه، فكان يمدحه فلا يحظى منه بشيء ولو جعل مدحه بغير تشبيب.
صفاته وأخلاقه
قال الأصمعي: «كان بشار ضخمًا، عظيم الخلق والوجه، مجدورًا، طويلًا، جاحظ المقلتين، قد تغشاهما لحم أحمر؛ فكان أقبح الناس عمى، وأفظعه منظرًا، وكان إذا أراد أن ينشد صفق بيديه، وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله، وكان أشد الناس تبرمًا بالناس، وكان يقول: «الحمد لله الذي ذهب ببصري لئلا أرى من أبغض».» ا.ﻫ.
وكان فاسقًا شديد التعهر، محبًّا للهو، مدمنًا للخمرة، يلتمس اللذة ويجدُّ في طلبها، ويهوى النساء لأجلها، لا شغفًا بالجمال وهو لا يراه، ولم يخلص في حبه لامرأة؛ لأنَّ عاطفته الحيوانية كانت تحمله على الإسراف في الاستمتاع وطلب الجديد منه؛ فيستخدم شعره في إفساد النساء، وحضهن على الفحش؛ ليتاح له التنقل من صاحبة إلى صاحبة.
وكان متكبرًا كثير الاعتداد بنفسه، لا يرى فوقه شاعرًا ولا عالمًا، وتكبره جعله شديد الافتخار بنسبه حتى لا يجد له معادلًا غير قريش وكسرى، وجعله يشبب بجمال صورته على ما فيها من دمامة وقبح فيقول:
وهذا الكبر ولَّد فيه احتقارًا للناس، كما ولَّد فيه العمى كرهًا لهم؛ فكان شديد النقمة عليهم لتمتعهم بالنظر دونه وهو يرى أنَّه خيرهم، وكل ذي عاهة جبار، وبغضه للناس واحتقاره لهم جعلاه كثير التهكم بهم، قليل الأدب في مجالستهم.
والسخرية صفة لازمة لبشار، فإنَّه يستهزئ بكل شيء ويسخر من كل شيء، وتهكمه جارح مؤلم، وقد يبلغ به حد القحة فما يستحيي أن يتنادر على خال الخليفة وهو في حضرته. قال أبو الفرج: دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي، وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد بن منصور الحميري وكانت فيه غفلة، فقال له: «يا شيخ ما صناعتك؟» فقال: «أثقب اللؤلؤ.» فضحك المهدي ثم قال لبشار: «اعزب، ويلك! أتتنادر على خالي؟!» فقال له: «وما أصنع به، يرى شيخًا أعمى ينشد الخليفة شعرًا، ويسأله عن صناعته!»
فهذا التهكم وإن يكن مضحكًا فهو حاد جارح لما فيه من لؤم ونكاية، ولا يخلو من وقاحة لصدوره عن شاعر جاء يمدح الخليفة متكسبًا، فشرع يهزأ بخاله في حضرته.
وكان إعجابه بنفسه يدفعه إلى أن يربأ بها عن مهاجاة سفلة الناس؛ لئلا يجعل منزلته في منزلتهم، وكثيرًا ما أعرض عن جواب لئيم تحرش به، وكان يقطع لسان أبي الشمقمق الشاعر بمائتي درهم في كل سنة؛ مخافة أن يهجوه وهو لا يستطيع الرد عليه؛ لأنَّه شاعر سخيف يروي شعره الصبيان.
وكان كريمًا متلافًا، يكسب كثيرًا وينفق كثيرًا، شديد الفخر بكرمه فما يأنف أن يشكو ضيق ذات يده لكثرة الإنفاق، وإذا شكا وسأل ألحَّ في المسألة، ولكن على كبر وعتو وتهديد.
وهو على بغضه للناس يحب أبناءه ويرأف بهم، وقد مات له ولد فجزع عليه جزعًا شديدًا، ويحب إخوته ويعطف عليهم، وكان له أخوان قصَّابان؛ أحدهما يقال له بشر والآخر بشير، فكانا يستعيران ثيابه فيوسخانها، وينتنان ريحها، فأراد منعهما فلم يمتنعا، فإذا أعياه الأمر خرج إلى الناس في تلك الثياب على نتنها ووسخها، فيقال له: «ما هذا يا أبا معاذ؟» فيقول: «هذه ثمرة صلة الرحم.»
ويحب أصدقاءه الخلعاء ويبرهم، ويحفظ لهم الوداد بعد موتهم فيرثيهم ويتلهف عليهم، ولعله لم يخلص في حبه إلا لأبنائه وإخوته وندمائه.
وكان إلى ذلك حادَّ الذهن، شديد الذكاء، نيِّر البصيرة، سريع التنبه، دقيق الحس، ذرب اللسان، حاضر البديهة.
تلونه في نسبه
كان بشار شعوبيًّا متعصبًا للفرس، ينكر الولاء ويتبرأ منه، ويحض الموالي على رفضه، ولكنه كان مع ذلك يفتخر ببني عُقيل وبقيس عيلان، ويدافع عنهم ويهجو أعداءهم، فإذا انتسب إلى الفرس جعل أسرته في مستوى أسرة كسرى:
وإذا انتسب إلى عُقَيْل جعل أصله في الرأس منهم:
وسأله المهدي يومًا: «فيمن تعتد يا بشار؟» فقال: «أما اللسان والزي فعربيان، وأما الأصل فعجمي» وأنشد:
علومه
كان بشار عالمًا فقيهًا متكلمًا، ولولا زندقته لعد من كبار أئمة الدين، وعرف بطول باعه في معرفة الغريب والوقوف على أساليب العرب الصرحاء، وبنقد الشعر وتمييز صحيحه من منحوله، وصدق ظنه في تقدير جوائزه؛ فقد كان يزنه بمعيار تأثيره في نفس الممدوح، وموقعه من سياسته وهواه.
آثاره
قيل: إنَّ أكثر الناس شعرًا في الجاهلية والإسلام ثلاثة: بشار وأبو العتاهية والسيد الحميري، وتحدث بشار عن نفسه فقال: «إنَّ لي اثني عشر ألف قصيدة.» ولكن لم يبق لنا من هذا القدر الكبير إلا نزر يسير متفرق في كتب الأدب.
وظل شعر بشار متداولًا إلى عهد ابن خلكان، فقد جاء في كتابه «وفيات الأعيان» في الكلام على بشار: «وشعر بشار كثير سائر، فنقتصر منه على هذا القدر.» وأورد بعض مقطعات منه.
على أنَّ هذا الشعر قد ضاع أكثره، ولم يخلص إلينا إلا أقله، ولولا صاحب «الأغاني» وما دوَّن من أشعار بشار وأخباره لما وصل إلينا منها ما يستحق الذكر.
وفي سنة «١٩٣٤» عثر محمد بدر الدين العلوي أحد معلمي اللغة العربية في الجامعة الإسلامية بعليكرة في الهند على مخطوط قديم في المكتبة الآصفية بحيدر آباد من كتاب «المختار من شعر بشار» للخالديين شاعري سيف الدولة وخازني دار كتبه، وشرحه لإسماعيل بن أحمد التجيبي من أدباء القرن الخامس للهجرة، فعني بنسخه وتصحيحه وطبعه، على أنَّ هذا «المختار» لا يشتمل على كثير من شعر بشار؛ لما فيه من المقارنات بين كلامه وكلام القدماء والمحدثين، وإنما فيه أبيات للشاعر لا توجد في غيره من الكتب.
ونشر محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامع الزيتونة الأعظم في تونس جزأين من شعر بشار عن مخطوطة في خزانة كتبه مرتبة أبياته على الحروف، وينتهي الجزء الأول بقافية «الباء»، والثاني بقافية «الدال»، وطبع الجزءان في مصر سنة «١٩٥٠ و١٩٥٤»، وينتظر أن يظهر الجزء الثالث؛ لأنَّ المخطوطة تشتمل على نصف الديوان كما يقول الناشر، وفيها معظم قافية «الراء»، وجمع ما وجده في كتب الأدب مما نسب إلى بشار ما يقارب ألف بيت. وأما عدد أبيات المخطوطة فستة آلاف وستمائة وثمانية وعشرون بيتًا، باعتبار أبيات الرجز مشطورة.
(٧-٢) ميزته
أتيح لبشار أن يملك الشعر من ناحيتيه؛ العبقرية والفن، فهو من حيث الأولى شاعر قوي الطبع، متوقد النفس، يدعو القوافي فتستكين إليه سلسة القياد، ومن حيث الثانية شاعر مرهف الإحساس بالجمال الفني، يتصرف في الألفاظ والتعابير، فيأتي بها طريفة دقيقة المدلول، مزدانة منتقاة.
وسنحاول أن ندرس في هذا البحث خصائصه في مختلف الأنواع الشعرية على قدر ما تبيح لنا آثاره الباقية.
الهجاء
لم يكن في أخلاق بشار وصفاته ما يحبب الناس إليه، فيصون لسانه عن ثلبهم وتشهيرهم، ولا بد لمثله أن يكون بغيضًا مقيتًا، وأن يكثر أعداؤه فيتناولوه بألسنتهم، وأن يقوم فيهم شعراء يقارضونه الهجاء.
وغير عجيب أن يكون هذا الهجاء فاحشًا مقذعًا، فإنَّ أخلاق بشار لا تستنكره، وأخلاق عصره لا تتأباه، وقد ترك جرير والفرزدق من إقذاعهما إرثًا عظيمًا لمن جاء بعدهما من الشعراء؛ فأنفقوا منه عن سعة.
وكان بشار شديد الإعجاب بجرير، فلا بدع أن يتعهر مثله في الهجاء، ويزيد عليه تفننًا في استنباط المعاني الفاحشة، يستمدها من الحضارة الجديدة، وتبدل المكان والزمان.
على أنَّ غاية جرير من الهجاء تختلف عن غاية بشار؛ فجرير كان يصطنعه ليرد على خصومه الشعراء، وأما بشار فإنه مال إليه بطبعه الفاسق الفاجر، ثم بكرهه للناس واحتقاره إياهم، ثم بحبه للتكسب فعل الحطيئة قبله.
وكان يصب هجاءه على كرام الناس الذين يضنون بأعراضهم أن تخرق؛ فيشترونها منه بالمال، فيسكت عنهم أو يمدحهم إذا أجزلوا له العطاء.
وكان أشد الهجاء لذعًا بينه وبين حماد عجرد، وسبب تهاجيهما أنَّ حمادًا كان نديمًا لنافع بن عقبة الأزدي والي البصرة، فسأله بشار تنجيز حاجة له من نافع؛ فأبطأ حماد عنها فغمزه بشار بشعره، فغضب حماد وأخبر نافعًا فمنع صلاته عن بشار؛ فلحم الهجاء بينهما نحوًا من خمس عشرة سنة حتى مات حماد.
وهجاء بشار يجري بين الجزالة والسهولة، وأفخمه ما جاء في الأمراء والقبائل، وفيه من وضوح الألفاظ والتعابير ما يجعله يسير بين الناس هين الحفظ، فيتم للشاعر ما يريد من تشهير المهجو، وترك اسمه مضغة في الأفواه.
المدح
كان بشار يتخذ المدح آلة للتكسب، لا شغفًا بمناقب الممدوح أو كلفًا به؛ فلم تكن مناقب الناس — مهما حسنت — لتملك عاطفته أو لتهز فؤاده، وهو يبغض الناس ويرى نفسه فوقهم جميعًا؛ لذلك لم يخلص في مدحه لأحد، وإنما كان يترقب غيث ممدوحه، فإذا أخلف أو أبطأ استمطره بالهجاء، فقد مدح سليمان بن هشام فلما استقلَّ عطاءه هجاه، ومدح المهدي فلما أعرض عنه لم يحجم عن هجوه والقول فيه: «كذب أملي لأنني كذبت في قولي.» فهو يعترف بأنَّه مدحه كاذبًا.
وتظاهر بالتشيع للعلويين شأن أبناء الفرس، فلما ثار إبراهيم بن الحسن على المنصور أرسل إليه قصيدة يمدحه بها ويهدد الخليفة، فلما علم أن إبراهيم قتل لم يأنف من إنكار تشيعه فغيَّر القصيدة، وجعلها في مدح المنصور وتهديد أبي مسلم.
وله أسلوب في المدح يطلعنا على حقيقة نفسه الطمَّاعة المتعجرفة، فهو يمدح الشخص ويهدده إن لم يحسن صلته، وقد يتوسل بالوعظ والإرشاد، ولا يخلو مدحه من قحة في السؤال على تذمر لقلة العطاء، فيحض ممدوحه على الجود والسخاء.
ومدح بشار عقبة بن سلم أمير البصرة؛ فأحسن عطاءه، فزاده مدحًا حتى قيل إنَّ مدائحه فيه فوق كل مدائحه، وحدث أن وكيل عقبة أخَّر الجائزة عن بشار ثلاثة أيام؛ فأمر بشار غلامه بأن يكتب على باب عقبة أبياتًا فيها يقول: «إن لم ترد حمدي فراقب ذمي.» فخاف عقبة، وضاعف الجائزة، وعجل بإرسالها إليه.
ففي هذا كله ما يدلنا على كذب بشار وعدم إخلاصه لممدوحيه، ولكنه كان يجيد المدح كما يجيد الهجاء؛ فهو شاعر مبدع صادق الشعور الفني وإن لم يكن صادق العاطفة، وأسلوبه في المدح عليه مسحة البداوة في استهلالاته وتعابيره، ولكنه يحليه بالمعاني الدقيقة الطريفة، ويرصعه بالاستعارات السائغة اللطيفة، فيخرج به عن خشونة البدو إلى نعومة الحضر، فإذا هو بين يديه وعليه جدة رَيِّقة زاهية.
الغزل
وغزل بشار شديد الخطر على العفاف؛ لأنَّ صاحبه تعمد فيه إغراء النساء، وحضهن على الفجور؛ فكان ذلك سببًا لحمل المهدي على منعه من التشبيب، وقد جعل الخبيث غزله بلغة سهلة لينة، وأوزان خفيفة رشيقة؛ ليهون حفظه وفهمه على النساء، ولا سيما الجواري العجميات — وأكثره فيهن — فلا يستصعبن روايته، واعتمد على الصراحة؛ فروى حوادثه معهن بقالب قصصي، وقد يُعنى بتذليل الصعاب للمرأة التي تتجنب الفضيحة وتخشاها.
