لمحة تاريخية
تكلمنا في العصر الماضي على أسباب ضعف الخلافة العباسية، وما كان من تجزُّؤ هيكلها واستقلال ولايتها، ونجتزئ هنا بالكلام على أشهر الدول التي استقلت وكان لها يد بيضاء على العلوم والآداب.
(١) الدولة الحمدانية ٩٠٤–١٠٠٣م/٢٩٢–٣٩٤ﻫ
هي دولة عربية شيعية ينتهي نسبها إلى تغلب بنت وائل. وكان بدء أمرها في خلافة المكتفي عندما ولي الموصل أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان. وتداول الحمدانيون إمارة الموصل واحدًا بعد واحد، لا يشقُّون الطاعة على العباسيين إلا عادوا إليهم مستأمنين، حتى أزال ملكهم عضد الدولة بن بويه فتفرقوا في الولايات، فمنهم من دخل في خدمة البويهيين، ومنهم من رحل إلى مصر، وقصد سيف الدولة حلب واستولى عليها، ثم امتلك حمص، ثم سار إلى دمشق فدخلها وأقام فيها، ولكن كافورًا الإخشيدي عاد إليها فارتجعها منه.
ونشبت بين سيف الدولة والروم عدة مواقع أبلى فيها بلاءً حسنًا وردهم مرارًا عن حلب فلم يستقروا فيها مدة حياته. ومات سنة ٣٥٦ﻫ/٩٦٦م قرير العين بعد جهاد طويل وسلطان امتد نحو ثلاث وعشرين سنة. وملك بعده عقبه حتى انقرضت دولتهم، واستولى الفاطميون على حلب.
واشتهر قصر الحمدانيين بمناصرة العلم والأدب، ولا سيما قصر سيف الدولة، فإن الشعراء الذين كانوا يجتمعون ببابه، لم يجتمع مثلهم إلا في قصور الخلفاء المتقدمين، وحفلت داره بطائفة من الأطباء والفلاسفة والعلماء؛ فمن شعرائه المتنبي، ومن خطبائه ابن نُباتة، ومن فلاسفته الفارابي، ومن علمائه ابن خالَوَيه.
وكان سيف الدولة أديبًا نقادًا يناظر الشعراء، ويدلهم على سقطاتهم. ونبغ من الحمدانيين شعراء محسنون، أشعرهم أبو فِراس.
(٢) الدولة الفاطمية ٩٠٩–١١٧١م/٢٩٧–٥٦٧ﻫ
اختلف المؤرخون في نسب الفاطميين، فمنهم من نكر واشجتهم بفاطمة بنت النبي، وجعل عروقهم في اليهودية أو النصرانية، ومنهم من أثبتها ولم يلتفت لِفْت مجرِّحيها وفي جملتهم ابن خلدون.
ولما صارت الخلافة إلى المعز لدين الله الخليفة الرابع سيَّر قائده جوهرًا الرومي إلى مصر سنة ٣٥٨ﻫ/٩٦٨م فافتتحها. وكان العبيديون قد هاجموها غير مرة وأُرجعوا عنها، وقد وُفِّقوا في هذه الكرة لضعف الدولة الإخشيدية.
وأقام جوهر الدعوة للمعز في مصر، وأزال الشعار الأسود العباسي، وألبس الخطباء الثياب البيض، ثم فتح دمشق، وخطب للمعز على منابرها، وبنى مدينة القاهرة شمالي الفسطاط، وتم بناؤها سنة ٣٦١ﻫ/٩٧١م؛ فجاءها المعز في السنة التالية، وجعلها مقر الخلافة الفاطمية، وأتمَّ بناء الجامع الأزهر، وكان جوهر قد بدأ به. وتعاقب بعد المعز على مصر عشرة خلفاء ثم زال ملكهم بقيام الدولة الأيوبية.
