الكُتَّاب المولَّدون
(١) ميزة النثر
ليس في ميزة النثر ما يدعو إلى فصل هذا العصر عن الأول، فأسلوب الرسائل بقي على حاله لم يتبدَّل فيه شيء إلا ما كان من ازدياد التزيين والسجع، وهذا طبيعي قضت به سُنَّة النشوء والارتقاء، كما قضت بتقدم فن التصنيف وشيوعه عند الكتاب. وفي هذا العصر تمت السيادة لأسلوب الجاحظ، وما الجاحظ إلا من كتَّاب العصر الأول عاش فيه معظم عمره، وصنف فيه أكثر كتبه وأشهرها. ولم يعش في الثاني إلا عشرين سنة ونيفًا مضى به نصفها الأخير وهو مفلوج مقعد ليس به غناء، فالعصران عصر واحد في الأدب شعره ونثره وإن فصلتهما السياسة.
(٢) الجاحظ ٧٧٥(؟)–٨٦٨م/١٥٩(؟)–٢٥٥ﻫ١
(٢-١) حياته
هو عمرو بن بحر بن محبوب الكِناني بالولاء، وقيل بل كناني صليب، والأول أشهر. وكان له جد أسود اللون يقال له فزارة كان جمَّالًا لعمرو بن قِلَع من بني كنانة. ولقب بالجاحظ لجحوظ عينيه، وربما قيل له الحدَقي لكبر حدقتيه. وكني بأبي عثمان.
وبدأت نباهة الجاحظ في خلافة المأمون، ووصلت كتبه إلى الخليفة فأعجب بها واستقدمه إليه، وصدَّره ديوان الرسائل، فاستعفى بعد ثلاثة أيام، فأعفي. وكان سهل بن هارون يقول: «إن ثبت الجاحظ في هذا الديوان أفل نجم الكتَّاب.» ويعزو ابن شُهيد الأندلسي إخفاق الجاحظ في منصب الكتابة إلى أمرين؛ أولهما: دمامة وجهه والملوك يؤثرون الكتاب الحسان الوجوه. والثاني: خفته وعبثه، والكتَّاب يحمد فيهم الترصن والوقار.
ولما صارت الخلافة إلى المعتصم، وتقلد الوزارة ابن الزيات اتَّصل به الجاحظ اتصالًا مكينًا، وأقام معه يكتب له ويمدحه، وقدَّم له كتاب الحيوان فأفاد منه مالًا وفرًا. وتَأَتَّى له أن يقوم برحلات إلى دمشق وأنطاكية وربما إلى مصر، فوسعت هذه الأسفار خياله وزادته علمًا وخبرة واطلاعًا.
وكان بين ابن الزيات والقاضي أحمد بن أبي دؤاد من الشنآن ما جعل كاتبنا ينحرف إلى صديقه الوزير، ويتنكر لابن أبي دؤاد، فلما استخلف المتوكل، وفتك بابن الزيات، خاف الجاحظ على نفسه؛ لأن المتوكل كان يكره أصحاب الاعتزال وأبو عثمان منهم، فهرب واختفى عن الناس، فجدَّ القاضي في طلبه حتى قبض عليه. وجيء به مغلول العنق بسلسلة، مقيَّد الرجلين، في قميص سمل. فلما وقع نظر القاضي عليه قال: «والله ما علمتك إلا متناسيًا للنعمة، كفورًا للصنيعة، معدنًا للمساوئ. وما قصَّرتُ باستصلاحي لك، ولكن الأيام لا تُصلح منك لفساد طويتك، ورداءة دِخلتك، وسوء اختيارك، وتغالب طبعك.» فقال له الجاحظ: «خفِّض عليك، أيدك الله! فوالله لأن يكون لك الأمر عليَّ خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسنَ أحسنُ في الأحدوثة عنك من أن أحسن فتسيء، ولأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل بك من الانتقام مني.» فقال له ابن أبي دؤاد: «قبَّحك الله! ما علمتك إلا كثير تزويق الكلام. وقد جعلت ثيابك أمام قلبك، ثم اصطفيت فيه النفاق والكفر.» ثم قال: «جيئوا بحدَّاد.» فقال: «أعزَّ الله القاضي! ليفك عني أو ليزيدني؟» فقال: «بل ليفك عنك.»
وانقطع الجاحظ إلى ابن أبي دؤاد سنة كاملة، وقدم له كتاب البيان والتبيين فأجازه عليه بخمسة آلاف دينار. ولما فُلج القاضي وخلفه في القضاء ابنه أبو الوليد، لزمه الجاحظ حتى غضب عليه المتوكل لكثرة شاكيه، فأمر به، فصرف عن القضاء، وصودر على أمواله، وذلك سنة ٢٣٧ﻫ/٨٥١م.
واتصل الجاحظ بالفتح بن خاقان وزير المتوكل، وقدم له كتبه، منها كتاب في مناقب الترك وعامة جند الخلافة، وكانت بينهما مودة ومراسلات.
ولطالما أثنى الفتح على الجاحظ عند المتوكل وأخذ له الجوائز والمشاهرات. ولكن دمامة أبي عثمان حالت بينه وبين الخليفة، فلم يقرب مكانه. حدَّث الجاحظ عن نفسه قال: «ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني.»
موته
ونرى أن الجاحظ كان يشكو علته في عهد ابن الزيات، وقبل أن يتصل بأحمد بن أبي دؤاد؛ لأنه أشار إليها في كتاب الحيوان، واعتذر بها إلى نقاده. قال: «وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه: أول ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب.» فهذه العلة التي يذكرها ولا يسميها رافقته وهو ابن سبعين وكان لم يزل متصلًا بابن الزيات. ولكننا لا نقطع بأنها هي الفالج؛ لأن الجاحظ أصيب بالنقرس أيضًا. وكان به حصاة لا ينسرح له البول معها، فقد تكون هذه العلة الحصاة، وقد تكون أعراضًا من ألم النقرس، أو خدر الفالج. على أنه لم يقعده المرض إلا بعد أن نيَّف على الثمانين. فمكث مدة في سر من رأى ثم انتقل إلى البصرة فأقام فيها حتى مات.
