الكتاب المولدون
(١) ميزة النثر
لم يكن أثر امتزاج العرب بالأعاجم مقصورًا على لغة الشعر وحدها، بل تعدَّاها إلى لغة النثر؛ فجدَّد في ألفاظها ومعانيها، ونوَّع في فنونها وأغراضها، وذلَّل أوضاعها لمباحث ليس لها عهد بها؛ فبلغ الإنشاء العربي أرقى درجات الفن والبلاغة، وامتاز في سهولة العبارة، ووضوح المعنى، وحسن تخير الألفاظ وتزيينها، وذاع التسجيع القصير الفقرات، فتكلفه المترسلون تكلفًا، وقصدوا إليه قصدًا، ولكنهم لم يلتزموه التزامًا، ولا أنزلوه منزل السخف والإسفاف.
وليس تزيين اللفظ من مواليد هذا العصر، بل هو خدن الآداب العربية من أبعد عصورها. ولنا في إنشاء القرآن شاهد على ذلك، والقرآن أصدق صورة نتعرَّف بها طراز الإنشاء القديم، ولكن التزيين في القرآن وفي رسائل الإسلاميين وخطبهم خالٍ من التصنع، جارٍ مع الطبع؛ فقد تجد السجع والموازنة، وضروب الاستعارات والتشابيه، وأنواع البديع دون أن تشعر بالتكلف لها، والتعمُّل في اصطناعها، وإنما تبدو لك نازلة في منازلها، ملبية داعي الحاجة إليها، لا مضطربة ولا متقلقلة.
وعلى الجملة فإنَّ كتَّاب العصر الأول العباسي وما يليه كانوا جدَّ مقتصدين في تنميق ألفاظهم وتحسينها، يتعمَّدونه ولا يرون إلى الإسراف فيه سبيلًا، وإنما هم يريدون تأدية المعنى الجميل في القالب الجميل، فإذا نمَّقوا فخدمةً وإيضاحًا للمعنى الذي يقصدون؛ لذلك لم تكن المحسِّنات اللفظية من لزومياتهم، بل كانت أكثر شيوعًا في الشعر منها في النثر، فعُرفوا بتنويع العبارة وتشكيلها، فمنها المسجعة ومنها المرسلة، ومنها الحالية ومنها العارية، ومنها الطويلة ومنها القصيرة، ومنها المردفة ومنها المفردة. وغلب عليهم الإطناب فأمعنوا فيه، ولم يسلموا من الإملال، وجعلوا للإيجاز مقامًا، ولكنهم لم يسلموا من الإخلال.
وأكثروا من استعمال الألفاظ الدخيلة؛ فغلبت الفارسية على الأشياء المادية من أسباب العمران، كأدوات المنزل وأثاثه، والملابس والرياش، والحلي والأطعمة، والأشجار والأزهار، والصيد والقنص، وآلات الغناء والطرب، وغير ذلك. وغلبت اليونانية على العلوم العقلية كالفلسفة والطب والرياضيات وعلم الفلك ونحوها.
(٢) لغة التخاطب
وكان الأمويون يستنكرون اللحن ويهجِّنونه، وينعونه على أصحابه. قال عبد الملك بن مروان: «اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه.»
فلما جاء العصر العباسي، طما سيل الأعاجم واندسَّ بهم العرب؛ فازدادت لغة التخاطب فسادًا، وتفاقم فيها اللحن، وظهرت اللهجات العامية خليطة من العربية المشوهة، والأعجمية الدخيلة؛ فغلبت على الكلام الفصيح، ولم يسلم منها إلا أهل الخيام من جزيرة العرب، فقد لبثوا يتخاطبون باللغة الفصحى إلى أواسط القرن الرابع للهجرة، فكان إذا أراد كاتب أو شاعر حضري تقويم اعوجاج لسانه، تبدَّى وخالطهم مدة، حتى يقف على أساليبهم ومذاهبهم في الكلام، ثم غزتهم العامية كما غزت سائر الممالك العربية، فأصبح لكل بلد لهجة خاصة يتحادثون بها، ولكنهم ترفَّعوا عنها في كتاباتهم فلم يدونوا آثارهم إلا باللسان الفصيح.
(٣) أنواع النثر
كان الإنشاء في العصر الإسلامي مقصورًا على الخطب ورسائل الدواوين، وإذا تعداها فإلى بعض المصنفات، ولكنها لم تصل إلينا، فلما قامت الدولة العباسية، وقامت معها الحضارة الجديدة، وانتشرت الكتابة والقراءة، وارتقى المستوى العقلي في المسلمين، تنوعت أساليب الإنشاء بتنوع العلوم والفنون، فتعدَّدت أغراض الرسائل وطرائقها، وظهرت الكتب المصنفة على مباحث شتى من علم وأدب، ولكن الخطابة استولى عليها الضعف شيئًا فشيئًا، وما زالت تتضاءل حتى تلاشت في أواسط العصر الثاني.
(٣-١) أسباب ضعف الخطابة
عرفنا كيف ازدهرت الخطابة في صدر الإسلام، وما كان لها من منزلة سامية ومقام رفيع، على أنَّ العوامل التي وفرت يومئذ لتقدم هذا الفن لم تتَّفر له في أعصر المولدين؛ لأنَّ الشعب العباسي الخليط لم يكن له ما كان للعرب العرباء من فصاحة فطرية، وبراعة التصرف في ضروب الكلام؛ فشيوع اللحن واللهجات العامية بينهم جعل حظهم قليلًا من سهولة النطق بالكلام الفصيح، ثم إنَّ العنصر العربي الخالص أخذ يعود إلى مواطنه الأولى بعد ما رأى من نفاذ العنصر الأعجمي وتسلطه عليه، وأبى أن يخضع لقواد من الفرس؛ فنفر من التجند، وأصبح معظم الجيش من الموالي، فاضمحلَّت الخطب العسكرية، وبات الإقناع للسيف لا للسان.
ولم تكن الخطب السياسية أوفر حظًّا من الخطب العسكرية؛ لأنَّ الأحزاب أُضعف شأنها، وخُضدت شوكتها بالحروب والتقتيل، وضرب العباسيون بأيديهم على حرية الأفراد والجماعات، فجعلوا بينها وبين سياسة العرش حدًّا مصونًا، وصار الولاة والأمراء إذا عصاهم بلد أو فتق بينهم خارجي أوقعوا به ولم يعتمدوا على البيان في قمع شره.
وأما الخطب الدينية فلا غُنية عنها في الجُمع والأعياد، ولكن قلَّ فيها الارتجال، ثم جُعل لها صور خاصة لا تتبدل، فأصبحت تحفظ وتردَّد في كل موسم وحفل.
على أنَّه عرف في هذا العصر جماعة من الخطباء المحسنين، وأخطبهم مخضرمو الدولتين كخالد بن صفوان خطيب بني تميم، وشبيب بن شَيْبة المِنْقري خطيب البصرة، واشتهر من الخلفاء المنصور والمأمون.
(٣-٢) إنشاء المترسلين
ويبدءون رسائلهم غالبًا بقولهم: «الحمد لله.» أو «أما بعد، فالحمد لله.» وهذه طريقة عبد الحميد، وربما ابتدءوا بالبسملة وأردفوها بالدعاء، كقول سهل بن هارون في رسالة البخل: «بسم الله الرحمن الرحيم، أصلح الله أمركم وجمع شملكم …» ومن ابتداءاتهم قولهم: «أما بعد.» دون أن يعقبها دعاء أو حمدلة، وقولهم: «كتابي إليك.» ويُتبعونها الدعاء أو لا يتبعونها إياه.
وإذا استهلُّوا بالحمدلة تابعوا التحميد، فيطيلونه أو يقصرونه، فمن تحميداتهم قول المأمون في رسالة الخميس: «أما بعد، فالحمد لله القادر القاهر، الباعث الوارث، ذي العزِّ والسلطان، والنور والبرهان، فاطر السموات والأرض وما بينهما، والمتقدم بالمَنِّ والطَّوْل على أهلهما، قبل استحقاقهم لمثوبته، بالمحافظة على شرائع طاعته، الذي جعل ما أودع عباده من نعمته دليلًا هاديًا لهم إلى معرفته … إلخ.»
ويكثر في رسائلهم الاستشهاد بآيات القرآن، ثم بالأحاديث والأمثال، وأقوال الحكماء والعظماء، وربما تخللها الدعاء في جمل اعتراضية، كقول أحمد بن يوسف وزير المأمون: «ونحن نسأل الله — عز وجل — الذي جمع بأمير المؤمنين — مدَّ الله في عمره — ألفتنا … إلخ.»
ويختمون غالبًا بقولهم: «والسلام.» أو «والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» أو «إن شاء الله.» وقد يطول الدعاء في الختام إذا كان الكتاب إلى خليفة أو أمير، أو من خليفة أو أمير إلى رعيته، فلا يُلتزم في نهايته ما يلتزم في غيره من السلام، وربما خُتم بآية كقول أحمد بن يوسف: «ونحن نسأل الله — عز وجل — الذي جمع بأمير المؤمنين — مد الله في عمره — ألفتنا، وعلى طاعته أهواءنا وضمائرنا، وأنالنا من الغبطة في دولته وسلطانه، ما لم تَحْوِه شيعة إمام، ولا أنصار خليفة، أن يُتم نور أمير المؤمنين، ويُعلي كعبه، ويمتعنا ببقائه، حتى يُبلغه سؤله وهمته في الاستكثار من البِرِّ وادِّخار الأجر، واستيجاب الحمد والشكر، وأن يلُمَّ به الشعث، ويرأب به الصدع، ويصلح على يديه الفساد، ويرتق به فتوق هذه الأمة، ويُثخن بسياسته ونكايته في عدوها، ويتابع الفتوح في بلدانهم حتى يؤتيه من نُجح السعي، ورغائب الحظ في الدنيا، ما يجزل عليه ثوابه في الآخرة، وأرشد نجباءه وأصفياءه الذين يقول لهم: فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
وتمتاز رسائلهم في حسن اتساقها، وترتيب أفكارها، وشرف ألفاظها ومعانيها، وهي في أكثرها إنشائية خطابية، لا خبرية قصصية.
وكتب ابن المقفع إلى صديق له ولدت له جارية: «بارك الله لك في الابنة المستفادة، وجعلها لكم زَينًا، وأجرى لكم بها خيرًا، فلا تكرهها فإنهن الأمهات والأخوات، والعمات والخالات، ومنهن الباقيات الصالحات. وربَّ غلام ساء أهله بعد مسرَّتهم، ورب جارية فرَّحت أهلها بعد مساءتهم.»
ودونك شيئًا من توقيعات الملوك والأمراء:
(٣-٣) إنشاء المصنفين
ونحن نجتزئ الآن بدرس ابن المقفع؛ لأنَّه أقدم كاتب بليغ وصلت إلينا مؤلفاته، فكانت في أسلوبها قدوة للمنشئين من بعده، ونرجئ دراسة الجاحظ إلى العصر التالي متتبعين حياته فيه، وإن يكن عاش أكثر عمره في هذا العصر. وأما سهل بن هارون فلم يصل إلينا شيء من كتبه التي اشتهر بها، فنستطيع الكلام عليه.
(٤) ابن المقفع ٧٢٤–٧٥٩م/١٠٦–١٤٢ﻫ
(٤-١) حياته
ولما انتقل الملك إلى العباسيين اتصل ابن المقفع بسليمان وعيسى وإسماعيل أبناء علي بن عبد الله بن عباس، وأعمام السفاح والمنصور، فكتب لعيسى أيام ولايته على كِرمان، وجعله إسماعيل والي الأهواز ثم الموصل مؤدِّبًا لبعض بنيه، ثم كتب لسليمان وهو أمير على البصرة، وترجم للمنصور في أثناء ذلك عدة كتب، ولكنه لم يتصل به، بل لبث منقطعًا إلى أعمامه حتى مات.
موته
كان عبد الله بن علي عم المنصور واليًا على الشام، فخرج على ابن أخيه سنة ١٣٧ﻫ/٧٥٤م، وطلب الخلافة لنفسه، فأرسل عليه المنصور جيشًا مقدمه أبو مسلم الخراساني، فانتصر أبو مسلم وهرب عبد الله إلى البصرة، ونزل على أخيه سليمان واستتر عنده، ثم إنَّ المنصور عزل سليمان عن البصرة سنة ١٣٩ﻫ/٧٥٦م، وولى مكانه سُفيان بن معاوية من آل المُهَلب.
فعظم ذلك على المنصور، ولا سيما أمر البيعة، وغضب على ابن المقفع؛ فأوعز بقتله إلى سفيان بن معاوية والي البصرة.
وكان سفيان شديد الحنق على ابن المقفع؛ لأنَّ كاتبنا غيظ من توليه البصرة مكان سليمان بن علي، فراح يستخف به، ويتنادر عليه، وينال من أمه؛ فقد سمعه مرة يقول: «ما ندمت على سكوتي قط.» فقال له: «الخرس زين لك، فكيف تندم عليه؟!» وكان أنف سفيان كبيرًا، فكان ابن المقفع إذا دخل عليه قال: «السلام عليكما.» يعني سفيان وأنفه.