وهو إلى ذلك يصنع مثلما يصنع الشعراء المتيمون؛ فيكثر من الأنين واللوعة، ووصف سقامه وسهره وحزنه؛ فيخيل إليك أنك تقرأ شعر رجل أضرَّ به الحب حتى أدنفه، مع أنَّه لم يقف قلبه على امرأة واحدة ليتألم ويسقم إذا ابتعد عنها، ونرى أنَّه لم يصدق في وصف حبه إلا من تلك الناحية التي ذكر بها اللذة وتهالكه على طلبها، وإن آثر عبدة وأحبها أكثر من غيرها.
وقد أكثر شاعرنا من وصف نحوله على ضخامة جثته، حتى أخذ الناس يضحكون منه، ويعابثونه نكاية له، قيل: مرَّ به بعض أهل الكوفة وهو منبطح في دهليزه كأنَّه جاموس، فقال: «يا أبا معاذ من القائل:
قال: «أنا». قال: «ما حملك على هذا الكذب! والله إني لأرى أن لو بعث الله الرياح التي أهلكت الأمم الخالية ما حرَّكتك من موضعك!»
وسنحت لبشار معانٍ يرجع الفضل بها إلى عماه، كقوله:
وكان إذا غنته القيان في مجلس لهوه وصف مجلسه وتغزل، وضمن الأبيات التي غنته القيان بها، وقد شاعت هذه الطريقة بين شعراء عصره؛ لكثرة مجالس اللهو والطرب.
الخمر
لم يبق لنا من خمريات بشار إلا نزر يسير ليس فيه غناء، ولا ريب أنَّ الشاعر وصف الخمر في أوقات لهوه، وأكثر من وصفها، ولكن لم يشهر بها كما شهر أبو نواس بعده، ولا تفنن في معانيها تفننه، وإن ما وصل إلينا من شعره الخمري يكاد لا يخرج عن الدائرة التي طوَّف فيها الأعشى ثم الأخطل، فهو يتوكأ عليهما في النعوت التي نعتا بها الخمرة، والأوصاف التي وصفا بها السكران.
ومهما يكن من شيء فإنَّ بشارًا تغزل بالخمرة وأحسن التشبيب بها، ولكنه لم يطبع أوصافها بطابعه الخاص، وإنما جاء مقلدًا لسواه، على أنَّه لو وصل إلينا من خمرياته شيء يذكر لكان بوسعنا أن نحكم عليه حكمًا أصح وأعدل.
الفخر والحماسة
عرفنا أنَّ ولاء بشار في بني عقيل، وعقيل من عامر، وعامر من قيس عيلان بن مضر، فكان بشار يتعصب لبني عقيل خاصة، وللقيسية أو المضرية عامة، وكان يفتخر بهم كما يفتخر بالفرس أجداده الأول، وقد استحق لقب شاعر قيس في دفاعه عنهم ومهاجاته خصومهم.
وله قصيدة قالها في ابن هبيرة — عامل العراق — عند مسيره إلى محاربة الخوارج، فأثار بها الحماسة في صدور الرجال، وقد استهلها بالغزل على الطريقة القديمة، وأخرجها جزلة الألفاظ قوية التعبير على تصوير بليغ لزحف الجيش، ووقع السيوف، وانكسار العدو، وحسبك منها تشبيه السيوف تحت الغبار بالشهب الساقطة في الظلام، ثم ذلك التقسيم البديع في تصوير الجيش المنهزم؛ فقد جمع فيه ما يلقاه المغلوب من نتائج الحرب ووخيم مغباتها: «فريق في الإسار ومثله قتيل، ومثلٌ لاذ بالبحر هاربه»، ويجمل بنا ألَّا نغفل عن حسن الصنعة في استعارته العتاب للقتال في قوله: «مشينا إليه بالسيوف نعاتبه»، وكان بوسعه أن يقول نضاربه أو نحاربه، ولكن الاستعارة هنا أبلغ وأوقع في النفس، وفيها من دقة المعنى وبراعة المدلول شيء كثير، وأي عتاب أشد من عتاب تُنْتَضى فيه الصوارم بدلًا من الألسنة؟!
الرثاء
لم يصل إلينا من رثاء بشار إلا شيء قليل، ونحسب أنَّ الشاعر لم يحفل بهذا الفن لقلة الانتفاع به؛ فهو إنما كان يُعنى بإرضاء ممدوحه حيًّا ليكتسب منه، ولم يكن يهمه أن يمدحه ميتًا إن لم يتوقع خيرًا من بعد ذلك.
وكان له عصبة من الأصدقاء الخلعاء يصاحبونه في مجالس لهوه، فلما نزلت بهم صروف الدهر شعر بفراغ حوله، فشجاه فراقهم، فرثاهم بقصيدة يقول فيها:
آراؤه وعقائده
كانت لبشار آراء وعقائد أورثه إياها أصله الفارسي، وعصره الذي تفشت به المذاهب والبدع، بعد أن خرج العرب من جمودهم العقلي، وأخلدوا إلى التأمل والتفكير.
وكان سيئ الظن بالناس لا يركن إلى صداقتهم، وإنما يراهم جميعًا مخادعين غيابين؛ على أنَّه يوصي بمداراة الصديق والتغاضي عن هفواته، والاقتصاد في معاتبته.
حشوه وتخليطه
وبشار على جلالته لم يخل شعره من الحشو والتخليط، فروي له شيء غث لا يليق بشاعريته، وهذا ما جعل إسحاق الموصلي لا يعتد به، ويفضل عليه مروان بن أبي حفصة، وكان يقول فيه: «هو كثير التخليط في شعره، وأشعاره مختلفة لا يشبه بعضها بعضًا، أليس هو القائل:
لو قال كل شيء جيد ثم أضيف إلى هذا لزيَّفه.»
على أنَّه مهما يكن من تخليط بشار فإن إسحاق الموصلي قد جار بحكمه عليه، فقد يسف الشاعر الفحل ويروي له الغث البارد، ولكن ذلك لا يحط من قدره، ولا يضير شاعريته، ولا يضيع ما له من الحسنات، وبشار نفسه كان يعتذر من هذا التخليط بقوله: «هذه أشياء كنا نعبث بها في الحداثة.»
وقد يخلط بشار متعمدًا لحاجة في النفس، أو مراعاة لمقتضى الحال؛ فيسف غير حافل بالتعبير، كما في قوله لجاريته ربابة:
وقد سئل عن ذلك فقال: «لكلٍّ وجهٌ وموضعٌ، وهذا قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة لها عشر دجاجات وديك، فهي تجمع لي البيض، وهذا عندها أحسن من «قفا نبك» عندك.»
ومن عبث بشار قوله على لسان حمار له مات، وزعم أنَّه رآه في النوم فقال له: «لم مت، ألم أكن أحسن إليك؟!» فقال الحمار:
فقال له أحدهم: «ما الشيفران؟» قال: «وما يدريني! هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فاسأله.»
(٧-٣) منزلته
أجمع الرواة — أو كادوا — على أنَّ بشارًا زعيم الشعراء المحدثين، وكان الأصمعي شديد الإعجاب به، فإذا سئل عنه قال: «بشار خاتمة الشعراء، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم.» وقد فهم بشار عقلية النقاد في عصره، فقال: «أزرى بشعري الأذان.»
وسئل بشار: «بم فقت أهل دهرك، وسبقت رجال عصرك؟» فقال: «لأني لم أقبل كل ما تورده عليَّ قريحتي، ويناجيني به طبعي.»
ولكنه — على عنايته بتنخل شعره — لم يخرج به عن طبعه، وإنما أضاف إليه براعة الفن فصقله وهذَّبه وتصرف فيه تصرف المالك في ملكه؛ فجدَّ وهزل ورصن وخف، فإذا هو على حالتيه دقيق المعاني يحسن توليدها، طلي الألفاظ يجيد انتقاءها، وكان لأصله الفارسي أثر في شاعريته فعنَّت له أغراض لم تخطر لشعراء العرب الخلَّص.
ولعماه تأثير عظيم في إذكاء قريحته، وتقوية حسه؛ إلا أنَّه أضعف صوره وألوانه، فكان يتوكأ بها على غيره، متفننًا في تأليفها وإخراجها كقوله:
وجملة القول أنَّ بشارًا شاعرٌ ساحرٌ، لعوب بالمعاني والألفاظ، يحسن البديع والاستعارة والتشبيه، ويتفنن في جميع أبواب الشعر، وهو إلى ذلك شاعر مطبوع، غزير المادة، لا يتكلف النظم تكلفًا، ويعد خير صلة بين العصرين الأموي والعباسي؛ فقد خلع الفن على شعره روعة القديم وجلاله، ورقة الجديد وجماله، وغير عجيب أن يتبوأ كرسي الرئاسة، ويستقر عليه سعيدًا إلى أن يخليه بعد موته لأبي نواس.
(٨) أبو نواس ٧٦٢–٨١٤م/١٤٥–١٩٩ﻫ (؟)
(٨-١) حياته
وكانت ولادته في الأهواز من فارس، ذلك أنَّ أباه هانئًا انتقل إليها مع الجيش للرباط، فتزوج فيها جُلُّبان، فولدت له عدة أولاد منهم الحسن، ومات أبوه وهو طفل، فانتقلت به أمه إلى البصرة وله من العمر سنتان؛ فنشأ هناك، ولما شبَّ أسلمته إلى عطار يبري عود البخور.
أبو نواس في صباه
ولكن نفسه ما كانت لترضى هذه الصنعة، وبها نزوع شديد إلى الأدب؛ فكان لا يفتر عن مخالطة أهل المسجد والأدباء المُجَّان، وأخذ يتردد على باب أبي عمرو بن العلاء، وكان الرواة والشعراء يجتمعون عنده؛ فاتصل بهم وهو في العقد الأول من عمره، فاكتسب منهم أدبًا وعلمًا، ولكنهم أضروا بأخلاقه، فتهتك صبيًّا.
ولم يكن له من بسطة العيش ما يقيه الحاجة فيصون ماء وجهه، فكان أصحاب المجون إذا أرادوا الخروج إلى نزهة استأجروه بدينار، فيحمل لهم أدواتهم، ويبقى معهم حتى يعودوا.
وكأنَّ الأقدار أبت إلا أن تذيقه كأس الأدناس حتى الثمالة، فأرسلت إليه والبة بن الحباب الأسدي الشاعر الكوفي الخليع، فلقيه عند العطار يبري العود، فافتتن به وأعجبه ذكاؤه وأدبه، فحمله إلى الكوفة، وعني بتخريجه في الشعر؛ فأدبه بأدبه، وخلَّقه بأخلاقه، وعرفه بأصحابه المُجَّان؛ فأصبح لا يطيب له إلا الاجتماع بهم، وفيهم أمثال مطيع بن إياس، وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، وحسبك بهم من عصابة سوء.
ولم يشأ أبو نواس أن يعرف بالشعر قبل أن يخالط العرب الخلَّص ويأخذ عنهم الغريب، ويستوي لسانه على الكلام الفصيح شأن كل شاعر يريد أن ينبه في ذاك العصر؛ فسأل أستاذه والبة أن يسمح له بالخروج إلى البادية مع وفد بني أسد، فأخرجه مع قوم منهم، فأقام في البادية سنة ثم قدم الكوفة، فلبث فيها مدة قليلة ثم فارق والبة ورجع إلى البصرة، فاختلف إلى كبار أئمتها، فأخذ عنهم شيئًا كثيرًا ثم شخص إلى بغداد.
في بغداد
في مصر
انتجع الشاعر مصر صفر اليدين متألمًا من كساد سوقه، وفي ذلك يقول:
ومدح الخصيب بعدة قصائد جياد، فأحسن الخصيب صلته، وأخذ أبو نواس ينادمه على الشراب ويلهو وإياه ويعبثان معًا، حتى أصبحت للشاعر دالة عليه، ويسرت حاله بعد عسر، فتفرغ للهو والمجون فِعْلَه في بغداد.
على أنَّ عطايا الخصيب لم تكن لتغني أبا نواس أو تنسيه ملاهي بغداد وقصر الخليفة العباسي؛ فنوابغ الشعراء لم يكن لهم غير دار السلام حاضرة تستثير قرائحهم، وتذكي عبقريتهم، وتشبع مطامعهم، ولعل الخصيب ضاق ذرعًا برغبات الشاعر؛ فإنَّ بعض الرواة يتحدثون بأنه بعد أن أعطاه ثلاث جوائز كل جائزة بألف دينار قال له: «ارتحل فما لك مقام عندنا.» ويؤيد هذه الرواية ما نعلمه من أنَّ أبا نواس ترك الخصيب غير راضٍ عنه وعن عطاياه، فكان إذا سئل: «كم وهب لك الخصيب مع مدائحك فيه، وقصدك من العراق إليه؟» قال: «لا والله، لم يهب لي إلا مائة دينار والناس يكثرون في ذلك.» وقد هجاه بعد مفارقته إياه ورماه بالتقتير على بنيه.
ولكنه لم يوفق في الرجوع إلى بغداد، فإنَّه شرع يهجو القبائل النزارية لما اشتدت صولة الشعوبيين، ولم يعف عن قريش وفيها الخلافة وقبلها النبوة؛ فحبس وطال حبسه حتى مات الرشيد واستخلف الأمين.
اتصاله بالأمين
عرف أبو نواس أولاد الخلفاء منذ قدومه بغداد وهو شاب، فنادم أولًا ولد المهدي ولازمهم، فلم يلق مع أحد من الناس غيرهم، ثم نادم القاسم بن الرشيد، ولكنه لم يلبث أن فارقه وتقرب من أخيه الأمين، وكان يومئذ صبيًّا يدرس النحو واللغة على الكسائي، وزاده اتصالًا بولي العهد أن الرشيد أمر الكسائي أن يحضر أبا نواس لينشد الأمين الشعر النادر ويعلمه الغريب، فلزمه شاعرنا ولم يفارقه، وراقت الأمين صحبة أبي نواس؛ فاتخذه نديمًا، وشاطره اللهو والمجون، فانحطت أخلاقه في صباه، وكان انغماسه في العبث والفسوق من الأسباب التي أضاعت ملكه.
ولما بويع بالخلافة بعد أبيه جعل الشاعر في بطانته، فكان ألزم له من ظله، ولا ريب أنَّ خلافة الأمين كانت أسعد أيام أبي نواس وإن لم يطل عهدها أكثر من خمس سنوات، وخمس سنوات شيء يذكر في عمر الشاعر المتنعم، على أنَّها لم تخلُ بعض الأحيان من تنغيص؛ إذ كان الخليفة يضطر إلى حبسه على أعين الناس حين يتهم لديه بالكفر والفجور والمجاهرة بشرب الخمر.