صفاته وأخلاقه
وكان شديد الذكاء حسن الفراسة، محبًّا للتكسب، ولا يعتدُّ بما يأخذ به الناس أنفسهم وينتحلونه من الرسوم والعادات، وأنواع العصبية المذهبية، فقد دافع عن العرب، وردَّ على الشعوبية في كتابه البيان والتبيين. ولكنه لم يبخس الأعاجم حقهم في كثير من كتبه، وقد يتخذ من ذلك سبيلًا للتكسب، فإنه قدَّم البيان والتبيين إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد وهو عربي صريح، فتقرَّب إليه وتكسَّب منه بدفاعه عن العرب. وقدَّم كتابه في مناقب الأتراك إلى الفتح بن خاقان وهو تركي الأصل فحظي به عنده.
وكان يحب اللهو والمجانة وسماع القيان والمغنين، وتطيب له معاشرة الإماء والجواري؛ فتسرَّى بهن واستمتع، ولم يتزوج، ولم يُرزق ولدًا.
وإذا علمت أن الجاحظ من علماء الكلام ومن شيوخ الاعتزال، وصاحب الفرقة الجاحظية، وأمير من أمراء البيان، لم تعجب أن ترى له حسادًا يبالغون في انتقاده، ويتهمونه بالزندقة.
زندقته
وهذه الشواهد كافية للدلالة على تهكم الجاحظ برجال الدين من غير المعتزلة، وتسفيهه أقوالهم، فلا بدع أن ينقموا عليه، ويتتبعوا هفواته، ويرموه بكل نقيصة ومعرَّة؛ فقد اتهموه بدينه، وقالوا إنه زنديق، واتهموه بصنع الحديث، والتهاون بالصلاة، ووضعوا عليه روايات لا محل لذكرها، على أننا وإن كنا نعتقد أن الجاحظ ليس من أولئك المتشددين في أمر الدين، ولا من الذين يؤمنون بأحكامه دون أن يحتكموا إلى عقولهم، لنأبى أن نجاري من يرمونه بالزندقة والإلحاد، فليس في كتبه ما يدلنا على كفره، وإنما هي مشبعة بالعاطفة الدينية، لا يفتأ يتحدث فيها بقدرة الله وحكمته في خلقه. وقلما روى خبرًا إلا ذكر الله وأثنى عليه. وإذا تكلم على منافع الكتب فضَّل كتب الله على غيرها. وإذا ذكر الفصاحة لا يجد أفصح من النبي محمد، فمن كان هذا شأنه فما هو بزنديق وإنما هو مفكر حر التفكير يشك في موضع الشك، ويؤمن في موضع الإيمان. وكان له من روح عصره وأحوال بيئته ما يفسح له في مجال الشك والسخر؛ فشك وسخر، ولكنه لم يسقط في الكفر والجحود. وليس التهاون بالصلاة ضربًا من الكفر إذا صح أن الجاحظ كان لا يقيمها في أوقاتها. ولم يقم دليل قاطع على وضعه للأحاديث، وهبه وضع — تماجنًا أو مداعبة أو نكاية — شيئًا منها فما يؤثَّم به لأنه كان يتهم الأحاديث، ولا يثق بها، وقبله أبو حنيفة لم يعتدَّ بالحديث، فالجاحظ مستهزئ ساخر، معتزلي يعتمد على العقل، ولكنه ليس بزنديق.
أستاذوه وعلومه
رغب الجاحظ في العلم وهو حدث، فكان يذهب إلى الكُتَّاب في البصرة مع ما هو فيه من خصاصة، ثم عمد إلى دكاكين الوراقين يكتريها ويبيت فيها للنظر، ولم يقع في يده كتاب إلا استوفى قراءته، ثم اتصل بشيوخ العلم وأئمة الأدب فأخذ عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري وأبي الحسن الأخفش. وتخرَّج في الكلام والاعتزال على أبي إسحاق النظَّام. وكان يشهد المِربد، ويسمع اللغة من الأعراب شفاهًا.
ويرى بعضهم أنه تعلم الفارسية وأتقنها، ويستدلون على ذلك بكثرة ما ورد من ألفاظها في كتبه. ولكن لا يصح الاطمئنان إلى هذا الرأي؛ لأن لغة الفرس كانت شائعة في عصر الجاحظ لانتشار أهلها في العراق؛ فقد يكون التقط ألفاظًا منها واستعملها في كتبه تملحًا وتظرفًا، دون أن يعنى بدراستها وإتقانها.
ولم يَدَع الجاحظ علمًا معروفًا في أيامه إلا نظر فيه، واطَّلع عليه؛ فقد درس الفلسفة والمنطق والطبيعيات والرياضيات والتاريخ والسياسة والأخلاق والفراسة، فاكتملت آلته؛ فإذا هو فقيه متكلم يتفلسف ويتمنطق، محدث وإن لم يؤمن بالحديث، بارع في الأدب واللغة، راوية للأخبار والأشعار، بحَّاثة عن الحيوان والنبات، نقَّاد للأخلاق والعادات، عالم بالفلك والموسيقى والغناء.
الجاحظية
ورويت له أقوال غير هذه لا نرى فائدة من ذكرها. ومذهب الجاحظ كما يقول الشهرستاني هو بعينه مذهب الفلاسفة إلا أنه يميل إلى الطبيعيين أكثر منه إلى الأهليين.
آثاره
خلَّف الجاحظ مؤلفات كثيرة جعلها بعضهم ثلاثمائة وستين كتابًا، وهي دون ذلك فيما نعلم؛ لأنه أضيف إلى الجاحظ كتب ليست له. وذكرت كتب تكرارًا بأسماء مختلفة. على أنه مهما يكن من شيء فإن آثار الجاحظ في غاية الخصب، ونظرة إلى ما أثبت منها في مقدمة الحيوان، ومعجم الأدباء، تطلعنا على طائفة جليلة، تربو على المائة بين مؤلَّف كبير ورسالة صغيرة. وفيها عالج مختلف الأغراض والموضوعات فكتب في الأدب والشعر والديانات والعقائد والإمامة والنبوة والمذاهب الفلسفية. وبحث السياسة والاقتصاد وتحصين الأموال، وغش الصناعات، والأخلاق وطبائع الأشياء، وحِيَل اللصوص وحيَل المكدِّين وذوي العاهات كالحول والعور والعرجان والبرصان. وتكلم على العصبية وتأثير البيئة فكتب في القحطانية والعدنانية والصُّرحاء والهُجنَاء، والسودان والحمران، والرجال والنساء وفي أي موضع يغلبن ويفضلن، وفي أي موضع يكنَّ المغلوبات والمفضولات. ونظر في العلوم التاريخية والجغرافية والطبيعية والرياضية فكتب في المدن والأمصار والمعادن وجواهر الأرض، والكيمياء والنبات والحيوان والطب والفلك والموسيقى والغناء، والقيان والمغنين. وكتب في الجواري والغلمان والعشق والنساء، والنرد والشطرنج، وغير ذلك مما يتناول الحياة الاجتماعية والأدبية والعلمية في عصره وقبل عصره.