فلما جاءه كتاب المنصور يأمر بقتله تربَّص به حتى دخل عليه يومًا، فأمسكه وأمر به فقُتل، واختُلف في طريقة قتله فقيل: إنَّه أُلقي في بئر، وردمت عليه الحجارة، وقيل: أُدخل حمامًا وأغلق عليه بابه فاختنق، وقيل: بل قطعت أطرافه عضوًا عضوًا، ثم ألقي في تنور وأطبق عليه.
وكيف كان الأمر، فإن ابن المقفع دخل دار سفيان ولم يخرج منها، فبلغ الخبر سليمان وعيسى ابني علي، فخاصما سفيان إلى المنصور، وأحضراه إليه مقيدًا، وشهد أناس أن ابن المقفع دخل داره ولم يخرج منها، فقال المنصور للشهود: «أرأيتم إن قتلت سفيان به، ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت — وأشار إلى باب خلفه — وخاطبكم، ما تروني صانعًا بكم، أفأقتلكم بسفيان؟» فخاف الشهود ورجعوا عن الشهادة، وأضرب عيسى وسليمان عن ذكره، وعلما أنَّه قتل برضى المنصور.
وذكروا أن من أسباب قتله اتهامه بالزندقة، ومعارضة القرآن، وترجمة كتب الزنادقة. ومات وله من العمر ست وثلاثون سنة، وخلَّف ولدًا اسمه محمد.
صفاته وأخلاقه
وصفه الجاحظ فقال فيه: «كان جَوَادًا فارسًا جميلًا.» وعُرف بالمروءة وكرم الخلق والوفاء للأصحاب، وكان يقول: «ابذلْ لصديقك دمك ومالك.» ولم يحجم عن تحقيق هذا القول يوم طُلب صديقه عبد الحميد بن يحيى بعد مقتل مروان بن محمد، فلجأ إليه في الجزيرة، وفاجأهما الطلب وهما في بيت واحد، فقال لهما الجند: «أيكما عبد الحميد؟» فقال ابن المقفع: «أنا.» مؤثرًا صاحبه على نفسه، وهمَّ الجند بالقبض عليه، فصاح عبد الحميد: «ترفقوا بنا، فإنَّ كلًّا منا له علامات، فوكلوا بنا بعضكم، وليمض البعض الآخر، ويذكر تلك العلامات لمن وجَّهكم.» ففعلوا، وأُخذ عبد الحميد وقُتل، ونجا ابن المقفع على كره منه.
وعرف أيضًا بسهولة الطبع على رصانة، وبالتعفف والابتعاد من الكذب والحسد. على أنَّ حبه للأدب والأدباء ونزوعه للزندقة جعلاه لا يستنكف من مصاحبة جماعة من الخلعاء كمطيع بن إياس، وحمَّاد عجرد، وبشار بن برد، ووالبة بن الحُباب، وأضرابهم؛ فكانوا يجتمعون على الشراب وقول الشعر، وكلهم متهم في دينه، ولكنه إذا لها وشرب لم تكن الخمر لتقوده إلى الإثم، وتنزل به في المنازل الدنية، وفي ذلك يقول:
وكان يحب الغناء ويهتز للصوت الحسن، فقد غنته يومًا جارية وليس لديه دراهم، فجاء بصك ضيعة له وقال: «هذه عهدة ضيعتي خذيها، فأما الدراهم فما عندي منها شيء.»
وكان — على سهولة طبعه ورصانته — حادَّ اللسان، شديد السخر بمن لا يملأ عينه، فِعْله بسفيان بن معاوية.
زندقته
ومنها أنَّه مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم، فتمثل بقول الأحوص:
فمن هنا يتضح أن زندقة ابن المقفع لا تقوم على دليل من آثاره، وإنما تقوم على أقوال الرواة والمؤرخين، على أنَّه غير عجيب أن يكون ابن المقفع زنديقًا وهو حديث العهد بالإسلام، لم يزل يحنُّ إلى ديانته الأولى، تلك التي نشأ عليها، وانتحلها معظم حياته، وهو لم يسلم إلا حفاظًا على كرامته، وطمعًا في الشهرة والجاه، وتقربًا إلى مواليه العباسيين.
غير أنَّ أعداءه عجزوا عن إثبات زندقته؛ لأنَّه اعتصم بالتقية فلم يجاهر بكفره، ولعله كان يتنصل من الكتب التي بث فيها آراء الزنادقة، وطمست فلم تصل إلينا، ولو استطاعوا إثبات زندقته لما عمد المنصور إلى اغتياله سرًّا، بل كان مثَّل به على رءوس الأشهاد.
أساتذته وعلومه
لم يعرف من أستاذي ابن المقفع إلا واحد ذكره ابن النديم، وهو أبو الجاموس ثور بن يزيد، وكان أعرابيًّا يفد البصرة على آل سليمان بن علي، وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة.
ونشأ ابن المقفع في البصرة على ما ينشأ عليه أبناء اليسار، فعُني والده بتعليمه وتقويم لسانه على الكلام الفصيح؛ فبرع في العربية والفارسية، وتضلَّع من آدابهما، واطلع على حكمة اليونان في الكتب التي ترجمت إلى لغة الفرس زمن كسرى أنوشروان، فجمع بين ثقافتي العرب والعجم.
آثاره
كان عصر ابن المقفع عصر نقل في أكثره؛ لرغبة أولي الأمر في الاطلاع على علوم الأعاجم والاستفادة منها، وكان ابن المقفع مالكًا ناصيتي العربية والفارسية؛ فأحب أن يُري العرب آداب قومه، ويتقرب بها إلى ذوي السلطان؛ فأكبَّ على النقل، فأتحف العربية بطائفة من الكتب النفيسة، ولم يصل إلينا إلا بعضها، فكان أعظم شاهد على جلالتها.
وليس لابن المقفع من الكتب إلا ما هو منقول من الفارسية، فله فيه فضل المترجم البارع، لا فضل المؤلف المخترع، ولذلك كان الخليل بن أحمد يقول فيه: «علمه أكثر من عقله.»
على أنَّ هذا القول لا يعني أنَّ ابن المقفع كان ضعيف التوليد، فهو — كما علمت — أذكى أعجمي عرفته العرب، ولكنه كان مفتونًا بآداب قومه وعلومهم، فصرف همته إلى نقلها ليبهر العرب بها، على أنَّه لم يتقيد بأصول الكتب التي ترجمها، بل تصرف فيها فزاد عليها أشياء وأنقص منها أشياء، وكان الذي زاده من توليده واختراعه.
وآثاره في الترجمة كثيرة نكتفي بذكر ما وصل إلينا منها، وهي: كليلة ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير.
فأما كليلة ودمنة فإنَّه أقدم كتاب عربي في الأخلاق وتهذيب النفس، وضعه بَيْدَبا الفيلسوف الهندي لدَبْشَليمَ — ملك الهند — منذ عشرين قرنًا ونيِّف، وكان دبشليم قد صعد إلى العرش بعد فتح الإسكندر ٣٢٦ق.م، فطغى على الرعية، فأراد بيدبا إصلاحه؛ فألَّف هذا الكتاب واستتمَّه في مدة سنة، وجعل النصح فيه على أفواه البهائم والطيور. ويرى جرجي زيدان أنَّ الداعي إلى ذلك هو أن البراهمة يعتقدون تناسخ الأرواح، هذا وإن إصلاح الملوك البغاة على سبيل الحكايات والإشارات أسلم عقبى من محاولة إصلاحهم بإظهار هفواتهم، ونهيهم عن الوقوع بها؛ لأنَّ فيهم من الكبر والعتو ما يأبى عليهم أن يُظهر لهم أحد خطأهم وينهاهم عنه.
وكتب بيدبا كليلة ودمنة باللغة الهندية السنسكريتيَّة، وبوَّبه أربعة عشر بابًا، أولها باب الأسد والثور. وأصول هذا الكتاب في الهندية تعرف باسم «بَنْجَهْ تَانْتَرا»؛ أي الكتب الخمسة.
وشغف العرب به عند ظهوره، فقام منهم من نقله ثانية من الفارسية، وهو عبد الله بن هلال الأهوازي، نقله ليحيى البرمكي في خلافة المهدي، ولكن ترجمته ضاعت، وعارضه سهل بن هارون — أحد كتاب المأمون — بكتاب سماه ثَعلة وعَفرة، وضاع أيضًا. وتصدى جماعة من الشعراء لنظمه، أولهم أبو سهل الفضل بن نوبَخْت من خدم المنصور والمهدي، ثم أبان بن عبد الحميد اللاحقي نظمه للبرامكة، ثم علي بن داود كاتب زبيدة زوج الرشيد، ونظمه بشر بن المعتمد، وكل هذه المنظومات فقدت إلا منظومة أبان فقد بقي منها قطعة حسنة في كتاب «الأوراق» للصُّولي.
ونظمه ابن الهبارية المتوفى سنة ٥٠٤ﻫ/١١١٠م، وسماه «نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة» وهو مطبوع، ونظمه ابن مماتي المصري المتوفي سنة ٦٠٦ﻫ/١٢٠٩م وضاع نظمه، ثم نظم منه أقسامًا عبد المؤمن بن الحسن من رجال القرن السابع للهجرة، ونظمه جلال الدين النقاش من أهل القرن التاسع الهجري، والنظمان غير مطبوعين.
ومن آثار ابن المقفع الباقية فقر حكمية، ورسائل متفرقة، وتحميدات جمعها محمد كرد علي في كتابه «رسائل البلغاء»، وله شعر قليل.
(٤-٢) ميزته
لم تقم ميزة ابن المقفع إلا على كتابه الخالد «كليلة ودمنة»؛ ففي هذا الكتاب يتجلَّى أسلوبه البديع الذي رفع به مستوى النثر العربي إلى أعلى درجات الفن وأشرفها، فعلى هذا الكتاب نعوِّل في درس ابن المقفع، وإظهار أسلوبه، ولكن لا غنية لنا عن أن نلمَّ بالأدبين الصغير والكبير؛ لنتبين خصائص الكاتب في مختلف موضوعاته ومباحثه.
كليلة ودمنة: أبوابه وأغراضه
سمي هذا الكتاب كليلة ودمنة من باب تسمية الكل باسم الجزء؛ لأنَّ خبر كليلة ودمنة لا يتناول غير بابين من أبوابه، وهما باب الأسد والثور، وباب الفحص عن أمر دمنة.
وكليلة ودمنة أخوان من بنات آوى، جُعلت قصتهما مثلًا على المتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال، ومدارها أنَّ دمنة سعى بالفتنة بين الأسد ملك الوحوش والثور جليسه وصديقه؛ فأفسد فيما بينهما ولم يصخ لنصائح أخيه كليلة، فقتل الأسد الثور، ثم تبيَّن له أنَّه بريء مما اتهم به، فأمر بحبس دمنة، وفي باب الفحص عن أمر دمنة يمثُل المتهم في حضرة القاضي، ويرد على أقوال خصومه، ويدافع عن نفسه رابط الجأش، ثم يثبت عليه الجرم بشهادة شاهدين فيقتل ويصلب على رءوس الأشهاد، وأما كليلة فإنه يموت من حزنه في أثناء الفحص عن أمر أخيه.
وترى في دمنة مثال الداهية المحتال، والحسود الطماع الذي يستهين كل كبيرة لبلوغ ما يشتهيه من الرفعة والمال، وترى في كليلة مثال المخلص الوفي للأصحاب، والقنوع الرضي الأخلاق، والحكيم البصير بالأمور، الذي يحب السلامة، ويخشى مصاحبة السلطان، ويحاذر بطشه وصولته.
وأما بقية الأبواب فكل باب منها قائم بنفسه، ولكنها ترمي إلى غاية واحدة وهي تهذيب النفس، والإرشاد إلى حسن السياسة، وحسن اختيار الأصحاب؛ فالباب الأول مقدمة الكتاب لبَهْنود بن سَحْوان المعروف بعلي بن الشاه الفارسي، ذكر فيها السبب الذي من أجله وضع بيدبا هذا الكتاب لدبشليم الملك، والباب الثاني بعثة برزويه إلى بلاد الهند لنقل الكتاب، والباب الثالث عرض الكتاب لابن المقفع وبه يشتد في تنبيه قارئ كتابه على «أن يديم النظر فيه من غير ضجر، ويلتمس جواهر معانيه، ولا يظن أن نتيجته إنما هي الإخبار عن حيلة بهيمتين، أو محاورة سبُع لثور؛ فينصرف بذلك عن الغرض المقصود»، فكأن الكاتب — وقد حمل إلى العرب أدبًا جديدًا لم يتعودوه — خشي أن يلتهوا بقشوره دون لبابه، فلا يروا فيه غير التفكه بأحاديث البهائم والطيور، فحضهم على تفهُّمه، وإدراك معانيه.
فيتبين من ذلك أنَّ الكتاب كان ذا صور في الأصل، وأن ابن المقفع كان يرجو خلوده في نوادره، وصوره وأصباغه وألوانه، ولم يخطر له يومئذ أنَّ الخلود مكتوب على بلاغة إنشائه.
