الشعراء المولدون
(١) ميزة الشعر
لم يكن الأتراك أهل حضارة وعرفان ليحملوا إلى العربية علومهم وآدابهم فيجعلوا فيها أثرًا بينًا كما جعل الفرس من قبلهم، ولم يعنوا بدراسة لغة العرب وأدبهم عناية أهل فارس، فيخرج منهم شعراء وكتَّاب يحدثون في الأدب أحداثًا طريفة بليغة؛ لذلك بقيت ميزة الشعر على حالها ولم يتغير شيء من تلك الحضارة الجديدة التي زفَّها الفرس والروم إلى العرب. ولا عبرة في التبدل السياسي، وقيام نفوذ الأتراك على أنقاض نفوذ الفرس؛ لأن البحث يدور على التاريخ الأدبي لا على التاريخ السياسي، والحوادث السياسية لا تكون سببًا دائمًا لتطور الآداب. ولكن الذين وضعوا نظام البكالوريا اللبنانية حاولوا أن يجدوا فرقًا بين العصر الأول والثاني، فاختلط عليهم الأمر، فتكلفوا للعصر الثاني خصائص تكاد لا تختلف عن خصائص العصر الأول، فجعلوا ميزة الشعر: «المدح والهجاء والوصف.» مع أن هذه الأنواع اشترك فيها العصران فلم يختلف فيها أحدهما عن الآخر. وليس في زعمهم أن في العصر الأول شعر القصور أو الشعر المترف، ما يدعو إلى تمييز العصر الفارسي من العصر التركي، ففي شعر ابن المعتز والبحتري وابن الرومي من الترف ومدح أصحاب القصور ما في شعر بشار وأبي نواس وأبي تمام.
لذلك نرى أن فصل العصر الثاني عن الأول لا مسوِّغ له. ونحن لم نجعلهما عصرين إلا مجاراة لنظام البكالوريا، ثم لأننا أفردنا لكل عصر لمحة تاريخية خاصة به.
(٢) البحتري ٨٢٠–٨٩٧م/٢٠٥–٢٨٤ﻫ
(٢-١) حياته
وقيل بل كان أبو تمام في مجلس أبي سعيد الطائي، فدخل البحتري وهو يومئذ حديث السن، فأنشد قصيدة امتدح بها أبا سعيد، فحفظ أبو تمام أكثرها وادَّعاها، فصدق أبو سعيد دعواه لمكانته في الشعر، ووبخ البحتري لمدحه إياه بشعر مسروق. فخرج البحتري يجر رجليه. ولكن ما أبعد حتى تبعه الغلمان وردوه، وأقبل عليه أبو تمام وقال له: «الشعر لك يا بني، والله ما قلته قط، ولا سمعت به إلا منك. ولكنني ظننت أنك تهاونت بموضعي، فأقدمت على الإنشاد بحضرتي، من غير معرفة كانت بيننا، تريد مضاهاتي ومكاثرتي. حتى عرَّفني الأمير نسبك وموضعك. ولوددت أن لا تلد طائية إلا مثلك.»
ورويت هذه الحادثة على وجه آخر لم يدع فيه أبو تمام القصيدة، بل اهتز لها طربًا، وقبَّل الغلام الشاعر بين عينيه، وجعل له جائزته، ثم لزمه البحتري واقتدى به وأخذ عنه.
صفاته وأخلاقه
قال صاحب الأغاني: «كان البحتري من أوسخ خلق الله ثوبًا وآلة، وأبخلهم على كل شيء. وكان له أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعًا، فإذا بلغ منهما الجوع أتياه يبكيان، فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقًا مقترًا ويقول: كلا! أجاع الله أكبادكما، وأطال جهادكما!» ا.ﻫ.
على أنه لا يسعنا أن ننقل هذه الرواية إلا في شيء من التحفظ؛ لأن دراستنا لشعر البحتري أطلعتنا على ناحية بيِّنة من حياته وأخلاقه، فأرتنا فيه رجلًا حريصًا على التكسب وجمع المال، حتى إنه وقف شعره على المدح، وتاجر بغلام له فكان يبيعه ثم يشبب به ويمدح من اشتراه، فيستعيده بشعره. وما زال كذلك حتى مات الغلام وكُفي الناس أمره. وقد أفاد البحتري ثروة حسنة من شعره، فجرِّيت عليه الأرزاق، وامتلك الضياع فكان يتعهدها، ويرمُّ خلاتها في كثير من الاعتناء، فلقد كان ممن يتعبدون للمال، ولا يقع لهم فتور عن اكتنازه. ولكنه لم يكن يفتر على نفسه، ويبخل بالنفقة على ملاذه. وهو صاحب لهو ولذة، يشرب الخمرة، ويحضر مجالس الطرب، ويعبث ويفتك ويمجن. على أننا لا نشك في أن البحتري كان بخيلًا على الناس، وأنه صحبهم ليأخذ منهم لا ليعطيهم:
فهذه عاطفة طيبة لا تدل على خساسة ودناءة.
فهذه الأخبار المتناقضة تجعلنا في حيرة من أمر هذا الرجل فنقف موقف الشك بين خيانته ووفائه، لا نقطع بأنه خئون، ولا نقطع بأنه وفي. غير أننا نرجح الجانب الأول؛ ذلك أن البحتري لم يخلص للمتوكل والفتح ابن خاقان ولم يذكرهما بخير بعد موتهما إلا لأنه فقد بهما جنته في الحياة الدنيا، فقد كان يرتع في جنابيهما في بحبوحة من العيش الخضيل، فلما هلكا وأحسَّ بنجم سعوده يغور في إثرهما صرخ صراخ اليائس المستميت، وبكى على حظه في رثائه للمتوكل، ولم يفطن إلى أنه قد عرَّض بنفسه إلى التهلكة في شتمه المنتصر. ولكنه ما ثاب إلى رشده حتى صمت واعتصم بالتقية، ثم سعى إلى استرضاء الخليفة الجديد. غير أنه لبث يذكر المتوكل والفتح في كل سانحة وبارحة؛ لأنه لم يجد بعدهما خليفة ولا وزيرًا يملأ الفراغ الذي أحدثاه في نفسه. ومدح بعدهما طائفة من الخلفاء والأمراء وتكسَّب منهم دون أن يخلص الولاء لأحدهم؛ لأنه كان يتوقع أبدًا تبدل الولاة والملوك، فصاحَبَهم على دخل يمدحهم في عزهم، ويتنكر لهم في نكبتهم، وهو إنما يماشي زمانه في ذلك. وقد وُجد في زمن قل فيه الوفاء وكثر الغدر والرياء. والزمان كأهله وأهله كما ترى.
وليس وفاؤه لأبي سعيد وابنه إلا لأنهما من طيء وكانا يعطفان عليه، ويحسنان صلته، فأحبَّهما حبَّ النسيب لنسيبه، وحب المنتفع لمن ينتفع منه؛ فمدحهما وتعصَّب لهما، ورثاهما أحسن رثاء. وأما وفاؤه لأبي تمام فوفاء التلميذ لأستاذه والقريب لقريبه. ولكن لا نجد له قصيدة في رثائه تظهر قيمة هذا الوفاء إلا بعض أبيات رثى بها دعبلًا وذكره فيها معه.
وفي البحتري خاصة ظاهرة في شعره وهي حب الوطن، فإنه كثيرًا ما يحنُّ إلى منبج وحلب، ويحسب نفسه غريبًا في العراق، مع أن شهرته لم تقم إلا فيه، وثروته لم تجمع إلا هناك.
وكان يتعصب لليمن عمومًا ولطيء خصوصًا، ولكنه لم يكن مفرطًا في تعصبه، وربما لمحت فيه شيئًا من التعاجم؛ لأنه كان مفتونًا بحضارة الفرس، ولأنه وُجد في عصر كانت السيادة فيه للموالي لا للعرب، فضعفت فيه العصبية كما ضعفت في كثيرين من أمثاله.
على أنه كان شديد التعصب للإسلام، وربما نزع إلى التشيع فتسمعه يمدح الطالبيين، ويهجو علي بن الجهم لتعرضه لهم بالهجاء. ولكنه كان يتحفظ ولا يسرف في إظهار تشيعه، وخصوصًا في عهد المتوكل، فإنه لما جاء العراق أراد أن يتكنى بأبي الحسن بدلًا من أبي عبادة ليتشبه بعلماء الشيعة، فرأى من المتوكل كرهًا شديدًا للعلويين فعدل إلى كنيته الأولى، وكتم تشيعه، أو تركه، ولكنه لم يقل هُجرًا في الطالبيين.
