لمحة تاريخية
كانت خلافة المتوكل أشبه ببرزخ عبرت عليه الدولة العباسية من طور القوة والسلطان إلى طور الضعف والانحلال. وقد اجتمعت عدة أسباب على ثلِّ هذا العرش المُورق الأعواد، فلم تزل به حتى قوَّضته تقويضًا. وهذه الأسباب ترجع في أكثرها إلى نفوذ الأتراك والخدم. وإلى نظام ولاية العهد، واختلاف أجناس الجواري أمهات الأمراء، ثم إلى اتساع المملكة العباسية ونظام الإقطاع فيها، ثم إلى ثورات العلويين، ونفور العرب من بني العباس. وإليك بيان ذلك:
(١) نفوذ الأتراك
فاعتزَّ الأتراك بنفوذهم، وتولوا الخطط العالية، فكان منهم الوزراء والقوَّاد والولاة، وظهر فيهم أمثال وصيف وأشناس وإيتاخ وبُغا الكبير والأفشين وسواهم.
ولما بويع للمتوكل بعد الواثق توجه إيتاخ ووصيف. وأراد استمالة الأتراك، فأمر لهم برزق ثمانية أشهر، ولم يأمر للمغاربة إلا برزق ثلاثة فأبوا قبولها، فتاه الأتراك واستكبروا حتى تضايق المتوكل منهم، وساءه أن يزحم سلطانهم سلطانه. وكان إيتاخ أكثرهم نفوذًا لأن المتوكل ربي في حجره فولاه الحجابة والبريد والجيش وبيت المال، فاستطال إيتاخ وغلب الخليفة على أمره، فسعى المتوكل في إبعاده، فدس عليه من زين له الحج، فاستأذن الخليفة في ذلك، فأذن له وخلع عليه، وجعله أمير كل بلد يمرُّ به؛ فسار إيتاخ وسار العسكر بين يديه، وجُعلت الحجابة إلى وصيف. ولما عاد إيتاخ قبض عليه المتوكل غيلة وحبسه، ومنع عنه الماء حتى مات.
ولم يشأ المتوكل أن يقدِّم الفرس على الأتراك مع أن أمه فارسية؛ لأنهم كانوا يشايعون العلويين. وراعه أن يغلب نفوذ الأتراك على سلطانه، وهو لا قبل له بهم لأن الجند في أيديهم، فآثر الابتعاد عنهم فبنى مدينة المتوكلية على قرب من سامرَّاء، ونقل إليها الخلافة، وراح يتودد إلى السنيين، على أمل أن يسترضي العرب بعد نفورهم من العباسيين لتقديمهم الموالي، فبالغ في التعصب للدين، وشدد في إقامة أحكام السنة. وجاهر العلويين البغض والعداء، فاضطهدهم وجار عليهم، وهدم قبر الحسين في كربلاء، وأذن للناس أن يلعنوا عليًّا في حضرته. واضطهد النصارى، وهدم كنائسهم وقبورهم، ومنعهم من الخروج بصلبانهم في أعيادهم، وجعل على أبواب دورهم صور شياطين. ولكن هذا التعصب الممقوت لم يفده شيئًا لأن الأتراك ائتمروا به وقتلوه. وكان مقتله سببًا لتضاعف شوكتهم، فازدادوا جراءة واستقلوا بشئون الدولة، فأصبحت حياة الخلفاء والأمراء في أيديهم، ينصبون من شاءوا، ويخلعونه متى شاءوا، ويقتلون أو يحبسون من يخشى شره ولا يرون به خيرًا لهم؛ فقتلوا المستعين، والمعتز، والمهتدي، وحبسوا القاهر، وسملوا أعين المتقي، والمستكفي؛ فسقطت هيبة العباسيين من النفوس، ونشبت الثورات الداخلية، وأخذت الولايات البعيدة تستقل بعد أن رأت الضعف مستحكمًا في قلب المملكة. وهي إنما كانت تخضع كارهة، ولا سيما الفرس الذين كان لهم ملك ضخم فأديل منه، فما انفكوا من الحنين إليه، والتربص لاستعادة سابق عزه.
(٢) نفوذ الخدم
وكان للخدم نفوذ في قصور الخلفاء؛ ذلك بأن الأتراك كانوا يحبسون ولاة العهد، ويجعلونهم في عهدة الخدم لتضعف نفوسهم بمعاشرة الخصيان. وكان الخلفاء يرتاحون إلى عزلة أولادهم وأنسبائهم، مخافة أن يواطئوا الأتراك عليهم، فكان ولي العهد إذا استُخلف لا يجد غير الخدم أصدقاء له لأنه صحبهم مدة طويلة، وتخلَّق بأخلاقهم، فيكثر منهم في قصره، ويجزل لهم العطاء ليردوا عنه كيد الأتراك إذا ثاروا به، وأرادوا اغتياله. روي أن المقتدر بالله اتخذ نحوًا من أحد عشر ألف خادم من الروم والسودان وسواهم، وولاهم قيادة الجند، فأتيح له أن يحكم بهم خمسًا وعشرين سنة. وفي أيامه ظهر مؤنس الخادم، فقبض على زمام المملكة، وتصرف فيها على هواه، وكانت له قيادة الجيش، وإمارة الأمراء، ووزارة بيت المال، وحدث خلاف بينه وبين المقتدر، فما انتهى الأمر إلا والخليفة مقتول.