وأما الباب الرابع، وهو برزويه الطبيب لبُزُرْجُمِهْرَ بن البختكان وزير كسرى، فقد ذكر فيه فضل برزويه، ونسبه وحسبه وصناعته وأدبه وكيف كان أمره، وذكر بعثته إلى الهند، وجعله قبل باب الأسد والثور، وجعل الكلام فيه على لسان برزويه الطبيب، وأكثر هذا الباب مباحث وتعابير طبية، وهو يدل على حكمة الطبيب، وبصره بالأمور، وخوفه من الدنيا، وميله إلى الزهد فيها؛ فهذه الأبواب الأربعة هي المقدمات الفارسية والعربية للأصل الهندي، فيكون مجموع الأبواب معها ثمانية عشر بابًا تشتمل على كثير من الحكم والأمثال والمواعظ، ويمكن تلخيصها بأنَّها تدعو إلى النسك والزهد بما فيها من أخبار النساك والأمثال عنهم، وتأمر بالتقوى والنظر إلى الآخرة أكثر من النظر إلى الأولى، وتوصي بالمشورة وقلة الكلام، ومداراة السلطان ونصحه وإرشاده بضرب الأمثال، وتحديثه بعيوب غيره فيعرف عيبه، ولا يجد إلى الغضب على مؤدبه سبيلًا، وتحث على الشهامة والجود والرحمة والعفو والحلم، وتغري بالشجاعة والإقدام، والصداقة والوفاء للأصحاب، وتزين الحزم والصبر والقناعة، وتنهى عن الحسد والاحتيال والنميمة، والطمع والشراهة والظلم والبغي وكلام السوء، وتدعو إلى الابتعاد عن سماع كلام الساعي والنمَّام، وتبين وخامة عاقبة الأشرار ومنافع الأصحاب، ومضار الإهمال والغفلة، وآفة التعجيل وقلة الروية.
والروح الإسلامية مبثوثة في تضاعيف فصولها؛ مما يدل على أنَّ ابن المقفع تصرف في الأصل فجعله ملائمًا لأهل عصره، وهذا الذي جعل بعضهم يشكُّون في أنَّ الكتاب مترجم، وزعموا أنَّه من وضع ابن المقفع، وأن الكاتب ادعى ترجمته لما كان للنقل من المنزلة الرفيعة في زمانه، وضاعف شكهم ما رأوا في الكتاب من وحدة التأليف بين الأبواب الهندية والفارسية والعربية، فرجحوا وحدة المؤلف.
ولكن ذلك لا يكفي للدلالة على أن الكتاب موضوع لا منقول، فأثر الترجمة بيِّن في إنشائه، والحكمة الهندية الفارسية ظاهرة فيه كل الظهور بآدابها وأمثالها، فمن الراجح أنَّ ابن المقفع نقله وهذَّبه وغيَّر فيه وبدَّل، وتصرَّف في جمع أبوابه فظهرت عليه وحدة التأليف، وقد جهد في أن يجعل روحه إسلامية؛ كيما يصلح لتأديب الأمراء المسلمين، فوفق في غرضه، غير أنَّه ترك أسماء الأعلام فارسية أو هندية.
وبوسعك أن تتبين الروح الإسلامية في قوله على لسان برزويه: «وأضمرتُ في نفسي ألَّا أبغي على أحد ولا أكذِّب بالبعث ولا القيامة، ولا الثواب ولا العقاب، وأن لا إله إلا الله الفرد الصمد.»
فهذا الإيمان وما فيه من التوحيد إسلامي محض لا ينطق به فارسي مجوسي كبرزويه، وقد رأيت أن دمنة لم يقتل إلا بشهادة شاهدين؛ لأنَّ شهادة الواحد لا توجب حكمًا. زد على ذلك ما في الكتاب من اعتقاد عظيم بالقضاء والقدر.
كليلة ودمنة: أسلوبه الإنشائي
حمل ابن المقفع إلى النثر العربي في كتابه هذا أسلوبًا جديدًا لم يعرف من قبل، وهو سرد الحكايات على أفواه البهائم والسباع والطير، تتخللها محاورات أدبية لذيذة فإذا هي تبدو في ظاهرها هزلًا وتسلية، على حين أن باطنها جد وحكمة، ويزيد هذه الحكايات رونقًا أنَّ أساسها قائم على ضرب الأمثال، والأمثال كلام الأنبياء، فكل باب في مجموعه مثل مستقل، ولكنه يشتمل على عدة أمثال يتفرَّع بعضها من بعض.
وأول الكتاب باب الأسد والثور يفتتحه دبشليم بقوله لبيدبا: «اضرب لي مثلًا لمتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال حتى يحملهما على العداوة والبغضاء.» فيورد بيدبا مثلًا ويفرع منه أمثالًا على ألسنة الحيوانات التي ذكرها في هذا المثل، حتى إذا انتهى وأراد الانتقال إلى باب آخر قال الملك: «قد سمعتُ مثل المتحابين إلخ، فحدثني عن إخوان الصفاء كيف يبتدئ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض؟» فيوطِّئ الفيلسوف لغرضه بمقدمة تناسب المثل، يراد منها النصح أو التحذير أو ما شاكلهما كقوله: «إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئًا، فالإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه، ومن أمثال ذلك الحمامة المطوَّقة والجُرَذ والظبي والغُراب والسُّلَحْفاة.» فيقول له الملك: «وكيف كان ذلك؟» فيستهل المثل بقوله: «زعموا.»
ويختم الباب غالبًا بذكر ما ضُرب المثل لأجله فيجعله نتيجة لما تقدم، مثال ذلك: «فهذا مثل إخوان الصفاء وائتلافهم في الصحبة.»
ويمهِّد للأمثال المتفرعة كما يمهِّد للمثل الأصلي، ويختمها على الغالب بقوله: «وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم.»
والكتاب حافل بالأقوال الحكمية والمواعظ والنصائح، وربما استرسل الكاتب في فقر حكمية متساوقة حتى يخرج بها عن الموضوع الذي يتكلم فيه، مثال ذلك أنَّه لما أراد دمنة أن يغري الأسد بالثور، أخذ يدعوه إلى قبول نصيحته بهذه الأقوال، وفيها ما يلائم الموضوع وفيها ما لا يلائمه: «وخير الإخوان والأعوان أقلهم مداهنة في النصيحة، وخير الأعمال أحمدها عاقبة، وخير النساء الموافقة لبعلها، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وأفضل الملوك من لا يخالطه بطر ولا يستكبر عن قبول النصيحة.»
ولما كانت الحيوانات غير العاقلة عاقلة في كليلة ودمنة، فالكاتب يتكلم على ذكورها بصيغة المذكر العاقل، فيقول مثلًا: «زعموا أنَّ جماعة من القردة كانوا ساكنين.»
ويكثر في هذا النوع من إنشائه استعمال أمَّا التفصيلية، وتراه حافلًا بالقياسات ومنها المدرَّجة المتسلسلة، كقوله في باب الحمامة المطوقة: «وجدت من لا إخوان له لا أهل له، ومن لا ولد له لا ذكر له، ومن لا مال له لا عقل له ولا دنيا ولا آخرة؛ لأن من نزل به الفقر لا يجد بُدًّا من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت نفسه، ومن مقت نفسه كثر حزنه، ومن كثر حزنه قلَّ عقله وارتبك في أمره، ومن قل عقله كان أكثر قوله وعمله عليه لا له، ومن كان كذلك فأحرِ به أن يكون أنكد الناس حظًّا في الدنيا والآخرة.»
ويختلط الأسلوب القصصي بالأسلوب المنطقي في إنشاء كليلة ودمنة، فيدمثه ويسهله، ويزيل عنه الجفاف والتعقيد اللذين يعمَّان كتب المنطق والفلسفة. وتبدو عبارته واضحة كل الوضوح بريئة من الغموض، تتناولها الأفهام بخفة، فما يصعب عليها تحصيل معانيها.
وعلى الجملة، فإن كليلة ودمنة يمتاز بسهولته وانسجامه ووضوحه وسلاسته، واتساق أفكاره وتساوق أمثاله، وإسهابه واسترساله. وهو أخلد كتاب عرفته اللغة العربية، فقد نيَّف على الألف من السنين، والأيدي تتداوله، والمدارس حافلة به.
الأدب الصغير
لم يكن ابن المقفع مخترعًا في الأدب الصغير، وإنما هو ناقل متصرف في النقل فِعْلَه في كليلة ودمنة، ولا يرى غضاضة في ذلك، بل يحسِّنه ويزيِّنه إذ يقول: «ومن أخذ كلامًا حسنًا عن غيره فتكلم به في موضعه على وجهه، فلا يُرينَّ في ذلك عليه ضئولة، فإنه من أُعين على حفظ قول المصيبين، وهدي للاقتداء بالصالحين، ووفِّق للأخذ عن الحكماء، فلا عليه أن لا يزداد؛ فقد بلغ الغاية.» وهذا يدل على أن الكاتب يعتقد أن الذين تقدموه من الحكماء بلغوا الغاية، فلم يتركوا زيادة لمستزيد، ويوضح ذلك في قوله: «وجُلُّ الأدب بالمنطق، وكل المنطق بالتعلم. ليس حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه إلا وهو مَرويٌّ متعلَّم مأخوذ عن إمام سابق من كلام أو كتاب، وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم.» ا.ﻫ. فهو يزيِّن العلم، ولا يشترط الاختراع، ولذلك يقر بأنه أخذ كتابه هذا عن غيره، فيقول: «وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا، فيها عون على عِمارة القلوب، وصِقالها وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير، وإقامة للتدبير.»
والأدب الصغير عبارة عن دروس خلقية اجتماعية، تحث على طلب العلم، وتشترط على العالِم التواضع وعدم الاعتداد بالنفس، وتدعو المرء إلى تأديب نفسه ومحاسبتها، وتحسِّن له الزهد والتصوف، وهي مع ذلك تعظم شأن المال وتقدسه، ولا تنهى عن جمعه: «ومن لا مال له فلا شيء له، والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس.»
على أن الكاتب ينهاك عن الاغترار بالمال الكثير، ويدعوك إلى القناعة بالقليل منه، لأنه يريده مانعًا للفقر ليس غير. وتراه اشتراكيًّا لا يحب الاحتكار والاستئثار: «لا تعُدَّ غنيًّا من لم يشارك في ماله.» ولا غرو أن يدعو إلى الاشتراك وهو الذي يوصي الإخوان بالتعاون والتعاضد، ويقدس المودة والوفاء للصديق.
وإذا أوصى بالصديق لا يغفل عن العدو، بل يحذرك منه ويرشدك إلى سياسته، وينهاك عن استصغار الأمور: «لأن من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيرًا وصغيرًا، فإذا الصغير كبير.» ولا يرى في المشورة غضاضة، ولو كان الرأي الصائب من شخص حقير.
ويتكلم على سياسة الملوك والولاة، فيشير عليهم أن يتعهدوا عمالهم: «حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن، ولا إساءة مسيء.»
وله في المرأة ظن سيئ لا تحمده النساء عليه، فإنه يلح في النهي عن عشقهن، والاطمئنان إليهن؛ لأن مودتهن لا تدوم.
وهو على نصائحه الاجتماعية والأدبية لا يغفل عن المواعظ الدينية، فيأمر بالتقوى، والتعبد لله ومعرفة نعمه، والشكر له؛ لتزداد هذه النعم.
وجماع القول أن الأدب الصغير رسالة نفيسة في سياسة الاجتماع وتهذيب النفس، ورياضتها على الأعمال الصالحة، ومعرفة الخالق.
وأما إنشاؤه فيختلف بعض الاختلاف عن إنشاء كليلة ودمنة؛ لأن صاحبنا اتخذ فيه الأسلوب المنطقي الصرف، فظهر عليه بعض الجفاف، وتخللته جمل اعتراضية فلم يخلُ من التعقيد. وازدحمت فيه المعاني الفلسفية الدقيقة، فصعب التماسها؛ لأنها أُفرغت في قالب إنشائي بحت، كله تحذير وتحضيض، وأَقيسة وأعداد وتقاسيم، فلم يتم لها الوضوح الذي تم لها في حكايات كليلة ودمنة.
وفي الأدب الصغير أقوال واردة في كليلة ودمنة بحروفها، ولكنها مندمجة هناك في القالب القصصي السهل، وقائمة هنا بنفسها.
ولا يخلو الأدب الصغير من ضرب المثل، ولكن أمثاله قصيرة لا تشبه أمثال كليلة ودمنة التي ساقها مساق النوادر والأقاصيص.
الأدب الكبير
والأدب الكبير قسمان؛ قسم يتكلم به على السلطان والمتصلين به، وقسم يتكلم به على الصديق. ويستهل القسم الأول بقوله: «وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة إلخ.» ثم يأخذ في نصح السلطان، فيوصيه وصايا حسنة تتناول سياسته للعمال والرعية، وما ينبغي له أن يتحلى به من الخصال الحميدة؛ فمن جملة نصائحه له أن لا يزيد من ساعات شهوته ودعته، وينقص من ساعات عمله وتعبه، وأن لا يُعرف بحب المدح، وأن يتحلى بثلاث خصال: رضى ربه، ورضى سلطانه إن كان فوقه سلطان، ورضى صالح من يلي عليه. وأن يتخذ بطانته من أهل الدين والمروءة، وأن لا يأنف من المشورة؛ لأنه يطلب الرأي للانتفاع به لا للافتخار به.
ويوصيه أن لا يعاجل بالثواب ولا بالعقاب؛ فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي، وأن يصبر على أهل العقل والسن والمروءة دون غيرهم، وينهاه عن الحسد والغضب والحَلِف.
ويوصيه بتفقد فاقة الأحرار ليسدها، وطغيان السفلة ليقمعه، ويريد بذلك أن يكون الوالي يقظًا متنبهًا لجميع أحوال رعيته.