آثاره
ديوان شعر أكثره في المدح، وأقله في الهجاء والرثاء. وفي مدحه غزل كثير، ووصف مختلف الوجوه والأنواع. وبقي شعر البحتري متفرقًا حتى جمعه أبو بكر الصولي، ورتَّبه على الحروف. وجمعه علي بن حمزة الأصفهاني ورتبه على الأنواع. وشرحه أبو العلاء المعري، وسماه عبث الوليد. وطبع هذا الديوان بالأستانة في جزءين كبيرين، ثم طبع في بيروت مشكولًا، ومشروحًا بعض ألفاظه. وكلتا الطبعتين لا ترتيب فيهما، وليس لهما فهرست تُعرف به القوافي، وفيهما قصائد مكررة لم ينتبه إليها من جمعها.
وعُني البحتري بالتأليف كأستاذه فجمع كتاب الحماسة معارضة لكتاب أبي تمام، اختاره من أشعار العرب للفتح بن خاقان، وجعله مائة وأربعة وسبعين بابًا، ضمَّنها معظم المعاني الأدبية التي تناولها الشعراء المتقدمون.
وهذه الأبواب على كثرتها صغيرة لا يتجاوز بعضها الصفحة الواحدة. ولم يتقيد فيها البحتري بأبواب الشعر المعروفة، بل نظر فيها إلى الأغراض والمعاني، فجاءت جديدة في نوعها. مثال ذلك: الباب الأول فيما قيل في حمل النفس على المكروه. الباب الخامس عشر: فيما قيل في استطابة الموت عند الحرب. الباب الثاني والستون: فيما قيل في ذم عاقبة البغي والظلم إلخ … وقد خلت من الغزل والفحش والمجون.
وتشتمل حماسة البحتري على أقوال لنحو ستمائة شاعر من الجاهلية وصدر الإسلام، وفيهم نفر أدركوا بني العباس كيحيى بن زياد، وصالح بن عبد القدوس، وبشار، ومطيع بن إياس. وطُبعت في بيروت ومصر. وله أيضًا كتاب معاني الشعر لم يصل إلينا.
(٢-٢) ميزته
البحتري طائر غِرِّيد سبح بأنغامه في أفق علوي، خصب الخيال، متنوع الأصباغ، فأشرف على جلال الطبيعة وجمالها، وحوَّم فوق جبالها ومروجها، وأنهارها وغيطانها، ورفرف على زخارف المدنية وعمرانها، فعلقت جميع هذه الصور بقوادمه وخوافيه، فصبغتها بأشكال من الرسوم والتلاوين.
ولا تقوم شاعرية البحتري على المدح أو الغزل أو الرثاء وإن برع في كثير منها، وإنما تقوم على جمال الفن وانطلاق الخيال، وإتقان الوصف والتصوير. ونحن سنعنى بدراسته من جميع نواحيه حتى تتكشف خصائصه التي يمتاز بها في أنواع الشعر وفنونه.
مدحه
وقف البحتري شعره على المدح لا يلتفت لفن غيره إلا غرارًا، فغير عجيب أن يجيد هذا الفن، ويبرع فيه. وله من أهبته شاعرية فياضة، ونزوع شديد إلى التكسب والاستجداء.
وأدرك البحتري عشرة خلفاء من المأمون إلى المعتضد. ولكنه لم يمدح غير ستة، وهم المتوكل بن المعتصم، والمنتصر بن المتوكل، والمستعين بن المعتصم، والمعتز بن المتوكل، والمهتدي بن الواثق، والمعتمد بن المتوكل. وأكثر مدائحه في المتوكل ثم في ابنه المعتز.
ومدح من الأمراء والوزراء طائفة كبيرة، منهم الفتح بن خاقان وزير المتوكل، والحسن بن مَخلَد وزير المعتمد، وإبراهيم بن المدبِّر من كبار رجال الدولة. وآل سهل، وإسماعيل بن بلبل الشيباني، وأنسباؤه أبو سعيد الثغري وابنه يوسف، وآل حُميد الطوسي وسواهم. وأحسن مدائحه، وأصدقها عاطفة، ما قاله في المتوكل والفتح وأبي سعيد. وهو إذا مدح المتوكل مدح خليفة في عز دولته، وقوَّة سلطانه، لا سيطرة للموالي عليه، كسيطرتهم على من جاء بعده من الخلفاء، فترى الشاعر يمعن في وصف جلال الملك ووقاره. ويشبه المتوكل بالنبي، ويستفيض بذكر تقواه، وتعزيزه للدين، وإقامته أحكام السنَّة. ويجعل له زلفة عند الله، فإذا احتبس المطر استسقى للمسلمين فينهلُّ الغمام:
ويظهر أن المطر احتبس يومذاك فصلى المتوكل صلاة الغيث، ثم أمطرت السماء فجعلها البحتري من كرامات ممدوحه. ويذكر له كرامة أخرى وهي طاعة الوحوش له وسيرها في ركابه:
وقد يعرض لسياسة الخلافة في مدحه المتوكل، فيؤيد حق العباسيين، ولكنه لا يهجو الطالبيين مع علمه بكره الخليفة لهم؛ لأن هواه فيهم، ولم يجاهر بميله إليهم إلا بعد مقتل المتوكل وقيام المنتصر. وكان المنتصر ينكر على والده اضطهاده العلويين، وإذنه للناس بلعن علي، ولطالما عارضه في ذلك فلقي منه التحقير والطرد، فلما مدحه البحتري بعد أن ولي الخلافة، ذكر عطفه على العلويين، وجاهر بتفضيل علي على عمر قال:
ولم يعرض بعد المتوكل لسياسة الخلافة إلا في الندرى؛ ذلك بأنه لم يخلص الحب لخليفة إخلاصه إياه للمتوكل. ثم إنه رأى ضعف الخلائف الذين توالوا بعد المتوكل، فعلم أن من العبث الكلام على سياسة الخلافة بين العباسيين والطالبيين ما دام الأمر فيها للموالي. وأصبح لا يمدح خليفة إلا مدح الموالي معه وازدلف إليهم. ويكثر ذكره لهم في مدح المعتز، ولعله كان يشفق عليه من سطوتهم، أو يخشى على نعمته أن تزول بزواله، وهو قد اتصل به وحظي عنده أكثر منه عند غيره، فإذا مدحه أشاد بذكرهم وجعلهم جند الله لتأييد الخليفة ونصرته، واعتذر عنهم إذا أساءوا إليه أو أثموا:
وضُعف الخلفاء حمله على استنهاض هممهم، فكان يذكِّرهم آباءهم العظام، ويزعم أنهم متشبهون بهم، سائرون على خطاهم، كقوله في مدح المهتدي:
وإذا رأى بادرة عزم من أحدهم تنفَّس الصعداء، وشاقه أن تستعيد عزة الملك سابق عهدها، فنسمعه يقول بعد أن فتك المعتز ببُغا:
والبحتري يصدِّر مدحه على الغالب بالغزل. وقلما عني بحسن التخلص، بل ينتقل وثبًا، ويقتضب اقتضابًا كأستاذه أبي تمام. ولكنه يختلف عنه بأنه أقل غلوًّا منه، وأشد تزلفًا لممدوحه، وأكثر تحدثًا بنعمه. وشعره كشعره حافل بالفوائد التاريخية، ففيه أخبار الوقائع والحروب التي جرت في أيامه، وأخبار الذين خرجوا على العباسيين من علويين وسواهم، وفيه غير ذلك من الحوادث التي تُظهر لنا اضطراب الحالة السياسية في ذاك العصر.
وصفه
والوصف هو الذي رفع منزلة البحتري، وأحلَّه في الطبقة الأولى؛ فقد أوتي من قوة المخيلة وروعة التصور ما جعله يتناول الأشياء المادية فيرسمها بشعره لمحًا، فيخرج لها صورًا دقيقة بارعة الفن. وقد يرتفع عن المرئيات فيمعن في سماء الخيال، ثم يعود بمختلف التصاوير والتهاويل، ملؤها حركة وحياة، فتحسُّ كأنك تسمع جرسها، وترى خطراتها وتلمسها بأناملك العشر.
وكان لنشأة الشاعر في بادية منبج يد في تصفية خياله، فشبَّ على ما يشب عليه أهل البداوة من دقة الحس، وصدق المخيِّلة، ورفَّت عليه منبج بجمالها الطبيعي الذي تغنى به الشعراء، فاستمدَّ منها خياله البديع، ثم زاده ثروة بأسفاره إلى الأمصار المتحضرة، فبهرته المدنية الجديدة بمشاهدة عمرانها، فشغف بها، وصوَّرها أحسن تصوير، كوصفه إيوان كسرى، وبركة المتوكل، وقصر المعتز، ومجالس اللهو والخمر، أو وصفه للمناظر الطبيعية، كدجلة والربيع. حتى إن أوصافه البدوية، على ماديتها الظاهرة وضيق حدودها، وسلوكه في أكثرها مسلك من تقدمه، لا يعدوها جمال الفن ولا سيما قصيدة الذئب.