وكان لهم حضارة راقية، فقد أنشئت في عهدهم المدارس والمكاتب، واقتنيت الكتب النفيسة، وبُني مرصد جبل المقطم. وقرَّب الخلفاء الشعراء والعلماء وأحسنوا صلاتهم، فأقبل هؤلاء على مصر، وطابت لهم موردًا.
وعني الفاطميون باللغة الفصحى في دواوينهم، فأقاموا عالمًا بالنحو يراقبها ويصلح ما يقع فيها من اللحن. وتركوا من الآثار العادية ما يشهد بتقدم العمارة في أيامهم.
وعرف بعضهم بالتساهل، وكره التعصب، فإن المعز كان يأذن لأُسقف النصارى بأن يناظر القضاة والعلماء في مسائل الدين، وأمر بتجديد بناء الكنيسة القبطية، وشهد بنفسه وضع الحجر الأول فيها. وكان المعز من محسني الشعراء، واشتهر أيضًا بالشعر ابنه الأمير تميم.
(٣) الدولة البويهية ٩٣٣–١٠٥٥م/٣٢١–٤٤٧ﻫ
هذه دولة فارسية من أبناء الديلم قام بها إخوة ثلاثة؛ وهم علي والحسن وأحمد ولد أبي شجاع بُوَيْه. قيل إن نسبهم يتصل بملوك الفرس. وكان بعض زعماء الديلم خرجوا لامتلاك البلاد بعد أن رأوا ضعف العباسيين، وفيهم: ماكان بن كالي ومرداويج بن زيار، وخرج أبناء بويه في جملة القواد مع ماكان، فلما دب الخلاف بين ماكان ومرداويج، وغلب مرداويج صاحبه على طبرستان وجرجان انضمَّ أبناء بويه إليه فرحب بهم، واستعمل عليًّا كبيرهم على الكرَج، فلم يلبث عليٌّ أن استقل بأمره وفتح أصفهان ثم استولى على بلاد فارس كلها. وكانت الخلافة أفضت إلى الراضي فكتب عليٌّ إليه وإلى وزيره أبي علي بن مقلة بالطاعة، وأن يُقطع ما بيده من أعمال فارس؛ فأجيب إلى طلبه، وبعث إليه باللواء والخلع، فأقطع أخاه الحسن أصفهان، وأخاه أحمد كِرْمان، واستقرَّ هو بفارس. ثم ولَّى أحمد العراق، فأقام هذا بالأهواز.
وحدثت فتن في بغداد سنة ٣٣٤ﻫ/٩٤٥م؛ فانتهز أحمد بن بويه الفرصة فاحتلها وأزال سلطة الأتراك عنها.
وكانت الخلافة بيد المستكفي، فعنا لسلطان ابن بويه وضرب السكة باسمه، ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه الحسن بركن الدولة، وأخاه عليًّا بعماد الدولة. ثم استراب معز الدولة بالمستكفي فوثب عليه وسمله، وبايع الفضل بن المقتدر ولقبه المطيع لله. ولما بلغ الحمدانيين ما فعل المعز جاءوا من الموصل لقتاله، فخرج للقائهم، فدخلوا بغداد، فلم يطمئن للمعز بها مضجع إلا سنة ٣٣٥ﻫ/٩٤٦م بعد أن استنقذها منهم.
ولم يكن لعماد الدولة أمير فارس ولد ذكر، فتبنى عضد الدولة ابن أخيه ركن الدولة، فاستولى بعده على فارس وأقام بشيراز. ثم مات أبوه ركن الدولة أمير أصفهان فضم مملكته إليه. ثم مات معز الدولة في بغداد وانتقل ملكه إلى ولده بُختيار. وكان ضعيفًا، سيئ السيرة، قليل الحيلة؛ فسار عضد الدولة إلى بغداد ودخلها سنة ٣٦٧ﻫ/٩٧٧م ووحد دولة البويهيين، وخُطب له على منابرها، ولم يُخطب لأحد قبله غير الخليفة. ثم ملك الموصل من بني حمدان، وعاش مرهوب الجانب، منبسط السلطان، حتى أتاه اليقين، فتوفي ببغداد سنة ٣٧٢ﻫ/٩٨٢م.