كان للأمين عيون في خراسان، فكتبوا إليه يخبرونه بالأمر؛ فجزع له وتوعد أبا نواس، وحرم عليه شرب الخمر، وذكرها في شعره، فكان صاحبنا يتألم لهذا المنع فيطيع مكرهًا، لا خوفًا من غضب الأمين وبطشه، وإنَّما حبًّا له وحفاظًا على سمعته، وربما مرَّت به ساعات فما يستطيع عن الخمر صبرًا، فيشربها غير مبالٍ، ويسب الأمين ويهزأ به، والأمين يتغاضى عنه ولا يطيق أن يؤذيه، ورمي مرة بالثنوية وشهد عليه عدة نفر، فأمر به الأمين إلى السجن، فتذمر أبو نواس وشكا واستنجد بالمأمون، إذ يقول:
وكان المأمون يودُّ أن يرى عنده شاعرًا كأبي نواس، فلما بلغه استنجاده به قال: «والله لئن لحقته لأغنينه غنًى لا يؤمله.» على أنَّ الشاعر لم يشأ أن يترك الأمين مع ما لقي منه في آخر عهده، وكان من حقه أن يناصر المأمون لو جارى نزعته الشعوبية وميله إلى الفرس، والشعوبية والفرس منهم يظاهرون المأمون، ولكنه آثر البقاء مع الأمين لأسباب منها أنَّه كان يحبه وتلذ له معاشرته ومنادمته، فلا طاقة له بالابتعاد عنه، ومنها أن له من الدالة عليه ما لا يأمل أن ينال مثله عند المأمون، ومنها أنَّ أهل خراسان شيعيون يشددون في أمر الغفران كأصحاب الاعتزال، وكان أبو نواس عظيم الاتكال على عفو الله، ففضل عليهم أهل السنة؛ لأنَّهم لا يحظرون العفو على مسلم ارتكب الكبيرة إذا خرج من الدنيا على غير توبة، بل يجعلون حكمه عند الله؛ فإما أن يغفر له برحمته، وإما أن يشفع به النبي إذ قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.» وإما أن يعذبه بمقدار جرمه ثم يدخله الجنة برحمته، ولا يجوز أن يخلد في النار مع الكفار.
فهذه الأسباب كانت تدفع الشاعر إلى إيثار الأمين على أخيه، مع ما رأى فيه من ضعف وخمول وتقلب آراء.
توبته وموته
ولما قتل الأمين وظفر المأمون بالخلافة أصاب أبا نواس شيء من الجزع والقنوط، وتنكر له الدهر فتبرم الحياة وسئم ملاذها وغرورها، وأبى أن يتقرب من المأمون أو يمدحه، وكان المأمون قد جعل مقر الخلافة في خراسان، ولبث هناك نحوًا من ست سنوات حتى استتب له الأمر في بغداد فانتقل إليها.
وكان بوسع الشاعر أن يتصل به ويستميله بالمديح، ولكن اليأس الذي ساوره بعد مقتل الأمين جعله يزهد في الحياة الدنيا، وتراءى له شبح الموت فراعه، وأحس أنَّ قواه تحطمت من كثرة فسوقه واستهتاره؛ ففزع إلى ربه يستغفره، وأقلع عن المجون وشرب الخمر، وتنسك حتى هلك وهو على أشد ما يكون من الندم. وكانت وفاته في بغداد وله من العمر نحو من أربع وخمسين سنة، ودفن في مقابر الشونيزي.
صفاته وأخلاقه
وكان إلى ذلك رقيق الطبع، ظريف النكتة، خفيف الظل، شديد السخر والاستهزاء، ماجنًا لا يبالي ما يقول وما يفعل، وقد يتزيَّا بزي الزهاد ليتوصل إلى فاحشة يرتكبها أو معصية يقترفها، وكان يؤثر المجاهرة بفجوره وسكره، ويكره التستر والمتسترين، وصراحته جعلته لا يحفل بأقوال الناس فيه، ولا يخجل من التحدث بتعهره.
وكان كريمًا متلافًا لا يذخر للغد ما يكسبه في يومه:
وكان يحتقر الأغنياء الذين يستعبدون الناس بأموالهم، فإذا ضمه وإياهم مجلس تكبر عليهم، وكان يكره الإلحاح في المسألة، ويرعى عهد أصحابه فما يغتابهم، ويريد منهم أن يحفظوا مغيبه.
على أنَّه لم تسلم طباعه من التبرم بالناس، واليأس من صدق مودتهم، ويبدو ذلك منه عند ضيقه في حبسه أو إفلاسه، وكثيرًا ما لازم الإفلاس شاعرنا لعظم سخائه، فتراه متشائمًا، شاكيًا متبرمًا يقول:
فهذا الشاعر السمح الطروب، السادر في فتكه وغلوائه، لم يخلُ عيشه من ساعات سود تجده فيها عابسًا قنوطًا.
تلونه في نسبه
فيتبين من ذلك أنَّ شاعرنا لم يكن ذا عصبية عربية، وإنَّما انتسب إلى نزار ليعتز بها، فلما دفعته نزار وهجاه أحد أبنائها لجأ إلى اليمن، ومع أنَّ اليمن رضيت به مولى لها فقد كان يؤثر التعاجم، ويفضل الفرس على العرب، ويشايع الشعوبية، وقد أفضى به تعاجمه إلى السجن، كما مر بنا.
أساتذته وعلومه
رغب أبو نواس في العلم والأدب منذ صباه، فقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي حتى حذقه، فقال له يعقوب: «اذهب فأنت أقرأ أهل البصرة.» وجلس إلى الناشئ الراوية فقرأ عليه شعر ذي الرمة.
واختلف إلى كثير من العلماء والأدباء، وكان والبة بن الحباب أكثر أستاذيه تخريجًا له، وجلس في البصرة بعد تبديه إلى أبي عبيدة يأخذ عنه أخبار العرب وأيامها، وإلى خلف الأحمر يسأله عن الشعر ومعانيه، وإلى أبي زيد الأنصاري يكتب عنه الغريب من الألفاظ، ثم نظر في نحو سيبويه، ثم طلب الحديث فأخذه عن عبد الواحد بن زياد العبدي، ويحيى القطان، وأزهر السمان، وغيرهم من كبار محدثي البصرة، ولم يتخلف عن أحد منهم حتى برع في كل علم طلبه؛ فإذا هو راوية للشعر واسع الرواية، يحفظ الأحاديث بالإسناد، محكم القول، عالم باللغة لا يخطئ، مطلع على الحكمة الهندية واليونانية، حتى قال فيه بعض من شاهدوه: «كان أقل ما في أبي نواس قول الشعر.» يريدون بذلك تفوقه في علوم عصره.
نظمه الشعر
ظهرت النجابة على أبي نواس وهو صغير السن طري العود، لم يطر شاربه بعد، فنظم الشعر، وعرف بفصاحة اللسان، وأشهر شعره في صباه قوله:
وكان يعمل القصيدة ثم يتركها أيامًا، ثم يعرضها على نفسه، فيسقط كثيرًا منها ويترك صافيها، ولا يسره كل ما يقذف به خاطره، ولكن هذا التنخل لم يتناول جميع شعره؛ فروي له شيء من الساقط المرذول، وكان يهمه الشعر في الخمر، فلا يعمله إلا في وقت نشاطه، ولم يكن في النظم بالبطيء ولا بالسريع، بل كان في المنزلة الوسطى.
آثاره
وجمع ابن منظور صاحب «لسان العرب» تاريخ أبي نواس ونوادره وشعره ومجونه في كتاب سماه «أخبار أبي نواس»، وقد طبع الجزء الأول منه في مصر سنة ١٩٢٤ مضبوطًا بالشكل، مشروحًا بعض الشرح، ولكن الحكومة المصرية منعت متابعة نشره لما فيه من فحش مضر بالأخلاق.
وكتب الأدب حافلة بأخبار أبي نواس وأشعاره؛ لشدة اهتمام الناس برواية شعره، فإنهم كانوا يتفكهون به، ويؤثرونه على أشعار القدماء؛ فسار على الأفواه كل مسير، فروي له في مصر أشعار لم يعرفها أهل العراق، وضاعت له قصائد لم يبق منها شيء، أو بقي بيت أو بيتان، ونحل شعرًا كثيرًا لم ينحل مثله أحد، ذلك أنَّه سلك طريقًا جديدًا في الشعر، فإنَّ أكثر أشعاره في اللهو والتشبيب والمجون، وكان في عصره طائفة من المجَّان يذهبون مذهبه، وليس لهم حظ من الشاعرية والشهرة مثله، فأصبح الناس يلحقون به كل شعر في الخمر والمجون لم يعرف صاحبه، ولم يعن الرواة بشعره.
وأضيف إليه من النوادر والأخبار كما أضيف إليه من الأشعار، فقد وضع عليه ابن الداية — وكان مشهورًا بصحبته — روايات لا صحة لها، وفي «أخبار أبي نواس» لابن منظور المصري نوادر أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، مما يدل على أنَّ أهل مصر شغفوا بالشاعر كأهل العراق، فراحوا يتفننون في اصطناع الأخبار الغريبة عنه، فحملوه أحمالًا ثقيلة زادت سمعته تشويهًا، ونحن — وإن كنا لا يخامرنا ريب في خلاعته وحوداثه المجونية — لا يسعنا إلا أن نشك في بعض نوادره التي يظهر عليها التفنن وحب التفكهة والإغراب، وسنعتمد في درس شعره على المشهور منه الذي لا يشك في نسبته إليه.
(٨-٢) ميزته
ما ترك أبو نواس غرضًا من الشعر إلا خاض فيه ونال قسطًا منه، فقد أوتي شاعرية جوادة يفيض بها الطبع السمح الطرب، ويثقفها الفن الدقيق البارع، فإذا هي تنطق بشعر كالماء سلاسة وعذوبة، وكالرياض قطعًا وألوانًا، تختلف باختلاف أشكالها وأنواعها، فمنها ما ينفرد به صاحبنا فما يجاريه متقدم ولا متأخر وذلك في الخمر والعبث والمجون، ومنها ما يجيده ولا يقصر به وذلك في المدح والهجو والطرد والزهد، ومنها ما يقصر به ولا يجيده وذلك في الرثاء والغزل البريء، ولا سيما المؤنث منه.
فشعر أبي نواس كما يظهر لنا على ثلاثة أقسام؛ قسم: يطبعه بطابعه الخاص، ويحتكره احتكارًا لا ينازعه فيه أحد، وقسم: يشارك فيه غيره من الشعراء، وقسم: يجري به وراء المجلين فما يشق لهم غبارًا، وسنحاول تحليل هذه الأقسام الثلاثة؛ لنظهر ميزتها واضحة، فيبدو ما لشاعرنا من خصائص جعلته مثالًا صادقًا لعصره من ناحيتي الجد والعبث، وبوأته منزلة لا يسمو إلى مثلها غير عباقرة الشعراء.
ونشرع أولًا في درس خمرياته وما يتبعها من لهو ومجون وآراء وعقائد، ثم ندرس غزله فمدحه فرثاءه فهجوه فطرده فزهده، حتى نتبين ذاتيته ومنزلته، وما كان له من أثر بليغ في عصره.
الخمر والمجون
إذا أردت أن تغوص في أعماق نفس أبي نواس، وتتبين حقيقته فما تستطيع ذلك في شعره الجدي، وإنما تستطيعه في عبثه ولهوه، في خمرياته ومجونه؛ فهي مرآة صافية تنعكس عليها ذاتية الشاعر الماجن.
وأبو نواس يشرب الخمر ويتعبد لها، فإذا ذكرها افتنَّ في وصفها، وشبب بها تشبيبه بأحب الناس إليه، وقد سنحت له معانٍ في وصفها لم يفتضها سواه؛ فعرف بها وعرفت به، وجعلته في هذا الفن نسيج وحده.
وإذا وصف الخمرة صوَّرها أحسن الصور، وأحاطها بألطف التشابيه والاستعارات، ووصف معها الكئوس والنديم والساقي والخمَّار ومجلس لهوه، وقص أخباره الفاحشة لا متكتمًا ولا مستحيًا؛ فهو صريح يؤثر المجاهرة، ويكره التستر، ويود لو يستوعب اللذة من جميع نواحيها، لئلا يفوته طرف منها، فتسمعه يقول:
فكأنَّه أراد أن يلتذ سمعه بذكرها، كما التذت العين برؤيتها، واليد بلمسها، والفم بذوقها، والأنف بشمها، أو لعله أراد المجاهرة بذكرها، فأمر الساقي أن ينادي باسمها.
فأشعاره تطلعنا على صراحته؛ فنراه مجاهرًا بتعبده للخمر وسكره المتواصل، مجاهرًا بفتكه ومجونه، وقد يستوقفنا قوله:
فكأنه يريد أن يقصر أيام حياته بالسكرات المتواصلة لا يعقبها صحو، وهذا شأن رجل لا يخلو عيشه من شقاء ويأس وحب انتحار، وأبو نواس لم يكن بنجوة من مرارة العيش؛ فقد ذاق طعم الحاجة، وحبس وقهر مرارًا وانتقص من قدره أحيانًا، وكانت علته ترافقه وهو في ميعة شبابه، فلا غرو أن يبدو عليه شيء من التطير والقنوط، فيؤثر ساعة السكر على ساعة الصحو؛ لكي لا يشعر بشقاء نفسه.
وقد يظل في شرب متواصل حتى يفلس فيرهن ثيابه أو يبيعها، ليشرب بها:
ويؤثر اصطباحها عند صياح الديك، ولذلك كثر إسراؤه ليلًا إلى بيوت الخمارين، وشعره أوعب معجم لأسماء الحانات والملاهي في بغداد وغير بغداد، فلا يترك موضعًا تنسب إليه الخمر الطيبة إلا ذكره ووصف خمرته.