وصف الإيوان
لم يخبرنا الرواة عن السبب الذي حمل البحتري على السفر إلى المدائن حتى زار قصور الأكاسرة، وطاف بها وبكى عليها. ولكن الشاعر يذكر في مستهل قصيدته أنه شخص إليها وملء فؤاده يأس وتشاؤم، فهو حزين لأنه استبدل العراق بالشام، وهو مثقل بالهموم يشكو جفاء ابن عمه له، فسفره كان إِذَنْ لتفريج الكرب، وللترفيه عن النفس.
وكان الإيوان يوم طاف به الشاعر خرابًا، معرًّى من أثاثه، بعد أن أمر المنصور بهدمه، فأُخذ البحتري بجلال معالمه ورسومه، واجتذبته روعة الفن، فانخطف على أجنحة الخيال، وتمثلت له عظمات الأكاسرة بما عرف من أخبارهم، وشهد من آثارهم. وذكر اليمن وغارة الأحبوش عليها، وانتصار كسرى لها، ورده الملك على أميرها ابن ابن ذي يزن، فأخذ يصف الإيوان، ويتغنى بفضل الفرس الذين أيدوا استقلال بلاده.
ويقف أمام صورة تريك وقعة بين الروم والفرس في مدينة أنطاكية، فيتناولها بالوصف فتحس أن الحياة تدب فيها، ويبدو لك أنك تشاهد التحام الفرسان، ووقع الأسنَّة. وتتمثل كسرى في ثيابه الملونة يسوق الصفوف تحت رايته. وما أنت إلا منجذب مع الشاعر في خياله الجميل:
فقصيدة الإيوان أبلغ مثال لدقة الوصف، وسمو الخيال عند البحتري. وقد أدهش بها معاصريه؛ لأنه فتح بها فتحًا جديدًا في الأدب، وهو البكاء على الممالك الزائلة، ووصف أطلالها الدارسة، فإذا ابن المعتز يقول: «لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى — فليس للعرب سينية مثلها — وقصيدته في وصف البركة لكان أشعر الناس في زمانه.»
غزله
ليس للبحتري غزل قائم بنفسه، وإنما هو في صدور مدائحه، فمنه تقليدي بدوي يترسم به الأقدمين من وقوف وبكاء على الأطلال، ويكثر فيه ذكر أسماء عرائس الشعر كسعاد وأسماء وليلى، وذكر أماكن البدو كنجد وإضم وخَبْت، وهذا النوع لا يطالعك بشيء طريف، ومنه الجديد المترف، وهو الذي تحس فيه نفسية الشاعر، وتلمس عاطفته المتوقدة. وفيه يصف عواطف نفسه وأهواءها، وشجونها وارتياحها، ويصف مواقف اللقاء والوداع، ومجالس اللهو والأنس، والخمرة والحبيب. ويصف استكانته للحب وخضوعه، وإذعانه لمشيئة محبوبه. وقد يتهتك في تشبيبه ولكنه لا يبلغ فيه مبلغ أبي نواس.
وأول ما عرف الحب قلب البحتري يوم تعشَّق عَلوة الحلبية، فأذكت الجذوة الأولى في فؤاده، فأذابت عاطفته على قوافيه. ثم ابتعد عنها إلى العراق، فكان لا يفتر عن ذكرها، والتشبيب بها، والحنين إليها. والظاهر أن علوة هذه كانت فتاة تيَّاهة يلذ لها العبث بقلوب الفتيان، وليس للتصون عندها حظ كبير، لذلك لم يكن حب البحتري لها عذريًّا ولا صلته بها طاهرة، حتى إذا بلغه أنها تزوجت هجاها، وأوجع عرضها، ورماها بكل شائنة. وغزله فيها يظهر لنا حقيقة هذا الحب وبُعده من العفاف.
على أن البحتري لم يقصر حبه على علوة بل أحب أشخاصًا آخرين، احتلوا فؤاده، واشتركت عاطفته فيما بينهم، فذكرهم في شعره وشبَّب بهم جميعًا.
وكأن صاحبنا لم يسعد طالعه بمن يهواهم، فابتلي بالافتراق عنهم، فكان يتشوَّق إليهم، ويتلهَّف على أيام لقائهم، فإذا لجت به الذكريات، وتغلبت عليه الأشواق، تمثلت له أخيلتهم في المنام، فإذا هبَّ من نومه، وكذبت اليقظة الحلم، تضاعف الْتِيَاعه وازداد وجده، فراح يشبب بطيف الحبيب، ويأسى على فراقه، كأنَّ الحلم حقيقة. ولما كثر ذلك منه طارت له شهرة في وصف طيف الخيال.
وغزل البحتري في أكثره لطيف ناعم، يزدان بحسن الوصف، وفيه ما يستأسر القلوب، ويثير العواطف في النفوس.
رثاؤه
كاد البحتري يحصر رثاءه في نسيب يعز عليه فقده، أو صديق يشجوه بُعده؛ فقد رثى المتوكل وكان أحبَّ الخلفاء إليه، ورثى أبا سعيد وابنه يوسف وآل حُمَيْد وجميعهم من أنسبائه، ورثى غلامه قيصر وكان يحبه، وجارية له وكان يهواها؛ لذلك جاء رثاؤه على قلَّته عاطفيًّا صادق التفجع.
على أنه لم يرث الفتح بن خاقان مع حبه له وحزنه على موته، فقد ثاب إليه رشده بعد رثائه المتوكل، فشعر بالخطر المحدق به فلم يجرؤ على رثاء الفتح؛ لأن المنتصر ادعى، بعدما بويع بالخلافة، أن الفتح قتل المتوكل، وأنه قتل الفتح ثأرا لأبيه.
وليس للبحتري غير مرثاة واحدة في المتوكل، ولكنه ظل يذكره ويذكر الفتح في سوانح شعره، ويتلهَّف على أيامهما. ولم يرثِ خليفة غيره، مع أنه شهد مقتل جماعة منهم كان متصلًا بهم يمدحهم؛ ذلك بأنه لم يخلص الحب لخليفة بعد المتوكل ولم يشأ أن يستهدف لغضب الموالي وولاة العهد، وهو يعلم أن أكثر الخلفاء الذين ماتوا في زمنه قتلوا إما بسيوف الأتراك، وإما بمكيدة يشترك فيها ولي العهد.
وأكثر مراثي البحتري يتخللها المدح، ولا سيما ما جاء في رثاء الأمراء الذين يفيد منهم، فإنه يبكي الميت ويتفجع عليه، ثم يفرغ إلى تعزية ولده أو بعض أهله فيمعن في مدحهم، فكأنه يوطئ من رثائه سبيلًا للاتصال بهم؛ فقد رثى نسيبه أبا سعيد رثاءً صادقًا لا شك فيه، ولكنه مدح في القصيدة نفسها ولده يوسف؛ ورثى وصيفًا القائد التركي، ومدح في المرثاة ولده صالحًا؛ وتجد له مديحًا في محمد بن عبد الله بن طاهر أدمجه في رثائه لأخيه طاهر وعمه الحسين.
ويستهل مراثيه على الغالب بتعظيم الخَطب وإكباره، وذم الدهر والتوجع من صروفه ونوائبه. ومما يؤخذ عليه في رثاء النساء أن المرأة مضعوفة عنده، فهو يرى فيها رأي الفرزدق زاعمًا أنها أهون ميت على الرجل، وأن البكاء عليها عيب وغضاضة. ولعله يتكلم بلسان عصره، فإن المرأة كانت يومئذ ذليلة الجانب، محتقَرة المكان، فمن ذلك قوله يعزي نسيبه أبا نهشل الطُّوسي عن ابنة افترطها:
وقوله مستندًا إلى حديث لا ندري مبلغ صحته:
عتابه
برع البحتري في العتاب، وأحسن في اللوم والاسترضاء، حتى قال صاحب العمدة: «وأحسن الناس طريقًا في عتاب الأشراف شيخ الصناعة وسيد الجماعة أبو عبادة البحتري.» ويمتاز عتابه في نعومته وتلطفه، فإنه يؤنب قليلًا، ويسترضي كثيرًا، ويلوم ولا يهدد. وإذا هدد لا يغلظ ولا يتبغض.
فخره
وله في الفخر أشياء حسنة. وأكثر مفاخره بشعره، ثم بقومه بني طيء، وربما افتخر على أنسبائه إذا لحقته جفوة منهم، فيؤنِّبهم، ويتسامى عليهم ليظهر أن حياته فخر لهم، فمن ذلك قوله من قصيدة:
حِكَمه
وله بضاعة قليلة في الحكم لأنها ليست من طلباته، فهو يرى أن الشعر لم يُخلق للمنطق، وفي ذلك يرد على بعض لائميه:
ونشأته البدوية هي التي جعلته لا يأنس بالأدلة العقلية والتفكير المنطقي، ولا يرى خيرًا في الشعر إلا إذا انطلق من هذه الأغلال محمولًا على أجنحة الخيال الحر الفسيح، فجاءت حكمه على قلتها ساذجة مشتركة التفكير، تدور معانيها على ألسنة الناس، وأكثرها في شكوى الزمان.