وكان في أول أمره ينحل كتبه البلغاء المشهورين كعبد الله بن المقفع، وسهل بن هارون، فيقبل عليها الناس، ويتسارعون إلى نسخها لا لشيء إلا لأنها منسوبة إلى كتَّاب معروفين. وربما كتب أفضل منها ونسبه إلى نفسه فلم يجد عليه إقبالًا. وما زال هذا دأبه حتى بعُد صيته فأصبح لا يضع رسالة إلا تلقفتها الأيدي وتناسختها، وطارت في الأمصار فحفظوها واستظهروها. وربما أرسلوا المنادين إلى مكة في مواسم الحج، يسألون الحجيج عن كتاب له طلبوه ولم يجدوه.
وأفاد الجاحظ بكتبه ثروة حسنة طاب بها عيشه، فقد قدَّم الحيوان إلى ابن الزيات فأعطاه خمسة آلاف دينار، وقدَّم البيان والتبيين إلى ابن أبي دؤاد فأعطاه خمسة آلاف دينار، وقدَّم كتاب الزرع والنخل إلى إبراهيم بن العبَّاس الصولي فأعطاه خمسة آلاف دينار. وكانت له وظائف يتقاضاها مشاهرة في وزارة الفتح بن خاقان، عدا ما نال من الجوائز والصلات في مختلف الأحوال.
ولما مات راح بعض الكتَّاب المغمورين يضيفون إليه كتبهم لتشتهر، كما فعل هو في أول عهده بالكتابة، فنحلوه كتبًا كثيرة ليس له يد فيها، ولا هي من نفَسه وأسلوبه.
وروي للجاحظ شعر في المدح والهجاء وغير ذلك، ولكن شعره لا يعتد به؛ لأن أبا عثمان خُلق كاتبًا لا شاعرًا. ومنزلته قائمة على طرائف مصنفاته، وبلاغة إنشائه.
(٢-٢) ميزته
تتجلى ميزة الجاحظ في كل كتاب أو رسالة صنفه، وهو كثير كما رأيت، فهيهات أن يتاح لنا دراسة آثاره كلها في هذا البحث. وإنما نجتزئ بكتابين من أشهرها وهما الحيوان والبخلاء. وربما رجعنا في بعض الأحوال إلى البيان والتبيين وسواه استتمامًا لميزة الكاتب العبقري في مختلف شئونه وأغراضه.
كتاب الحيوان: أغراضه
جعل الجاحظ هذا الكتاب في سبعة أجزاء؛ فالجزء الأول صدَّره بمقدمة ممتعة يرد فيها على شخص انتقد كتبه، وعاب عليه مباحثه. ويذكر في هذه المقدمة طائفة جليلة من مصنَّفاته التي تصدَّى لها المنتقد. ثم ينتقل إلى مدح الكتب، وذكر فوائدها والترغيب في اصطناعها. ثم يتكلم على الخصاء وأحواله ومنافعه ومساوئه، ثم على الكلب والديك وما قيل فيهما من ذم ومدح.
والجزء الثاني يتضمن تتمة الكلام على الكلب واحتجاج صاحبه له.
وهذا الكتاب مستمد من عدة مراجع: منها أشعار العرب وأخبارهم وأمثالهم، ومنها القرآن والحديث، وما بلغ إليه علم الجاحظ بالتوراة والإنجيل، ومنها كتب العلوم المنقولة، ولا سيما كتب أرسطو وأقواله في الحيوان وما أُضيف إليه فيه من أقوال، ومنها ما أخذه الجاحظ شفاهًا من أفواه من كان يحدثهم من أصحاب المهن والحرف وغيرهم، ومنها ما كان نتيجة رحلاته واختباراته.
وقد رأيت أن الجاحظ لم يقصر مباحثه على الحيوان، بل أحاط بالنواحي الأدبية والدينية والاجتماعية والخلقية؛ ففي هذا الكتاب شعر كثير، وأخبار ونوادر، وفحش ومجون. وفيه آيات وأحاديث، وحِكَم وأمثال. وفيه أقوال في الديانات والعبادات. وفيه أساطير وخرافات، وتقاليد وعادات.
والجاحظ كما علمت يعتمد على العقل في مباحثه شأن أصحابه المعتزلة. وقد اتخذ عقله دليلًا في كتاب الحيوان، فإذا هو يدقق ويمحص، ويختبر الأشياء بنفسه، أو يسأل عنها أهل المعرفة وأصحاب الاختصاص.
وإذا اعتمد صاحب التفكير على العقل فلا يخلص في الغالب من الشك. وهكذا شكَّ الجاحظ في ما رأى وسمع وقرأ؛ فكان يشك في أقوال أرسطو إذا لم يقبلها عقله، كما كان يشكُّ في أقوال الرواة والمحدثين. وتراه يزين الشك ويوصي به فيقول: «وبعد، فاعرف مواضع الشكِّ وحالاتها الموجبة، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له.»
وجنوحه إلى الشك جعله يقف عند كل رواية ليحكم فيها عقله، فمرة يرفضها، ومرة يقبلها، ومرة يُبهت دونها بين الرفض والقبول. وبَهَتُه عائد على عجزه عن أدراك الحقيقة.
وإذا اتهم أرسطو ورفض قوله شدَّ عليه وضعَّف امتحاناته، ورماه بقوارص الكلام. ويسميه تارة باسمه وتارة صاحب المنطق، فمن ذلك قوله: «وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبلُ، وما يليق بمثله أن يخلِّد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الامتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء.»