فإذا تم له خمرة يصطحبها في أحد هذه المواضع، فتلك لذة العيش عنده، كيف لا والخمرة شقيقة نفسه، يتعبد لها ويؤثرها على الصلاة، ويسميها أحسن الأسماء، ويصفها ألطف الأوصاف، ويبكي عليها لأنَّ القرآن حرمها وهو يريد تحليلها، ولكنه يشربها وإن حرمت:
ولذلك يؤثرها مطبوخة بالشمس لا بالنار؛ لئلا تصير نبيذًا محللًا:
وإذا وصف النديم لمست في شعره عاطفة الإعظام له والعطف عليه، والعناية بمصاحبته ومداراته؛ فيطلعنا على أدبه معه، ثم على خير الندامى عنده، وعلى آداب المنادمة عمومًا، فيضع لأصحاب اللهو والشراب قوانين ليسيروا عليها، وعنايته باختيار النديم ثم إعظامه للخمر جعلاه يحرم شربها على اللئام، وعلى الذين ليسوا بأكفائها.
ولا يغفل عن وصف الكئوس فيقف إزاءها موقف مصور بارع، فيرسم ما عليها من التصاوير والخطوط؛ فيعطينا فوائد جليلة في حسن صناعتها عند الشعوب التي خالطت العرب، وفيما كان ينقش عليها من الصور التاريخية.
ثورته على القديم
وخمرياته تطلعنا على تجدده وثورته على القديم، فهو — كما عرفنا — شعوبي النزعة يؤثر الفرس على العرب، وينفر خصوصًا من الحياة البدوية، ولا يأنس بأساليب الأعراب، من وقوف على الأطلال وبكاء على الدمن، ولا يلذ له وصف النوق والشياه والوحش والقفار، وإنما يطيب له أن يصف ملاهيه ومجالس لذته، فكان يهزأ بالشعراء الذين يقفون على الديار، ويبكون الأطلال البالية، ويستنطقون آثارها، ويسألونها عن ليلى وهند وسواهما من عرائس الشعر، ويدعوهم إلى اتباع مذهبه:
آراؤه وعقائده
لم يكن لشاعرنا مذهب يعتمده إلا اللذة، فعليها وحدها بنى آراءه وعقائده، وفي خمرياته ومجونه يظهر لنا مذهبه هذا، مسخرًا له أحكام الدين وشرائعه، قانعًا من دنياه بكأس وحبيب:
وإذا لامه في ذلك لائم صاح به:
وأبو نواس مسلم يؤمن بالله وبالرسول، ولكنه مستهزئ فاتك، حريص على لذته، فإذا عرضت له تناولها من أية ناحية بدت، ولو خالف فيها شرائع الإسلام، وإذا طلب إليه أن يحج ويتوب إلى ربه قال:
وحجَّ لما حجت صاحبته جنان ولولاها لما حجَّ، وكان يضن بوقته أن يضيعه في الصلاة وهو على شرابه، فإذا سمع نداء المؤذن قال لساقيه:
ويصوم رمضان مكرهًا، فما يفتأ يتذمر عليه، فإذا ضاق به ذرعًا هجاه وأفطر وشرب وتعهر، وكان شديد الاتكال على عفو الله، وله في ذلك نظر فلسفي:
ويريد أنَّه لولا الخطيئة لما كان الغفران، والغفران بلا خطيئة لا معنى له، وقد يلتمس العفو بطريقة مجونية ظريفة، فيقول:
واتكاله على عفو الله جعله ينكر على النظَّام — شيخ المعتزلة — تشدده في أمر الغفران، ويرميه بالكفر والإزراء بالدين، فيقول:
وخمرياته أصدق صورة لنفسه الخالعة الرسن، وللروح البغدادية الماجنة في عصره.
غزله
لأبي نواس غزل كثير، فيه من المجون والصراحة ما يصور حقيقة هذا الشاعر المتهتك، وكان أصدق عاطفة في غزل المذكر منه في غزل المؤنث؛ لقلة اعتداده بالنساء، وقد حاول بعض أهله أن يزوجوه ليردوه عن غوايته فأبى، وقيل إنَّه تزوج جارية من أهل بيته، ولكنه ما أمسى حتى طلقها، ومن كانت هذه حاله فلا بدع أن تضعف فيه عاطفة الغزل في النساء.
ولكنه عاشر بعض الإماء، وشبب بهن لا لأنَّه أحب واحدة منهن حبًّا صادقًا، بل لأنَّهن كنَّ غير مصونات لا يتحرجن من مجالسة الخلعاء على الشراب، وكنَّ إلى ذلك يصلحن للمنادمة؛ لبراعتهن في الشعر والرواية والغناء، فأبو نواس لم يعرف من الحب غير إشباع شهواته، فصدف عن الحرائر المتحصنات، وقنع منهن بالمبتذلات، وكان يؤثر الغلاميات على غيرهن، وهن الجواري اللواتي كن يتزيين بزي الغلمان، وكثيرًا ما ذكرهن في شعره، ووصف أشكالهن وأزياءهنَّ.
وقيل إنَّه أحب جِنان جارية آل عبد الوهاب الثقفي، وكانت جميلة المنظر، أديبة ظريفة، تعرف الأخبار، وتروي الأشعار، ولما حجت حجَّ معها ليجمعه وإياها المسير، واشتهر شعره بها؛ فعرفت مولاتها فبعثت إليه: «إن أردت وهبتها لك.» فأخبرت جنان بذلك فرضيت، ولكنها اشترطت عليه أن يقلع عن فجوره وقبح سيرته؛ فأبى ولم يضمن لها هذا الشرط، فحرم محبتها كما حرم محبة عنان جارية الناطفي، وغيرهما من ظرائف الإماء، وهذا يدلنا على أنَّ حبه لجنان لم يكن صادقًا وقويًّا كما تصوره بعض الرواة، وإنما كان يؤثرها على غيرها من الولائد، حتى إذا هجرته لم يؤلمه هجرها، ورجت منه مرة أن ينقطع عن زيارتها لتكف ألسنة الناس عنها؛ فعمد إلى نكايتها وتشهيرها، فقال:
وروى صاحب «الأغاني» أنَّ أبا نواس رآها مرة في ديار ثقيف فجبهته بما كره فغضب وهجرها مدة؛ فأرسلت إليه رسولًا تصالحه فرده ولم يصالحها، فلو صدق حبه لها لما تأبى مصالحتها وأعرض عنها.
ورووا أنَّه رآها مرة في مأتم تندب وتلطم، فقال:
فلو كان يحبها حقيقة لما تمنى تتابع الوفيات في أهلها وأصحابها؛ ليراها أبدًا سافرة لاطمة نادبة، فهذا حب وحشي يجعل صاحبه يتلذذ بألم محبوبه، ولم يكن أبو نواس كذلك مع من يحب.
وفي «الأغاني» رواية عن بعض آل ثقيف يكذب فيها حب أبي نواس لجنان يقول: «إن ذلك لم يكن إلا عبثًا خرج منه.» وهذا ما نعتقده؛ فإنَّ الشاعر لم يخلص في حبه لجارية ثقيف؛ لأنَّ نفسه الفاسقة صرفته عن الحب الصحيح، ولم يصاحب الإماء والجواري إلا للهو والعبث، فلم يحظ عندهن لعلمهن بأمره، وقد تغزل بهن كثيرًا؛ فكان هذا الغزل ضعيف العاطفة، متكلفًا في أكثره، ولا سيما العفيف منه.
والغزل العفيف قليل في شعر أبي نواس، وبعضه جميل لبراعة فنه، وبعضه الآخر ضعيف ظاهر التكلف.
مدحه
لأبي نواس في المدح لغة غير اللغة التي يتحدث بها إلى الغلمان والإماء في الخمر والمجون والغزل، فإذا رأيت الطبع والسهولة والرقة في تلك فستلقى الرصانة وتخير الألفاظ، وتكلف الغريب في هذه، فهو — في عبثه — يحادث الطبقة العامة على الأخص، فيفرغ معانيه في قالب لطيف لا يعسر فهمه؛ فيحفظه الناس ويتغنى به القيان والمغنون. وأمَّا في مدحه فيتحدث إلى طبقة خاصة تتألف من الخلفاء والأمراء وهؤلاء يؤثرون اللغة الشريفة بلفظها الرصين وأسلوبها القديم، فكان شاعرنا يجاري أهواءهم، ويغتنم من ذلك فرصة ليرى أصحاب اللغة براعته في معرفة الغريب، واطلاعه على مذاهب العرب العرباء، فإذا هو كالشاعر الجاهلي يقف على الديار، ويذكر الأحبة، ويصف ناقته حتى يتخلص إلى ممدوحه فيسبغ عليه حلل الثناء.
فإذا أنت قرأت هذا الشعر، ورأيت ما فيه من جزالة وشدة أسر، أنكرت أن يكون أبو نواس صاحبه بعد أن عرفت الرقة والسهولة في خمرياته وغزله، فأبو نواس في مدحه محافظ أكثر منه مجددًا، متكلف مقلد على كره منه، مغالٍ أحيانًا حتى يبلغ حد الإحالة، وتكاد شخصيته لا تبين في بعض مدائحه لولا خاطرات منثورة يلمحها الناقد البصير.
ولعل شخصيته تذوب في أكثرها عندما يمدح الرشيد والبرامكة؛ لأنَّ الرشيد كان مهيبًا، فيترصن في مدحه أكثر مما يترصن في مدح غيره من الأمراء الذين تقرَّب إليهم ونادمهم فأصبح له دالة عليهم، وهكذا كان شأنه في مدح البرامكة؛ لأنَّ هؤلاء لم يقربوه كثيرًا، فتوسل إليهم بالمديح خشية منهم، وطمعًا في نوالهم.
وكان في مدح الأمين أصدق عاطفة منه في مدح غيره، ولا غرو فإنَّه أحب الأمين، وكان له خلًّا ونديمًا، وأكثر ما ينعته بالشباب والجمال، وشرف الأخلاق، وسخاء الكف، وحسن التدين، وغير ذلك من النعوت الحسنة، وله قصيدة قالها في العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور هي من أطيب شعره وأروعه، تمثل أبلغ تمثيل لغة الشاعر وأسلوبه في المدح، وقد استهلها بخطاب صاحب له، خانه في مودته ومال إلى غيره؛ فتخلى أبو نواس منه، وطرده عنه، وافتخر عليه بأصحابه ووفائه لهم، وبسعة صدره وطول أناته في مداراة الخلان، وإن كانوا ينطوون على حقد وبغضاء.
ثم ينتقل انتقالًا بديعًا إلى وصف بعيره الذي قطع به القفار إلى ممدوحه، فيتخلص بذلك إلى المدح.
فهذه القصيدة من أبلغ شعره الجدي وأشرفه لفظًا ومعنًى، وأوقعه رنة ونغمًا، فقد ارتفع بها الشاعر ارتفاعًا أدهش الرواة وعلماء اللغة، ففضلها أبو عبيدة على قصيدة امرئ القيس التي أولها: رب رام من بني ثعلٍ.
ولما سمعها ابن الأعرابي قال: «أحسن والله، لو تقدم هذا الشعر في صدر الإسلام لكان في صدر الأمثال السائرة.» وكان أبو نواس يقول: «إذا أردت الجد قلت مثل قولي: أيها المنتاب عن عفره.»
رثاؤه
ليس في رثاء أبي نواس كبير غناء، فكأن نفسه في تطلبها السرور، ونفورها من الأشجان؛ أبت عليه أن يعرف الحزن الصحيح فيجيد الرثاء، ولم يكن له أسرة يهمه أمرها فيحزن إذا أصيب أحدها بمكروه.
وروي له بيتان في رثاء ابن له، ولا ندري كيف جاءه هذا الولد؛ لأنَّ رواة أخباره يؤكدون أنَّه أعرض عن عروسه وطلقها يوم زواجه بها، فلم تبت ليلة عنده، ومنهم من يزعم أنَّه لم يتزوجها، وهبه رزق ولدًا منها أو من غيرها فليس في رثائه لهذا الولد شيء من الحنو الأبوي، وإليك ما يقول فيه:
وكان كثير الأصدقاء، وأكثرهم من المجَّان، ولكن ليس له في رثاء أحدهم شيء يعتد به؛ فقد كان يريدهم للهو والعبث لا للحزن والبكاء، ورثى أستاذه والبة، فجاء رثاؤه ضعيف العاطفة مع ما كان بينهما من مودة قديمة، ولا عجب فالمودات لا يطول لها عمر؛ بل تخف وتزول بالافتراق والتباعد، وكرور الأيام والسنين، ومات الرشيد فلم يجزع عليه؛ لأنَّه لم يمدحه عن حب وإخلاص، ولم يستطع رثاءه بأكثر من بيتين جافين باردين.
ولعل نفسه لم تشعر بفراغ حولها إلا يوم مصرع الأمين، فقد استولى على أبي نواس يأس وقنوط، وآلمه فقد خليله ومورده العذب، وأحس الخسارة الجسيمة التي لا تعوض؛ فبكى صديقه ورثاه، وكان صادق البكاء، عاطفي الرثاء، ومع ذلك فقد ضاقت ذراعه عن رثائه بأكثر من بضع مقطعات لا تزيد واحدتها على أربعة أبيات، منها قوله:
وكان صاحبنا يشعر بعجزه في هذا الفن، فإذا رثى أحدًا وتعمد الإطالة ستر عجزه بوصف الطيور والوحوش، فيذكر مناعتها في الجو والآكام والجبال، ثم يستفيض في إظهار قوتها ونشاطها وشدة فتكها؛ ليستخلص من جميع ذلك حكمة ساذجة، وهي أن هذه السباع المنيعة لا تنجو من الموت، ولو نجا حي من الموت لكانت أولى من غيرها بالنجاة، ثم ينتقل إلى مرثيه فيزوده ببضعة أبيات ليس فيها ما يحزنك أو يرضيك.
وفي هذا النوع يكثر تكلفه وغريبه، بحيث تشعر أنَّه يتعمد الإغراب تعمدًا؛ ليستر ضعفه وقصر يده، ولنا في رثائه لأستاذه خلف الأحمر أصدق شاهد على ذلك، فقد جاء به وحشي الألفاظ غريبًا، يشغل القسم الأكبر منه ذكر الجوارح والوحوش.
هجوه
الهجو في شعر أبي نواس على ثلاثة أقسام: سياسي شعوبي قبلي، وتكسبي، وشخصي ومنه العبثي؛ فالسياسي ما ظهرت به شعوبيته في هجو القبائل العربية، ولا سيما النزارية بعد انتسابه إلى اليمن، وإن تكن حياته الماجنة لم تجعل منه شعوبيًّا جديًّا، وكان هجاؤه شديد الوطأة فاحشًا مؤلمًا، فلم يدع قبيلة إلا مزق أعراضها، حتى إنَّه لم يَعفّ عن قريش بل تهكم بها وعيرها التجارة، ولكنه كان أرفق بها من غيرها؛ لأنَّ النبوة والخلافة فيها.