هجاؤه
على أن هذا التمحل لا يستر ضعف البحتري وتقصيره عن ابن الرومي في الهجو. وكان ابن الرومي يعرف ذلك فيه، فقد ذكر المَرزُباني في موشحه أنهما اجتمعا مرة، وكان اجتماعهما سببًا للمودة بينهما، فقال البحتري: «عزمت على أن أعمل قصيدة في الهجاء.» فقال له ابن الرومي: «إياك والهجاء يا أبا عبادة، فليس من عملك وهو من عملي.» فقال له: «نتعاون.» وعمل البحتري ثلاثة أبيات، وعمل ابن الرومي ثمانية، فلم يلحقه في صنعه.
ولكن البحتري كان يهاجم الشعراء المغمورين فيهجوهم غير خائف شرهم. وصب أكثر هجائه على الطبقة العالية من الناس، حتى إنه هجا أربعين رئيسًا من الذين مدحهم وأخذ جوائزهم؛ منهم خلفاء ووزراء وقواد وكتَّاب وقضاة وولاة ومن جرى مجراهم من الكبراء.
وهو في هجائه فاحش متعهِّر، بذيء الألفاظ، يجعل مهجوِّيه على الغالب مخنثين فاقدي النخوة والحياء. ولم يجد له صاحب الأغاني غير قصيدتين جيدتين في الهجو إحداهما في أبي قماش، والثانية في يعقوب بن الفرج النصراني. والأولى فيها شيء من مذهبه في الوصف والتصوير، ولكنها لا تجعل منه شاعرًا هجَّاءً على كل حال.
ما أُدرك عليه
قال الآمدي في موازنته بين الطائيين: «وما رأيت شيئًا مما عِيب به أبو تمام إلا وجدت في شعر البحتري مثله. إلا أنه في شعر أبي تمام كثير، وفي شعر البحتري قليل.» وقد صدق الآمدي، وإن يكن تعصبه على أبي تمام لا يحتاج إلى دليل، فالبحتري وقع في مثل ما وقع فيه أستاذه، فروي له شعر مسروق جعله ابن أبي طاهر ستمائة بيت منها مائة مسروقة من شعر أبي تمام. وسواء صح هذا العدد كله أو بعضه فالأستاذ فاق بالسرقة تلميذه. وخصوصًا إذا نظرنا إلى ما ترك أبو عبادة من الشعر الكثير الذي يبلغ ضعفي شعر أبي تمام، ثم إلى المعاني المشتركة التي سَرَّقوهُ إياها وهي لا يستقل بها شاعر دون آخر، فمما أخذه من أبي تمام وحسَّنَه قوله:
وقال أبو تمام:
وقوله وقصر فيه عن أستاذه:
وقال أبو تمام:
وأُدرك عليه معانٍ لم يوفق في استخراجها. فمنها ما كان ضعيف المدلول. ومنها ما خالف فيه أدب الشعر كقوله يمدح المعتز بالله:
وهذا على رأي الآمدي من أهجن ما مدح به خليفة وأقبحه. ومن ذا يعنف الخليفة أو يصده؟ إن هذا بالهجو أولى منه بالمدح.
وهو كأستاذه يحتذي مثال الأقدمين في إشباع الحركات حتى يخرج منها حرف لين، وهذا الزحاف نفر منه جمهور الشعراء المولَّدين، وإن أجازه أصحاب العَروض. على أن البحتري لم يتورط فيه تورط أبي تمام.
ولا يخلو شعره من أبيات فيها ضعف وإسفاف. وقد تمر بألفاظ تنكر عليها الفصاحة، وتعجب أن يكون البحتري صاحبها، فمن ذلك استعماله فعل اختشى، وهذا غير مسموع، كقوله في مدح ابن الفيَّاض:
ويمكننا أن نعزو هذه الأشياء إلى إكثاره من النظم، ثم إلى اختلاف الروايات فإنها حملت عليه أقوالًا منحولة، فنسبت إليه على براءته منها.
ومهما يكن من شيء فإن الذي أُدرك على البحتري يكاد لا يذكر بالإضافة إلى غزارة شعره.
(٢-٣) منزلته
نُسِبَ إلى أبي العلاء المعري أنه قال: «أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري.» ومنهم من يضيف هذا القول إلى المتنبي نفسه فيزعم أنه قال: «أنا وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري.» وكلا الأمرين عندنا مشكوك فيه؛ لأنه إما مخالف لعقيدة أبي العلاء في شاعرية أبي الطيب وقد كان يسميه وحده الشاعر ويسمي غيره من الشعراء باسمه كما قال ابن الأثير، وإما مخالف لعقيدة أبي الطيب وإيمانه القوي بشعره. على أن البحتري أصح من أبي تمام طبعًا، وأقلُّ تكلفًا، وأوضح الثلاثة ديباجة، وأكثرهم انسجامًا، وأسلمهم من الغموض والتعقيد؛ ذلك بأن نشأته البدوية جعلته لا يحتفل بالمعاني الفلسفية والأدلة العقلية، ولا يتورط في التزام البديع؛ لأنه يخالف أذواق أهل البادية المطبوعين على الشعر. ولا يسرف في طلب الغريب؛ لأن معرفته ليست فضيلة عند البدو كما هي فضيلة عند الحضر. فكل بدوي يعرف الغريب، ولا يعرفه كل حضري؛ لذلك كان البحتري يحذفه وينفيه عن شعره ليقربه من أفهام ممدوحيه إلا أن يأتيه طبعه باللفظة بعد اللفظة في موضعها من غير طلب لها، فأوتي ديباجة رائقة، قلما ظفر شاعر بمثلها حتى ضُرب المثل بها فقيل ديباجة بحترية، وشُبه شعره لأجلها بسلاسل الذهب؛ لتناسقه، وتماسكه، ورونقه، وحسن انسجامه. واتُّخذ طرازًا أعلى للطريقة الشامية التي شغف بها الصاحب بن عباد، وحث الناس على رواية أشعار أصحابها. وكأنما شعره وضع للغناء؛ لما فيه من إيقاع وترجيع، ومزاوجة ألفاظ ومطابقتها، ثم لما فيه من الطراوة والرقة، والبعد من التداخل، على خفة في المعنى وقرب متناوله.
وكان إذا تشبه بأستاذه فطلب المجاز والبديع يحسن اختيار الألفاظ وتأليفها، ويجعل استعاراته وتمثيلاته، وجناساته ومطابقاته، نازلة في منازلها، لا تستخدم المعنى، وإنما تزيده تصويرًا ورونقًا. وكأن وصية أبي تمام له أثَّرت فيه أحسن تأثير فاهتدى بهديها، فأنقذ شعره من الشوائب التي علقت بشعر أستاذه، فإذا هو كما أوصاه: «يتقاضى المعاني، ويحذر المجهول منها، ولا يشين شعره بالألفاظ الزرية.» وشهد له أبو تمام فقال: «أنت أمير الشعراء بعدي.»
ويرى طائفة من أهل الأدب أنه لم يأتِ بعد أبي نواس من هو أشعر من البحتري، ولا بعد البحتري من هو أطبع منه على الشعر. وذكر الآمدي في موازنته أن أبا عبادة قد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر وذهب بخبرهم، وانفرد بأخذ جوائز الخلفاء دونهم.
وإذا صح أن إنشاء الأديب صورة لنفسه، فشعر البحتري بما فيه من ديباجة رائعة، وخيال جميل، وغزل لطيف، يجعلنا نشك في ما يزعمه بعض الرواة من أنه كان وسخًا بغيضًا، فأناقة عباراته لا تدل على قذارة آلته، ورقة ألفاظه ولطف معانيه لا يلائم غلاظة طباعه.
وما أدراك أن أولئك الذين شنَّعوا عليه كانوا من خصومه، فأرادوا إسقاطه ليفضلوا صاحبهم أبا تمام، ونحن نرى غيرهم من الرواة لا يصفونه بمثل هذه الأوصاف، بل ينعتونه بحسن الخلال. ومهما يكن الأمر فشعر البحتري يجعل صاحبه محببًا إلى النفوس، ولا يرسم لنا تلك الصور الممقوتة التي يرينا إياها بعض الرواة.
والخلاصة أن البحتري يتحلى بجمال الديباجة، وبراعة الوصف والتصوير، ولا سيما وصف الطبيعة ومظاهر العمران، يسمو به خيال لطيف، يسبح في سماء صافية الأديم، معطَّرة الأرجاء، عليلة النسيم. وهو زعيم الطريقة الشامية، وفي طليعة من قال مدحًا في خلافة العباسيين، ومنزلته في الطبقة الأولى بين الشعراء المولَّدين.