ويشدد النكير على الخرافات الشائعة، والأساطير المتداولة، ويسخر منها وينفيها. وإذا اطمأن إلى الرواية علَّل سبب ارتياحه إليها فيقول مثلًا: «وقد زعم صاحب المنطق أن ولد الفيل يخرج من بطن أمه نابت الأسنان، لطول مكثه في بطنها. وهذا جائز في ولد الفيل غير منكر؛ لأن جماعة نساء معروفات الآباء والأبناء قد ولدن أولادهن ولهم أسنان نابتة.»
وربما اطمأنَّ إلى رواية غريبة فقبلها على علَّاتها مكتفيًا بإبداء تعجبه كما في كلامه على الأفعى التي عضت الناقة، وفصيلها يرتضع منها، فمات الفصيل قبل أمه.
وكثيرًا ما يلجأ إلى الاختبار في بحثه، فيتتبع الأشياء بنفسه، ويدقق في السؤال عنها. وقد يعمد إلى الحيوانات فيقتلها أو يرضخ بيضها ليفحص باطنها، أو يدفنها حية ليراقب حركاتها، أو يجمع بعضها إلى بعض في إناء واحد ليشاهد تآلفها وتخاصمها.
وربما جرت له مناظرات مع نبلاء الأطباء في عصره كسَلْمَوَيْهِ، وابن ماسَويه، وبَخْتَيَشوع بن جبريل، كمناظرته لهم في عمل سم الأفعى.
ويعجبك كلامه على البلدان وتأثير الهواء في أهلها، وما اشتهر من أمراضها وحشراتها، كقوله في حمى الأهواز وضعف نسلها، وشحوب لونهم.
ويقوده الكلام على الحيوان وأضراره ومنافعه إلى بحث فلسفة الخلق وضرورة وجود الخير والشر واللذة والألم في الحياة.
والجاحظ في هذا البحث يريد أن يظهر قدرة الله وحكمته في خلقه، وأنه خلق كل شيء نافعًا وإن يكن فيه الأذاة والضرر. وإظهار قدرة الله وحكمته هو الغاية التي يتطلبها الكاتب في جميع مباحث هذا الكتاب، فإنه لا يورد مثلًا، ولا يقص خبرًا، ولا يبدي درسًا إلا استخلص منه عبرة يردُّها على قدرة الله وحسن صنعه في خلقه.
فكتاب الحيوان كما رأيت، فيه أدب كثير، وفيه علم غير يسير، وإذا غلبت عليه الصبغة الأدبية فمن الغبن أن نبخسه حقه من العلم، فإن فيه من الاستقراءات والاختبارات ما لا تجده إلا في مصنفات العلماء والمفكرين.
البخلاء: أغراضه
هذا كتاب جعله الجاحظ في جزء واحد، صوَّر فيه أخلاق البخلاء وطرقهم في الحرص والاقتصاد، وصدَّره بمقدمة خاطب فيها شخصًا طلب إليه أن يذكر له البخل ونوادر أصحابه، فأجاب طلبه، ووضع له هذا الكتاب. وأوله رسالة من سهل بن هارون إلى بني عمه، وقد ذموا مذهبه في البخل، فدافع عنه واحتج له، وذكر منافعه، وما قيل في تحسين الحرص وذم السرف. حتى إذا انتهت الرسالة أخذ الجاحظ في سرد قصص البخلاء، وأكثرهم من أهل البصرة وخصوصًا أهل مسجدها وفيهم من أهل خراسان، ويتخلل هذه الأقاصيص حيَل البخلاء في الحرص والاقتصاد وجمع المال، ودفع الضيوف، ومناظرات كثيرة بين السخي والشحيح. ولا يتحرج الكاتب من فضح أصدقائه المبخلين وذكر نوادرهم، وفيهم طبقة من الأدباء والعلماء. ويختم هذه الأقاصيص بإيراد رسالة من أبي العاص بن عبد الوهاب إلى الثقفي يذم فيها البخل ويمدح الجود. ويتعرَّض لرجل يُعرف بابن التوأم، فيعدُّه في البخلاء. فلما بلغت الرسالة ابن التوأم كره أن يجيب أبا العاص لما في ذلك من المنافسة، وخاف أن يترقى الأمر أكثر من ذلك، وكأنه خشي أن يؤثِّر كلام أبي العاص في نفس الثقفي فيصرفه عن البخل، فبادر إليه برسالة فنَّد فيها أقوال أبي العاص، ومدح البخل، وزين جمع المال.
ثم يعود الجاحظ إلى أخبار البخلاء فيروي نوادر عن بخل الأصمعي، ثم ينتقل إلى أسماء المآدب عند العرب، فيبين اختصاص كل اسم بمعناه كالخُرْس يتخذ للطعام صبيحة الولادة، والإعذار طعام الختان.
ويقوده الكلام على المآدب إلى التحدث بجوع العرب وعطشهم، وشظفهم وفقرهم، ثم يستطرد إلى شبَعهم وخصبهم وضيافاتهم، وقِدْرهم وصفاتها عند الشعراء من مدح وذم، ويعدد طعام الأعراب من طيِّب ورديء. ويروي أشعارًا هجيت بها أقوام لاشتهارهم ببعض الأكلات، ثم يذكر الكلاب ونبحها في الليل لاستجلاب الضيوف، ونبحها في وجه الضيف لدفعه، ويروي ما قيل من الشعر في هذا وذاك. ويختم الكتاب بالكلام على النيران التي كان يوقدها العرب في الأماكن المرتفعة ليهتدي بها الضيفان، ويروي ما قيل في ذلك من الشعر.
فالكتاب كما يتبين لا يقتصر على أخبار البخلاء، وإنما هو كسائر كتب الجاحظ حافل بمختلف الأغراض مصطبغ بالأدب من جميع جهاته. ولكن فوائده جمة في تدبير المنزل وعلم الاقتصاد، وإن تكن أقاصيصه مصروفة إلى ناحية الشح والجشع.
ويطلعنا أيضًا على منزلة الأعاجم في عصره، ولا سيما الأطباء، فإن الناس كانوا لا يرون خيرًا في الطب إلا في ما جاءهم عن نصراني عجمي. ومن ذلك خبره عن أسد بن جاني الطبيب العربي المسلم.