ثم ينتقل إلى الكلام على المتصلين بالسلطان فيعطيهم نصائح تتعلق بسياستهم معه. وفيها أشياء كثيرة اعتمد عليها بعده الفارابي وابن سينا في كلامهما على سياسة المرءوس لرؤسائه؛ فمنها هرب المرءوس من صحبة والٍ لا يريد صلاح رعيته؛ لئلا يهلك في دينه إذا صحبه، وفي دنياه إذا صحب الرعية وأغضبه، ومنها مداراة الوالي والنظر إلى ما يحب وما يكره، ومنها تزيين رأي الولاة وقلة استقباح ما يصنعون، وغير ذلك من النصائح التي تختص بمصاحبة الملوك في زمن كان الملك فيه ظِلَّ الله على الأرض؛ فلا بدع أن تصطبغ هذه النصائح بألوان العبودية والخنوع، وإن كان ابن المقفع قد أراد بها إظهار استبداد أولي الأمر، والتنفير من مصاحبتهم. ونعتقد أن أبا جعفر المنصور لم يكن راضيًا عنها؛ لما فيها من ذم للسلطان.
وأما القسم الثاني فقد خصه بالصديق، وابن المقفع — كما علمت — عظيم المودة والوفاء للأصدقاء، ويستهله بقوله: «ابذل لصديقك دمك ومالك.» ومن وصاياه في مخالقة الصديق أن لا ينتحل الإنسان رأي صديقه لئلا يثير سخطه عليه، وأن لا يشارك محدثًا في حديث يعرفه؛ فإن في ذلك خفة وسوء أدب وسخفًا، وأن يحسن الاستماع ويخفض الصوت عند الكلام، ولا يسفِّه أقوال جلسائه، وأن لا يذمَّنَّ اسمًا من الأسماء لعله موافق هوى بعض خلطائه.
وابن المقفع، في أثناء كلامه على الصديق، ينهاك عن أشياء لا يصح التخلق بها، ويوصيك أن تحترز من سكر السلطة، وسكر العلم، وسكر المنزلة، وسكر الشباب. وهو أبدًا شديد الوطأة على المرأة، فما يتركه التنفير من الولوع بها، والتحذير من التهافت على الازدياد من النساء.
ويختم كتابه بذكر الصفات الحسنة التي ينبغي للمرء أن يتحلى بها في حياته، وهي خلاصة مباحثه في الأدب الكبير.
وإنشاء الأدب الكبير خطابي محض، كله أمر ونهي، وقد خلا من الأمثال ولم يغلب عليه الأسلوب المنطقي، فقلَّت قياساته، فجاءت عبارته أسهل من عبارة الأدب الصغير وأوضح.
(٤-٣) منزلته
إذا شئت أن تفسر البلاغة كما فسرها بعضهم بقوله إنها كلام قلَّت ألفاظه وكثرت معانيه، فقد ظلمت ابن المقفع وأخرجته من طبقة البلغاء؛ لأنه كان يجنح إلى الإسهاب أكثر منه إلى الإيجاز.
على أن هذا التفسير فيه نقص بيِّن؛ إذ لا يصح أن تحصر البلاغة في الكلام الموجز المفيد، وللإسهاب إذا خلا من الحشو والتطويل نصيب منها غير يسير. وأحسن من هذا التفسير قول ابن المقفع: «البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يُحسن مثلها.» والجاهل لا يتفهم الكلام إلا إذا كان سهلًا واضحًا، فإن فهمه طمعت نفسه في احتذائه، غير عالم أن البليغ السهل صعب الرياضة بعيد المنال؛ ذلك أن تتبُّع الألفاظ الفصيحة المأنوسة، واجتناب الألفاظ الغريبة يجعل نطاق اللغة ضيقًا، ومادتها قليلة، ولأن يدخل الكاتب على البلاغة من طريقها الوعر أيسر له من أن يسلك إليها السهل الممتنع، وابن المقفع سلكه مطمئنًّا، ثابت الأقدام، فنال من معجزها ما لم ينله سواه، ولطالما أوصى الكاتب بترسم خطاه، فقال: «إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعًا في نيل البلاغة؛ فإن ذلك هو العي الأكبر.»
وهو كغيره من المتقدمين لا يحفل بتسجيع الألفاظ وتزويقها، ولا يقصد إليه البتة إلا ما جاء عفوًا، وقضت به الفصاحة في أثناء الكلام. ولم يؤثر أصله الفارسي في صحة طبعه، مع أن الفرس أهل حضارة قديمة تميل بهم إلى الزخرف والتزيين، وسبب ذلك أنه نشأ زمن بني أمية نشأة عربية خالصة، بعيدة من التصنع والتكلف، نازعة إلى البداوة والفطرة. ثم إن الفرس لم يكن لهم في أيامه الأثر البليغ الذي صار لهم فيما بعد، فانطبع إنشاؤه على بلاغة العرب وفطرتهم، وخلص من تمويه الحضارة الجديدة وتزويقها، فجاء متنوع العبارة، يجري مع الطبع.
على أن بُعد الكاتب من التعمُّل لا يعني أنه لم يكن يتخير ألفاظه وينتقيها؛ فلقد كان كالصائغ الماهر كثرت جواهره، فأحسن اختيار فرائدها. قال الراغب الأصبهاني: «كان ابن المقفع كثيرًا ما يقف إذا كتب. فقيل له في ذلك فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره.»
وامتاز في حلاوة ألفاظه ورصانتها، وطول نفَسه، وبعده من الغلو، وفي اتساق أفكاره وحسن تساوقها، واستيفاء القياس وقوة المنطق، والغوص على المعنى الفلسفي الدقيق. قال فيه أبو العيناء: «كلامه صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح. كأن بيانه لؤلؤ منثور، وروض ممطور.»
والأقوال فيه كثيرة، وكلها تدل على منزلته الرفيعة في دولة النثر، وتظهر ما كان لأسلوبه من الأثر الكبير في عصره؛ مما جعل بلغاء الكتَّاب يضربون على غراره، وحسبك منهم سهل بن هارون.
وابن المقفع عجمي التفكير في جميع مؤلفاته، ليس له من العرب إلا اللغة وروح الإسلام، وقلما استشهد بأشعارهم وأقوالهم، ولكن فضله على العربية عظيم، فإنه أول من أدخل إليها الحكمة الفارسية الهندية، ومنطق اليونان، والطريقة الفيثاغورية، وعلم الأخلاق، وسياسة الاجتماع، فذلل أوضاعها لمباحث عقلية لا عهد لها بها، ووطَّأ السبيل للفارابي وابن سينا من بعده.
وهو أول كاتب عمد إلى الترجمة والتأليف ووصل إلينا بعض آثاره، وكان من حظه الخلود، وأول عالم مفكِّر تناول الموضوعات العقلية بإنشاء رفع به لغة الأدباء، وبَزَّ به لغة العلماء، تلك التي غلب عليها الغموض وركاكة التعبير، فحبَّب دراسة الحكمة بجمال أسلوبه ووضوحه، ولا سيما أسلوب كليلة ودمنة الذي أفرغ فيه الجد في قالب الهزل، فأرضى به الخاصة والعامة معًا. وكان أول كاتب عربي جعل الكلام على ألسنة الحيوان، وجعل تأديب الملوك بالحكايات والإشارات والأمثال.
(٥) علوم اللغة
(٥-١) الصرف والنحو
ذكرنا في الكتاب الأول أن اللحن أخذ يفشو في صدر الإسلام بسبب اختلاط العرب بالأعاجم، وأن أبا الأسود الدؤليَّ أولُ من اشتغل بالنحو ونُسب إليه وضع بعض أبوابه، فلما استشرى الفساد في اللغة أيام الدولة العباسية نَشِط العلماء إلى وضع قواعد الصرف والنحو، وكانا يومئذ علمًا واحدًا غير منقسم، ويرجع الفضل في ضبط الأصول واستقرائها إلى البصرة ثم إلى الكوفة.
(٥-٢) البصرة والكوفة
البصرة والكوفة مدينتان بالعراق مُصِّرتا في خلافة عمر بن الخطاب، فأَهِلَتا بطوائف العرب والموالي، وحفلتا بالشعراء والعلماء، فكان بينهما تنافس في الشعر والرواية، والنحو واللغة، والفقه والحديث، وعلم الكلام.
البصريون
ثم كان من بعدهم عبد الله بن أبي إسحاق الحَضْرمي، وهو على رواية ابن سلام أول من مدَّ القياس والعلل. وكان معه أبو عمرو بن العلاء، فشهر ابن أبي إسحاق بالنحو وتجريد القياس، وشهر أبو عمرو بمعرفة لغات العرب. وأخذ يونس بن حبيب، والخليل بن أحمد عن أبي عمرو بن العلاء. وأخذ عيسى بن عمر الثَّقَفي عن ابن أبي إسحاق، وعيسى هذا أول من ألف في النحو، فقد ذكر له الخليل كتابي الجامع والإكمال ولكنهما فقدا، ثم كان سِيبَوَيْهِ.
سيبويه ٧٩٦م/١٨٠ﻫ
هو أبو بشر عمرو بن عثمان، مولى بني الحارث بن كَعب، ولقب بسيبويه لجمال وجهه، ومعناها بالفارسية رائحة التفاح. وكانت ولادته بفارس ونشأته بالبصرة. وأخذ النحو عن الخليل ويونس وعيسى بن عمر. وأخذ اللغة عن الأخفش الأكبر، فأصبح شيخ البصريين غير مدافع.
وزعموا أنه قدم بغداد وافدًا على البرامكة، فوقعت بينه وبين الكسائي مناظرة خُذل فيها سيبويه، فخرج من بغداد حزينًا، وقصد إلى بلاد فارس، وتوفي بالبيضاء من قرى شيراز.
وترك من آثاره الكتاب في النحو، وهو مجلدان كبيران يحتويان على عشرين فصلًا وثماني مائة، وقد شرحه أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، وله طبعات كثيرة، ونقل إلى الألمانية.
وكان أثره بليغًا في أيامه حتى إنهم أطلقوا عليه اسم الكتاب إجلالًا لقدره، فإذا قيل بالبصرة: «قرأ فلان الكتاب.» علموا أنه كتاب سيبويه. وكان المبرد شديد الإعجاب به، فإذا أراد مريد أن يقرأه عليه يقول له: «هل ركبت البحر؟» تعظيمًا للكتاب واستصعابًا لما فيه. ومن هذا البحر الفياض اغترف جميع النحاة من متقدمين ومتأخرين، فكان له الفضل العميم.
الكوفيون
الكسائي ٨٠٤م/١٨٩ﻫ
مناظرات البصريين والكوفيين
أخذ الكوفيون النحو عن البصريين، ولكنهم لم يلبثوا أن خالفوهم فيه، وجعلوا لأنفسهم مذهبًا غير مذهب أهل البصرة، فاشتد التنافس بين المذهبين، وكثرت مناظرات أصحابهما، وتعصب كل فريق لمذهبه فتشعبت الآراء، وسادت التمحُّلات والتعليلات حتى كادوا لا يتَّفقون على وجه من الوجوه، فإذا قال البصريون: «الفعل مشتق من المصدر.» قال الكوفيون: «المصدر مشتق من الفعل.» وإذا جوَّز البصريون تقديم الخبر على المبتدأ رفض الكوفيون تجويزه؛ لأنه يؤدي إلى تقديم ضمير الاسم على ظاهره، نحو: قائم زيد؛ ففي قائم ضمير زيد، ورتبة ضمير الاسم بعد ظاهره، إلى غير ذلك من المناقضات الكثيرة التي أورثت المتأخرين طوائف من الآراء لا يعدم معها من يلحن وجهًا للصحة يردُّ إليه كلامه. وجعلت دراسة النحو صعبة المنال لا يضطلع بها إلا كل ذي رغبة وجَلَد. زِدْ على ذلك ما أُدخل على الشعر من أبيات منحولة اصطنعها العلماء، وجعلوا منها شواهد على مذاهبهم، وحججًا لمناظراتهم.
وكان الكوفيون شديدي التعصب للأعراب، يريدون العصمة فيهم؛ فإذا سمعوا قولًا من أقوالهم فيه تجوُّز يخالف القواعد المقررة، جعلوه قاعدة غير معتدِّين بالشذوذ.
وأما البصريون فقد كانوا أصحَّ استنباطًا من أهل الكوفة، وأكثر اعتدالًا، وأحفل بالمنطق والقياس، غير أن الكوفيين ظهروا عليهم؛ لأنهم كانوا متصلين بالعباسيين، وقرَّبهم الخلفاء أكثر من نحويي البصرة فجعلوهم مؤدبي أولادهم، فنبه ذكرهم، ورجحت كفتهم، وشُهر منهم جماعة في بغداد كالفرَّاء، وابن الأعرابي، وابن السكِّيت وغيرهم. وقد يكون لفوز الكسائي على سيبويه أثر في ظهور حجة الكوفة، وإقبال طلاب العلم عليها؛ لأن انتصار شيخها على شيخ البصرة عُدَّ انتصارًا لمذهبها في ذلك الحين، غير أن المذهب البصري ما لبث أن تمت له الغلبة، ورجحت كفته على كفة المذهب الكوفي بعدما زالت تأثيرات الأمراء، واصبحت السيادة في العصر العباسي لأهل المنطق وعلماء الكلام.