(٣) ابن الرومي ٨٣٥–٨٩٦م/٢٢١–٢٨٣ﻫ (؟)
(٣-١) حياته
ويزيد ابن خلكان على هذه الرواية قوله: «فلما أكلها أحسَّ بالسم فقام؛ فقال له الوزير: «إلى أين تذهب؟» فقال: «إلى الموضع الذي بعثتني إليه.» فقال له: «سلِّم لي على والدي.» فقال له: «ما طريقي على النار.» وخرج من مجلسه وأتى منزله، وأقام أيامًا ومات.» ا.ﻫ.
ولكن هذا القول مضعوف بدليل أن والد القاسم مات بعد ابن الرومي ببضع سنوات، فلا معنى لقول القاسم: «سلم على والدي.» ويؤيد ذلك رواية لابن رشيق في العمدة تطلعنا على أن عبيد الله أبا القاسم هو الذي أوعز إلى ولده بأن يتخلص من الشاعر؛ لأن لسانه أطول من عقله.
ولئن بخس المؤرخون حق ابن الرومي فلم يعنوا بجمع أخباره فقد كان الشاعر أحرص منهم على ذلك، فجاء شعره تاريخًا صادقًا لحياته، وصورة ناطقة بأخلاقه وصفاته، فإذا أردت حقيقة نسبه فهو رومي من ناحية أبيه، وفارسي من ناحية أمه:
وإذا أردت ولاءه فهو عباسي:
ويخبرنا في شعره أنه عاش فقيًرا ضيق العيش:
يستجدي الكساء ليقيه قُرَّ الشتاء، فيماطل حتى يخشى أن يأتي الصيف قبل أن يُعْطَى بغيته فيقول:
وتركبه الديون فيتذمر على الوزير ويشكو إليه:
ويستعطي درهمين من كل صديق ليسد عوزه:
ولكن أصحابه كانوا يعرضون عنه أكثر الأحيان، ولا يلبون نداءه، فيعاتب ويؤنب ويهجو.
على أن الشاعر لم يعش طول حياته معدمًا محرومًا، فقد كانت تمر به أوقات يلهو بها وينعم، ثم لا تلبث أن تمضي سراعًا، فيعود إليه بؤسه. وكان له ضيعة فخانه الحظ فيها، ولم تُجدِه فتيلًا:
وجمع ثروة فالتهمت منها النيران:
وكان له دار فاضطره بعضهم إلى بيعها:
وتملَّك دارًا أخرى فغصبته إياها امرأة فراح يتظلم إلى الوزير القاسم:
فكل ذلك يدل على أن الشاعر عاش مضعوفًا مهينًا، وحالفه الشقاء ونكد الطالع، فلم يبتسم له الدهر إلا ساخرًا منه؛ فقد لقي من الناس تحرشًا وشرًّا، وخذله أصدقاؤه وابتعدوا عنه، وأقصاه الملوك ولم يقربوه؛ فعاش خاملًا، مضطهدًا، متنقَّصًا، ضيِّق الرزق، كثير العوز، وأصيب بأولاده الثلاثة وامرأته وأمه وأخيه، فمات وهو على أشد ما يكون من البؤس والتطير.
واختُلف في تاريخ موته، فقيل إنه كان سنة ٢٨٢ﻫ، وقيل سنة ٢٨٣، وقيل بل سنة ٢٧٦. ولكن ابن الرومي يخبرنا في شعره أنه بلغ الستين:
فبلوغه الستين ينفي قول من زعموا أنه مات سنة ٢٧٦، ويؤيد التاريخين الآخرين؛ لأنه لا خلاف في تاريخ ولادته، فوفاته إذن بين السنة الثالثة والثمانين والرابعة والثمانين بعد المائتين، فيكون قد أدرك تسعة خلفاء أولهم المعتصم وآخرهم المعتضد، ولكنه لم يتصل بواحد منهم.
صفاته وأخلاقه
يصف ابن الرومي نفسه في عدة مواضع من شعره، فيرينا أنه كان في صباه جميل الوجه، أبيض اللون، أسود الشعر، حسن القامة معدولها. ولكنَّ هذا الجمال لم يلبث أن خبا نوره؛ لاستهتاره بالملذات، فاصفرَّ وجهه وتجعَّد، وتقوَّس ظهره، وضعف سمعه وبصره، ووهنت قواه، ونحل جسمه واستدقَّ:
•••
•••
•••
وعلا رأسَه المشيبُ وله من العمر إحدى وعشرون سنة. وأصيب بالصلع، فاتَّهم عمامته، ولكنه أبى خلعها لتستر صُلعته:
•••
وكان مضطرب المشية يهتز كالغربال في يد المغربل:
وهو إلى ذلك دقيق الحس، عصبي المزاج، تغلب عليه السوداء، فيثور، ويشتد غضبه ويسلط لسانه إذا عبث به عابث، ولكنه سريع الرضا، صفوح إذا استُرضي. وكان يحب الحياة ويتعشَّقها مع ما لقي فيها من بؤس وشقاء. والحياة عنده لذة يتطلبها ويستمتع بها. واللذة عنده شهوة إلى الجمال يتبعه أينما بدا له، فيستعذبه في وجوه المِلاح، وفي أصوات المغنين والقيان، وفي الطبيعة وما عليها من صور وألوان. واللذة عنده شهوة إلى المآدب، فهو منهوم لا يشبع من طعام وفواكه وشراب.
وطلبه لهذه الملذات على فقره وحرمانه جعله يحسد كل ذي نعمة، فيتمناها لنفسه، ويستكثرها في صاحبها، وجعله يلحف في السؤال، ويعاتب ويتذلل حتى يتبغَّض.
وكان على حبه للتكسب يجبن عن إدراك رزقه، فقد يدعوه بعض الأمراء فما يجرؤ أن يصير إليه؛ لأنه يخشى الأسفار ويخيفه البر والبحر والصيف والشتاء، فهو موسوس ضعيف العقل، متشائم، متطير.
وزاده طيرة ما ناله من الأرزاء والمحن، فأصبح يتوهم النحس توهمًا، ويتمثله في تصحيف الأسماء وقلبها وتحليلها، وفي صور الأشخاص، وأشكال الأشياء، حتى بات الناس يضحكون منه، ويعابثونه، فيهجوهم، ويثخن في أعراضهم ويسخر منهم، وهم يمعنون في نكايته ولا يبالون. ذكر صاحب معاهد التنصيص: «أن أصحابه كانوا يرسلون إليه من يتطير من اسمه فلا يخرج من بيته أصلًا، ويمتنع من التصرف سائر يومه. وأرسل إليه بعض أصحابه غلامًا حسن الصورة اسمه حسن، فطرق الباب عليه، فقال: «من؟» قال: «حسن.» فتفاءل به وخرج، وإذا على باب داره حانوت خياط قد صلب عليها درفتين كهيئة اللام ألف. ورأى تحتها نوى تمر فتطيَّر وقال: «هذا يشير بأن لا تمرَّ.» ورجع ولم يذهب معه. وكان الأخفش الأصغر علي بن سليمان يقرع عليه الباب إذا أصبح، فإذا قال: «من القارع؟» قال: «مرة بن حنظلة» ونحو ذلك من الأسماء التي يتطير بذكرها، فيحبس نفسه في بيته، ولا يخرج يومه أجمع.» ا.ﻫ. وأخبار ابن الرومي في الطيرة كثيرة نكتفي بما ذكرنا منها للدلالة على وسوسته وجبنه واختلاط عقله.
ومن صفاته الحسنة أنه كان صادق المودة لأصحابه، محبًّا لأولاده وأهله، عطوفًا على الفقراء والمساكين.
آثاره
وبقي شعره متفرقًا في كتب الأدب حتى قام بعض الأدباء في مصر، فعنوا بطبعه ونشره. وعني بدراسته جماعة، منهم عباس محمود العقاد فإنه وضع كتابًا خاصًّا به، فهذا الشاعر الذي أهمله عصره، وتنكر له أبناء زمانه، عُرِفَ قدره بعد موته فدونت أشعاره، وجمعت أخباره. ونبشت آثاره فإذا هي عنوان العبقرية والنبوغ.
ولابن الرومي بقايا في النثر منها رسائل صغيرة إلى الوزير القاسم وإلى بعض أصدقائه، ومنها نبذة في تفضيل النرجس. ونثره حسن الأسلوب يجري به مع بلغاء الكتَّاب. وكان يفتخر بنثره كما يفتخر بشعره مشبهًا نفسه بالأخطل والجاحظ:
(٣-٢) ميزته
هذا شاعر حاول التكسب بشعره فلم يفلج سهمه، وقلَّت حظوته فما أتيح له أن يرضي ممدوحيه فيرضوه، فعاتبهم واستعتبهم، فما أجداه العتاب، ولا أعطي العتبى، فسخط وهجا، وانتقم أخبث انتقام.
هذا شاعر تنكر له الدهر، وقعد به الجَدُّ، وأزرى به معاصروه، وصفرت كفه، فقادته مضاضة الفقر إلى ذل السؤال، فألح وألحف، فنهر ورُدَّ، وليس للملحف غير الرد.