فالجاحظ كما ترى يصور أحوال عصره في كل كتاب يصنفه، ويطالعك بكل حديث طريف، ونادرة ظريفة، فيفيدك ويلهيك في وقت واحد. ويمتاز البخلاء في أن أشخاصه على شحهم وخساستهم لا يطبعون في النفس صورًا كدرة تنفر منها؛ لأن الجاحظ ألقى عليهم من خفة روحه ظلًّا لطيفًا فحسَّنهم في العين، وحبَّبهم إلى القلب، فهم من طُيَّاب البخلاء كما ينعتهم أو ينعت بعضهم. والكتاب كله يجري على هذا النمط من تصوير للأخلاق والعادات، وأخبار في الحرص والاقتصاد، وأدب كثير ونوادر وأشعار.
أسلوبه الإنشائي
للجاحظ أسلوب لا تخطئه، سواء وقعت عليه في كتاب صنَّفه، أو في رسالة دبجها. ولهذا الأسلوب ميزات متعددة، منها أن الكاتب يستهلُّه بالبسملة، ويردفها على الغالب بالحمدلة والتعوُّذ كما فعل في البيان والتبيين، أو بمقدمة دعائية يخاطب بها شخصًا لا يسميه، كقوله في الحيوان: «جنَّبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة …» وقوله في البخلاء: «تولاك الله بحفظه، وأعانك على شكره …» والدعاء من لزوميات الجاحظ يكثر منه في جمل اعتراضية إما تملحًا وتظرفًا، وإما تلطفًا وتحببًا، وإما سخرًا وتهكمًا، وهذا أظرف الأدعية عنده وألذُّها وَقْعًا؛ كقوله على لسان صاحب له: «فكيف عقل العجوز حفظها الله!»
والسخر عند الجاحظ طبيعي لا يتكلفه تكلفًا، فالنكتة أبدًا على أسلة لسانه، والتهكم حشو ألفاظه؛ فلذلك كثر هزله في مواضع الجِدِّ، فبينا يكون في بحث علمي رصين لا يلبث أن يفاجئك بالنادرة الظريفة فيضحكك ويزيل سأمك. وقلما خلا كتاب له من المضاحك والمهازل، فهو من أولئك الناس الذين يرون الدنيا ضاحكة إذا ضحكوا لها. وكان يعتذر من خروجه إلى المزح بعد الجِدِّ بقوله: «وإن كنا قد أمللناك بالجدِّ، وبالاحتجاجات الصحيحة الممزوجة لتكثر الخواطر وتُشحذ العقول، فأستنشطك ببعض البطالات وبذكر العلل الظريفة، والاحتجاجات الغريبة.»
وتهكم الجاحظ لطيف ناعم، وربما جاء به ذمًّا في قالب المدح دون أن يتبغض فيه. وهو كثير السخر بالخرافات والحماقات والأحاديث الكاذبة. وكتابا الحيوان والبخلاء حافلان بسخره وتندره.
ويمتاز أسلوبه في الاستطرادات الكثيرة فما يمسك غرضًا إلا تجاوزه إلى آخر بدافع من شعر أو حديث أو آية، أو غير ذلك يستشهد به ويقف عنده فيخرجه عن موضوعه إلى أغراض مختلفة حتى يتيه بقارئه. ثم يرجع به إلى الحديث الذي خرج عنه بعد أن ينسيه إياه. وقد يطول استطراده فيستغرق عدة صفحات، وقد يقصر فما يجاوز بضعة أسطر، ويرى الجاحظ لنفسه في ذلك عذرًا فيقول: «وعلى أني قد عزمت — والله الموفق — أن أوشح هذا الكتاب، وأفصل أبوابه بنوادر من ضروب الشعر، وضروب الأحاديث؛ ليخرج قارئ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شكل إلى شكل، فإني رأيت الأسماع تملُّ الأصوات المطربة، والأغاني الحسنة، والأوتار الفصيحة إذا طال ذلك عليها.»
ومن ميزاته التكرير والمرادفة والإسهاب، ويعود ذلك على قصده إلى تبليغ المعنى وإيضاحه، وإبراز الموصوف وتصويره، ثم على تطرابه لموسيقى ألفاظه، ووقعها في مسامعه.
وتصوير الموصوف من أبرز خصائص الجاحظ، فإنه كثير العناية بمراقبة الأشياء التي يصفها فما يهمل موضعًا يتعلق به غرضه إلا جعل له صورة حتى يبرز موصوفه على الشكل الذي يراه، ومن الناحية التي يريد أن يظهره فيها. ويستعين على ذلك بتعابيره الخاصة فيكرر ويرادف، ويبدئ ويعيد، إلى أن تتم له الصورة التي يريد.
وهو كثير الاستشهاد بالآيات والأحاديث والأشعار والأمثال؛ مما يدل على سعة اطلاعه وفِرَة روايته، ولكنه كغيره من المتقدمين لا يتحرج من إيراد الأشعار الفاحشة، والنوادر المتعهِّرة. وكان يرى أن الشيء إذا وقع في محله فلا سبيل إلى استنكاره، ويسخر من الذين يتأبَّوْن ذلك ويستكرهونه، ويقول فيهم: «وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم، والنبل والوقار إلا بقدر هذا الشكل من التصنع.» والجاحظ في رأيه هذا ينطق بلسان السواد الأعظم من أهل عصره، فإن أدبهم كان في كثرته ماجنًا متهتِّكًا خليعًا.
وشيء آخر يميز أسلوب الجاحظ، وهو الجمع بين الأضداد، ولا يقتصر ذلك على كتبه المتناقضة في أغراضها، وإنما يكون في كتاب واحد ككتاب البخلاء مثلًا، فإنه يحتج مرة للسخي، ويحتج مرة للبخيل. وليست رسالة أبي العاص إلى الثقفي في ذم البخل، ورد ابن التوأم واحتجاجه للبخلاء إلا خاصة يمتاز بها الجاحظ في أسلوبه الجدلي، فهو عالم بالكلام تلذُّ له المناظرات، وأغلب ظننا أن الرسالتين من وضعه؛ لأن فيهما روحه ونفسه وطرقه في التأليف والتعبير.
وإنشاء الجاحظ يسيل طبعًا ورقَّة، بعيد من التكلف لا يلتزم له سجعًا، ولا يتعمَّد استعارةً أو تشبيهًا، وقلما نمق إلا في بعض رسائله ومقدمات كتبه، فهو أبعد الكتَّاب من المجاز والتزيين، لا يُعنى إلا بإيضاح المعنى في اللفظ السهل الفصيح.