ولم يكن نفوذ الخدم في قصور الخلفاء إلا ليزيد في إنقاص هيبتهم، ويبالغ في تنفير الناس من ولايتهم.
(٣) نظام ولاية العهد
لم يكن نظام ولاية العهد في خلافة الأمويين أشد تأثيرًا منه في خلافة العباسيين، فإن فتنة الأمين والمأمون من أجل الخلافة جعلت العرب يناصرون الأمين لأن أمه عربية. وجعلت الفرس يناصرون المأمون لأن أمه فارسية، فلما قُتل الأمين واستخلف المأمون اعتز الفرس وازدادوا رفعة ونفوذًا. وهان العرب وتضاءل سوادهم، وغُلبوا على أمرهم، فنفروا من العباسيين ونقموا عليهم، وأبوا أن ينخرطوا في الجند؛ لأن قواده من الفرس، فأصبح الجيش العباسي عجميًّا، ينضم إليه الفارسي والديلمي، والتركي والمغربي وهلم جرًّا، فباتت الدولة في استنادها إليه تحت رحمة الأعاجم. ولكن الفرس كانوا يشدون أزر المأمون، وكان المأمون صلبًا حزيمًا، داهية ذكيًّا، فقبض على الملك بيد فرَّاسة فأقام عموده، ووطَّد أركانه.
وأثر أيضًا نظام ولاية العهد في خلافة المتوكل، فإن المتوكل ساء ظنه بالمنتصر ابنه البكر، واتهمه بأنه يريد الأمر لنفسه في حياته، وكان يلقبه بالمستعجل والمنتظر، فعزم على خلعه ونقل الوصية إلى ابنه المعتز أحد صغار أولاده، فحقدها عليه المنتصر، وواطأ الأتراك على قتله، فما إن قُتل حتى صار الأمراء العباسيون يثور بعضهم على بعض.
(٤) أمهات الأمراء
وكان من إسراف الخلفاء في الاستمتاع أن بالغوا في اقتناء الجواري الأعجميات والتسري بهن، فنجلوا أولادًا من أمهات مختلفات الأجناس، فرأينا الأمين يعتمد على العرب لأن أمه عربية، والمأمون على الفرس لأن أمه فارسية، والمعتصم على الترك لأن أمه تركية، فنتج من ذلك أن اختلفت أجناس الجند في الدولة، فحفل الجيش بخليط من العناصر، أضعفها عنصر العرب.
واختلاف أجناس النساء في قصور الخلفاء جعل تلك القصور موطنًا للدسائس والوشايات والمؤامرات، يشترك فيها الملوك والأمراء والقواد والحاشية رجالها ونساؤها، فانتهى الأمر إلى أن شغب الجند على القادة، وتنازع القادة السيادة فيما بينهم، فسادت الفوضى وعمت أنحاء المملكة.
(٥) نظام الإقطاع
ولنظام الإقطاع أثر سيئ في وحدة الممالك العباسية؛ فإن اتساع أراضي الدولة وترامي أطرافها جعل مسافات شاسعة بين العاصمة وأكثر الولايات. ولكن الخلفاء في الصدر العباسي كانوا أشداء حَزَمَة، فاستطاعوا أن يلموا شعث هذا السلطان الضخم، فلما غُلبوا على أمرهم، وفسدت طاعة الجند، شعر الولاة بضعف ملوكهم، فأهملوا رعاية أعمالهم، وانصرفوا إلى المال يجمعونه، وحبسوا رزق العمال عن أصحابه، فما يدفعون لهم إلا بعد أن يقتطعوا نصيبًا يأخذونه، فضجَّت البلاد، واشتدَّ السخط، فعمد الخلفاء إلى اغتيال الولاة والكتاب استكفافًا لشرهم، فكثر العصيان والخروج، واضطربت أحوال المملكة، وفقد الأمن وقامت الثورات من كل ناحية، فلا ترى حيث التفتَّ إلا جماعة خارجة على السلطان.
(٦) ثورات العلويين
(٧) ميزة العصر
فلا عجب أن يمتاز هذا العصر بالنفوذ التركي، وقد رأيت ما كان للأتراك من تأثير في مجرى الخلافة العباسية، إذ جعلوا المملكة ألعوبة في أيديهم، فكان عصرهم معقلًا للذعر والإرهاب والاضطهاد، وموطنًا للتمثيل والتقتيل والاغتيال، وملعبًا للدسائس والرشى والاختلاسات.
وأصيبت حرية الفكر والدين في الصميم، فخرست ألسنة الفلاسفة، وعلماء الكلام من أهل الاعتزال، وخصوصًا في أوائل العصر. وحرِّم عليهم البحث في مسألة خلق القرآن، ولم يسلموا من الحبس والتنكيل. واضطهدت الشيعة العلوية، واضطهد النصارى فكان الاستبداد والجور من أظهر ميزات العصر.