هذا شاعر أحب الحياة ونعيمها، فتهالك على شهواتها وملاذها، فأذاقه الله لباس الجوع، فإذا هو منهوم لا يشبع، يرى الدنيا وما فيها لذة واستمتاعًا.
هذا شاعر كتب الشقاء له في لوح الأقدار، فقد ارتزق فلم يُرزق. واشتهى فحُرم. وأحب فنُبذ. وطلب الراحة في ظل عيلته، فمات أولاده، وماتت زوجه، ومات أخوه، وماتت أمه. وغُصبت داره. وبقي وحده حيًّا يشقى، فتشاءم وتطير، فسخر الناس به، وقالوا: مجنون موسوس. وقد صدقوا، فابن الرومي لم يسلم من اختلاط في عقله يرفده الشقاء، وتشده الخيبة. ولكن الشاعر مدين بعبقريته لجنونه وشقائه وخيبته؛ فلو لم يطَّرِحْه الناس، وينكروا عليه غرابة أطواره، ولو لم يخفق ويتعس ويتألم، لشغل شعره بالمديح وما يشبه المديح، ولما جاءنا بهذه الآيات البينات التي صور بها عواطف نفسه، وأخلاق أهل زمانه، وصور الأشياء التي رغب فيها وأحبها وظل طوال عمره يشتهيها، والأشياء التي كرهها ونفر منها وتطير.
مدحه
لم يمدح ابن الرومي من الخلفاء الذين عاصرهم غير المعتضد، وليس له فيه شيء يعتد به؛ لأنه لم يحظَ عنده، ولكنه مدح جماعة من الوزراء والأمراء، فوفق لشيء من الإجادة. وأشهر ممدوحيه إسماعيل بن بلبل وزير المعتمد، ومحمد بن عبد الله بن طاهر صاحب شرطة بغداد وأمير خراسان، وأخوه عبيد الله بن طاهر، وكانت له ولاية الشرطة بعد أخيه، والقاسم بن عبيد الله الوهبي وزير المعتضد.
على أن مدائحه فيهم لم تكن لتغنيه من فقر؛ لأنهم لم يحسنوا صلاته، ولم يقربوا مكانه، وربما أقصوه عنهم أو سمعوا شعره دون أن يجيزوه عليه. وغير عجيب أن يخفق عندهم، وهو على اضطراب عقله، وضيق أخلاقه، وسلاطة لسانه، وسوء تصرفه في مصاحبة الناس، لا يصلح للمجالس فيتخذ نديمًا. وكان إلى هذا شديد الإلحاف، فتبرموا به وحرموه، فآلمه ذلك لأمرين: أحدهما حاجته إلى المال، والآخر ذهاب شعره ضياعًا؛ فإنه كان مفتونًا بلذة الحياة ونعيمها فلم يقدَّر له من الرزق ما يشبع به شهواته، وكان حريصًا على شاعريته فأمضَّه أن يبخس حقها، فكثر عتابه لممدوحيه، وأرهقهم بالسؤال والاستعطاف حينًا، وبالتأنيب والتهديد آخر. وقد يعتد بنفسه فيطلب أن يكون نديمًا لهم يحضر مجالس اللهو معهم، أو كاتبًا في دواوينهم تُستودع عنده أسرارهم، فيرتد خائبًا مزبونًا، يتظلم ويشكو.
وكيف يفلح شاعر مثله، وهو لا يحسن المدح إلا إذا سأل وعاتب وهدد. ولم يكن له من ظرف اللسان، وحميد المخالقة، ورجحان العقل ما يحببه إلى الأُمراء فيرغبوا في مجالسته ومنادمته. وكانت طيرته عونًا عليه، فازداد بها بؤسًا وخيبة؛ لأن وسواس عقله جعله جبانًا قلق النفس، مروَّع الفؤاد يتخوَّف أشياء يتوهمها توهمًا، فإذا دعاه أمير أن يتجشم إليه السفر ليسمع شعره ويثيبه، أبى أن يذهب خوفًا من مشاق البرِّ وغرق البحر، وطلب إليه أن يجيزه دون أن يركبه هذا المركب الخشن. ولعل معاصرته للبحتري أضرت به، وغمرته عند الأمراء؛ لأنه مدح أكثر الذين مدحهم أبو عبادة، فلم يحفلوا به ولا التفتوا لفته، مع أنهم أكرموا البحتري وخصوه بسني الجوائز. ويرجع ذلك إلى أن الوليد أبرع منه في المدح، وأرصن في المجالس وأعقل، وأحسن تصرفًا في استرضاء ممدوحيه.
هجوه
لابن الرومي شهرة في الهجاء لا تتقدمها شهرة دعبل وبشار. ويفوقهما بما امتاز فيه من دقة التصوير، فإن هجاءه لا يقتصر على القذف والطعن والسخر، بل يتعداه إلى وصف أخلاق المهجوِّ، وتصوير أشكاله حتى يبرزه مُثلةً شوهاء مضحكة.
وبواعث الهجاء عند الشاعر كثيرة، فمنها أنه كان محرومًا يستجدي فلا يُعطَى إلا القليل، فيغضب ويهجو من يمنعون صلتهم عنه. ومنها أنه كان يحسد ذوي النعمة الذين يتمتعون بملاذ الحياة دونه فيهجوهم. ومنها أن الناس كانوا يعلمون ضيق أخلاقه، وغرابة أطواره، فيعبثون به ويضايقونه، ويعيبون شعره وينتقدونه، فيثور ثائره ويهجوهم. ومنها أنه كان دقيق الحس ينفر من الأشياء التي لا تلائم طبعه، ولا يستاغها ذوقه، فيذمها كما في هجائه لصاحب اللحية الطويلة، والغناء القبيح. ومنها أنه كان شديد الطيرة يتوهم النحس في الأشخاص والأسماء والعاهات والعيوب، فهجا كل شيء يتطير منه. ومنها أنه كان شرهًا منهومًا لا يصبر عن الطعام، فإذا جاء رمضان تضايق من الصوم فهجاه. ومنها أنه كان يتشيع للعلويين مع ولائه في بني العباس، فهجا العباسيين وأفحش فيهم لما رأى ما أصاب الطالبيين من التنكيل.
رثاؤه
لم يكن ابن الرومي حظيظًا عند الملوك فيتخذ الرثاء آلة للتكسب؛ لذلك قلت مراثيه، وليس له منها ما يستحق الذكر إلا الذي قاله في أولاده وزوجه وأمه وأخيه، وإلا الذي قاله في بستان المغنية وكان يهواها، وفي أبي الحسين يحيى بن عمر الطالبي؛ لأنه كان يتشيع للعلويين، فساءه أن يفتك به العباسيون وكان قد ثار بهم، فبكى عليه وهجا بني العباس وآل طاهر أعوانهم على قتله. والذي قاله في بكائه على البصرة لما دخلها الزنج سنة ٢٥٧ﻫ/٨٧٠م وأحرقوها ومثَّلوا بأهلها، فقد راعه ما دهاها وهي منبت العلماء والأدباء، وعكاظ الإسلام، فرثاها والِهًا وصوَّر خرابها أبرع تصوير.
وابن الرومي شديد التفجع على الميت إذا كان عزيزًا عليه، ولا غرو فإنه من طبيعته ضعيف الإرادة، قوي العاطفة، دقيق الإحساس، مضطرب العقل، فأخلق به أن يغلب عليه الجزع إذا رُزِئَ بمن يحبه، فيتأجج بركانًا عاطفيًّا ينفث نيرانه عن نفس يصهرها الحزن، ويضغطها التطير، ويحفزها تتابع النكبات، فتنفجر بالبكاء والأنين. وأحسن مراثيه قصيدته في ولده الأوسط واسمه محمد، وقد مات منزوفًا وهو لم يزل طفلًا، فهي من أفجع ما قال والد في رثاء ولد، وهي تصور جزع الشاعر أدق تصوير، وتخرج مشهدًا تامًّا عن حياة طفله ومرضه وذبوله وموته.
وابن الرومي على تفجعه لا يرثي فقيده غير مرة. وقلما جاوزها إلى المرتين أو الثلاث شأنه في رثاء أمه وامرأته؛ مما يدل على أن الحزن لا يلح عليه طويلًا، وإنما تحرقه الجمرة ساعة سقوطها، ثم لا تلبث أن تنطفئ فينسى أو يتناسى. ولعل هذا راجع إلى تقلب طباعه، واضطراب مزاجه، وسرعة تنقله من حال إلى حال، أو راجع إلى توالي المصائب عليه، فإن حرمانه وخسرانه، ثم موت أمه وأخيه، ثم موت أولاده وزوجه لا بد أن يجعل في نفسه شيئًا من الاستسلام والقنوط، فيصبح وهو أليف الأرزاء والتطير، يتوقع كل يوم رزءًا جديدًا، فينسى الماضي لاشتغال فكره بتنظر الآتي.