وكان على استبحاره في اللغة، وحرصه على البيان الصحيح، يحمد خطة ربما لا يوافقه عليها جمهور النحاة؛ وهي أنه إذا روى نادرة من نوادر عامة المولَّدين لا يتكلف لها الإعراب، بل يثبتها بكلام ملحون كما وردت على لسان صاحبها. قال في الحيوان: «إن الإعراب يُفسد نوادر المولَّدين كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب.» وقال في البخلاء: «وإن وجدتم في هذا الكتاب لحنًا، أو كلامًا غير معرب، ولفظًا معدولًا عن جهته، فاعلموا أنَّا إنما تركنا ذلك لأن الإعراب يبغِّض هذا الباب، ويخرجه من حده، إلا أن أحكي كلامًا من كلام متعاقلي البخلاء وأشحاء العلماء كسهل بن هارون وأشباهه.» وله كلام من هذا الضرب في البيان والتبيين.
وجملة الجاحظ قصيرة على الغالب، رشيقة واضحة المعنى، مفصلة تفصيلًا، يقطعها مرة ويرسلها أخرى، وقد تطول إذا تخللها جمل يتطلبها سياق الكلام، فتمتد وتتسع دون أن يعتورها غموض ولا انقطاع لائتلافها مع الجمل المتداخلة فيها، ثم لمشاركتها إياها في التنازع على الغرض الواحد. وهو كغيره من الكتَّاب المتقدمين يفرط في استعمال فعل القول إذا حدَّث عن غيره حتى لا تكاد تذهب صفحة إلا وفيها طائفة من قال وما يشتق منه، وربما وردت هذه الأفعال متتابعة متجاورة فيثقل وقعها في السمع، كقوله في البخلاء: قال: «فما قال أبو الفاتك؟» قال: «قال أبو الفاتك.»
وكغيره من المتقدمين لا يسلم إنشاؤه من الْتِباس الضمائر حتى لتضطر أن تستوضح المعنى في شيء من الجهد، ولا تستخلصه إلا إذا نظرت إلى ما قبله، وإلى ما بعده من كلام يدل عليه. ومع ذلك فأسلوبه أوضح الأساليب القديمة، وأكثرها طلاوة، وأحسنها رواءً.
(٢-٣) منزلته
قال ابن العميد: «كتب الجاحظ تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا.» وهذا قول حق لا جمجمة فيه؛ لأن الجاحظ في مباحثه العلمية، واعتماده على العقل في تعليلاته واختباراته، كان من قادة التفكير الحر في الإسلام. وما آراؤه في الاعتزال، وأقواله في الحيوان والنبات والأمصار والبلدان وغير ذلك إلا نتاج عقل صحيح، فلا بدع أن تكون غذاءً لسواه من العقول.
وكان من تأثير كتبه أن خلقت له الأعداء والخصوم، كما خلقت له الأصدقاء والأنصار، فتضاربت فيه الأقوال، فمن مادح يغالي في مدحه، ومن ذام يسرف في ذمه، ولم يختلف الناس يومًا إلا على رجل عظيم.
على أن خصومه لم يتمكنوا من إسقاطه في تحاملهم عليه، فلم تكن مطاعن البغدادي وابن قتيبة والراوَنْدي وسواهم، إلا لترفع قدره. وما منهم واحد استطاع أن ينكر علمه وفضله، ولكنهم هاجموه من ناحية مذهبه، فاتهموه في دينه.
ولا غرو أن يؤثر الجاحظ هذا التأثير فيكثر خصومه، ويكثر مريدوه، فإنه أُوتي من الذكاء والعلم قسطًا حسنًا، ورأى أن الكتب في عصره، منها ما يعتمد على النقل، ومنها ما يعتمد على الرواية حتى كاد لا يكون فيها استنباط، فاختاره واضطلع بعبئه فكان راوية ومخترعًا في وقت واحد، ثم رأى أن الكتَّاب لا يُعنون إلا بعلم دخيل، أو بأدب قديم. وقلَّ من نظر منهم إلى عصره، فروى عنه شيئًا، فقام يسد هذه الثلمة، وخص عصره بجانب من كتبه، فصوَّر أخلاق أهله وحياتهم، فشُغف الناس بكتبه وأقبلوا عليها يطالعونها بلذة. والإنسان يروقه أن يرى ما يصور له البيئة التي يعيش فيها، ويحس إحساسها، ويشعر بشعورها، فكتب الجاحظ لم تكن كلها غريبة عن معاصريه كما كانت كتب ابن المقفع؛ فابن المقفع نقل آداب الفرس والهند واليونان، فأعجب الناس بها؛ لأنهم رأوا فيها شيئًا جديدًا لا عهد لهم به، ثم لأنها كتبت بلغة بليغة سمحة ملأت صدورهم جلالًا، ولكنهم لم يجدوا صلة روحية بينهم وبين هذه الآداب؛ لأنها وضعت لزمان غير زمانهم، ولشعب غير شعبهم، فآثروا عليها كتب الجاحظ، فغلب أسلوبه على أسلوب ابن المقفع. وساعده على ذلك ما فيه من سلاسة وفكاهة وسهولة مساغ؛ فأسلوب ابن المقفع منطقي رصين، متعفف، تؤثره الطبقة الأرستقراطية لتأديب أنجالها، وتحتفل به دور التعليم، وتفضله على غيره. وأما أسلوب الجاحظ، فأسلوب ضاحك هازئ ماجن، ديموقراطي يدخل بين الطبقات كلها. وكما غلبت على ابن المقفع الثقافات العجمية غلبت على الجاحظ الثقافة العربية، فحفلت كتبه بالأشعار والنوادر والآيات والأحاديث والأمثال، غير أنه لم يهمل الثقافات الدخيلة، بل كان لليونانية والفارسية عنده حظ غير قليل.
وملك الجاحظ ناصية البيان فانقادت أوضاع اللغة ذُلُلًا بين يديه تؤاتيه في مختلف مباحثه وأغراضه، وأعطي من براعة الكلام، وقوة الاختراع، وحسن التعليل ما جعله يعرض للأشياء الحقيرة فيبني عليها موضوعات جليلة. ولو اعتمد القارئ عناوين كتبه لصدفته عن النظر فيها.