وكان شديد الإعجاب بجرير، وبمهارته في الهجاء؛ فلذلك يحذو حذوه في اللذع والتعيير، ثم في رصانة العبارة وجزالة اللفظ، فكأنَّه أراد أن يجعل هجاءه لقبائل الأعراب صورة عن الهجو الذي تعودوه من شعراء صدر الإسلام؛ فخاطبهم باللغة التي يألفون، ويبدو لنا في هذا القسم من الهجاء اطلاع الشاعر على أحوال العرب وعاداتهم وأخبارهم، ومثالبهم وأيامهم.
وأما هجاؤه التكسبي فلم يكن يصطنعه للإلحاح في السؤال، أو لتهديد الممدوح إن لم يحسن صلته فعل بشار؛ فأبو نواس لم يكن على شيء من هذه الغلاظة، وإنما كان معجبًا بشاعريته، عارفًا قدر نفسه، شديد الحرص على منزلته الأدبية، فإذا بخسه أحد حقه نقم عليه وهجاه، وكان إلى ذلك شديد التبذير لا يغنيه القليل من العطاء، فإذا قتر عليه الممدوح أو ظهرت له منه جفوة رحل عنه وهجاه؛ فقد حقد على البرامكة وهجاهم أخبث هجاء، لأنَّهم استهانوا بمكانته، وقدموا عليه أبان بن عبد الحميد اللاحقي، وما كان أبان ليستحق هذه التقدمة، وهجا الخصيب بعد أن مدحه لأنَّه لم يلق منه ما كان يتوقعه، أو لأنَّ الخصيب ضاق ذرعًا بتبذيره، فطلب منه أن يرحل عنه، وهجا الهيثم بن عدي؛ لأنَّ الهيثم لم يقرب مجلسه لما دخل عليه، وكان لا يعرفه، وهجا أبان بن عبد الحميد؛ لأنَّ أبانًا حسده فلم يضعه في المرتبة التي يستحقها لما عهد إليه البرامكة في تفريق الجوائز على الشعراء.
وأما هجاؤه الشخصي العبثي فكان يتناول به العلماء والشعراء، والبخلاء والثقلاء، وسواهم؛ فمنه ما يقصد به إلى المنافسة، ومنه ما يقصد به إلى الدعابة، وأكثره خالٍ من الضغينة والكره، ولكنه حافل بالفحش والرذيلة كهجائه النظَّام وأبا عبيدة وعنان والرقاشي وغيرهم.
ومما ينبغي ذكره أن لغته في هجوه السياسي أجزل وأحكم من لغته في سائر هجائه، ولا سيما ما كان منه دعابًا فإنَّه لا يخلو من لين وإسفاف وتكلف الصنعة.
طرده
يكاد أبو نواس يعنى بطردياته عنايته بخمرياته؛ فإنَّ الصيد كان من أسباب ملاهيه، وملاهي الأمراء الذين نادمهم، فوصفه وصفًا دقيقًا، وأجاد في بعضه كل الإجادة، وأكثر طردياته أراجيز، فقد ذكر الرواة أنَّه لم يقل في الطرد إلا تسعًا وعشرين أرجوزة، وأربع قصائد، فما كان زائدًا على ذلك فهو منحول.
وأكثر طردياته في وصف الكلاب، وأقلها في الفهد والبازي والصقر والفرس والديك الهندي وسواها. وإذا نعت الكلب وصف لونه وأذنيه وقوائمه، وأظافره وذَنَبَه وقدَّه، ووصف حركاته ونشاطه، ووثباته عندما يقوده الكلاب، ثم انطلاقه وراء الصيد وغير ذلك، حتى يصوِّره تصويرًا دقيقًا متناهيًا.
ويبدأ أرجوزته — على الغالب — بقوله: «انعت كلبًا … انعت ديكًا.» أو يستهلُّها ذاكرًا هبوبه في الصباح، وإيقاظه الكلب للصيد.
زهده
لم يكن أبو نواس زنديقًا ملحدًا، وإنَّما كان مستهزئًا، مسرفًا في الخلاعة والمجون، شديد الاتِّكال على عفو الله؛ فغير عجيب أن يتزهَّد في آخر حياته بعد أن شبعت نفسه من المعاصي، وبرى الداء جسمه بَرْيًا، فإذا أنت قرأت زهدياته لمست فيها ندامة صادقة وإيمانًا بالله كبيرًا، وقد قال بعضها في شبابه يوم كان راكبًا رأسه، مرخيًا لعنان شهواته، فكأنه كانت تمرُّ به ساعات خوف وندم، فتخرج من صدره أحر التأوهات والزفرات.
ما أدرك عليه
روي لأبي نواس شعر ساقط لا يليق بجلالة قدره في دولة القريض، ولعل ذلك مما نحلوه إياه، أو مما قاله في حال سكره؛ فإنَّه كان يكثر الارتجال والتعابث حين يسكر؛ فيجوِّز ما لا يجوز، ولم يكن ليرضاه في صحوه، وربما عبث باللغة نكاية بالعلماء المتشددين، فيشذ عن القواعد اللغوية غير مبالٍ، وهذا ما يقع له غالبًا في شعره المجوني، وإذا وقع له في شعره الجدِّي دافع عنه وأخرجه على وجه يرضاه العلماء، كما أخرج قوله: «ككمون النار في حجره.» ومما يؤخذ عليه قوله:
فقد جعل فاعلين لفعل واحد وهذا مكروه، وقال شُنُفا والصواب شَنْفَا. وقوله:
فهذان البيتان لا يستقيمان على بحر من البحور المعروفة. وشغف أبو نواس بأوجه البيان والبديع فجدَّ في طلبها حتى أفرط أحيانًا وتبغَّض، كقوله:
فقبيح أن تدخل الثعالب والكلاب في غزل يشكو به المحب هجر حبيبه.
وأدرك عليه سرقات توكأ فيها على معانٍ سُبق إليها، ولكنه كساها حللًا جميلة، فسارت بين الناس وعرفت له. وأكثر ما عيب عليه تصرفه في قواعد الصرف والنحو والعَروض، وجنوحه إلى الغلو حتى الإحالة كقوله في مدح الرشيد:
فهذا محال؛ لأنَّ ما لا صورة له لا وجود له، فكيف يشعر بالخوف من لا وجود له، وكيف يكون له فؤاد؟
(٨-٣) منزلته
فيتضح من هذه الأقوال — على تباين نزعاتها — ما كان لشاعرنا من المنزلة السامية عند الأدباء الأقدمين. وكان أشدهم محافظة على القديم — كابن الأعرابي وأبي عبيدة والأصمعي — يُقبِلون على رواية شعره، ولا سيما الخمري مع ما فيه من مجون وأرفاث وخروج على القديم؛ وما ذلك إلا لأنَّهم كانوا يشعرون بلذة هذا الجديد، وما فيه من لطف وظُرف، وإن كانوا يقدسون القديم وينزهونه.
وقد أوتي أبو نواس من سيرورة الشعر ما جعله يُغِيرُ على معاني غيره، فيأخذها ويحسنها فتروى له ولا تروى لأصحابها. وأقبل الناس على رواية شعره لسهولته وجدَّة معانيه وألفاظه، ثم لأنَّهم رأوا فيه صورة صادقة لعصرهم، وراقهم ما به من ظرف ومجون؛ فأحبوه وحفظوه.
وأبو نواس يطلعنا في شعره على مبلغ ما وصل إليه مجتمعه من استهتار بالمعاصي، واستهزاء من الدين بسبب انتشار البدع، وفي اعتماده على الله يطلعنا على اختلاف آراء السنة والمعتزلة في شأن الغفران، وفي هجائه العرب وتفضيله الحضارة الفارسية يمثل إلى حد ما تلك الجماعة الشعوبية التي كانت تكره العرب وتناوئهم، وفي عبثه ومجونه يرفع لواء التجديد والمجددين، وفي جده ورصانته يصور طبقة المحافظين خير تصوير.
ويرينا من علوم عصره واختلاط الثقافات فيه لغة العرب ومذاهب الكلام عندهم، وحضارة الفرس وأوصافهم، ومنطق اليونان ودقة معانيهم، واصطلاحات أصحاب الكلام في مجادلاتهم، فمن أي ناحية أتيته تجده شاعر الشخصية وشاعر العصر معًا.
وكان أثره بليغًا في الآداب؛ لأنَّه بثَّ روح التجدد في الشعراء، وفتح لهم كنوز المعاني الحديثة فاقتفروا معالمه، وتحداه بعضهم في إنكار القديم، واستكراه أساليب الأعراب، وحضهم بمجونه وصراحته على الاسترسال في العبث والتهتُّك فاسترسلوا وراءه، وعبثوا وتهتكوا، وفتحوا باب الخلاعة على مصراعيه.
(٩) أبو تمام ٧٨٨–٨٤٥م/١٧٢–٢٣١ﻫ (؟)
(٩-١) حياته
ولد أبو تمام في القرية المذكورة، فحمله والده إلى مصر وهو طفل، فنشأ فيها حتى إذا ترعرع أخذ يسقي الماء في الجامع، وقيل: بل كان يخدم حائكًا ويعمل عنده.
ثم اختلف إلى مجالس الأدباء وأهل العلم فأخذ عنهم، وكان ذكيًّا فطنًا يحب الشعر، فلم يزل يعانيه حتى برع فيه ونبه ذكره، فاتصل بالأمراء ومدحهم فأجازوه ورفعوا قدره.
ويتبين من شعره أنَّه وفد على المأمون في خلافته فمدحه، ولكنه لم يتصل به كما اتصل بأخيه المعتصم من بعده، فإنَّ المعتصم أعجب بشعره، وقدمه على شعراء زمانه؛ فبعُد صيته، واتسعت ذات يده، وكان ولوعًا بالأسفار؛ فطفق يتنقل في الولايات ويمدح أمراءها، وهؤلاء يسبغون عليه نعمهم، ولما مات المعتصم واستخلف بعده ابنه الواثق مدحه أبو تمام، ولكنه لم يتصل به اتصاله بأبيه؛ لذلك قلَّت مدائحه فيه.
صفاته وأخلاقه
كان مديدًا، أسمر اللون، يتمتم إذا تكلم لحُبْسَة في لسانه، ولا يُحسن الإنشاد؛ فكان غلامه الفتح ينشد شعره عنه. وكان قوي الحافظة، قيل إنه حفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد.
وهذه الرواية لا تقتصر على إظهار قوة الحافظة في الشاعر، بل تظهر أيضًا عصبيته في بني طيء، واعتداده بشاعريته، وهذا الاعتداد جعله يتحامى الدنايا، ويأبى التذلل إذا مدح، ويحدثنا صاحب «الأغاني» أنَّ أبا تمام مدح عبد الله بن طاهر وهو على خراسان فنثر عليه ألف دينار؛ فلم يمسسها بيده ترفعًا عنها، فالتقطها الغلمان.
وكان فطنًا حاضر البديهة، كريم الأخلاق، كثير المروءة، ولطالما استخدم نفوذه وشعره لمساعدة من يلوذ به ويعتمد عليه.
وعاش في بيئة رفيعة، فلم يصحب غير الخلفاء والأمراء؛ لذلك قلَّ تبذله واستتر في معاصيه، ولم يمعن في شرب الخمرة، على أنَّه تسرَّى بالجواري والغلمان كغيره من أهل عصره، وشبَّب بهم، ولكنه لم يتعهَّر في شعره كأبي نواس؛ بل صانه عن المجون، فلم يرو له من فاحش القول غير شيء قليل.
وكان إلى ذلك حسن الإسلام، قوي عاطفة الدين، وإن لم يحافظ جد المحافظة على شرائعه وأحكامه.
آثاره
لم يجمع شعر أبي تمام حتى جاء الصُّولِيُّ فرتَّبه على الحروف، ثم رتبه علي بن حمزة الأصبهاني على الأنواع، وشرحه الصولي وغيره، ولكنهم لم يتوسعوا في شرحه؛ فبقي أكثره غامضًا، فقلَّ الإقبال عليه، وطبع ديوانه في بيروت سنة ١٨٨٩، مشتملًا على ٤٦٣ صفحة قطعها متوسط، مرتبًا على ثمانية أبواب؛ أولها في المدح، ويستغرق ثلثي الديوان، والثاني في الرثاء، والثالث في المعاتبات، والرابع في الأوصاف، والخامس في الغزل، والسادس في الفخر، والسابع في الوعظ والزهد، والثامن في الهجاء.
وأبو تمام أول شاعر عُنِيَ بالتأليف، فاشتهر باختياراته؛ منها مختار كتاب الحماسة، وهو أشهر مختاراته، وقد وصل إلينا، ويعرف بحماسة أبي تمام؛ تمييزًا له عن حماسة البحتري، وفيه طائفة من الشعراء المقلِّين، والشعراء المغمورين غير المشهورين، بوَّبه عشرة أبواب: الأول في الحماسة، وهو أطول الأبواب؛ لذلك سمي الكتاب به من باب تسمية الكل باسم الجزء، والثاني في المراثي، والثالث في الأدب، والرابع في النسيب، والخامس في الهجاء، والسادس في الأضياف والمديح، والسابع في الصفات، والثامن في السَّيْر والنعاس، والتاسع في المُلَح، والعاشر في مَذَمَّة النساء. وقد شرحه كثيرون وطبع غير مرة. ومنها نقائض جرير والأخطل، صدَّرَها بكلمة في حرب قيس وتغلب، ونشرت في بيروت، نشرها الأب صالحاني اليسوعي.
(٩-٢) ميزته
لم يترك أبو تمام بابًا من الشعر إلا وَلَجَه وكان له حظ فيه، ولكن شهرته قامت على مدحه ورثائه؛ فرأينا أن نخصهما بالدرس والتحليل؛ لنتبين فيهما ميزته، على أنَّ نلم بعد ذلك بسائر الأبواب إلمامًا فنحيط بشعره من جميع أطرافه، ونستجلي خصائص هذا الشاعر الذي شغل الناس في عصره وبعد عصره زمنًا طويلًا.