غزله
كان ابن الرومي تِبْع جمال يجري وراءه طلبًا للذة فهي عنده زينة الحياة الدنيا، ولا بهجة للحياة بدونها، فأفرغ ماء شبابه على أشواك شهواته. وما راعه إلا بارقة البياض تلوح بمفرقه، فبكى على الصبَى وتلهَّف، وذم المشيب وهجاه. وهو لم يأسف على فراق الشباب إلا لأنه سيفارق اللذة بعده. وما كان ليحب ويعشق لولا التهالك على اللذة والاستمتاع. ومثل هذا الحب تغمره المادة، وتسيطر فيه على الروح فينحط بصاحبه إلى الدنايا، ويجعل المرأة أداة للهو والتسلية، ويهبط بها عن عرشها السامي الذي رفعه الله لتوضع عليه.
وصاحب هذا الحب لا يتعشَّق شخصًا واحدًا فيقف فؤاده على حبه، وإنما لذته في التنقل، فكلما بدا له وجه جميل افتتن به، وجدَّ في أثره. وهيهات أن يطمئن إلى معاشرة الحرائر المحصنات، أو يكتفي بزوج أمينة وديعة يسكن إليها، ويغض طرفه عن سواها، فابن الرومي بقي مدة طويلة لا يأنس بالحياة الزوجية، ولا يتغزل إلا بالقيان والغلمان، ولا يجد اللذة إلا في مكانس الريب وحوانيت الخمَّارين، حتى نفدت قواه أو كادت، فتزوج، وكان زواجه في أواخر كهولته، فرزق أولادًا ضعاف البنية، فلم تُكتب لهم الحياة.
وليس لشاعرنا غزل كثير على شدة شغفه بالجمال؛ لأن الحب لا يؤثر في نفس طالب اللذة تأثيره في نفوس المتيَّمين، ولا يمتزج بها إلا أوقاتًا معلومة يموت في خلالها حينًا ثم ينبعث ويحيا، ثم يموت. ويغلب على غزل ابن الرومي وصف القينة والساقي ومجلس لهوه، وتجد هذا الغزل في صدر أهاجيه كما تجده في صدر مدائحه.
وهو في تهافته على اللذة لا يُشفى فؤاده إلا إذا استوعبها من أقصى قراراتها، فيودُّ لو أنه يستغرق في ذات من يهواه فتمتزج روحه بروحه، حتى لتظنه من أصحاب مذهب الاتصال الذين يزعمون أنهم يستغرقون في ذات الله سبحانه وتعالى عما يأفكون:
وصفه
والوصف عند ابن الرومي أخص ميزة يُعرف بها، فهو من أي النواحي أتيته تجده وصَّافًا بارعًا ومصوِّرًا دقيقًا. وفي شعره أوصاف جديدة لم يسبقه إليها شاعر، استمدها من حياته وتأثرات نفسه، فإنه لتطيره من المناظر القبيحة كان يتعشَّق الجمال على اختلاف مظاهره واتساع معانيه، فأحب الطبيعة ولا سيما طبيعة الربيع، فاتصل بها وجعل منها شخصًا حيًّا، مازجًا شعوره بشعورها، وأُغرم بجمالها كما أغرم بالوجه المليح، فأصبح إذا وصفها شبهها بالمرأة، وإذا وصف المرأة شبهها بالطبيعة، فمن ذلك قوله يصف الأرض في الربيع:
وكان يحب الصوت الجميل ومجالس اللهو، فوصف القينة وغناءها، والساقي وكأسه، والخمرة وآنيتها. وله براعة في نعت الصوت الحسن تدل على صحة شعوره بالفن كوصفه للقينة وحيد.
وكان له من شراهته وحرمانه ما ضاعف نهمته إلى المآدب. وأوتي معدة خبيثة لا تشبع ولا ترتوي. ولم يخطئ نعتها إذ قال فيها متلهِّفًا على أكلة:
ولهذا أكثر من ذكر أنواع الطعام والشراب. وهو أول شاعر — فيما نعهد — عني بوصف السمك والفراريج والبيض والقطائف والزلابية والمشمش والموز والعنب وغير ذلك من المآكل.
وهو لدقة إحساسه قوي الشعور بالشيء يستكرهه، كما أنه قوي الشعور بالشيء يستحسنه. وكان له من تطيره وضعف عقله ما جعله يكره أو يتخوف الأشياء التي يجفو عنها طبعه، ولا يستاغها ذوقه ومزاجه، فيهجوها ويصفها فعله بالأحدب وصاحب اللحية الطويلة، وسفر البر والبحر، والقينة شُنْطُفُ، والمغني دبس لأنه استقبح صوتهما. وفِعْلَه بنفسه بعد أن شاب، وضعفت قواه، وشحب لونه، فقد أكثر من وصف مشيبه والبكاء على شبابه؛ لأنه فقد بهما لذة الحياة.
وضيق ذات يده جعله يستفيض في وصف فاقته. وقد جره فقره إلى حسد الأغنياء، فهجاهم ووصف ترفهم كما في قصيدته التي هجا بها الكتَّاب المتنعمين بأموال الدولة.
وتنكر له الناس، وعبثوا به، فحقد عليهم، ورأى الخير في الحقد فمدحه وبيَّن منافعه. وهجا الناس، ومزق أعراضهم، فحقدوا عليه، فرأى الشر في الحقد، فذمه وأظهر مساوئه وأضراره. وصوَّر أخلاق الحَقود أدق تصوير.
وكان له من حياة الزهاد تعزية وسلوى في حرمانه، وتوالي الخطوب عليه، فوصف معيشتهم وتعبدهم ولكن نفسه التي استعبدتها الشهوات لم تكن لترتاح إلى حياة المتزهدين، فتتنسك مثلهم.
ولزم بغداد فما استطاع البُعد عنها إلا غرارًا، فإذا فارقها حنَّ إليها، وصوَّر ذكرياته فيها أبدع تصوير:
ووصف الصيد كغيره من الشعراء المولَّدين، ولكنه لم يلتزم له بحر الرجز، ولا أمعن في الغريب مثلهم.
ويمتاز وصفه في الاسترسال والتبسط، ودقة النظر، فإنه حريص على إظهار الأشياء دقيقها وجليلها، متفنِّن في إبرازها وتصويرها، سواء عليه أبِتَشْبيه كانت أم بغير تشبيه وبتمثيل أم بغير تمثيل. وكثيرًا ما يتتبع المعنى ويستقريه حتى يستتمه ويستوفيه، ويظهره على حقيقته لا غلو فيه ولا تمويه.
آراؤه وعقائده
ذكر أبو العلاء المعري في رسالة الغفران أن ابن الرومي كان يتعاطى الفلسفة. وفي شعره أمثلة تدل على أنه كان ملمًّا بعلوم عصره، واقفًا على الفلسفة اليونانية والآداب الفارسية. ولكن ذلك لم يجعل منه مفكرًا ذا مذهب معروف، وإنما جعله صاحب آراء وعقائد لا تخلو من التناقض لما كان عليه من اضطراب العقل، وغريب الأطوار، وتقلب الأفكار؛ فقد كان يتشيع للعلويين بدليل قصيدته التي رثى بها أبا الحسين يحيى بن عمر الطالبي، وهجا العباسيين من أجله وأفحش فيهم. ثم كان يقول بمذهب المعتزلة والقدرية معًا، وقد يميل إلى الجبرية مع بعدها عن القدرية، فمن ذلك قوله في الاعتزال:
وقوله في القدرية:
ومن قوله في الجبرية وقد أوجعه ترف الكتَّاب وحياتهم الناعمة بين القيان:
ولهذا اعتقد بالحظ، وقوي إيمانه به:
واعتقاده بالحظ جعله ينيطه بطوالع الكواكب شأن أبناء عصره.
وله في الحقد رأي مختلف، فطورًا يحسنه فيُظهر فضله، وتارة يذمه فيُظهر شره. وهكذا رأيه في الجود والبخل.
وكان على حبه للحياة وملاذِّها ينظر إليها بعين سوداء؛ لكثرة ما ناله فيها من الويلات والمحن، فيرى أن بكاء الطفل ساعة ولادته إنما هو ناشئ عن خوفه من صروف الدهر، وهذا رأي ساذج كما لا يخفى، ولكنه يكشف عن نفس حزينة متألمة متطيرة:
وساء ظنه بالناس؛ لأنهم في زعمه لئام لا يصاحبون المرء إلا في السراء، ويتخلون منه في الضراء، فمن الخير عنده أن لا يكثر الإنسان من الأصحاب.
وكان يوصي بالصبر على شدة جزعه، ويحاول أن يقنع نفسه بأن الصبر والجزع ليسا من الطوابع المركبة في الإنسان بل هما في اختياره، يستطيع أن يتصرف فيهما كيف يشاء.