ولدولة بني بويه فضل كبير على العلم وذويه؛ فإنهم أباحوا حرية التفكير، وشدوا أزر العلماء، فظهرت على عهدهم فلسفة إخوان الصفاء في البصرة وبغداد، ونبغ الشيخ الرئيس ابن سينا. وأفاضوا من سيبهم على الشعراء والكتاب، فضربوا إليهم آباط الإبل من الأمصار البعيدة، وقصدهم أمثال المتنبي وأبي إسحاق الصابئ. وعُرف بالشعر جماعة منهم كعضد الدولة وتاج الدولة.
وبلغ بهم حبهم للعلم أنهم لم يستوزروا غير الكتَّاب والشعراء؛ فركن الدولة استوزر ابن العميد، وابنه مؤيد الدولة استوزر الصاحب بن عبَّاد.
وكان مؤيد الدولة عاملًا لأخيه عضد الدولة على الري وهمذان، فلما مات تولى بعده أخوه فخر الدولة فأقرَّ الصاحب في وزارته. وكان وزير معز الدولة الحسن المهلَّبي الشاعر.
ولم يشأ البويهيون أن يقروا بخلافة الفاطميين في مصر مع أنهم شيعيون مثلهم، وآثروا عليها خلافة العباسيين وهي سنية؛ ذلك بأن الفاطميين كانوا دولة قوية تقبض على السلطة الروحية والسلطة الزمنية معًا، والبويهيون — وهم من الفرس — يعنيهم أن يستعيدوا سابق عزهم وسلطانهم، وما يتأتَّى لهم أن ينفردوا بالأحكام إلا في خلافة مهيضة الجناح كخلافة بني العباس.
(٤) ميزة العصر
لا يصح لنا أن نسمي هذا العصر عباسيًّا من الوجهة السياسية، إنما يصح ذلك من الوجهة الفكرية؛ لأن السلطان فيه كان للملوك المستقلين، ولم يبقَ منه إلا الشيء اليسير لخلافة بني العباس. ولكن العلوم والآداب عباسية خالصة، ترتبط بما تقدَّمها بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. وهي وإن يكن لها ميزات جديدة تصطبغ بها وتتلون، فما ذلك إلا رقي بعد نشوء، وتتمة بعد بدء، ونضج بعد إثمار، فليس من فن أو علم في العصر الثالث إلا وقد نشأ ونما وترعرع في حمى العباسيين، فمن العدل أن نسمي العصر عباسيًّا وإن ولَّى ملك بني العباس أو كاد.
وهذا العصر يمتاز في شيئين مختلفين؛ أولهما: سوء الحالة السياسية في ممالك الإسلام، واضطراب الأمن في جميع الأمصار، وانتشار الدعوات والفتن والحروب. والثاني: حسن الحالة الفكرية وقيام المدارس والمكاتب، وازدهار العلوم والآداب؛ فإن الأمراء المستقلين لم يقتصر تنابذهم وتحاسدهم على أن يتقاتلوا ويكايد بعضهم بعضًا، بل تعدى ذلك إلى التنافس والتباهي بتقريب الشعراء والعلماء، والتزيد في الكتب ودور التدريس، فبذلوا المال، وأجزلوا العطاء. ومالوا إلى التساهل فلم يتحرجوا من حرية القول والتفكير، فاتسع مجال الارتزاق على أهل العلم، فتفرَّقوا في الممالك المستقلة، وأصبح لهم جملة حواضر ترفِّه لهم العيش، وتضمن لهم الشهرة، بعد أن كان الرزق والشهرة مقصورين على بغداد، فانبسطت أحوالهم، وفرغوا إلى النظم والتأليف، فنهضوا بالفكر الإسلامي نهضة عظيمة، ونما على أيديهم نضج العلوم والآداب.