(٥-٣) اللغة
ولم يكن حرص العلماء على ضبط القواعد بأشدَّ من حرصهم على ضبط ألفاظ اللغة، وجمع شتاتها، والتمييز بين لهجاتها، فكانوا يطوفون بالبادية يأخذون الكلام عن أهلها. وكان الأعراب يأتون أمصار العراق فيسمع العلماء منهم، ويدونون ما يحفظونه عنهم، فألَّفوا في بدء الأمر رسائل صغيرة في موضوعات خاصة كأسماء الوحوش والأبل، وخلق الإنسان، والدارات، والنخل والكرم للأصمعى، وأسماء البئر وصفاتها والخيل وأنسابها لابن الأعرابي، وغريب القرآن لمؤرج السدوسي، والمثلثات لقطرب، فكانت هذه الرسائل نواة المعاجم اللغوية، على أن هناك كتابًا في اللغة ظهر قبل هذه الرسائل كلها مرتبًا على مخارج الحروف، ومباحث عامة لا خاصة، وهو كتاب العين للخليل.
الخليل ٧١٨–٧٨٦م/١٠٠–١٧٠ﻫ (؟)
حياته
وكان له معرفة بالنغم والحساب. وذكر بعضهم أنه ألمَّ باليونانية إلمامًا تامًّا. ولعله أخذها عن تلميذه حُنين بن إسحاق العِبادي، فإن حُنينًا كان يُحكم اللسان اليوناني، وقد لزم الخليل مدة حتى برع في لغة العرب، فغير عجيب أن يتعلم الخليل منه اليونانية، وهو الذي عُرف بحب العلم ونادر الذكاء.
وظلَّ في البصرة يشتغل بالتأليف والتعليم حتى مات، وكان زاهدًا متعففًا، حليمًا وقورًا.
آثاره
وأطلق عليه اسم العين من باب تسمية الكل باسم الجزء، وتسمية الكتاب باسم الباب الأول منه عادة شاعت عند كثير من الأمم. وقد رأينا أبا تمام يفعل مثل ذلك في مختاراته، فيسميها باسم الباب الأول منها وهو باب الحماسة. وقيل إن الخليل جرى في ترتيب كتاب العين مجرى وُضَّاع المعاجم السنسكريتية، فإن الهنود يبدءون بأحرف الحلق، وينتهون بالأحرف الشفهية.
ويقول صاحب وفيات الأعيان: «إن أكثر العلماء العارفين باللغة يقولون إن كتاب العين ليس من تصنيف الخليل. وإنما كان قد شرع فيه، ورتب أوائله، وسماه بالعين. ثم توفي فأكمله تلامذته النَّضْر بن شُمَيل، ومن في طبقته كمؤرج السدوسي، ونصر بن علي الجَهْضمي وغيرهما، فما جاء عملهم مناسبًا لما وضعه الخليل في الأول، فلهذا وقع فيه خلل كثير يبعد وقوع الخليل في مثله.»
والخلل الذي يشير إليه ابن خلِّكان ناتج في أكثره عما ورد في كتاب العين من شواهد النحو على المذهب الكوفي مع أن الخليل بصري، فقد ناقض فيه نفسه، وخالف ما جاء في كتاب سيبويه مما رواه سيبويه عنه. ولا يدفع ذلك قولهم إن الخلاف بين البصرة والكوفة لم يقم إلا بعد الخليل؛ لأن الكلام ليس على ذاك الخلاف وإنما هو التناقض في آراء الخليل، وهذا ما نجلُّه عنه كما نجلُّ سيبويه عن الكذب في روايته عن أستاذه. ولذلك نرجح ما رواه ابن خلكان من أن الخليل مات قبل أن يتم كتابه، فعاثت فيه أيدي تلاميذه، ومنهم كوفيون، فأفسدوا فيه، وأوقعوا كثيرًا من الخلل، فشكَّ فيه بعض العلماء وانتقدوه، منهم الأزهري صاحب التهذيب، وابن سَلَمة الكوفي، والسيوطي في كتابه المزهر.
وظلَّ كتاب العين معروفًا حتى القرن الرابع عشر للميلاد ثم ضاع. ولم يصل إلينا منه سوى ما أخذه سيبويه لكتابه، والسيوطي لمزهره. ويقول صاحب الفهرست إنه كان في ثمانية وأربعين جزءًا. وقد اختصره أبو بكر الزُّبَيْدي المتوفي سنة ٣٧٩ﻫ/٩٨٩م فحفل الناس به، وفضلوه على الأصل؛ لأن الزبيدي حذف منه الشواهد المختلفة، والحروف المصحفة، والأبنية المختلة. ومنه نسخ خطية في مكاتب برلين والأسكوريال ومدريد والأستانة.
ومن آثاره الخالدة علم العَروض، فهو الذي استنبطه وابتدعه، وحصر أقسامه في خمس دوائر يُستخرج منها خمسة عشر بحرًا، وزاد فيه الأخفش الأوسط بحر الخبب، ويسمى المتدارك لأنه تداركه. وحاول بعضهم أن يزيدوا بحرين آخرين، وهما: المستطيل ووزنه: مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن، مرتين. والممتد ووزنه: فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن، مرتين. ولكنهما لم يرزقا الحياة بل وقفت البحور عند الستة عشر، وحافظ الشعراء على أجزائها حتى في الموشحات.
ويرى البستاني صاحب دائرة المعارف أن إلمام الخليل باللغة اليونانية نبهه إلى ذلك؛ لأن علم العروض قديم عند اليونان، ولأرسطو فيه كتاب جليل. وهذا ما نرجحه نحن. ولا غضاضة فيه على الخليل، فإنما له أبدًا فضل الواضع المبتكر.
منزلته
فحسبك من هذه الأشياء وغيرها شواهد تنطق بفضل الخليل، ورُجحان عقله، وقوة استنباطه. وقد شهد له ابن المقفع في ذلك فقال: «عقله أكثر من علمه.» وقال فيه ابن سلَّام: «سمعت أشياخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل ولا أجمع.»
(٦) العلوم الدخيلة
(٦-١) الترجمة
ما انتظمت الممالك الإسلامية وامتدت أطرافها، وتم اختلاط العرب بغيرهم من الأعاجم، حتى أدرك العرب أن عند الأعاجم علمًا غير العلم الذي يعرفون، وأنهم لا قِبَل لهم بمنافسة الأمم المتحضرة التي غلبوها على أمرها، إلا إذا أخذوا علومها، وجاروها في المدنية والعرفان، وذلك ما يقضي به الناموس الطبيعي على كل شعب بدوي يفتتح بلادًا عريقة في الحضارة.
وأخذ المأمون يحرض الناس على قراءتها وتعليمها، وحبب إليهم الفلسفة بعد أن أحجم آباؤه عنها. وكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظراتهم، ويلتذ بمذاكراتهم.
طريقة النقل
سار المترجمون على طريقين مختلفين في النقل، ذكرهما صاحب الكشكول عن الصلاح الصفدي، وهذان الطريقان هما المعوَّل عليهما إلى يومنا هذا. ودونك ما جاء في الكشكول: «وللترجمة في النقل طريقان؛ أحدهما: طريق يوحنا بن البِطْريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما. وهو أن يُنظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى، فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه. وهذه الطريقة رديئة لوجهين؛ أحدهما: أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية، ولهذا وقع في خلال التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها. والثاني: أن خواص التركيب والنِّسَب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائمًا، وأيضًا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات.
الطريق الثاني في التعريب: طريق حُنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما. وهو أن يأتي بالجملة فيحصِّل معناها في ذهنه، ويعبِّر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواءٌ ساوت الألفاظ أم خالفتها. وهذا الطريق أجود؛ ولهذا لم تحتجْ كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيِّمًا بها، بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى إصلاح.» ا.ﻫ.
مصادر النقل
للكتب المنقولة إلى العربية عدة مراجع أقواها أربعة: اليوناني والسرياني والفارسي والهندي. فأما اليوناني فأعظمها شأنًا، وعنه أُخذت أكثر العلوم لإعراقه في القِدم، ثم لانتشاره في سوريا ومصر، فكانت مدرسة الإسكندرية تعلم الطب والفلسفة وسائر العلوم اليونانية، ومثلها مدارس السريان والنساطرة في سوريا، وأشهرها الرُّها وقِنَّسرين ونَصِيبين، فالمرجع السرياني — كما يتبين — يوناني في أصله. وهكذا يصح القول في المرجع الفارسي؛ لأن علوم الفرس لم تظهر إلا زمن سابور بن أردشير (٢٤١–٢٧٢م)، فقد ذكر عنه أبو الفداء أنه بعث إلى بلاد اليونان واستجلب كتب الفلسفة، وأمر بنقلها إلى الفارسية، واختزنها في مدينته، وأخذ الناس في نسخها وتدارسها.
ولما اضطهد يوستنيانوس (٥٢٧–٥٦٥م) — قيصر الروم — الفلاسفة الوثنيين، وأقفل هياكلهم ومدارسهم، هاجر بعضهم فرارًا من الضيم، ووفد سبعة منهم إلى كسرى أنوشروان (٥٣١–٥٧٩م) فرحب بهم، وأنزلهم مكرَّمين بين ظهرانيه، فنقلوا إلى الفارسية الفلسفة والمنطق والطب، وألفوا فيها.
والتحق بهم مهاجرون من النساطرة أمضَّهم الاضطهاد فلجئوا إلى فارس، وأسسوا في جُنْدَيسابور مجتمعًا علميًّا راقيًا، ثم أنشأ كسرى في جنديسابور مدرسة ومستشفى يعرف بالبيمارستان، فكانت علوم اليونان تدرَّس باللغة السريانية. ثم اختلطت الثقافة الهندية بالثقافة اليونانية الفارسية لما نقل كسرى بعض علوم الهند وآدابهم. وكان لمدرسة جنديسابور فضل كبير لأنها أَخرجت أطباء وفلاسفة للفرس والعراق وسوريا، منهم الحارث بن كلدة الثقفي، ومنهم أبناء بَخْتيشُوع أطباء الخلفاء العباسيين.
وأما المرجع الهندي فقد تلقى العرب بعضه مع المرجع الفارسي، وأخذوا بعضه الآخر من علماء الهند الذين استقدمهم خلفاء بني العباس.
(٦-٢) المترجمون والعلوم المنقولة
كان النقلة من أهل سوريا والعراق وفارس ومعظمهم من السريان النساطرة لبراعتهم في اليونانية، وأشهرهم أبناء بختيشوع، وحنين بن إسحاق — شيخ المترجمين — وولده إسحاق، ويوحنا بن ماسَوَيْهِ، والحجاج بن مطر، ويوحنا بن البطريق وغيرهم، نقلوا من اليوناني الفلسفة والسياسة والطب والهندسة والموسيقى والمنطق والنجوم.
واشتهر من نقلة الفرس عبد الله بن المقفع وآل نُوبَخت وغيرهم، ونقلوا من الفارسي السِّيَر والأدب والسياسة والحكم والتاريخ والنجوم.
واشتهر من نقلة الهنود مَنْكه الهندي وابن دهن وسواهما، نقلوا من الهندي الطب والعقاقير والنجوم والموسيقى والحساب والأرقام.
فالكتب التي نُقلت في هذا العصر تشتمل في مجموعها على الطبيعيات والرياضيات والفلسفة.
العلوم الطبيعية
ومنها الكيمياء، وكانت يومئذ شعوذة يبحث فيها أصحابها عن الحجر الفلسفي الذي يحوِّل كل معدن ذهبًا.
ومنها الطب، وكان ساذجًا محصورًا ببعض صفات حتى ترجمت كتب أبقراط وجالينوس، فاعتمد الطب العربي عليهما، يرفده الطب الهندي من ناحيته. ونبغ أطباء كثيرون أشهرهم من النصارى النساطرة كأبناء بختيشوع، ويوحنا بن ماسويه، وحنين بن إسحاق. وكان للأطباء عمومًا ولهؤلاء خصوصًا منزلة عالية عند الخلفاء وأصحاب الأمور، فقربوهم على نصرانيتهم، وأكرموا جانبهم، وخصُّوهم بوافر النعم، ليطمئنوا إلى إخلاصهم في مداواة أمراضهم، وتخفيف أوجاعهم.
العلوم الرياضية
ومنها الجبر والحساب، فإن العرب أخذوا الأرقام عن الهنود، ودعوها بالأرقام الهندية. أخذها أبو عبيد الله محمد بن موسى الخُوارزمي، وكان في أيام المأمون، وهو الذي ألَّف كتاب الجبر والمقابلة. ويكاد هذا العلم يكون من وضعه؛ لأن الهنات التي استمدها من الهند والفرس واليونان لا تفي بالمراد، ولكنه استخرج منها علم الجبر الحقيقي.
ومنها الهندسة، فقد ترجم الحجاج بن مطر أصول إقليدس على عهد الرشيد، ثم اشتهر أبناء شاكر واستخرجوا مسائل لم يصل إليها متقدموهم، كقسمة الزاوية إلى ثلاثة أقسام.
ومنها الفلك، ترجمت له كتب اليونان والفرس والهند والكلدان. ونقل الحجاج بن مطر كتاب المجسطي لبطليموس، وكان العرب كاليونان يعتقدون أن الأرض محور الكون، ولكنهم اعتقدوا باستدارتها، واشتهر منهم أبو معشر البَلْخي وأبناء شاكر، وهؤلاء بنوا مرصدًا على جسر بغداد.