وهو على حبه للمرأة سيئ الظن بها كسائر أهل زمانه، ينعتها بالمكر والخداع والكيد، وحسبك أن تقرأ حديقة الشعر فتتبين حبه لها وضعف ثقته بها.
ما أُدرك عليه
لم يُدرك على ابن الرومي سرقات جمة مع كثرة شعره، ذلك لغزارة مادته في الاختراع والتوليد. وكان يتجنب استباحة أفكار غيره، إلا إذا اقتبسها ليولِّد منها معنى جديدًا. وكان يزدري الشعراء الذين يُغيرون على أكفان الموتى ويسلبونهم إياها، فعله بأبي عبادة البحتري، ومع هذا فلم يسلم من العثار بعض الأحايين، فمن سرقاته قوله في وحيد:
أخذه من قول أبي نواس:
ويؤخذ عليه في بعض شعره لين قد يبلغ به حد الإسفاف، فمن غثه البارد قوله في ختام أبيات يمدح بها المعتضد:
فهذا أشبه بختام رسالة يكتبها بعض العامة. وربما استعمل ألفاظًا عامية تنكرها الفصاحة كقوله:
فقوله: أهجيك خطأ لأنه واوي. قال الجوهري: «لا تقل هجيته والعامة تقوله.» ولم يخلُ شعره من الإقواء وزحاف الإشباع، ولكن ذلك فيه قليل.
(٣-٣) منزلته
قال العميدي صاحب الإبانة في كلامه على المتنبي: «ولا أقيسه في امتداد النَّفَس، وعلم اللغة، والاقتدار على ضروب الكلام، وتصوير المعاني العجيبة، والتشبيهات الغريبة، والحِكَم البارعة، والآداب الواسعة بابن الرومي.» وقال ابن رشيق صاحب العمدة: «وكان ابن الرومي ضنينًا بالمعاني، حريصًا عليها. يأخذ بالمعنى الواحد ويولده، فلا يزال يقلبه ظهرًا لبطن، ويصرِّفه في كل وجه وإلى كل ناحية حتى يميته، ويعلم أنه لا مطمع فيه لأحد.» وقال أيضًا: «وأما ابن الرومي فأولى الناس باسم شاعر؛ لكثرة اختراعه، وحسن افتنانه.» وقال ابن خلكان: «صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب؛ يغوص على المعاني النادرة، فيستخرجها من مكامنها، ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يبقي فيه بقية.»
فهذه الأقوال كافية لأن تعرفك منزلة الشاعر عند الأدباء المتقدمين، فتعلم أن إهمال عصره له لم يضيِّع فضله بعد موته، فقد قام أصحاب الأدب ينشرون ذكره، ويفضِّله بعضهم على أكابر الشعراء أمثال المتنبي وسواه. وقد استحق ابن الرومي هذه المنزلة لأسباب منها براعة وصفه وتصويره، ودقة نظره في مراقبة الأشياء. ومنها خصب معانيه المولدة والمخترعة، واسترساله معها حتى يستوفيها إلى آخرها، ويبرزها جلية تامة، بأشكالها وألوانها، وصفاتها وتوابعها. وقلما غفل عن شيء منها أو مما يتصل بها مهما دقَّ شأنه، وقلَّ خطره.
واسترساله مع المعاني جعله يطيل قصائده فيبلغ بها مائتي بيت أو ثلاثمائة. وهذا الطول لم نعهده في شاعر قبله، إذا استثنينا منظومات كليلة ودمنة وما شاكلها؛ لضعف الروح الشعرية فيها. ثم إذا أنكرنا ما يزعمه الرواة من أن بعض المعلقات بلغت ألف بيت؛ لأن زعمهم يحتمل الشك أكثر من اليقين.
وتمتاز قصائده على طولها بقربها من وحدة الموضوع، فهي، وإن تعددت أغراضها أحيانًا، لا تخلو من الصلة المعنوية التي تربط أجزاءها بعضها ببعض. ولابن الرومي شعر كثير نظم في غرض واحد.
ولعل أصله الأعجمي كان له يد في طول نَفَسه، وميله إلى وحدة الموضوع، كما كان له يد في اتساق أفكاره، ودقة معانيه، وإحاطته بهنات الأمور، وخروجه إلى أغراض جديدة كوصف الأخلاق والعادات، وتصوير الأشخاص تصويرًا سخريًّا مضحكًا، وغير ذلك مما يتصل بحياة المرء في هزله وجده، وفرحه وكدره.
ويظهر اتساق أفكاره في ارتباط معانيه وأغراضه، ثم في اعتماده على الأسلوب المنطقي، فإنه اتخذه إمامًا له وعلى الأخص في احتياجه إلى الرد على خصومه ومعيِّريه، وإلى معاتبة ممدوحيه واسترضائهم، وإلى إبداء آرائه في الحياة وصروف الدهر. وتختلف أحكامه المنطقية بين القوة والضعف، فمنها ما يستقيم له ومنها ما لا يستقيم؛ ذلك أن قوة التفكير عنده تنازعها قوة العاطفة. ولا غرو فإنه موسوس عصبي المزاج سريع التأثر، فأجدر به أن يكون عبدًا للعاطفة، يستخدم منطقه لإرضائها، ومجاراة أهوائها. وحسبك أن ترى محاولته تزكية الطيرة، وإمعانه في تزيين الحقد، وتبغيض السفر، لتتبين كيف يسخِّر تفكيره لعاطفته.
وهو على قوة عاطفته وتفكيره، مديد الخيال، عميق التصور. وخياله مع اتساع مجاريه ينطلق بهدوء وانتظام، يسايره المنطق، فلا يجنح بصاحبه إلى الغلوِّ والإحالة، بل يعمد في الغالب إلى إظهار حقائق الموصوفات فيخرجها في أحسن صور وأصدق تمثيل باعثًا فيها حياة تجعلها تهتز وتتحرك، هائمًا في وادٍ كئيب تتفجر من جوانبه ينابيع الدموع، وتدمي رياحينه أشواك الشهوات والآلام. وابن الرومي أشغف الشعراء بالطبيعة وألوانها، يتصل بها ويعيش معها ويحسها إحساسًا قويًّا.
ولكن ليس لشعره على الإجمال ديباجة؛ لأن انصرافه إلى توليد المعاني واستخراجها من أبعد قراراتها، ثم اهتمامه باستيفائها وشرحها، جعله يهمل اللفظ فما يحفل به، فإذا هو لا يعنيه إلا أن يظفر بالمعنى الطريف سواءٌ أُفرغ في القالب الجميل أو لم يُفرغ، فرويت له أبيات ضعيفة البناء لا روعة فيها ولا رونق، تخلو ألفاظها من الموسيقى الشعرية، فما تهتز لها ولا تطرب. ولولا حسن معانيها لكانت خليقة بالإغفال.
وإهماله اللفظ جعله لا يحتفل بالزخرف والتزويق، فاقتصد في استعمال البديع، وفي طلب التشابيه والاستعارات، فعرف له منها شيء قليل بالإضافة إلى كثرة شعره، ولكن قليله جيد رائع. وأجوده ما جاء من التشابيه بصورة المركب التمثيلي، فإنه غاية في الإبداع. وأكثر من استعمال الغريب لطول نفَسه، ثم لركوبه القوافي الغليظة كالثاء والخاء والشين والضاد وما أشبه، فإنه كان يرى أن المدح تسقط قيمته إذا سلكت إليه القوافي السهلة. ثم لاقتداره على ضروب الكلام، فإن تضلُّعه من اللغة جعله ينتقي اللفظ المؤدي حقيقة المعنى، ولو كان غير مأنوس، وكثيرًا ما يعمد إلى تحليل الألفاظ والتلاعب بمعاني مشتقاتها فيغث بيانه وينضب ماؤه.
على أن غريبه لم يورث شعره غموضًا لسهولة تعبيره ووضوحه، وسلامة ألفاظه من التداخل. ولم يؤثر فيه الأسلوب المنطقي كما أثر في شعر أبي تمام؛ لأنه لم يعتمد الأدلة العقلية العويصة، بل تناول منها أقربها سبلًا، وتولى في نظمه شرحها وإيضاحها. ولم يجارِ الطائي في التزام البديع، والإفراط في التجنيس والمطابقة، فيقع في التعقيد مثله ويصعب على الناس فهمه.
وعلى الجملة فابن بالرومي أطول الشعراء نفَسًا، وأكثرهم اختراعًا للمعاني، واستيفاءً لها، وأبعدهم نظرًا في وصف دقائق الأشياء، وأقربهم إلى وحدة الموضوع. وأبرع من صوَّر الأخلاق والصفات، وجعل لمهجوِّيه تصاوير هزلية مضحكة، وأصدق مؤرخ لحياته في ملذاتها وأفراحها، وفي مكارهها وأحزانها. ولئن أهمله عصره، ولم يقدره حق قدره، لقد كان على الرغم من عصره في طليعة الشعراء المولَّدين.