وحسب الجاحظ منزلة أنه أول من جمع علوم عصره، وصوَّر حياة أهله وانتقد أخلاقهم وعاداتهم، وأول من وضع الكتب الطويلة الجامعة، وخلط فيها الهزل بالجد، والمجون بالرصانة، والفحش بالتعفف، والكفر بالإيمان، وكل شيء بضده؛ فهو أبرع كاتب جمع النقيضين، واحتج للنقيضين وذم ومدح النقيضين. وامتاز بالفضول العلمي وحب الاستقراء. وهو إلى ذلك شيخ من شيوخ المعتزلة، وإمام من أيِمَّة المتكلمين، وصاحب الفرقة الجاحظية، وزعيم الأدباء غير مدافع.
(٣) علوم اللغة
(٣-١) الصرف والنحو
ظل الخلاف على أشده بين الكوفيين والبصريين، وطمت الشروح والتعليلات فتعقدت المسائل النحوية، وتشعَّبت طرقها، فلما توالت الفتن على المِصْرَين وامتدت إليهما أيدي الخراب، ولا سيما البصرة بعد أن عاث فيها صاحب الزنج فسادًا، أخذ العلماء يهاجرون إلى بغداد، وفيهم أصحاب النحو، فاختلط المذهبان، ونشأ منهما مذهب بغدادي جديد، أشهر أصحابه ابن قتيبة ومن كتبه «أدب الكاتب» وفيه شيء غير قليل من العلل النحوية والصرفية، وابن كيسان، وله كتاب المسائل على مذهب النحويين مما اختلف فيه البصريون والكوفيون، وكذلك نفطويه والأخفش الأصغر. ومن أفاضل النحاة في هذا العصر: المبرِّد وثعلب وأبو إسحاق الزجاج وأبو بكر السرَّاج، وأبو سعيد السيرافي وسواهم.
(٣-٢) اللغة
كان كل نحوي من المتقدمين عالمًا باللغة وكل لغوي عالمًا بالنحو، ولكن تغلب على الواحد منهم صفة أكثر من أخرى فيُعرف بها. وفي هذا العصر بدأ يتسع نطاق اللغة، وتصنف فيها الكتب المطولة، وكان من علمائها المشهورين أبو العباس المبرِّد، وله كتاب الكامل في اللغة والنحو والأدب، وأبو حاتم السجستاني وله كتاب «الأضداد»، وأبو الفضل الرياشي، وابن السكيت، وابن دريد وله جمهرة لسان العرب وكتاب الاشتقاق.
(٤) العلوم الدخيلة
(٤-١) العلوم الطبيعية
ظل أصحاب الكيمياء يبحثون عن الحجر الفلسفي حتى ظهر لهم بُطلانُه، والفضل في ذلك لأبي يوسف الفيلسوف الكندي؛ فإنه أول من نهى عن الاشتغال بالكيمياء للحصول على الذهب، وذم ذلك وبيَّن أنه عبث وتضييع للعمر والمال. وقد أشار ابن الرومي إلى بطلان هذه الكيمياء بقوله: «كالكيمياء التي قالوا ولم تصب.»
وتقدم الطب العربي على أثر انتشار الكتب المنقولة، وإقبال المسلمين على دراستها، واشتهر جلة من الأطباء في مقدمتهم أبو بكر الرازي جالينوس العرب، وله كتاب الحاوي في صناعة الطب. وينسب إليه ابتكارات كيماوية منها زيت الزاج، وهو الحامض الكبريتي، ومنها الكحول.
واشتغل العلماء بالتاريخ الطبيعي، فصنف ابن وحشية الكلداني كتاب الفلاحة النبطية، وقسطا بن لوقا الطبيب النصراني كتاب الفلاحة اليونانية.
(٤-٢) العلوم الرياضية
كان من اشتغال العرب بهذه العلوم أن نهضوا بعلم مساحة المثلثات، وعرفوا طريقته السهلة التي تحوِّل الأعمال الحسابية إلى مثلثات تحل زواياها بواسطة الخيوط والجيوب، والفضل في ذلك لأبي عبد الله البتَّاني فإنه أول من استبدل الجيوب من أوتار الدائرة في قياس المثلثات.
(٤-٣) العلوم الفلسفية
اقتصرت الفلسفة في العصر السابق على الترجمة، حتى إذا انتشرت الكتب المنقولة وطالعها المفكرون واختمرت بها آراؤهم، شرعوا في التصنيف فظهرت الفلسفة الإسلامية اليونانية وغايتها التوفيق بين الشرع والعقل. ونبغ من المسلمين أبو يوسف يعقوب الكندي، وله فضل في ترجمة كتب أرسطو وتفسيرها، وبسط عويصها، وأبو نصر الفارابي وله كتب كثيرة منها آراء مبادئ المدينة الفاضلة، حذا فيه حذو أفلاطون في جمهوريته، ورسالة السياسة في ما ينبغي للمرء أن يستعمله مع رؤسائه، ومع أكفائه، ومع من دونه، ومع نفسه.
(٤-٤) التاريخ
كان المؤرخون قبل هذا العصر لا يُعنون إلا بالطبقات والفتوح والقبائل والأنساب، فلما تمَّت السيادة للعجم واسترخت العصبية العربية أمام عصبية البلد كما رأيت في تنافس البصرة والكوفة، اقتصد المؤرخون في تدوين الأنساب واكتفوا من الفتوح بتلخيص حوادثها وضبطها، وعُنوا بجمع أخبار الأمم وأحوال البلدان، نبههم على ذلك اطلاعهم على التواريخ المنقولة، وضربهم في الأمصار البعيدة واختلاطهم بشعوبها. واشتهر من المؤرخين البَلاذُري وله كتاب فتوح البلدان، واليعقوبي وله كتاب البلدان، وكتاب في التاريخ العام يعرف باسمه، ومحمد بن جرير الطَّبَري وله كتاب أخبار الرسل والملوك ويعرف بتاريخ الطبري.
ومما يعاب على هؤلاء المؤرخين أنهم دوَّنوا جميع ما عرفوه من الحوادث والأخبار دون تمحيص أو تعليل، ودونما نظر في الأسباب والمسبَّبات، فشوَّهوا التاريخ بخرافات وأساطير لا يقبلها العقل فحفلت كتبهم بالمضحكات. واقتصروا على الأحداث المادية كالولادة والوفاة والحرب والفتح والولاية والعزل. ولم يبحثوا عن أحوال الأمم الاقتصادية والاجتماعية، وعن تطور الحضارة وتبدُّل الأخلاق والأهواء، وغير ذلك مما لا غنية للتاريخ عنه؛ فجاءت كتبهم مجموعات أخبار منسَّقة إما باعتبار الطبقات، وإما باعتبار السنين، وإما باعتبار الدول، وكلها ضعيفة الفن في تأليفها، خالية من الفلسفة التاريخية، ولكنها المرجع الوحيد للناظر في تاريخ العرب والإسلام.