مدحه
وقف أبو تمام معظم شعره على المدح، فلم يدع خليفة ولا أميرًا عاصره إلا رحل إليه ومدحه وتكسب منه واتصل به، ولكنه قلما تذلل في استجدائه؛ بل تغلب عليه الأَنَفَة والرصانة، وأكثر مدائحه فخمة جليلة، منها في الخلفاء كالمأمون والمعتصم والواثق، ومنها في الأمراء، والقواد والوزراء، كنسيبه أبي سعيد الطائي، وأبي دُلَف العِجْلي من قواد المأمون والمعتصم، ومالك بن طَوْق التغلبي صاحب الجزيرة، والوزير ابن الزيات، وآل وَهْب من وزراء الدولة، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد الإيادي، وسواهم.
ومدائح أبي تمام على ثلاثة أنواع من حيث الاستهلال؛ فمنها ما يتحدى به الأقدمين، فيبتدئ بوصف الديار الخالية، وذكر الأحبَّة، والنياق والقفار، ثم ينتقل إلى المدح، وربما كان انتقاله اقتضابًا فِعْلَ الشاعر الجاهلي، ومنها ما يبتدئ فيه بالحكم، أو بوصف الطبيعة، أو بوصف الخمر، وفيه يكثر حسن تخلصه؛ لأنَّه يبتعد به عن الأسلوب القديم، ومنها ما يتناول به الغرض ابتداءً دون توطئة واستطراد.
ويمتاز مدحه بفِرَة فوائده التاريخية؛ فإنَّه يحمل إلينا فيه أخبار الحروب التي جرت بين المسلمين وأعدائهم، وعلى الأخص بينهم وبين الروم، أو بينهم وبين الخرمية، ويصف انتصارات العرب، وهزائم العداة، وخراب ديارهم، ويذكر أسماء القواد والفرسان، وأسماء الأماكن التي جرت فيها الحروب، وقد يطلعنا على عادات أهل العصر، وأخلاقهم واعتقاداتهم، وتغمر العاطفة الدينية مدائحه، وخصوصًا ما كان منها في المعتصم؛ فإنَّه يحسِّن كل عمل يأتيه، ويجعله من الله، ولو نتج عن هذا العمل خراب بلد بأسره.
ومن ميزاته الغلو، وهو ميزة عصره، ولكنه قليل الإفراط فيه، وإذا أفرط جعل الشرط مانعًا مثل قوله:
ويمتاز أيضًا بما في مدحه من منطق واتساق أفكار، وحكم وأمثال سائرة، مبثوثة في تضاعيف أبياته، وبما فيه من عصبية عربية تحمله على الإسراف في ذكر مناقب العرب، وتزيين الحياة البدوية، ومساكن الأعراب وقبائلهم وشعرائهم.
وكان أصدق لهجة في مدح أنسبائه منه في غيرهم، ولعل مدحه للخلفاء أضعف عاطفة من غيره إلا ما كان منه في ذكر حروب الروم والخارجين على الخلافة، وبطش المسلمين بهم، ويعود ذلك على أنَّ الشاعر كان يتشيع للعلويين مع تقربه من العباسيين، وأكثر الناس في ذاك العهد كانوا يعطفون على أبناء علي، ويحبونهم ويؤثرونهم على سواهم، ويرون فيهم ضحايا بريئة على مذابح السياسة، ولكن فيهم فئة معتدلة لم تَرَ الخروج على السلطان، ولم تستنكر الأمر في العباسيين؛ لأنَّهم هاشميون لهم الحقُّ في الخلافة كالطالبيين، ومن هذه الفئة كان شاعرنا؛ فإنَّه لم يستنكف من مدح العباسيين وموالاتهم، والدفاع عن حقوقهم في الخلافة، غير أنَّه لم يستطع كتمان حبه لأبناء فاطمة فمدحهم منددًا بمن ناوأهم واضطهدهم ونكل بهم:
ثم يقول:
وهذا التنديد يتناول العباسيين والأمويين على السواء، ولكنه لم يحمل خلفاء بني العباس على إقصاء الشاعر والانتقام منه؛ لأنَّه خصهم بأحسن مدائحه، ودافع عن حقهم في الخلافة خير دفاع.
وينبغي أن نعلم أنَّ أبا تمام لم يمدح العلويين إلا يوم كان فتى دون السابعة عشرة من عمره، يدل على ذلك قوله في الرائية نفسها:
وكان يومئذ في مصر كما يستفاد من قصيدته هذه، فلما اتصل بالعباسيين أفاض عليهم مدائحه، واعتصم بالتقية؛ فسكت عن مدح العلويين فلم يحقد عليه بنو العباس.
وأبو تمام شديد الإعجاب بشعره، فإذا تمَّ له ما أراد من إطراء ممدوحه وذكر مآثره، ووصف غاراته وانتصاراته؛ استطرد على الغالب فختم قصيدته بإهدائها إلى ممدوحه كما تُهدى العروس إلى خاطبها، فيصف فضائلها وما فيها من جدة وحسن لا تبليهما الأيام، ويغلب استطراده بقوله: خذها، أو ما أشبه ذلك:
رثاؤه
تلك أظهر خصائص الطائي في الرثاء، متلهف، كثير التفجع، جياش العاطفة، صادق اللهجة، ولا سيما رثاؤه لأنسبائه؛ فإنَّ فيه الشعور القوي بالخسارة، والمباهاة بالميت، والمغالاة في ذكر صفاته. هو رثاء مدح وفخر وتعظيم وإكبار للخَطب الشامل، لا رثاء ضعف عاطفي، وبكاء أليم، وليس له رثاء تظهر فيه نفسه متألمة حزينة ضعيفة إلا ما قاله في أخيه وابنه. وعلى الجملة فإنَّ أحسن مراثيه ما جاء في أهله وأقربائه؛ فجعل له منزلة تعادل منزلته في مدحه على قلة مراثيه، وفرة مدائحه.
ومع اتصاله بالعباسيين لم يحسن رثاء واحد منهم؛ فقد مدح المأمون ولم يرثه، وبالغ في مدح المعتصم يوم كان متصلًا به، فلما مات المعتصم لم يخصَّه بمرثِيَّة، بل جعل رثاءه في قصيدة هنَّأ فيها الواثق بالخلافة، فغلبت عليها صفة المدح؛ لأنَّ الشاعر لم يقصد إلى الرثاء إلا على سبيل تعزية الابن بأبيه، أو ليأخذ بنوع طريف من البديع وهو الافتنان؛ أي أن يؤتى بفنين متضادين في قصيدة واحدة، كالتهنئة والتعزية، أو كالمدح والهجاء.
ومن ذلك نفهم أنَّ الشاعر لم يكن شديد الإخلاص لبني العباس، وإنما توسل إليهم بمدائحه ليفيد منهم، ولا ينبغي أن ننسى تشيعه، وإن كان في تشيعه معتدلًا حكيمًا.
عتابه
كان أبو تمام يضنُّ بشعره أن يذهب ضياعًا فما ينال به جائزة؛ فكان إذا أبطأ عليه ممدوحه عاتبه متلطفًا، وذكَّره القصائد التي مدحه بها، ولكنه لا يُلحف في عتابه ولا يهدد، بل يؤنِّب ممدوحه تأنيبًا لطيفًا، ويظهر له منزلة شعره في شيء من الترفع والإباء، ويطعن في شعر غيره فيجعله خسيسًا مرذولًا.
وصفه
الوصف في شعر الطائي: منه مستقلٌّ بقصائد وأراجيز ومقطعات، ومنه مبثوث في مدائحه وسواها من الأغراض، وقد وصف شاعرنا الحرب والخيل والإبل والنساء والغلمان والشيب واحتضار الميت والطبيعة والشراب، فأفاض في ذكرها جميعًا، ولكن وصفه يبدو عليه أحيانًا شيء من الجمود والانقباض، فما تدفعك صوره إلى الانجذاب معها في الخيال الفسيح، ويعود ذلك على أنَّ الشاعر يغوص في عباب معقوله أكثر مما يطير في سماوات مخيلته، ويسرف — على الغالب — في استعمال الغريب وأوجه البديع، حتى تجف صوره وتجفو، وتفقد كل حركة وحياة.
غزله
قد يطول تعبك ويعز طلبك إذا حاولت أن تلتمس العاطفة الصادقة في الغزل الذي كان أبو تمام يوطئ به مدائحه وتهانيه، فهذا الغزل لم يأتِ به الشاعر تلبية لهمسات فؤاده، وإنما جاء به إرضاءً لنزعات نفسه إلى التقليد، فإذا هو يقف على الطلول، ويسلم على الديار، ويبكي على الرسوم، ويستنطق الآثار، ويذكر عرائس الشعر اللائي شبب بهن المتقدمون.
وهذا الغزل جافٌّ في أكثره، جافٍ في معانيه، وإذا عثرت فيه على تشبيب حسن يرضيك، فما تعثر على شعور رقيق يؤثر فيك، وقد تُلفي فيه الصنعة على غرابة لفظه وبداوة معانيه، ولكنك لا تتبين نفسية صاحبه في قوافيه، فهو غزل كاذب لا يصوِّر عاطفة العاشق المحب، بل يمثِّل كلف الشاعر بتقليد المتقدمين، وإعجابه بمذاهب أهل الخيام، وعرائس الشعر عندهم.
على أنَّ لأبي تمام غزلًا غير هذا يصور عاطفته أصدق تصوير، وهو الذي تجده في ديوانه مقطعات صغيرة، منها بيتان ومنها أربعة، وقلما زادت كبراها على ستة، فهذه المقطعات إن هي إلا زفرات مشتعلة تتقد بها نفس الشاعر المستهام، فترى منه محبًّا شديد الغيرة على محبوبه، يتلظى غيظًا إذا زاحمه فيه مزاحم.
وفي هذا النوع من الشعر ترقُّ ألفاظه، وتلطف معانيه، ويقل تكلفه لاقتصاده في طلب الصنعة.
ولم يتعهر في هذا الغزل إلا قليلًا؛ ذلك بأنَّ أخلاق الطائي تأبى المجاهرة بالخلاعة، وتُؤْثِر الترصن والوقار، غير أنَّه لم يشذَّ عن خطة معاصريه في التذلل للمحبوب، وإظهار العبودية له.
وأضيفت إليه أبيات رويت لأبي نواس، ومن الصعب تحقيق نسبتها إلى أحدهما، على أنَّ في بعضها من النكتة والظُّرف ما يدفعنا إلى أن نرده على شاعر الأمين.
فخره
كان أبو تمام عربيًّا في نزعته ينتمي إلى طيء بالولاء على الأرجح؛ فافتخر بعروبته، وافتخر بقومه، وذكر أجوادهم وفرسانهم، وفيهم أمثال حاتم وزيد الخيل، وكان شديد الإعجاب بشعره؛ فافتخر به وفاخر الشعراء، ونزل المشيب برأسه وهو في السابعة عشرة من عمره، فجعل منه موضوعًا لفخره، كيف لا والشيب عنده عنوان الكمال!
الوعظ والزهد
لم يتنسك أبو تمام كما تنسك غيره من الشعراء، ولا عرف الزهدُ إلى نفسه سبيلًا، بل ظل يجني من الحياة أحلى ثمارها، ويستنشق أطيب أزهارها، لا يتورع من إثم يرتكبه، ومحرم لا يجتنبه، فقد كان من طلاب اللذة ولكنه آثرها مستترة.
وكان ككل خاطئ ابتلي بالمعاصي، تمر به ساعات خوف وندم، فتتمثل له الآخرة وعذابها، فتطير نفسه شعاعًا؛ فيفزع إلى ربه مستغفرًا متندمًا، ويقف من نفسه موقف الواعظ الحكيم، فيؤنبها على استهتارها وغفلتها، ويذكرها الموت والفناء والعذاب.
وليس له شعر كثير في الزهد؛ لأنَّ هذا النوع لم يكن من طلباته، وإنما كان يعرض له على كره منه، فينظمه خاضعًا لتأثير نفساني طارئ لا يلبث أن يزول، ويبدو هذا التأثير عظيمًا عندما تسمعه يتمنى أن يصبح بعد موته رفاتًا محضًا، لا نفس له خالدة في نعيم أو جحيم:
ولكنه حسن الإيمان بالله، شديد الاتِّكال عليه، فإذا الخوف والرجاء يعتلجان في صدره:
ويقول أيضًا:
وهذا البيت يظهر لنا الشاعر كبير الذنب، ولكنه صادق في عقيدته، مخلص لإسلامه.
هجوه
لم يعن أبو تمام بالهجو السياسي؛ لأنَّه كان علوي النزعة، مقربًا من العباسيين، فلم يتأتَّ له أن يهجو الشيعة ولا بني العباس، وكان عظيم الحظوة عند الأمراء وأكثرهم من الموالي؛ فأقصر عن هجاء الشعوبية، والرد على شعرائها الذين أفحشوا في تعيير العرب، واقتصر على هجاء الشعراء الذين تعرضوا له حسدًا، فعابوا شعره ورموه بالسرقة والانتحال، واقتصر أيضًا على هجاء طائفة من الفتيان الذين صحبوه ثم ملُّوا صحبته؛ فندَّد بهم ونشر مخازيهم، وجاء هجوه لهم مفعمًا بالغيرة الخانقة، وحب الاستئثار، وهجاؤه — في جملته — غير بريء من التعهر وانتهاك الحرمات، وهو إلى ذلك سهل الألفاظ، قليل التكلف، عاطفي يجري مع الطبع.
حكمه وآراؤه
ليس لأبي تمام شعر خاص بالحكمة، وإنما كان يبث حِكَمه في قصائده على اختلاف أغراضها، وكانت كتب الفلسفة والمنطق قد نقلت عن اليونانية، واطلع عليها الناس فشغفوا بها؛ فسبق أبو تمام الشعراء إلى الاستفادة منها، فغاص على معانيها الدقيقة، واستخرجها من أبعد أغوارها، وجعل المنطق له إمامًا، فأكثر من الأخذ بالأدلة العقلية، وأرسلها حكمًا وأمثالًا، حتى روي له منها ما يُربي على مائتي بيت.
فالحكمة في شعر أبي تمام لا تقتصر على اختباراته لحوادث الأيام وتجاربها شأن الشاعر الجاهلي، بل تتعداها إلى التفكير الصحيح؛ لأنَّه كان يتطلبها بإلحاف، ويتعمَّدها أكثر مما يأتي بها عفوًا.
وحِكَمُ الطائي — في جملتها — قائمة على المواعظ الأدبية، والنظر في أخلاق الناس، وتعظيم العقل، وذم الزمان؛ لأنَّه يشقى به العاقل وينعم الجاهل.