ومنها الموسيقى، أخذوها عن اليونان والفرس والهنود؛ لأنها من لزوميات الغناء، والغناء قديم عند العرب، وكان على ثلاثة أوجه: النَّصْب والسِّناد والهَزَج؛ فأما النصب فغناء الركبان والفتيان، وهو الحداء الرقيق، ويقال له المرائي. وأما السِّناد فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات. وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه ويمشى بالدف والمزمار فيطرب. قال إسحاق الموصلي: «هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام، وفُتحت العراق، وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية. وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير.» ولما تُرجمت الكتب اليونانية، أخذوا يبحثون في الموسيقى بحثًا علميًّا، فارتقى فنها ونبغ جمهرة من المغنين المتفننين كابن جامع ومخارق وإبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وتلميذهما زِرْياب. وقد جمع الأصبهاني أخبارهم وأخبار من تقدمهم في أغانيه.
العلوم الفلسفية
أخذ المسلمون الفلسفة عن اليونان، واعتمدوا خصوصًا فلسفة أرسطو وأفلاطون، وأضافوا إليها ما يتناول عقائدهم الدينية. وأكثر الذين تعاطوها كانوا من الأطباء؛ لأن الطب كان يومئذ يلازم الحكمة، ولهذا لقب الطبيب بالحكيم. ويعود فضل النهضة الفلسفية على الأطباء النصارى كحنين بن إسحاق مترجم جمهورية أفلاطون ومنطق أرسطو، ويوحنا بن البطريق مترجم سياسة أرسطو، ويوحنا بن ماسويه الذي نقل كتبًا عديدة في الفلسفة.
(٦-٣) العلوم التي لم تنقل
وأما الأدب فإن العرب لم يعبئوا بنقله عن الأعاجم؛ لإعجابهم بشعرائهم وخطبائهم، ولاعتقادهم أن لا أدب فوق أدبهم، وكانوا في هذا العصر منصرفين إلى جمع شعرهم، وأخبار شعرائهم يتلقونها على أفواه الرواة. أضف إلى ذلك أن نقلة اليونانية لم يكونوا يحسنون العربية ليصطنعوا بها لغة الشعر والأدب، بخلاف نَقَلَة الفرس؛ فإنهم كانوا يحسنون لسان العرب كأبنائه، وفيهم من بَذَّ أبناءه ببراعة الإنشاء. ثم إن مدارس سوريا والعراق ومصر كانت همتها في تدريس العلوم اليونانية من فلسفة وطب ورياضيات وطبيعيات، ولم تُعنَ بالأدب والتاريخ اليوناني؛ لأنهما لم يهاجرا إلى البلاد التي تلمذ لها العرب كما هاجر الطب والفلسفة والهندسة؛ لذلك لا تجد بين مترجمي السريان والنساطرة إلا كل فيلسوف وطبيب ورياضي، ولا تجد بينهم شاعرًا أو كاتبًا أو مؤرخًا.
ورغب العرب عن اقتباس فنون التشريح والتصوير ونحت التماثيل؛ لاعتقادهم أن الإسلام يحرِّمها، ولكنهم برعوا في البناء والحفر، وشادوا الأبنية الجميلة على الطراز العربي المأخوذ من الطراز البيزنطي بما فيه من زخرف ونقوش، وكان أشهر البنائين من السوريين.
(٧) العلوم الدينية
(٧-١) التفسير
(٧-٢) الحديث
هو علم تعرف به أقوال النبي وأفعاله، وليس منه وحي القرآن، ويكون إما حديث رواية يُبحث فيه عن الأسانيد المتصلة أو المنفصلة حتى يبلغ بها إلى الرسول، وإما حديث دراية يُبحث فيه عن المعنى المفهوم من ألفاظه، وعن المراد منها مبنيًّا على قواعد العربية، وضوابط الشريعة، ومطابقًا لأحوال النبي. وللحديث أصول وأحكام وقواعد واصطلاحات، ذكرها العلماء، وشرحها المحدِّثون والفقهاء، منها العلم بصفات الرواة وأخلاقهم، وأنسابهم وأعمارهم ووقت وفاتهم، إلى غير ذلك مما يصح أن يتخذ مستندًا لقبول روايتهم، والاطمئنان إلى صحة الأحاديث المنقولة عنهم.
وقد احتاج المسلمون إلى جمع الحديث ليستعينوا به على تفهُّم القرآن، وتأويل ما بين أيديهم من آيات يتعذر عليهم إدراك معانيها. وليستندوا إليه في الأحكام والفتاوى التي ليس لها نص صريح في كتابهم، فلذلك كان المحدثون والفقهاء يعانون الرحلات الشاقة طلبًا للأحاديث الصحيحة، يتلقونها بالإسناد المتسلسل. ولكنهم لم ينهضوا لهذا الأمر إلا في المائة الثانية للهجرة، بعد أن مات الصحابة والتابعون، وهم الذين يُرجع إليهم في نقل الحديث، فكان أن تفرقت الأحاديث وتخالفت، واتسع مجال الوضع، فروي من كاذبها مئات وألوف، وضعها الزنادقة وذوو المآرب تنفيذًا لغاياتهم، وتأييدًا لمذاهبهم، وربما وضع الحديث لغرض سياسي، فاستُند إليه في الإفتاء.
وجاء بعدهما من نهج نهجهما، وزاد عليهما، كابن ماجة، وأبي داود السجستاني، وأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الرحمن النَّسائي. ومؤلفات هؤلاء الستة هي أصح كتب الحديث وإليها المرجع في هذا العلم، وتعرف بالستة الصحاح، وكل ما ألف بعدها كان شرحًا أو تلخيصًا لها. بيد أن الصحيحين الأولين هما خير ما ألف في الحديث إلى اليوم.
(٧-٣) الفقه
ونبذ القياس أيضًا طائفة من العلماء وهم الظاهريَّة، وإمامهم داود بن علي الأصبهاني، وجعلوا محور مباحثهم ظاهر الكلام بمعزل عن كل تأويل، ولكن مذهبهم لم ينتشر، ولم يُعَدَّ من المذاهب المقررة في الإسلام، وهي أربعة عند السنيين: مذهب أبي حنيفة، ومذهب مالك، ومذهب الشافعي، ومذهب ابن حنبل.
أبو حنيفة ٦٩٩–٧٦٧م/٨٠–١٥٠ﻫ
هو النُّعمان بن ثابت، فارسي الأصل، نشأ بالكوفة، وأخذ عن علمائها، واستنبط فقهه من القرآن، وما صح عنده من الحديث، وعدده قليل لا يجاوز السبعة عشر. وكان اعتماده في الغالب على الرأي والقياس، وتابعه في ذلك أكثر أئمة العراق. واستقدمه المنصور من الكوفة إلى بغداد، لينافس به مالك بن أَنَس، بعد أن أفتى مالك بخلع بيعته، وتأييد دعوة محمد بن عبد الله العلوي.
وقضى أبو حنيفة حياته بالزهد والورع، وأريد على القضاء غير مرة فرفض مخافة أن يصدر عنه خطأ يحمل وزره. وقيل إن المنصور حبسه لرفضه القضاء وآذاه حتى مات. وقيل بل حبسه لأنه رأى منه تشيعًا.
وكانت وفاته في بغداد، ولم يصل إلينا شيء من آثاره في الفقه. وإنما وصل إلينا كتب تلاميذه وعلى الأخص أبو يوسف الأنصاري، ومحمد بن الحسن الشيباني، ويعرفان بالصاحبين؛ أي صاحبي أبي حنيفة.
والمذهب الحنفي أعم المذاهب، وأبعدها انتشارًا في بلاد الإسلام كالعراق وسوريا وتركيا والعجم والهند وغيرها. ذلك أنه في اعتماده على الرأي والقياس، يقرب من التساهل ويبتعد عن الضغط الشديد، فيلائم أحوال الشعوب المتحضرة أكثر من سواه.
مالك ٧١٣–٧٩٥م/٩٥–١٧٩ﻫ
هو مالك بن أنس الأَصْبَحي، عربي الأصل، وُلد بالمدينة، وأخذ الحديث عن علمائها، وبرع في علوم الدين. وكانوا يعوِّلون عليه في الفتوى حتى قيل: «لا يُفْتَى ومالك بالمدينة.» وقد استنبط مذهبه من الكتاب والسنَّة، ويختلف عن أبي حنيفة في كثرة اعتماده على الحديث، وهو أول من ألف فيه. وكان يتشيَّع للعلويين، حتى إنه أفتى بخلع المنصور؛ فأمر به والي المدينة، وكان يومئذ جعفر بن سليمان عم المنصور، فجُرِّد من ثيابه، وضُرب بالسياط، ومُدت يده حتى انخلعت كتفه. على أن ذلك لم يضع من شأنه، بل زيد رفعةً وعلاءً، وكان الرشيد إذا قدم المدينة حضر مجلسه، وسمع منه.
وكانت وفاته بالمدينة، وأشهر آثاره الباقية كتاب الموطأ في الحديث والفقه. واختص بالمذهب المالكي أهل الحجاز والمغرب والأندلس.
الشافعي ٧٦٧–٨١٩م/١٥٠–٢٠٤ﻫ
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي، ولد بمدينة غزة، وحُمل إلى مكة وهو ابن سنتين، فنشأ فيها فقيرًا، وحفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، ثم رحل إلى البادية، وطلب الشعر واللغة، فنال منهما قسطًا حسنًا. ثم تفقَّه وحفظ موطأ مالك، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة. وجاء بغداد فلقي أصحاب أبي حنيفة فأخذ عنهم، ثم رحل إلى مصر وأقام بالفسطاط وأملى مذهبه في الفقه، وهو وسط مزج به طريقة أهل العراق بطريقة أهل الحجاز. وخالف مالكًا في كثير من مذهبه، ولكنه تشبَّث بالحديث.
وعرف الشافعي بالذكاء والحفظ وفصاحة اللسان، وقوة الحجة. وعرف أيضًا بالعدل والأمانة والزهد والعفاف والسخاء، وكانت وفاته في مصر فدفن بالعرافة ومقامه معروف، وله من الآثار رسالة في أُصول الفقه، والمسند في الحديث. ومقلدو مذهبه هم أهل مصر، وفي سوريا ولبنان طائفة كبيرة من الشوافعة، ولكن المذهب الحنفي هو المتبع في الحكم والإفتاء، انتقل بالإرث عن الأتراك وهم أحناف.
ابن حنبل ٧٨٠–٨٥٥م/١٦٤–٢٤١ﻫ
هو أبو عبد الله أحمد بن حَنْبَل الشيباني، وُلد في بغداد، وبها نشأ وتعلَّم، وكان من أصحاب الشافعي، فلما خرج الشافعي إلى مصر قال: «خرجت من بغداد، وما خلَّفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل.» وفي أيامه اشتد ساعد المعتزلة، فدعي إلى القول بخلق القرآن في مجلس المعتصم، فلم يفعل، فضرب سبعة وعشرين سوطًا، ضربًا موجعًا حتى سال منه الدم وأغمي عليه، ثم حبس وهو مصر على الامتناع.
وكان حسن الوجه ربعة يختضب بالحنَّاء، خضبًا ليس بالقاني. وكان أروى الناس للحديث. قيل إنه حفظ منه ألف ألف. ومذهبه في الفقه بعيد من الاجتهاد، ينبذ الرأي والقياس، ويتشبَّث بالأحاديث.
وكانت وفاته في بغداد وقبره مشهور بها، وذكروا أنه شهد جنازته ثمانمائة ألف من الرجال، وستون ألفًا من النساء. وله من الآثار كتاب المسند ضمَّنه ما ينيف على أربعين ألف حديث. وأتباع المذهب الحنبلي قليل، تجد منهم في بعض نواحي الشام والعراق، وهم أحفظ الناس للسنَّة.
•••
وقد وقف التقليد في الإسلام عند أصحاب المذاهب الأربعة، وسد باب الاجتهاد باعتبار الكمال فيها، غير أن الشيعة العلوية انفردت بمذهب وفقه خاص بها. وقامت اجتهادات علمائها على أساس سياسة الخلافة، وما جرى من الخلاف عليها، والاجتهاد عندهم مفتوح الأبواب. وانفرد بمثل ذلك الخوارج، وكانت الخلافة أيضًا أساس مذهبهم واجتهاداتهم.
(٧-٤) البدع
وقد خالفت المعتزلة المشبِّهة في تجسيم الذات، ولكنها أسرفت في مذهبها، فقضت بتنزيه الله عن صفات المعاني كالعلم والقدرة والإرادة والكلام، زاعمة أن إثباتها يقضي بتعديد القديم والإشراك بالخالق الأزلي. وقادها نفي الكلام عن الله إلى مخالفة الجماعة في أزلية القرآن فقالت بأنه مخلوق، وخالفت الجبرية فقالت بأن الله منح الإنسان القدرة، وأعطاه الحرية في استخدامها، فأصبح الإنسان خالقًا لأعماله خيرها وشرها، والله منزه أن يضاف إليه شر أو خير؛ لأنه لو خلق الظلم كان ظالمًا، كما لو خلق العدل كان عادلًا.