(٤-٥) الجغرافيا
اشتغل العرب بالجغرافيا قبل أن يطَّلعوا عليها في الكتب المنقولة، فقد دعتهم الحاجة إلى هذا العلم بعد أن اتسعت الممالك الإسلامية، وتوالت الفتوح، وسُيِّرت البُرُدُ بين الخليفة وعماله، فكان حجاج البيت الحرام يدونون أسماء المواضع التي يجوزونها إلى مكة، ورواة الأخبار يهتدون بأشعار العرب إلى الأماكن والدارات في البادية، وأمراء الجيوش، وولاة الأمر يتقصون أحوال البلدان المخضوعة، ويضبطون مواقعها وأقاليمها وسكانها وأديانها وغلَّاتها لأخذ الجزية والخراج منها. وكان على أصحاب البريد أن يحافظوا على رسائل الخليفة وعماله، ويسلكوا بها الطرق المأمونة، فضبطوا المسالك والمواقف التي كانوا يمرون بها، ودققوا في وصفها وتعريفها، فاجتمع لدى العرب من كل ذلك فوائد جغرافية جمة، ولكن ينقصها حسن التأليف والتبويب، فلما نقلت جغرافية بطليموس ترسَّمها المصنفون واعتمدوا عليها في وضع كتبهم وتنسيقها، إلا أنهم لم يقتنعوا بما جاء فيها، بل تجشموا الرحلات البعيدة في البر والبحر، وخبروا الأماكن بأنفسهم، فصححوا بعض أوهام بطليموس، واستدركوا ما غاب عنه من العلم مما تمكنوا من الحصول عليه. وأشهر الجغرافيين ابن خُرْداذْبَه، وله كتاب المسالك والممالك، وكان يتولى البريد في العراق العجمي، فذكر فيه مسافات الطرق، وأحصى جباية الخراج. واليعقوبي وله كتاب البلدان الذي مرَّ ذكره، فإنه لم يقصره على التاريخ بل تعدَّى به إلى الجغرافيا فذكر أحوال البلدان وأجناس أهلها، وما بينها من الأبعاد، ومقادير الخراج فيها. وابن رُسْته وله كتاب الأعلاق النفيسة في تقويم البلدان، وصف فيه البحار والأنهار والأقاليم السبعة.
(٥) الأدب والأدباء
ما إن تولى صدر الدولة العباسية إلا وقد فرغ الرواة من تلقُّف الأخبار والأشعار، واعتساف البوادي والقفار، وانصرفوا إلى تدوين ما اجتمع لديهم من أدب يتناقلونه بالرواية والإسناد، فشغف الناس به، وحسن تذوُّقهم له، فأقبلوا على كتبه يتناسخونها ويقتنونها، فازداد المشتغلون به نشاطًا، فأكبُّوا على التصنيف والتمحيص والنقد. حتى إذا اكتهل العصر الثاني كان الأدباء المصنفون قد كثر عددهم فمهروا اللغة مؤلفات نفيسة، لولاها لضاع من آدابنا شيء جليل.
وخطا النقد الأدبي خطوة إلا تكن واسعة فإن فيها تطورًا محسوسًا اقتضته نهضة العلوم والفنون، فقد كان لنقل الفلسفة والمنطق أثر بليغ في ترقية الأفكار وتثقيفها، فصار الأدباء يمحِّصون الشعر والنثر، ويضعون لهما الشروط والقوانين، وإذا وقعوا على قول فلسفي أو منطقي، ردوه على مذهبه، وقدَّروه على قياسه، فإن استقام لهم المعنى قبلوه وإلا رفضوه. وأصبحوا يحكمون آراءهم في القديم والحديث، فإذا تعصبوا للأول لا يبخسون الثاني حقه. فابن قُتَيْبَة في كتابه الشعر والشعراء يختط خطة جديدة في القديم والحديث إذ يقول: «ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا لمتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين وأعطيت كلًّا حقه، ووفرت عليه حظه.» والمنطق هو الذي هدى ابن قتيبة إلى هذه الخطة، فأراه أن القديم والحديث إضافيان لا حقيقيان، وأن كل حديث سيصبح قديمًا، وفي ذلك يقول: «ولم يقصر الله الشعر والعلوم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصَّ به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده، وجعل كل قديم منهم حديثًا في عصره.»
وفي كتاب أدب الكاتب ينتقد ابن قتيبة صناعة الإنشاء ويبحث ما يحتاج إليه الكاتب من الآداب والعلوم، ويبين أوهام الكتَّاب ومغالطهم في معاني الألفاظ والاشتقاقات والتراكيب.
وللجاحظ في البيان والتبيين نقد على فن الخطابة يظهر فيه ما يُستحسن من الخطيب وما يُعاب عليه، ويبحث عن اختلاف لغات العرب، وأوضاعها وفصاحة مفرداتها.
وكان لكتاب البديع الذي وضعه ابن المعتز تأثير في فن الانتقاد، فإن الأدباء بعده أخذوا يتحرون في نقدهم الصور البيانية، ويتفحَّصون وجوه الاستعارة والتشبيه والطباق وما إلى ذلك. ثم جاء قُدامة بن جعفر فصنَّف كتابه في نقد الشعر، فبيَّن فيه حدود النظم وشروط ائتلاف اللفظ مع المعنى، وتكلم في المجاز والتشبيه، وعرض لعشرين نوعًا من البديع توارد مع ابن المعتز في سبعة منها.
فمن ذلك يتضح أن لتقدم العلوم والفنون يدًا محمودة في تطور النقد، ولكن الأدباء في وضعهم النُّظُم والقواعد لصناعتي الشعر والنثر أبعدوا الشعراء والكتَّاب عن طبعهم فأصبح هؤلاء، وخصوصًا في أواخر العصر، لا ينظمون ولا ينثرون إلا وهم يتلفتون إلى تلك الشروط والقوانين محاذرة الانتقاد.