وإذا شئت أن تستخلص لشاعرنا رأيًا خاصًّا بالحياة فبوسعك أن تحصره في دائرة صغيرة، ألا وهي الصبر، ومصانعة الأيام ومداورتها، والاغتراب طلبًا للرزق ومحاربة للفقر، فمن ذلك قوله:
وهذان البيتان يظهران اعتماد الشاعر على الصبر في مصانعة الأيام، ويظهران حبه للمال وتعظيمه له؛ فإنَّه على شدة إجلاله للعقل يراه عاريًا ضائعًا إن لم يكسُه المال ويحفظه من الضياع، وحب المال جعل الشاعر يؤثر الاغتراب في طلبه؛ فتنقَّل بين الولايات، وتكسَّب من مدح الأمراء.
ما أُدرك عليه
أفرط أبو تمام في استعمال البديع، فجره تعمد التجنيس والطباق والإرصاد إلى سقطات كان غنيًّا عنها، فمن ذلك قوله:
وأفرط في استعمال الاستعارات، فلم يسلَمْ من العثار، ورويت له استعارات مضحكة لا تليق بشاعريته، كقوله:
فقد أراد التجنيس والإرصاد بين السلوقي وسلوق، فجعل خيول الفرسان كلابًا، وإسرافه في طلب هذه الأشياء ورَّطه في مضادات جمة لأصول الفصاحة، وجعل في شعره غموضًا لا تُحَلُّ رموزه إلا بشق النفس، وزاده إبهامًا إيثار الألفاظ الحوشية بل الوحشية، مثال ذلك قوله:
فالأهيس والأليس والليس ثقيلة على السماع، ثم استُشْنِعت لاجتماعها في بيت واحد، وقد فصل الشاعر بين النعت والمنعوت بغريب في قوله: يغرِّق الأسد في آذيها الليسا. وأشبع حركة الياء في أهيس وأليس؛ تشبهًا بالمتقدمين، مع أنَّ المولَّدين أخذوا يتحامون أمثال هذا الزحاف بعد وضع العروض، والزحاف في شعر أبي تمام جد كثير، قلما خلت منه قصيدة، وربما تواطأت عدة زحافات على بيت واحد فحطمته تحطيمًا.
ولم يقتصر على الإسراف في البديع، والخروج على قواعد العروض؛ بل استباح قواعد النحو فلم يرعَ لها ذمة. وأُدركت عليه سرقات كثيرة جرَّه إليها جمعه لأشعار المتقدمين، وسعة روايته؛ فكان يسلُّ المعاني الحسان ويدخلها في شعره، ولكن خصومه بالغوا في تسريقه، فزعم دعبل أنَّ أبا تمام أغار على قصيدة لمُكنَّف بن أبي سُلمى من ولد زهير بن أبي سلمى فسرق أكثرها، وأدخله في قصيدته «كذا فليجلَّ الخطب»، وروى صاحب «الأغاني» أبياتًا منها جاء في أواخرها:
وهذان البيتان تجدهما في رائية أبي تمام مع بعض التغيير، على أنَّنا نشك في صحة ما زعم دعبل؛ لأنَّ الأبيات التي ذكرها بيِّنة التوليد لا تشبه أشعار المتقدمين، والأرجح أن دعبلًا نظمها ونحلها ابن أبي سلمى؛ بُغية إسقاط أبي تمام.
(٩-٣) منزلته
شغل أبو تمام الناس بشعره فانقسموا حزبين: حزبًا يفرط في التعصب له ويقدمه على كل سالف ومحدث، وحزبًا يفرط في التعصب عليه، ويتعمد الرديء من شعره فينشره ويطوي محاسنه.
وغير عجيب أن يشتد الخلاف في هذا الشاعر، فقد حمل إلى الشعر أشياء غير مألوفة، فلم تتفق جميع الأذواق على استياغها والارتياح إليها؛ فإنَّه جعل الشعر صنعةً، وبَعُدَ به عن الطبع السمح؛ لإسرافه في طلب التجنيس والطباق والاستعارات. قال الآمدي: «حتى صار كثير مما أتى به من المعاني لا يعرف ولا يُعلم غرضه إلا مع الكد والفكر، وطول التأمل، ومنه ما لا يُعرف معناه إلا بالظن والحَدْس.» ا.ﻫ.
وأفرط في اتخاذ الأدلة العقلية بعد اطِّلاعه على كتب يونان، فازداد شعره إبهامًا وتعقدًا، وأصبح لا يميل إليه إلا من آثر الصنعة والمعاني الغامضة التي تُستخرج بالغوص والفكرة، وكان لمختاراته التي جمع فيها أشعار العرب المتقدمين اليد الطولى في تضليعه من غريب اللفظ ووحشيِّه، فشُغف به وأفرط في استعماله، حتى تأبد أكثر شعره واخشوشن، وسمج وقعه في الآذان، فضاعت فيه معانيه الحسان، فما تعثُر على واحد منها إلا كما تعثُر على لؤلؤة وضَّاءة في أكوام من الفحم؛ فأعرض سواد الرواة عن حفظه، وكان ابن الأعرابي يقول: «إن كان هذا شعرًا فكلام العرب باطل.» وابن الأعرابي من أولئك العلماء الذين وقفوا على لغات العرب ومذاهبهم، وآثروا الأسلوب القديم والغريب من اللفظ على الأسلوب الجديد واللفظ الرقيق، ولكنه أنكر على أبي تمام تأبده وغموضه، وتعسُّفه في طلب البديع والأدلة العقلية، وبُعده عن الطبع، مع أنَّ أبا تمام كان يحب الغريب مثله ويترسم البدو في أساليبهم، غير أنَّه أفسد شعره بكثرة التصنع والإبهام.
وكان إذا قيل له: «لِمَ تقول ما لا يفهم؟» قال: «لم لا تفهمون ما يقال؟!» وفي هذا الجواب من المكابرة ما يدل على اعتداد الشاعر بنفسه وارتضائه بجميع ما تفيض به قريحته، حتى إنَّه ليبخل ببيت ظاهر عيبه فما يسقطه من قصيدته، وكان يرد على لائمه بقوله: «أنا والله أعلم منه مثلما تعلم، ولكنَّ مَثَلَ شعر الرجل عنده مَثَلُ أولاده، فيهم الجميل والقبيح والرشيد والساقط، وكلهم حلو في نفسه، فهو وإن أحبَّ الفاضل لم يبغض الناقص، وإن هَوِيَ بقاء المتقدم لم يَهْوَ موت المتأخر.»
وإسراف أبي تمام في الصنعة والغريب، وبخله بشعره، من الأسباب التي كان لها الأولية في الإكثار من رديئه، فاشتهر جيده لقلته، والجيد في شعره ما اجتمع فيه حسن اللفظ والمعنى، فجاء آية في الإبداع؛ لذلك كان البحتري يقول: «جيده أحسن من جيدي، ووسطي ورديئي خير من وسطه ورديئه.»
ولو وفق أبو تمام لتجميل ديباجته كما وفق في تصيُّد المعاني لما بلغ شأوه بالغ؛ لأنَّه أُوتي من جودة القريحة، وسعة الخيال، وتنبه الذهن، ما يجعل منه شاعرًا لا يُجارَى، ولو عمل بوصيته للبحتري إذ قال له: «وتقاضَ المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزريَّة، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام.» لوقى شعره سقطات كثيرة، ولكن جعل همته في الغوص على المعاني ولم يُعْنَ بتقويم ألفاظه، فكان إذا لاح له المعنى أخرجه بأي لفظ اتفق له من ضعيف أو قوي، لا يعنيه منه إلا أن يدخل فيه طباقًا أو جناسًا، أو استعارة أو إرصادًا؛ فنتج عن ذلك أن سقط معظم معانيه، فجاء بعده من أخذها عنه، وأفرغها في قالب حسن فنسبت إليه.
وعلى الجملة فإنَّ أبا تمام شاعر عبقري يجاري أحيانًا الطبقة الأولى من الشعراء المولدين، ولكنه شاعر ضلَّ طريقه فما يلبث أن يتقهقر فتنحط منزلته عن منزلة المبرزين منهم، ولولا تعسفه وصنعته لما فضله مولد، وهو أول شاعر انكشفت له الحكمة اليونانية فاغترف من بحرها، ومهَّد السبيل من بعده للمتنبي وأضرابه، وأول شاعر عمد إلى التأليف فسخَّر له اختياره لأشعار المتقدمين من المعاني ما لم يسخَّر لسواه، ويمتاز شعره بطول النفس، وفخامة الابتداء، وبُعد مرامي التفكير، على اندفاع عاطفي. وله المكانة العالية في الرثاء ثم في المدح، ويُعدُّ من المجددين في عصره من حيث التزام البديع، ونظم الأدلة المنطقية، والآراء الفلسفية، وقد أغنى اللغة بمعانٍ لم تُعرف قبله، كما أغناها بأنواع الاستعارة والتجنيس والطباق.
(١٠) دعبل ٧٦٥–٨٦٠م/١٤٨–٢٤٦ﻫ
(١٠-١) حياته
واتصل الشاعر بالرشيد وهو شاب لم ينبه ذكره بعد، وسبب اتصاله به أن بعض المغنين غنى في قوله: «لا تعجبي يا سلمَ من رجلٍ.» فغُنِّيَ به بين يدي الرشيد، فطرب له وسأل عن قائله، فقيل له: «دعبل بن علي، وهو غلام نشأ من خزاعة.» فأمر بإحضاره، وخلع عليه وأجازه، وأجرى عليه رزقًا سَنِيًّا؛ فكان أول من حرضه على قول الشعر حتى نبغ واشتهر اسمه.
موته
يحدثنا الرواة أنَّ دعبلًا قصد مالك بن طَوْق أمير الجزيرة، ومدحه فلم يرضَ ثوابه؛ فخرج عنه غاضبًا، وهجاه فأفحش فيه القول، فطلبه مالك فهرب فأتى البصرة، وعليها إسحاق بن العباس بن محمد العباسي، وكان قد بلغه هجاء دعبل للنزارية تعصبًا للقحطانية فقبض عليه، ودعا بالنِّطْع والسيف ليضرب عنقه؛ فحلف بالأيمان المحرَّجة أنه لم يقلها، وأنَّ عدوًّا له قالها ونسبها إليه ليُغري بدمه، وجعل يتضرع إليه ويقبِّل الأرض ويبكي بين يديه؛ فرقَّ له وقال: «أما إذا أعفيتك من القتل فلا بدَّ من أن أشهِّرك.» ثم دعا له بالعِصِيِّ، فضربه حتى سَلح، وأمر به فألقي على قفاه، وفتح فمه فردَّ سلحه فيه، والمقارع تأخذ رجليه، فما رفعت عنه حتى بلع سلحه كله، ثم خلَّاه فهرب إلى الأهواز.
صفاته وأخلاقه
فدعبل كبشار يكره الناس، ويحب التكسب، ويؤثر أن يطلبه بالهجاء بدلًا من المديح، وهو كبشار سيئ الظن في أبناء عصره، فعيوب الناس عنده أكثر من محاسنهم؛ غير أنَّه يختلف عن بشار في أنَّه صاحب عصبية عربية، ويختلف عنه أيضًا في أنَّه كان دونه أَنَفَة وكِبْرًا؛ فقد ضُرب بشار حتى مات ولم تذلَّ نفسه ولم يتضرع، وهُدد دعبل بالموت فبكى وتذلل، ثم ضرب فسلح وبلع سلحه.
ولم يبرَّ أحدًا إلا أبناء علي، فقد كان صادق التشيع لهم، يرجو بهم الشفاعة في الآخرة، ولكن تشيعه لا يعني أنه كان حسن التدين، يحافظ على شعائر الإسلام؛ فدعبل لم يتحوَّب من القتل والسلب، وتمزيق الأعراض، والتخنث والفجور، وشرب الخمر، ولكنه كان أقل فجورًا وسكرًا من بشار.
وعلى الجملة فليس في أخلاق دعبل ما يستحق الحمد والثناء، فهو عصارة اللؤم المصفَّى.
آثاره
لم يُشهَر دعبل في الشعر إلا بعد أن اكتمل شبابه واتصل بالرشيد، فأجازه وحرَّضه على القول. وأمَّا الشعر الذي نظمه في صباه فإنَّ أستاذه مسلم بن الوليد لم يَرَ فيه خيرًا؛ فأمره بكتمه، فكتمه ولم يُظهره.
ولكن دعبلًا عُمِّر طويلًا، ونظم شعرًا كثيرًا، فقد روى الجاحظ أنَّه سمعه يقول: «مكثت نحو ستين سنة ليس من يوم ذرَّ شارقه إلا وأنا أقول فيه شعرًا.» غير أنَّ هذا الشعر ضاع، ولم يبق منه إلا بعض قصائد ومقطعات مبثوثة في كتب الأدب، وأكثرها في الهجاء، ومدح آل البيت. ولعلَّ إقذاعه في هجو الخلفاء العباسيين كان السبب في ضياع شعره، وإخمال ذكره؛ لأنَّ الناس أهملوه بعد موته تهيبًا لبني العباس، فلم يَرْوُوا شعره ولم يَجْمَعُوه.
(١٠-٢) ميزته
لا نبتغي دراسة عامة لشعر دعبل وقد ضاع أكثره، على أنَّ ما بقي منه كافٍ لأن يظهر لنا الخصائص التي اشتهر بها هذا الشاعر، ألا وهي الهجاء المقذع والمتاجرة به، والعصبية القحطانية، والتشيع لأبناء علي.
هجوه وتكسبه
كان دعبل يحب التكسب كغيره من شعراء العصر العباسي، وأوتي من خبث اللسان ولؤم الطباع ما جعله عند الناس بغيضًا مقيتًا؛ فابتعدوا عنه، ونفروا منه، وتمنوا هلاكه، حتى إن ممدوحيه كانوا يجيزونه قطعًا للسانه لا حبًّا له، فلم يسبغوا عليه وافر النعم، ولا أغنوه من فقر؛ فانقلب عليهم وهجاهم، وقدِّر له أن يعيش هاربًا خائفًا متواريًا لإفراطه في هجاء الخلفاء والأمراء، فلم يطمئن به مضجع ولا رحَّب به مصر؛ فاشتدت نقمته على الناس، وازداد كرهًا لهم، وأبت نفسه الخبيثة أن تأنس برؤية من يصنع المعروف معها، فتمنت هلاكه لئلا تُضطر إلى مجاملته والتودد إليه، ووافق هواها شتم الناس، فرأت أنَّ الهجاء المقذع آخَذُ بضَبْع الشاعر من المديح المضرع. وهذه النظرية سبق بشار إليها فاختطها دعبل من بعده، وكان مسلم بن الوليد يقول بها، ولكنه لم يؤيدها كما أيدها تلميذه؛ لأنَّه لم يكن مثله لئيمًا دنيئًا، ولم يكن يكره الناس.