ولما قامت الدولة العباسية ونقلت فلسفة اليونان، وعلم المنطق، أقبل المعتزلة على دراستهما، واعتمدوا عليهما في مباحثهم ومناظراتهم، فتوافرت أدلتهم، واستحكمت حججهم، ورجحت كفتهم، وشالت كفة أهل السنة؛ لأن العلماء السنيين حسبوا دراسة المنطق كفرًا وزندقة، فنفروا منه، وأبوا أن يتخذوه معيارًا لأدلتهم العقلية. وكانوا يقولون: «من تمنطق شهرًا فقد تزندق دهرًا.» فقصروا في مناظرة أصحاب الاعتزال، وأفحمهم هؤلاء بجدلهم وفلسفتهم. وازدادت المعتزلة صولة وانتشارًا في عهد المأمون والمعتصم والواثق؛ لأن هؤلاء الخلفاء آثروا الاعتزال، وجاهروا بخلق القرآن، واضطهدوا جماعة السنة، وأخفتوا أصوات علمائهم، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، ولا سيما المأمون، فإنه كان أشدهم انتصارًا للفلسفة وأصحابها، والمعتزلة وآرائها. ولا ريب أن تغلب الفلسفة على السنَّة، والمعتزلة على الجماعة، أحدث إيثارًا للجديد على القديم، وتغليبًا للعنصر الفارسي على العنصر العربي.
وليس من شأننا في هذا البحث أن نعدد جميع البدع التي تفشت في الإسلام على أثر نقل العلوم اليونانية. ولكن نختصر فنقول إن هذه العلوم وما صحبها من حضارة جديدة، وحرية وتساهل في الأمور الدينية، كان لها أثر عظيم في أفكار المسلمين؛ لأنها جعلت الشك يتغلب على اليقين، فضعف الإيمان واجترأ الناس على الدين، فراحوا يتفلسفون في تأويل شرائعه وأحكامه، فذهبوا فيه كل مذهب، وابتعدوا كثيرًا عن أسلافهم في فجر الإسلام. ولم تقم بدعة إلا تفرع منها عدة مذاهب وطرائق، فدخل على الإسلام أشياء كثيرة ليست منه.
على أن هذه البدع وإن تكن أضرت بالدين، فإنها أفادت التفكير الإسلامي، وأعدته إعدادًا حسنًا لاستنباط الفلسفة العربية.
(٧-٥) علم الكلام
هو علم يتضمن الحجاج عن عقائد الدين بالأدلة العقلية، وكان ظهوره بعد أن تفشت البدع في الإسلام، واختلف أصحابها وأهل السنة على تفصيل هذه العقائد، فدعا ذلك إلى الجدل والتناظر، والاستدلال بالعقل؛ فعظمت الفتنة وتمسك كل ذي رأي برأيه، واشتد الخصام على الأخص بين المعتزلة والسنة؛ لأن المعتزلة كانوا أشد المبتدعة خطرًا؛ ذلك بأن مذهبهم وليد التفكير والفلسفة، وليس كذلك مذهبا الشيعة والخوارج؛ فإنهما قاما على أساس سياسة الخلافة، وكان احتكامهما إلى السيف أكثر منه إلى اللسان، ولم يكن للمذاهب الأخرى شأن عظيم فيحتفل أهل السنة بأصحابها؛ لذلك انصرفوا إلى مناظرة أهل الاعتزال؛ فنهض علم الكلام على أيدي هاتين الفئتين. ثم تم ازدهاره بعد أن نشأت الطريقة الأشعرية، وأقبل علماء السنة على المنطق يتدارسونه؛ لأنهم فرقوا بينه وبين الفلسفة، وعرفوا أنه علم القياس والتعليل والاستنتاج.
ولم يشتهر متكلمو السنة قبل الأشعري شهرة متكلمي المعتزلة؛ فإن هؤلاء ظهر منهم جلة من الفضلاء الأعلام أشباه واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهُذيل العلاف، والنظَّام، والجاحظ، وأبي علي الجُبَّائي وغيرهم.
(٨) الأدب والرواة
شرع الرواة في العصر الأموي يجمعون أشعار العرب وأقوالهم وأخبارهم، وما أطل العصر العباسي حتى بدأت تظهر المجموعات الأدبية، وتطور النقد بعض التطور، فأصبح أهل العلم ينظرون في صحيح الشعر ومنحوله، ويجعلون للشعراء طبقات متمايزة، ويدركون عليهم سرقاتهم، ومخالفاتهم للقواعد النحوية، وسقطاتهم في الألفاظ والمعاني، غير أنهم لم يخرجوا في أحكامهم عن دائرة من تقدمهم، فكانوا يفضلون الشاعر ببيت من الشعر، ثم يفضلون غيره ببيت آخر، وهكذا كان يفعل أسلافهم، حين يقولون: «فلان أشعر بني فلان، أو أشعر العرب، أو أشعر الناس.»
ويؤخذ عليهم إفراطهم في تقديس القديم، حتى ضلَّ بهم المنطق في النقد، فكانوا إذا أعجبهم شاعر إسلامي أو مولَّد قالوا: «لو أدرك يومًا من الجاهلية لفضل على كثير منهم، أو لما فضل عليه أحد.»
واشتهر في هذا العصر طائفة كبيرة من الرواة نكتفي بذكر أربعة منهم، وهم أبو عُبيدة، والأصمعي، ومحمد بن سلَّام، وأبو زيد القرشي.
(٨-١) أبو عبيدة ٧٢٨–٨٢٤م/١١٠–٢٠٩ﻫ (؟)
حياته
وكان وسخ الثياب، رثَّ الهيئة، سيِّئ المنظر، غليظ الشفة، ألثغ، مدخول النسب، مدخول الدين، يميل إلى مذهب الخوارج، شديد التعصب للشعوبية، لا تقبل شهادته لفساد في أخلاقه.
وكان إذا تحدث أو قرأ لحن عامدًا، وإذا أنشد بيتًا لا يقيم وزنه، ومن قوله: «النحو شؤم كله.»
آثاره
تناهز مؤلفاته المائتين، وهي في القرآن واللغة والأمثال والفتوح، والأنساب والمثالب، وبيوتات العرب وأيامهم، والتراجم وغيرها. ولكن لم يبقَ منها إلا أقلها، ككتاب نقائض جرير والفرزدق، طبع في ليدن بمجلدين كبيرين، وكتاب طبقات الشعراء، ويسميه الفهرست الشعر والشعراء.
منزلته
لأبي عبيدة مقام سام في طبقات الأدباء؛ فإنه كان أغزرهم مادة، وأوسعهم رواية، عالمًا بأخبار العرب وأيامهم، وأنسابهم ولغاتهم، يروي الشعر، ولكنه قلما عُني بتفسيره ونقده. وله الفضل بأنه مهد الطريق لغيره من جامعي الأخبار، فإن الأصفهاني لما وضع أغانيه اعتمد على كتاب أيام العرب لأبي عبيدة. ورَوَى عنه كثيرون كالقاسم بن سلَّام، وأبي حاتم السجستاني، وعمر بن شبَّة.
وهو أول من ألف في علم البيان، وتأليفه يُعرف بمجاز القرآن، ولا نعني أنه أوضح طرق ذاك العلم في كتابه هذا، فإنه كان يكتفي بأن يجمع الألفاظ التي استُعملت في غير معناها الحقيقي، دون أن يفرق بين أنواع المجاز، ويفصِّل حدوده وأُصوله.
(٨-٢) الأصمعي ٧٣٩–٨٣١م/١٢٢–٢١٦ﻫ (؟)
حياته
هو عبد الملك بن قُرَيب، ينتهي نسبه إلى مضر، ويلقب بالأصمعي نسبة إلى أحد جدوده أصمع، ويكنى أبا سعيد. ولد في البصرة ودرس على أبي عمرو بن العلاء، والخليل، وخلف الأحمر، وغيرهم من أئمة عصره. وأكثر الخروج إلى البادية، واختلط بالأعراب وساكنهم، وأخذ عنهم، حتى اجتمع له من الأخبار والأشعار والنوادر والغريب شيء كثير. واتصل بالرشيد واختص به، فأجزل له العطاء، وبالغ في إكرامه، وكانت وفاته بالبصرة أيام المأمون. وعرف بالتقوى والتدين، وقوة الحافظة والظرف، ولكنه كان بخيلًا.
آثاره
ذكر له ابن النديم نحو أربعين كتابًا أكثرها في اللغة، ثم في الشعر، ولم يصل إلينا إلا بعضها؛ منها في الشعر: الأصمعيَّات؛ وهي مجموعة اختارها من شعر الشعراء المتقدمين، وضمَّنها شيئًا من النقد، ورجز العَجَّاج؛ وهو مجموع ما رواه الأصمعي للعجاج من الأراجيز، ومنها في اللغة كتاب أسماء الوحوش، وكتاب أسماء الإبل، وكتاب الخيل، وكتاب الدارات، وكتاب النبات والشجر، وكتاب النخل والكرم وغير ذلك.
منزلته
للأصمعي منزلة جليلة في اللغة والرواية والأدب، حتى أصبح اسمه بعد موته صفة تدل على سعة الاطلاع، فيقال هذا رجل أصمعي. وتعود هذه الشهرة في كثرتها على ما أسند إليه من أقاصيص وسير تداولها الناس كقصة عنترة وغيرها، فشُهر عند العامة فضلًا عن الخاصة.
وكانت تآليفه في اللغة مستندًا وثيقًا للمعاجم الكبرى. وامتاز الأصمعي في فصاحته وبيانه، وحسن إنشاده الشعر حتى ليضيع عنده الرديء والجيد. وقد فاضل أبو نواس بينه وبين أبي عبيدة فقال: «إن أبا عبيدة لو أمكنوه لقرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبُلبل يطربهم بنغماته.»
واشتهر بقوة الذاكرة؛ قيل إنه كان يحفظ اثني عشر ألف أرجوزة، منها ما يبلغ مائة بيت أو مائتين. ومما يروى عن قوة ذاكرته خبر انتصاره على أبي عبيدة في حضرة الفضل بن الربيع حينما وقف يسمي أعضاء الفَرَس عضوًا عضوًا وينشد ما قالت الشعراء فيه. ولم يستطع ذلك أبو عبيدة على سعة تآليفه في الخيل.
وعرف الأصمعي بمهارته في نقد الشعر، أخذ ذلك عن أستاذه خلف الأحمر. وله في الشعر والشعراء آراء يعوَّل على كثير منها.
(٨-٣) محمد بن سلَّام ٨٤٦م/٢٣٢ﻫ٤٨
حياته
ليس لدينا عن حياته شيء نذكره، فكل ما نعلم عنه أنه يكنى أبا عبد الله، وأن نسبه ينتهي إلى بني جُمَح وهم بطن من قريش، وأنه نشأ في البصرة، وأخذ عن الخليل وحماد بن سَلَمة وغيرهما، وروى عنه كثيرون، منهم الإمام أحمد بن حنبل، وثعلب، وأبو حاتم، وسواهم. وكانت وفاته في السنة التي مات فيها الواثق وبويع للمتوكل بن المعتصم.
آثاره
ذكر له صاحب الفهرست كتابًا في بيوتات العرب، وآخر في مُلَح الشعر، ولكنهما مفقودان. ولم يصل إلينا إلا كتابه طبقات الشعراء، صدَّره بمقدمة في نقد الشعر، فتكلم أولًا على علماء البصرة، وظهور النحو عندهم، وأول من وضعه منهم، وعدَّهم واحدًا بعد واحد، ذاكرًا من أخذ منهم عن الآخر. وهو يستند إليهم في روايته، ولا يرى من علماء الكوفة من يستحق الذكر إلا المفضَّل الضبي. ولا غرو في ذلك، فابن سلَّام بصري يتعصَّب لبلده. وأكثر رواياته عن خلف الأحمر وأبي عمرو بن العلاء ويونس وأبي عبيدة والأصمعي. وعلى الغالب يشاركه فيها نسيبه أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، فتسمعه يقول: «أخبرنا أبو خليفة أخبرنا ابن سلام …» أو «أنا أبو خليفة أنا ابن سلام …»
وفي كلامه على الشعر وأقوال العلماء فيه يشير إلى ما أدخل الرواة من الشعر المصنوع، ومن ذلك الأقوال التي أضافوها إلى عاد وثمود.
وجعل كتابه في جزءين؛ فالجزء الأول: يختص بالشعراء الجاهليين والمخضرمين. والجزء الثاني: يختص بالشعراء الإسلاميين. وهو يستفيض في أخبار الإسلاميين وأشعارهم أكثر مما يستفيض في أخبار الجاهليين. وإذا ذكر الشاعر ذكر نسبه وأقوال العلماء فيه، وأورد شيئًا من شعره وأخباره. وربما أبدى رأيه الخاص وعارض به آراء غيره من العلماء والرواة.
وجعل الجاهليين والمخضرمين عشر طبقات، في كل طبقة أربعة فحول، وألحق بهم طبقة لأصحاب المراثي، ثم أضاف إليهم شعراء القرى وهي المدينة وأكنافها، ومكة والطائف والبحرين، وأما اليمامة فلم يعرف بها شاعرًا مشهورًا.
الجاهليون والمخضرمون
- الطبقة الأولى: امرؤ القيس، ونابغة بني ذُبيان، وزهير بن أبي سُلمى، والأعشى.
- الطبقة الثانية: سقط منها شاعران في النسخ، وبقي كعب بن زهير، والحطيئة. وهي متصلة بالطبقة الأولى كأنها منها لسقوط مقدمتها مع سقوط خبر الشاعرين اللذين ذكرهما قبل كعب والحطيئة.
- الطبقة الثالثة: نابغة بني جَعْدة، وأبو ذُؤيب الهذلي، والشمَّاخ بن ضِرَار، ولبيد بن ربيعة.
- الطبقة الرابعة: طرفة بن العبد، وعَبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل، وعَدِي بن زيد.
- الطبقة الخامسة: خِداش بن زهير، والأسود بن يَعْفُر، والمُخَبَّل بن ربيعة، وتميم بن مُقْبِل.
- الطبقة السادسة: عمرو بن كلثوم، والحارس بن حِلِّزة، وعنترة بن شداد، وسُوَيد بن أبي كاهل.
- الطبقة السابعة: سلامة بن جندل، والحُصَين بن الحُمام المُرِّي، والمُتَلَمِّس، والمسيَّب بن عَلَس.
- الطبقة الثامنة: عمرو بن قُمَيْئة، والنَّمِر بن تَوْلب، وأَوْس بن غلفاء، وعَوْف بن عَطِيَّة.
- الطبقة التاسعة: ضابئ بن الحارث، وسُوَيد بن كُراع، والحُويدرة الذبياني، وسُحَيْم عبد بني الحَسْحاس.
- الطبقة العاشرة: أُميَّة بن حَرْثان، وحُرَيْث بن محَفَّض، والكُمَيت بن معروف الأسدي، وعمرو بن شاس.
- طبقة أصحاب المراثي: مُتَمِّم بن نُوَيْرَة، والخنساء، وأَعْشى باهلة، وكعب بن سعد الغَنَوي.
شعراء القرى
- المدينة: من الخزرج: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. ومن الأوس: قيس بن الخطيم، وأبو قيس بن الأَسْلت.
- مكة: عبد الله بن الزِّبَعْرى، وأبو طالب بن عبد المطلب، وأبو سُفيان بن الحارث، ومسافر بن أبي عمرو، وضِرَار بن الخطَّاب.
- الطائف: أبو الصَّلْت بن أبي ربيعة، وابنه أُمَيَّة بن أبي الصلت، وأبو مِحْجَن، وغَيْلان بن سَلَمة، وكِنانة بن عبد ياليل.
- البحرين: المثقَّب العبدي، والممزَّق العبدي، والمفضَّل بن معشر.
شعراء اليهود
- المدينة وأكنافها: السموأل بن عادياء، والربيع بن أبي الحُقَيْق، وكعب بن الأشرف، وشُرَيْح بن عِمْران، وشُعبة بن غريض، وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيَّال، ودِرهم بن زيد.
الشعراء الإسلاميون
- الطبقة الأولى: الفرزدق، وجرير، والأخطل، وراعي الإبل.
- الطبقة الثانية: البَعِيث، والقُطامي، وكُثَيِّر، وذو الرُّمَّة.
- الطبقة الثالثة: كعب بن جُعَيْل، وعمرو بن أحمر، وسُحَيْم بن وثيل، وأوس بن مَغْراء.
- الطبقة الرابعة: نَهْشَل بن حَري، وحُمَيْد بن ثور، والأشهب بن رُمَيْلة، وعمر بن لَجَأ التَّيْمِي.
- الطبقة الخامسة: أبو زُبَيْد الطائي، والعُجَيْر السلولي، وعبد الله بن همَّام السلولي، ونُفَيْع بن لَقيط الأسدي.٤٩
- الطبقة السادسة: (حجازية): عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات، والأحوص الأنصاري، وجميل بن مَعْمَر، ونُصَيب بن رَبَاح.
- الطبقة السابعة: المتوكل اللَّيْثي، ويزيد بن ربيعة، وزياد الأعجم، وعَدِي بن الرقاع.
- الطبقة الثامنة: عُقَيْل بن عُلَّفة المري، وبَشامة بن الغدير، وشَبيب بن البرصاء، وقُراد بن حَنَش.٥٠
- الطبقة التاسعة: (رُجَّاز): الأغلب العِجْلي، وأبو النجم العجلي، والعجَّاج، وابنه رُؤبة.
- الطبقة العاشرة: مزاحم بن الحارث العُقَيلي، ويزيد بن الطَّثْريَّة، وأبو دؤاد الرُّؤاسي، والقُحَيْف بن سُلَيم العُقَيْلي.
منزلته
يمتاز ابن سلام بأنه أول من ألَّف في طبقات الشعراء، وقلَّده غيره، فكان كتابه قدوة لسواه. وقد زاد في قيمته أن صاحبه لم يعتمد كل الاعتماد على أقوال الرواة في نقد الشعر والشعراء، بل قابل بعضها ببعض، وانتقدها وأبدى رأيه فيها. وتكلم على صحيح الشعر ومنحوله، وأشار إلى تعصب العشائر في تفضيل الشعراء، وأنحى باللائمة على الرواة الذين أفسدوا الشعر، وخلطوا برواياتهم، فأنكر رواية ابن إسحاق في كثير من العنف، وطعن على حمَّاد وشهَّره، وما سلم منه خلف والمفضَّل.
ولم تؤثر أساطير الأقدمين وخرافاتهم في صحة بصره بالشعر، فرفض أن يكون ثمَّة شعر لعاد وثمود وسواهما من العرب البائدة. ولم يسخف كغيره فيروي شعرًا للجن وآدم وإبليس والملائكة.
وقد راعى في تمييز طبقة الشاعر كثرة آثاره وقلتها؛ فجعل طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل، وعدي بن زيد في الطبقة الرابعة لقلة شعرهم على أفواه الرواة، ولولا ذلك لوضعهم مع الأوائل.
وهو شديد الاحتياط في المفاضلة بين شعراء كل طبقة، فتراه يذكر الحجة لكل واحد منهم، ثم يذكر الحجة عليه. وحينًا يروز أقوال الرواة في تقديم الشاعر أو تأخيره، وحينًا يتركها على علاتها، فكأنه يجعل العهدة عليهم في ذلك. وقد استدرك في أول المقدمة، فصرح بأن ذكر الواحد قبل الآخر في كل طبقة لا يدل على الحكم له إذ لا بد من مبتدأ.
ويخلو نقده في الغالب من التعليل والفنِّ، وربما جارى غيره من الأدباء الأقدمين فحكم للشاعر ببيت من الشعر، ثم حكم لغيره بمثل ذلك.
وأما لغة الكتاب فيغلب عليها الإيجاز البليغ، ولكن لا تخلو بعض عباراتها من غموض واختلاط.
وأما الأسلوب فإنه خالٍ من الروعة والفن، ضعيف التنسيق والتأليف، يرينا صورة صادقة عن إنشاء الكتب عند العرب في أول عهدهم بالتصنيف. وتظهر السذاجة الفنية في جعل الشعراء طبقات، في كل طبقة أربعة لهم منزلة واحدة، فمثل هذا الاتفاق في العدد لا يصح أن يُعتمد عليه، ولا يمكن التسليم بصحته لأنه يضيِّق المجال على الناقد الأديب، وهيهات أن يسلم صاحبه من العثار.
على أننا لا نحاول أن نغمط فضل المؤلف، فإن كتابه كان قدوة صالحة لمن جاء بعده من مؤرخي الآداب؛ فاستندوا إليه، وائتمُّوا به، فقد رجع إليه صاحب الأغاني في ذكر طبقات الشعراء، وكذلك فعل القالي والزجَّاج في أماليهما، والسيوطي في كتابه المزهر.
(٨-٤) أبو زيد القرشي
حياته
هو محمد بن أبي الخطاب القرشي، وكنيته أبو زيد. لم نقف له على ترجمة في الكتب التي بين أيدينا. وذكره جرجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية، وجعله من رجال القرن الثالث للهجرة؛ أي العصر العباسي الثاني. وذكره سليمان البستاني في مقدمة الإلياذة، وجعل وفاته سنة ١٧٠ للهجرة؛ أي أواسط العصر الأول. ونحن نرى أن أبا زيد أولى بأن يكون من أهل العصر الأول من أن يكون من أهل العصر الثاني؛ لأنه أورد في كتابه جمهرة أشعار العرب روايات سمعها من المفضَّل الضبي، والمفضل توفي سنة ١٧١ﻫ أو نحو ذلك. وهذا يدل على أنه عاصره وأخذ عنه.
آثاره
لم يصل إلينا من آثاره سوى كتاب جمهرة أشعار العرب، جمع فيه ما اختاره العلماء من محاسن الشعر الجاهلي والإسلامي. وجعله في سبع طبقات في كل طبقة سبع قصائد، واعتمد في هذا التقسيم على أبي عبيدة والمفضَّل:
- الطبقة الأولى: أصحاب المعلقات، وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة.
- الطبقة الثانية: أصحاب المُجَمْهَرات٥١ وهم: عَبيد بن الأبرص، وعنترة، وعَدي بن زيد، وبِشْر بن أبي خازم، وأُميَّة بن أبي الصَّلْت، وخِداش بن زهير، والنمر بن تَوْلب. ويظهر أن النساخ خالفوا في ترتيب الكتاب عمدًا أو سهوًا، فجعلوا عنترة ثامن أصحاب المعلقات مع أن أبا زيد ذكره في مقدمته بين أصحاب المجمهرات، فغير معقول أن يضعه في كتابه مع أصحاب المعلقات، وهو إنما التزم تقسيم الطبقات سبعًا سبعًا، وأعلن أسماء كل طبقة في المقدمة.
- الطبقة الثالثة: أصحاب المنتقَيات وهم: المُسَيَّب بن علس، والمرقش الأصغر، والمتلمس، وعروة بن الورد، والمهلهل بن ربيعة، ودُرَيد بن الصمة، والمتنخِّل بن عُوَيْمِر الهُذَلِي.
- الطبقة الرابعة: أصحاب المُذهَّبات وهم: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العَجْلان، وقيس بن الخطيم، وأُحَيْحَة بن الجُلاح، وأبو قيس بن الأَسْلت، وعمرو بن امرئ القيس. جميعهم من الأوس والخزرج.
- الطبقة الخامسة: أصحاب المراثي وهم: أبو ذُؤيب الهُذَلي، وعلقمة بن ذي جَدَن الحِمْيَري،٥٢ ومحمد بن كعب الغنوي، وأعشى باهلة، وأبو زبيد الطائي، ومالك بن الريب، ومُتَمِّم بن نُوَيْرة.٥٣
- الطبقة السادسة: أصحاب المَشُوبات٥٤ وهم: نابغة بني جَعْدة، وكعب بن زهير، والقُطامي، والحُطيئة، والشَّمَّاخ، وعمرو بن أحمر، وتميم بن أبي مُقبل.
- الطبقة السابعة: أصحاب المُلحَمات٥٥ وهم: الفرزدق، وجرير، والأخطل، وعُبَيْد الراعي، وذو الرُّمَّة، والكُمَيت، والطِّرِمَّاح.
وصدَّر أبو زيد هذا الكتاب بمقدمة انتقادية جعلها على ثلاثة أقسام، فقابل في القسم الأول لغة الشعر بلغة القرآن، ومجازه بمجازه، وغريبه بغريبه. وأظهر أن القرآن لم يأت العرب بلغة جديدة، فكل ما فيه من مجاز وغريب استعمله العرب في شعرهم وقصدوا به إلى المعنى الذي قصد إليه القرآن.
وذكر في القسم الثاني أول من قال الشعر فروى أشعارًا للملائكة وإبليس وآدم والعمالقة وعاد وثمود والجن. ثم انتقل إلى رأي النبي وأصحابه في الشعر، فذكر أن النبي كان يسمعه ويجيز عليه، وأنه لم يكن يستنكره كما زعم بعضهم. وأورد أشعارًا للخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة.
وأما القسم الثالث فقد خصه بتعيين طبقات الشعراء وذكر أسمائهم، وأورد طرفًا من أخبارهم وأقوال العلماء والرواة فيهم.
منزلته
تقوم منزلة أبي زيد على كتابه جمهرة أشعار العرب؛ فإنه جمع فيه تسعًا وأربعين قصيدة من أنفس الشعر الجاهلي والإسلامي. وقدَّم لها تقدمة حسنة في نقد الشعر ومقابلة لغته بلغة القرآن، وذكر أقوال الأدباء في الشعراء وطبقاتهم. ولولا سخفه في القسم الثاني من المقدمة، لصان كتابه من الترَّهات. ولكن تعصبه الأعمى لدينه ولغته جعله يقبل الأساطير والخرافات على علاتها، فجعل الشعر العربي يرجع إلى عهد آدم، ويشترك في نظمه الإنس والجن وسكان الأرض والسماء وجهنم؛ فأسمعنا أشعارًا لإبليس وآدم والملائكة، وأسمعنا أيضًا لطائفة من الجن كانت تنتظر بعثة محمد فأسلمت وقالت شعرًا قبل أن يظهر الإسلام.
ومن تعصبه أنه أنكر وجود ألفاظ عجمية في القرآن مستندًا إلى قول منسوب إلى ابن عباس وهو: «من زعم أن في القرآن غير العربية فقد افترى.» ولذلك جعل كل لفظ دخيل في القرآن عربي الأصل، ولكن له في اللغة العجمية أشباه تقاربه أو توافقه.
ويؤخذ عليه في نقد الشعر أنه أورد أقوال غيره واستند إليها، دون أن يعللها ويمحصها، ويستخرج منها أحكامًا يظهر فيها رأيه في الشعر والشعراء.