واعتماد دعبل على الهجاء في التكسب جعله يهيئه قبل أن يجد المهجو، فإذا استحقه أحد أتحفه به، وذكر اسمه وشهره. وأكثر الذين هجاهم من أمراء ووزراء وقواد — كابن الزيات، ومالك بن طوق، والفضل بن مروان، وغيرهم — كانوا من ممدوحيه، فلم يرضه عطاؤهم فنقم عليهم.
ولم يسلم من شره أنسباؤه وأصدقاؤه والمتشيعون مثله؛ فقد هجا آل طاهر بن الحسين الخزاعي مع شدة ميله إليهم، وكثرة افتخاره بهم، وقصد مصر؛ فمدح أميرها المطَّلِب بن عبد الله بن مالك — وهو قريب له — فأجازه، وولاه أسوان. وحدث أنَّ رجلًا من العلويين كان قد تحرك بطَنْجة، وأخذ يبث دعاته إلى مصر؛ فخافه المطَّلب؛ فوكل بالأبواب من يمنع الغرباء دخولها، فجاء دعبل فمُنع؛ فأغلظ للذي منعه، فقنَّعه هذا بالسوط وحبسه، ثم عرف المطَّلِب بالأمر فأطلقه وخلع عليه، فقال له: «لا أرضى أو تقتلَ الموكَّل بالباب.» فقال له: «هذا لا يمكن لأنَّه قائد من قواد السلطان.» فغضب دعبل وهجاه جاحدًا قرابته وفضله عليه.
وبلغ المطَّلِبَ هجاؤه إياه فعزله عن أسوان؛ فراح يفحش فيه القول ويوجع عرضه.
وحسبك من ذلك شاهد على لؤم دعبل، وخبث لسانه، ودناءته في طلب الرزق، وغدره بأقرب الناس إليه.
عصبيته القحطانية
لا نرى بنا حاجة إلى الاستفاضة في أسباب العداء المستحكم بين العدنانية والقحطانية، فحسبك أن تعلم أنَّه أثر باقٍ من عصبية العرب في جاهليتهم، وتنافس قبائلهم من نزارية وحِمْيرية. وجاء الإسلام فزيدت قريش شرفًا بالنبوة، ثم استقلَّت بالخلافة، فدلَّت قبائل مَعَدٍّ على قبائل اليمن، فاشتدَّت الخصومة بينهم وعظم التنافس، فكانت شعراء نزار تهجو اليمانية، وشعراء اليمن تهجو النزارية ولا تعفُّ عن قريش.
وكأنَّ الشاعر خشي شرَّ هذا البيت، فكان إذا سئل عنه تبرَّأ منه وقال: إنَّ خصمه أبا سعد المخزومي دسَّه عليه في نقيضته.
وأبو سعد هذا شاعر من موالي قريش اسمه عيسى بن خالد بن الوليد، انبرى لدعبل يهاجيه وينقض أقواله بعد أن ردَّ على الكميت وهجا النزارية؛ فاستطال عليه دعبل، فخاف بنو مخزوم أن يعمَّهم الهجاء؛ فنفوا أبا سعد عن نسبهم، وكتبوا بذلك صكًّا، فقال دعبل يهجوه:
ولحم الهجاء بينهما، هجاء فاحش فاجر، وكان شعر دعبل أَسْيَرَ من شعر أبي سعد؛ لسهولته وخفته، فسار على أفواه الصبيان وعابري السبيل، وكان أبو سعد يتضوَّر منه ويقول: «ما أجتاز بموضع إلا سمعته من سفلة يهدرون به.» وقيل: إن دعبلًا كان إذا هجا أبا سعد دعا الصبيان، وأعطاهم جوزًا ليصيحوا بشعره، فدعبل — كما ترى — شاعر عصبية متحمسٌ لقحطانيته.
تشيعه للعلويين
إذا شئت أن تتبين مبلغ تعصب دعبل لأبناء علي، فعليك بشعره الذي هجا به الخلفاء العباسيين، فهو أصدق شاهد على تشيع هذا الشاعر، وكرهه لبني العباس الذين استأثروا بالملك دون أبناء عمهم من هاشم.
وكان الرشيد أول خليفة سلط دعبل لسانه عليه، ولكن بعد موته، ولم يهجُه في حياته لأسباب، منها: أنَّ الرشيد كان مرهوب الجانب، ومنها: أنَّ دعبلًا كان محظوظًا عنده؛ فأشفق من أن تزول عنه هذه النعمة؛ فكظم تعصبه في صدره، ورضي بالصمت على أمل أن تتبدل الأحوال بتبدل الأزمان، ومات الرشيد واستخلف الأمين من بعده وشاعرنا لا ينبس ببنت شفة، ثم وقعت الفتنة بين الأخوين الأمين والمأمون، فانتصر الفرس للمأمون لأنَّ أمه فارسية، وكان المأمون ذا دهاء، فرأى من الحكمة أن يتودد إلى العلويين استكفافًا لسخطهم، واسترضاءً للفرس أنصاره وأشياعهم، فلما تم له الأمر بعد مقتل أخيه عهد في الخلافة من بعده إلى علي بن موسى الرضا — من ولد علي بن أبي طالب — فاغتبطت الشيعة وارتضت، ولكن العباسيين سخطوا فبايعوا إبراهيم بن المهدي في بغداد، فخشي المأمون أن يفلت الأمر من يده بخروج العباسيين عليه، وميلهم إلى عمه إبراهيم؛ فودَّ لو يتخلص من هذه الورطة ليصفو له الجو، فلم يلبث أن تحققت أمنيته فتوفي علي الرضا فجأة، وزعموا أنَّه أكثر من أكل العنب فمات، وقال آخرون: بل دس المأمون له السم فقضى عليه. وكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم بموته؛ فخلعوا إبراهيم ودعوا للمأمون بالخلافة.
وأثار موت علي الرضا بهذا الشكل ظنون العلويين؛ فهاج بعصبيتهم وأيقظ النقمة في صدورهم، غير أنَّ المأمون استطاع أن يخضد شوكتهم بدهائه؛ فقربهم إليه، وشغلهم بالخطط العالية، ولم يحجم عن اغتيال من يخشى شره منهم، فِعْله بوزيره الفضل بن سهل، وبقائده طاهر بن الحسين.
وكان دعبل في جملة الناقمين، وساءه أن يغدر المأمون بعلي الرضا، ثم يدفنه عند قبر أبيه الرشيد في طوس؛ فهجا الرشيد والعباسيين، وبكى على العلويين ضحايا أبناء عمهم، وفي ذلك يقول:
وبوسعنا أن نتبين هنا خطأ الرواية التي أثبتها أبو الفرج في أغانيه، وتناقلتها كتب الأدب من بعده، وهي قولهم: «ما بلغ دعبلًا أنَّ الرشيد مات حتى كافأه على ما فعله من العطاء السني، والغنى بعد الفقر، والرفعة بعد الخمول، بأقبح مكافأة، وقال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت — عليهم السلام — وهجا الرشيد.» ثم يروون قوله: «قبران في طوس.» ولا يروون له غير ذلك في الرشيد.
فهذه القصيدة لم تنظم إلا بعد وفاة علي الرضا؛ أي سنة ٢٠٣ﻫ/٨١٨م، والرشيد مات سنة ١٩٣ﻫ/٨٠٩م، وقد أخطأ صاحب «معاهد التنصيص» في زعمه أنَّ الشاعر أراد في قوله: «ارْبَع بطوس على القبر الزكي.» قبر موسى الكاظم؛ أي والد علي الرضا؛ فموسى الكاظم لم يدفن في طوس، بل في مقابر الشونيزي في بغداد.
فيتضح — مما تقدم — أنَّ الشاعر بقي نحو عشر سنوات بعد الرشيد لم يقل هُجرًا في العباسيين، وانقضت خلافة الأمين دون أن يهجو أحدًا منهم، حتى مات علي الرضا؛ فاستيقظت عصبيته فهجا الرشيد، ثم هجا المأمون، وإبراهيم بن المهدي، والمعتصم، والواثق، والمتوكل.
وكان المأمون أرحبهم صدرًا في استماع هجائه؛ ذلك أنَّه كان يزن الأمور بمعيار فطنته، فلم يجد بأسًا على الخلافة من هجاء دعبل فلم يعبأ به، ولم يشأ أن يسيء إلى الشيعة بقتل محازبهم، ولا أن يرزأ بني خزاعة بشاعرهم، وهم أنصاره في ثورته على أخيه.
وسأله أبو سعد المخزومي أن يأذن له بقتله فأبى وقال: «هذا رجل فخر علينا فافخر عليه كما فخر علينا، فأما قتله بلا حجة فلا.»
ولطالما حاول أن يقربه ويصطنعه، فكان يأخذ عطاياه ثم يعود إلى هجائه، والمأمون يتحلم عنه وقد يجيزه إذا سمع منه هجاءً في عمه إبراهيم؛ لأنَّ إبراهيم طمع في الخلافة وأرادها لنفسه دونه، فكان المأمون يتعمد نكايته والتشفي منه، قيل إنَّه لما سمع قول دعبل فيه:
ضحك وقال: «قد صفحت عن كل ما هجانا به؛ إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة، وولَّاه عهده.»
(١٠-٣) منزلته
قال البحتري: «دعبل بن علي أشعر عندي من مُسلم بن الوليد؛ لأنَّ كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذهبهم.»
والبحتري ينظر في ذلك إلى طبع دعبل وصناعة أستاذه، فمذهب مسلم في الشعر مختلف؛ فحينًا يسهل فيسيل عذوبة وطبعًا، وحينًا يحزُن فيُغرب، ويتكلف البديع فيُفسد شعره، ويبعد به عن مذاهب الأعراب.
وغريب أن دعبلًا لم يتأثر أستاذَه إلا من الناحية السهلة المطبوعة، فلغتهما فيها أشبه من الماء بالماء، وأما الناحية الثانية فقلما سلك دعبل إليها، ولا نعرف له فيها غير قصيدة مدح بها الفضل بن مروان وزير المعتصم، والتزم في جميع قوافيها لفظة الفضل فجاءت غير مألوفة في عصرها، وإن يكن التكلف أخذ يفشو فيه. ودعبل نفسه استغربها فقال فيها:
ولا غرو أن يبتعد دعبل عن التصنع، ويأنس بكلام العرب الخُلَّص؛ فهو عربي النبعة لا أعجميها كأُستاذه، بدويُّ النزعة لا حضريها، وقضى حياته هاربًا من وجه السلطان، مستخفيًا في الجبال والقفار، فلم تملك نفسه زخارف الحضارة ومباهجها؛ فظلَّ شعره أقرب إلى الطبع من شعر مسلم، وأدخل منه في كلام العرب الصرحاء.
ويمتاز شعره في رشاقته، وحسن انسجامه، وطلاوته، ووقع أنغامه، فهو لطيف على غير ضعف، قوي على غير خشونة، ولولا إمعانه في هجاء الخلفاء وإسرافه في سفساف القول، لكان من أَسْيَر الشعراء شعرًا؛ لسهولة ألفاظه ووضوح معانيه، ولكنه أفسد هذا الشعر بالفحش والإقذاع، وشتم الملوك والأمراء؛ فأهمله الرواة بعد موته وأخملوا ذكره.
على أنَّه كان في حياته من أعظم الشعراء خطرًا، وأخوفهم جانبًا؛ فكان الناس يخشون شره، ويتحامون إغضابه، ويقطعون لسانه بالصلات استكفافًا لبلائه. روى أبو الفرج أنَّ ديكًا لدعبل طار من داره إلى دار جارٍ له فاصطاده جاره وطَعِمَه، فعرف دعبل فهجاه، فذاع الهجاء؛ فخاف الجار، فلم يدع ديكًا ولا دجاجة قدر عليه إلا اشتراه، وبعث به إلى دعبل؛ ليسكت عنه. وقيل لابن الكلبي: «لو أخبرت الناس أنَّ دعبلًا ليس من خزاعة.» فقال: «يا هذا أمثل دعبل تنفيه خزاعة! والله لو كان من غيرها لرغبَتْ فيه حتى تدَّعيه. دعبل — والله يا أخي — خزاعة كلها.»
فهذه الروايات — على علاتها — تشهد لدعبل بما كان له من مكانة في عصره؛ فخبث لسانه، وعصبيته القحطانية، وتشيعه لأهل البيت جعل منه هجَّاء مسافهًا، وشاعرًا قوميًّا، ومحاميًا حزبيًّا؛ فمنزلته إذن قائمة على شعره الهجائي، ولا سيما السياسي منه. وهو يشبه بشارًا بإقذاعه وفحشه، وسلاطته على الأعراض، ولكنه يفوقه خطرًا لنسبته في خزاعة، وتشيعه للعلويين.
هوامش
وذكر ابن خلكان وغيره أنَّ الوزير ابن الزيات وديك الجن شاعر الشيعة رثيا أبا تمام، وابن الزيات قتله المتوكل سنة ٢٣٣ﻫ، وديك الجن لم تمتد حياته إلى أبعد من سنة ٢٣٥ﻫ، فبوسعنا إذن أن نحدد وفاة الشاعر بين سنة ٢٣٠ وسنة ٢٣٢ﻫ، والذهاب إلى أبعد من ذلك ليس له من مسوغ.
ولم يكن الخلاف على وفاته بأكثر من الخلاف على مولده؛ فقد جعله بعضهم سنة ١٧٢ﻫ، وجعله غيرهم سنة ١٨٨، وجعله آخرون سنة ١٩٢، على أنَّ أكثر المؤرخين رجحوا سنة ١٩٠، وقالوا إنَّه ولد في أواخر خلافة الرشيد، ولكن لم نطمئن إلى هذا الترجيح؛ لأنَّ في ديوان الشاعر قصيدتين يمدح بهما الحسن بن سهل، ويذكر في إحداهما أنَّه كان في السادسة والعشرين من عمره، قال: