الشعراء المولدون
(١) ميزة الشعر
اصطبغ الشعر بألوان جديدة مازته بخصائصها، وانبعثت فيه فنون كادت تضمحلُّ وتُنسى، واستقلَّت أبواب كانت تابعة لغيرها؛ فأما ما استجد به فالشعر الفلسفي والصوفي. وأما ما انبعث حيًّا فالفخر والحماسة. وأما ما استقل فالدهريات والزهريات والإخوانيات والهزليات.
(١-١) الشعر الفلسفي
لا نعني بالشعر الفلسفي تلك الحكم والأمثال المبثوثة في القصائد، فهذه قديمة غير محدثة وإن يكن المتنبي رقَّاها وأظهر حلاها. وإنما نعني الشعر الذي تنظم فيه المذاهب الفلسفية بحثًا عن الحقيقة بالنظر إلى الطبيعة وما وراء الطبيعة. ومن حق الشعر الفلسفي أن يظهر في هذا العصر، وقد اختمرت العقول بالعلوم الدخيلة، وشرع المفكرون في التصنيف بدلًا من النقل، فنشأت الفلسفة الإسلامية متَّحدة بالفلسفة اليونانية، ونبغ الفارابي وابن سينا وإخوان الصفاء، ونبغ شاعر فيلسوف نظم الفلسفة للفلسفة في كتاب سماه اللزوميات؛ ألا وهو أبو العلاء المعرِّي. ولابن سينا قصيدة فلسفية شرح فيها رأي أفلاطون في هبوط النفس من السماء، وحبسها في الجسد إلى أن تطهر فترجع من حيث أتت، فهذا النوع من الشعر جديد لم يعرفه العرب من قبل.
(١-٢) الشعر الصوفي
وهذا أيضًا فن جديد ظهر بعد أن ترقت الطريقة الصوفية، وصارت علمًا يعتمد على الفلسفة. وكانت قبلًا أشبه بالزهد مقتصرة على العبادة، والانقطاع إلى الله، والإعراض عن زخرف الدنيا. ويُعْنَى الصوفيون على الأخص بثلاثة أشياء؛ أولها: الاتصال بالله في هذه الحياة الدنيا. والثاني: انبثاق العالم من الله. والثالث: رجوعه إليه تعالى ويسمونه الوصال. ويزعمون أنهم في اتصالهم بالذات تتكشف لهم الحقائق المخبوءة فيرون الجنة وما فيها من أشجار وأنهار، وحور وولدان، ويرون الجحيم وما فيه من أبواب وعذاب. ولا يتم عندهم هذا الفتح الإلهي إلا بعد مجاهدة وذكر وخلوة، يعكف عليها الصوفي، فتأخذه غيبوبة يعبرون عنها بالانجذاب والسكر، فيتوصل إلى الكشف والمشاهدة. ولهذا كثر تغزُّلهم بالخمرة الإلهية ونشوتها، وتغزَّلوا بالذات والصفات، ووصفوا الجنة ونعيمها. ولهم في ذلك اصطلاحات مخصوصة بهم يستعملونها في شعرهم ونثرهم. والمنظومات الصوفية من الشعر الرمزي ظاهرها غزل متهالك، وباطنها توجُّد بالعزة الإلهية. وكان ظهور هذا الفن في أرض الفرس والعراق لأن ثمة مولد الصوفية، ثم امتد بامتدادها إلى الشام فمصر.
ومن الشعر الصوفي قول عبد الكريم القُشَيْري المتوفي سنة ٤٦٥ﻫ/١٠٧٢م:
(١-٣) الفخر والحماسة
كان هذا الفن قد ضعف في صدر الدولة العباسية؛ لضعف العصبية والنخوة، وانصراف الشاعر إلى القصف والمجون، فلما توالت الحروب والفتن، هبَّ الأُمراء للدفاع عن ممالكهم، فآنسوا في شعوبهم فتورًا واستكانة، ونفورًا من الحرب والنجدة، فأخذوا يبثون فيهم روح الشجاعة والحمية، وحثوا الشعراء على الفروسية والإقدام. وكان ملوك العرب أشد عناية من غيرهم باستخدام الشعر الحماسي، فسيف الدولة حمل المتنبي إلى حلب، ودفعه إلى الروَّاض فعلموه الفروسية والطراد، فكان يصحبه في غزواته إلى بلاد الروم، ويصف معاركه، ويبعث بشعره الحمية في صدور الرجال. وقيل إن الخليفة الفاطمي أوعز إلى القصَّاصين بنشر سيرة عنترة لتثقيف المصريين على الفضائل الجاهلية من فروسية وشجاعة ونجدة. ونظمت لهذه القصة أشعار حماسية أضيفت إلى عنترة وأقرانه، ورصَّع بها صدر كل معركة أو مبارزة، فاستعاد هذا الفن سابق عزه، وكان الفضل في إحيائه لشعراء العرب الخُلَّص كالمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي وأمثالهم، فجددوا به عهد الشعراء الفرسان، وأبدعوا في وصف الْتِحام الجيوش، ووقْع الأسِنَّة والسيوف، وشيخُ وَصَّافيهم أبو الطيب المتنبي.
(١-٤) الدهريات
وكان من تتابع الحروب والمحن، واستفحال الفقر والعوز، أن تفاقم تذمُّر الناس على زمانهم، فباتوا لا تحدث لهم حادثة إلا أضافوها إلى الدهر، وأحالوا عليه باللوم والعتب كأنما هو شخص مسئول عن أعماله. واعتادوا ذلك حتى غلب على كلامهم، وتلوَّن به شعرهم، فأصبح فنًّا ولكنه ممتزج بغيره. ثم أنشأ الشعراء ينظمونه منفردًا فعل ابن الرومي وأضرابه، وتم له الاستقلال في هذا العصر، وسموه شكوى الدهر أو الدهريات.
(١-٥) الزهريات
وهي وصف الطبيعة وجمالها، وهذا الفن قديم في الشعر العربي، فلما كثر النظم فيه أفردوا له بابًا قائمًا بذاته دعوه الزهريات. وخصوه بنعت الرياض والبساتين، والأشجار والأزهار والأطيار، وغيوم الربيع ووسميه وما شاكل.
(١-٦) الإخوانيات
هذا باب انفرد به النثر قبل الشعر، ثم لما كثر النظَّامون، وتعاطى القريض الوزراء وكتَّاب الدواوين وأهل الفقه والقضاء، أصبحوا يتراسلون بالشعر كما يتراسلون بالنثر، فاستعملوه في التهنئة والتعزية والشكر والعتاب والاستعطاف، وغير ذلك مما يدور بين الأصحاب من مراسلات.
(١-٧) الهزليات
ويشمل هذا الباب الدعابة والعبث والتهكم، ويغلب عليه الهزل والمجون، وهو غير جديد في نوعه، فقد ظهر منه شيء في ملاحيات بشار وحماد عجرد، ثم في مداعبات أبي نواس وأصحابه المُجَّان، ولكن لم يختص به شاعر يتخذه فنًّا، يميزه من غيره، قبل أن يظهر في بغداد أشباه ابن سكَّرة وابن حجَّاج من شعراء هذا العصر؛ فإنهم جعلوا منه عرضًا مقصودًا، وغاية يُرمى إليها، فاصطبغ به شعرهم دون غيره من الفنون والأغراض. ودونك مثالًا عليه هذه الأبيات من مقصورة صريع الدلاء التي عارض بها مقصورة ابن دريد، وأخرجها متهكمًا مخرج الحِكَم والأمثال:
وكان للاصطلاحات الفلسفية، والمزاعم الصوفية حظ من هذا الشعر، فإن أصحابه اصطنعوها وسيلة للضحك والسخرية، فمن ذلك أن المتفلسفين كانوا يشبهون الإنسان بعالم صغير، فيقول إخوان الصفاء في رسائلهم: «إن هذا الجسد لهذه النفس هو بمنزلة دار لساكنها، فرجلاه وقيام الجسد عليهما كأساس الدار، ورأسه في أعلى بدنه كالغرفة في أعلى الدار.» إلى أن يقولوا: «ورقبته وطولها كرواق الدار، وفتح حُلقومه وجريان الصوت فيه كدهليز الدار.» فانتحل ابن سكرة آراءهم في نزلة نزلت به فقال:
على أن هذا الشعر يشوبه كثير من فحش القول وهجره؛ مما يجعله غير صالح للحفظ والرواية.
(١-٨) سائر أغراض الشعر وفنونه
كان من جرَّاء تنافس الدول في تقريب الشعراء، وإقبال العلماء والكتَّاب على نظم الشعر، أن تضاعف عدد الشعراء والمتشاعرين، فتكاثروا حتى امتلأت بهم الدواوين والمجالس، وكثر القول حتى اكتظت به الصحاف والقماطر. قيل إن الصاحب بن عباد بنى دارًا فهنأه بها خمسون شاعرًا، وإن صديقًا له مات حماره، فرُثي الحمار بأكثر من خمسين قصيدة. وكان من انقياد الشعر إلى غير أهله أن اختلفت فيه ألوانه وأغراضه وفنونه، فحفل شعر الكتَّاب والوزراء بالتشابيه والاستعارات وأنواع البديع؛ لأنهم تعوَّدوا التنميق في ترسلهم، فغلب عليهم في نظمهم، واحتذى مثالهم جماعة من الشعراء لمكانتهم في دولتهم، فأصبح الشعر عندهم صنعة ووشيًا.
وطغت الاصطلاحات العلمية والفلسفية على شعر أهل العلم والفلسفة، وتردَّد فيه أسماء فلاسفة اليونان وعلمائهم. ويختص هذا الشعر بضعف العاطفة، وقلة الماء، وقوة التفكير، ووفور المعاني على الألفاظ بحيث لا تسلم أحيانًا من الإبهام، فمن ذلك قول البديع الأسطرلابي:
وقول أبي الفتح البستي:
وأفرط الشعراء في ذكر الألفاظ القبيحة، ووصف معارض الفحش؛ فشَأَوْا مَن تقدمهم، وأربوا عليهم في الإقبال على اللذَّات، والاستغراق في الشهوات. وقادهم ذلك إلى الإزراء بالدين، فخفَّت أسماء الأنبياء وكتبهم على ألسنتهم. وكان لانتشار الدعوات الباطنية، والطرق الصوفية، والآراء الفلسفية يد في دفع الشعراء إلى الاجتراء على الدين والأنبياء المرسلين. وغلب الغلو المسترذل على مدائحهم؛ لأن تنافس الدول المستقلة جعل أمراءها يستعذبون كل إطراء كاذب؛ لكى يُمدح كل واحد منهم بأحسن مما مُدح به غيره؛ فأسرف الشعراء في أقوالهم، وأغرقوا في طلب المحال، فوضعوا ممدوحيهم في مقام الرسل حينًا، وفي مقام الإله آخر، وأضافوا إليهم غرائب المعجزات، وأسطع الآيات، فجاء شعرهم من هذا القبيل كثير الغُثاء بغيضًا ممقوتًا.
(١-٩) لغة الشعر
كان من تعدد حواضر الشعر أن ظهر شعراء في الأمصار العجمية حيث الرطانة غالبة، والبلاغة مهزومة؛ فجاء شعرهم ضعيف البيان منحدرًا إلى الركاكة، وسرى هذا الداء إلى العراق لغلبة العناصر الفارسية والتركية على أهله إلا بغداد قرارة العلم، وكعبة رجاله، ومحط رحال الأعراب، فإن شعراءها احتفظوا ببلاغتهم، وحسن بيانهم، فنبغ فيهم أمثال الشريف الرضي، ومهيار الديلمي، وابن نُباتة السعدي، والسَّلامي وغيرهم.
وأما الشام فإن شعراءها بقيت لهم ملكة البلاغة، فضربوا بسهم وافر منها. ويرجع ذلك إلى إعراقهم في العروبة، وقُربهم من البادية، وقلة اختلاطهم بالأعجام، فامتاز شعرهم في الجزالة والرصانة، ولم يخلص من الغريب، كما في شعر المتنبي والنامي وأبي فراس وأبي العلاء.
(٢) المتنبي ٩١٥–٩٦٥م/٣٠٣–٣٥٤ﻫ
(٢-١) حياته
هو أحمد بن الحسين الجُعْفي، عربي صليبة. وبنو جُعفي بطن من سعد العشيرة بن مَذْحِج، وهي قبيلة يمانية فيها فصاحة ولَسَن، ينتهي نسبها إلى بني كهلان، وكنيته أبو الطيِّب، ولقبه المتنبي. قيل لُقِّب به لادِّعائه النبوَّة. وكان أبو الحسين بن لنكك يحسد أبا الطيب، ويطعن عليه، ويزعم أن أباه كان سقَّاءً بالكوفة. ورواية رجل مثله لا يصحُّ التعويل عليها.
وكان بالكوفة محلات نزلتها أفناء اليمن، وأطلقت عليها أسماء قبائلها المشهورة، منها محلة كِندة، وفيها وُلد المتنبي، وإليها انتسب. وظهرت عليه النجابة وهو صغير، فحمله والده في نعومة أظفاره إلى الشام فنشأ فيها وبها تخرَّج، ونظم الشعر وهو في المكتب، وما إن ترعرع حتى مات أبوه وتركه يتيمًا.
دعوته
لبث المتنبي بعد موت أبيه يطوِّف بين الشام والعراق، ويتنقل في البادية مصاحبًا الأعراب. وكانت الديار الإسلامية يومئذ دريئة للفتن والدعوات، فالفرق الباطنية من قرامطة وإسماعيلية وسواهم، يدعون للرضا من أبناء علي، أو يبشرون الناس بظهور المهدي ليطهر الأرض من الجور والفساد. والخوارج على السلطان يؤرِّثون نار الفتن في الأمصار ويستولون عليها عنوة حتى باتت الخواطر على تنظُّر دائم لرسول تبعثه السماء والخارجي مغامر يملك الأرض ويحتل مكان مالك آخر.
وكان أبو الطيب ينظر إلى هذه الأحوال القلقة، ويقلِّبها على وجوهها، ويستكشف عن الأفكار المضطربة، ويروز حصياتها، فحدثته نفسه الطَّمُوحُ بأن يلقي دلوه في الدِّلَاء، ولِمَ لا يفعل وفي قلبه جراءة واعتداد، وفي لسانه فصاحة وبيان. وكان له في الأعراب أصحاب وخلَّان لكثرة اختلاطه بهم، ومرافقته لهم في حل وترحال، فاعتمد عليهم في بث دعوته، فاجتمع إليه بعض القبائل الضاربة في بادية السماوة بحيال الكوفة وما يليها من مشارف الشام كبني كلب وكلاب وغيرهم. وأهل البادية؛ لجهالتهم وفقرهم، أسرع الناس لتصديق الدعوات وإثارة الفتن والخروج على السلطان. ويدلنا شعر المتنبي على أن هذه القبائل كانت قوية الشوكة، كثيرة العصيان، فمرة تشق عصا الطاعة على سيف الدولة فيوقع بها ويسبي نساءها، فيستعطفه المتنبي عليها. ومرة تخرج بالكوفة وتعيث فسادًا فيأتي دلِّير بن لَشكَرُوز لقتالها فتنصرف إلى باديتها قبل وصوله. فأبو الطيب في اعتماده عليها قد استنصر أقوامًا لا يأتلون في مواقعة الكروب ومقارعة الخطوب. فلما كبر أمره، تأدى خبره إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الدولة الإخشيدية، فخرج إليه وأسره وشرَّد أصحابه، وحبسه طويلًا حتى كاد يتلف.
حتى إن قصيدته التي استعطف بها الوالي وهو معتقَل عنده ليس فيها ذكر لنبوَّته، وإنما يشير إلى أمر كان يفكر فيه ولم يفعله:
ومن تتبع ديوانه منذ حداثته إلى اكتهاله يرى حب الولاية والرئاسة يدور في رأسه، ويدفعه إلى إظهار ما في ضميره من الرغبة في الخروج على السلطان، والاستظهار بالشجعان، والاستيلاء على بعض الأطراف. وغير مستبعد أن يلتمس الملك بالوسائل الدينية، فيدَّعي العلوية أسوة بغيره من الأدعياء.
ويستدل من قصيدته التي بعث بها إلى الوالي وهو مسجون، أنه أظهر دعوته قبل أن يتم الخامسة عشرة، وهذا من غرائب النبوغ المبكر إن صح الخبر، وفي ذلك يقول:
أما الثعالبي فلم يطمئن إلى هذا البيت، بل ارتاب في صدق صاحبه وقال: «ويجوز أن يكون قد صغَّر سنَّه وأَمْرَ نفسِه عند الوالي؛ لأن من كان صبيًّا لم يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف.» وإذا تقصينا أخبار دعوته تبيَّن لنا من حديث لأبي عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي أن المتنبي قدم اللاذقية في سنة عشرين ونيِّف وثلاثمائة للهجرة، وزعم أنه نبي مرسل، فيكون يومئذ في حدود العشرين، وهي السنة التي اعتقله فيها لؤلؤ فطال حبسه حتى انتقلت إمارة حمص إلى إسحاق بن كَيْغَلَغ التركي، فلبث يعاني مضض الاعتقال حتى مرض واشتد عليه المرض فنظم قصيدته التي يستعطفه بها ويصغر فيها سنه. ووافق وصول هذه القصيدة الرقيقة شفاعات للفتى المريض، فرضي ابن كيغلغ أن يعفو عنه إذا تاب وأنكر دعواه، فأظهر المتنبي توبته، وأُطلق سراحه في أواخر سنة ٣٢٤ﻫ/٩٣٦م بعدما قضى في السجن زهاء سنتين.
وفاداته على الأمراء
لم يَرِثِ المتنبي من أبيه مالًا يسد به خلَّته، ويغنيه عن التكسب بشعره. وكثيرًا ما كان يشكو الفقر وشَظَف العيش، وقلة الأعوان. وابتدأ يمدح الناس وهو في الكتَّاب، وكان من جوائزه في صباه هدية فيها سمك من سكر ولوز في بركة من العسل. وعضَّت به الحاجة بعد موت أبيه فراح يتردد في حواضر الشام، يمدح الأمراء والسادات؛ فعرفته دمشق، وبعلبك، وحمص، وطرابلس، ومنبج، وأنطاكية، واللاذقية، وطرسوس، وصور، وطبرية، والرملة. وله مدائح قالها في أثناء دعوته يوم كان يتوغَّل في البادية، ويستنصر الأعراب، كمدحته في الحسين بن إسحاق التنوخي، أنشده إياها في اللاذقية وهو ابن عشرين؛ لقوله فيها:
ومرت به أوقات أول أمره، كان يُجاز فيها بدينار واحد، ويلبس خشن القطن ولا يملك ناقة يستعين بها على أسفاره، فيركب نعليه ويضرب بهما في الحواضر والبوادي، فاشتهر بجَلَده على المشي المتواصل، وفي ذلك يقول:
ويقول في كلمة أخرى.
ويقول أيضًا:
ثم حظي عند بعض الأمراء أمثال آل تنوخ في اللاذقية، وبدر بن عمَّار في طبرية، والحسن بن طُغج في الرملة. وأتيح له شيء من الشهرة حتى أصبح ذوو الوجاهة يتعرضون له ليمدحهم فِعْلَ ابن كيغَلَغ وكان يومئذ على طرابلس، بعدما كان في حمص فمر به أبو الطيِّب ووجهته أنطاكية، فسأله أن يمدحه، فماطله أبو الطيب وكان يرجو الاتصال بسيف الدولة، فكيف يمدح عاملًا لعدوه الإخشيد، وهو إلى ذلك لم ينسَ أن الرجل لم يطلقه من السجن إلا بعدما أدنفه المرض. وما زال يماطله حتى تسنَّى له الهرب بعد أربعين يومًا، فهجاه بقصيدته الشهيرة التي أولها: «لِهَوَى النفوس سريرة لا تُعلم.» ومثله طاهر بن الحسين العلوي في الرملة، فإنه كان يشتهي أن يُمدح بشعر أبي الطيب، وشاعرنا يأبى أن يمدحه حتى ألح عليه الأمير أبو محمد الحسن بن طغج، وضمن له عند العلوي مئات من الدنانير، ففعل أبو الطيب، ولما دخل على طاهر لينشده شعره فيه نزل طاهر عن سريره، والتقاه مسلِّمًا عليه، ثم أخذه بيده، فأجلسه في المرتبة التي كان فيها، وجلس هو بين يديه.
على أن حظوته عند هؤلاء الأمراء لم تُغنه من فقر، ولم تحل دون تذمره على الدهر، وشكواه كساد الشعر. وقد أورثته مع ضآلتها أعداءً وحسادًا فكانوا يكايدونه شأن ابن كَرَوَّس الأعور نديم بدر بن عمَّار، وكان هو يهجوهم ويذود عن نفسه. وما زال كذلك دأبه بين خمول وشهرة، وهبوط وارتفاع، وفقر وغنى، حتى ورد أنطاكية وعليها أبو العشائر الحمداني من قبل نسيبه سيف الدولة، فاتصل به ومدحه بعدة قصائد، فأكرمه أبو العشائر وأحسن مثواه.
اتصاله بسيف الدولة
وكان سبب اتصاله بسيف الدولة أن ملك حلب قدم أنطاكية سنة ٣٣٧ﻫ/٩٤٨م، فاستقبله أبو العشائر، وقدَّم إليه المتنبي وعرَّفه منزلته في الشعر والأدب وأثنى عليه، فحمله معه إلى حلب، واشترط عليه أبو الطيب ألا ينشده واقفًا وألا يكلَّف تقبيل الأرض بين يديه، فدخل سيف الدولة تحت شرطه، ومالت نفسه إليه وأحبه، فسلمه إلى الروَّاض، فعلَّموه الفروسية والطراد والمثاقفة، فكان يصحبه في غزواته، ويشهد معه المعارك، ويصفها بشعره.
وأفاض عليه سيف الدولة وافر النعم، فكان يعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد ما عدا غيرها من نوافل الأعطيات والخيل والجواري والضيع، حتى بلغ ما ناله في مدة أربع سنوات خمسة وثلاثين ألف دينار. وهي ثروة لا تقل عما كان يربحه فحول الشعراء في الأعصر المتقدمة؛ لأن الذهب في عصر المتنبي كان غاليًا لتوزعه في الممالك المستقلة بعدما كان محصورًا في مملكة واحدة، ثم لتتابع الحروب والثورات والفتن، فلا غرو أن يشعر أبو الطيب بلذة الغنى، وينزع عن شكوى الفقر، والتطواف للتكسب، ويخاطب سيف الدولة بقوله:
ولكن نفسه الجبارة ظلت تطمع في شيء أعظم، فكان يشير إليه ولا يصرح به:
وكان به غلظة واستكبار، فرفع رأسه تغطرسًا، وصعَّر خده للناس، فمقته الشعراء والأدباء لكبريائه، وحسدوه على نعمته ورقَّة حواشي عيشه؛ فراحوا يكيدونه ويرمونه بكل نقيصة، ويعيِّرونه أصله، ويعيبون شعره، ويغلِّظون قلب الأمير عليه. ولم تخفَ على المتنبي قوة خصومه، فلم يَخِم عنهم بل قاومهم بعنف واحتقار. وإذا رأى من سيف الدولة ميلًا إليهم عاتبه واستنجده عليهم:
وكان أشدَّ خصومه لددًا أبو فراس الحمداني، وابن خالوَيْه مؤدب سيف الدولة؛ فإن أبا فراس — وهو شاعر وأمير — كان يتأذَّى من شهرة أبي الطيب المتنبي، وتقديم سيف الدولة له، ويغيظه أن يُعرض أبو الطيب عنه فما يخصه بمديح. ولا يُعتدُّ بقول الثعالبي إنه لم يمدحه تهيبًا له وإجلالًا، لا إغفالًا وإخلالًا؛ فإن شاعر سيف الدولة لو شاء لاستطاع أن يمدح أبا فراس وهو دون الملك مقامًا، وهيبة وجلالًا، لكنه ترفَّع عنه كما ترفَّع عن غيره، واكتفى بسيف الدولة لا يمدح سواه. فكرهه أبو فراس، وتمنَّى إسقاطه، وخضد كبرياءه، فطفق يضافر الشعراء على ثلبه، ويلوم ابن عمه على تقديمه فيقول: «إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرًا يأتون بما هو خير من شعره.» وما زال به يعضِّده سائر خصوم المتنبي من شعراء وعلماء حتى تغير قلب الأمير عليه، فجعل يجفوه مرة، ويرضى عنه أخرى، وربما دخل عليه فتنكَّر له، ورد السلام مختصرًا. وجفاه مرة، فعاتبه الشاعر، فلم ينظر إليه سيف الدولة كعادته، فخرج متغيرًا وانقطع عن نظم الشعر. وكان سيف الدولة إذا تأخر عنه مدحه شق عليه وأكثر أذاه، وأحضر من لا خير فيه، وتقدم إليه بالتعرض له في مجلسه بما لا يحب، فلا يجيب أبو الطيب، فيزيد ذلك في غيظ سيف الدولة ويتمادى أبو الطيب في ترك قول الشعر، ويلج سيف الدولة فيما كان يفعله، إلى أن كبر الأمر على الشاعر فنظم ميميته الخالدة التي أولها:
وكان أبو فراس حاضرًا ساعة إنشادها، فانبرى ينتقدها، ويبيِّن سرقات أبي الطيب فيها، وأبو الطيب يتابع القول ولا يردُّ عليه ويبالغ في الكبر والصَّلَف حتى إنه لم يبالِ أن يتناوله بشعره، ويعرِّض به، وأن يفتخر على جميع من حضر مجلس الأمير، فضجر سيف الدولة منه، واستاء من دعاويه وعجرفته، فضربه بدواة بين يديه، فلم يهلع الشاعر، بل ظل رابط الجأش، حاضر الذهن، فارتجل هذا البيت الشرود:
وتابع أبو فراس نقده، فلم يلتفت سيف الدولة إلى قوله، وأعجبه بيت المتنبي، ورضي عنه، وأدناه إليه، وقبَّله، وأجازه بألف دينار، ثم أردفها بألف أخرى.
على أن هذه القصيدة وإن تكن أرضت سيف الدولة مع ما فيها من غطرسة وغلظة في العتاب، لقد أحنقت أنسباءه وحاشيته ورجال مجلسه. وكان أبو العشائر حاضرًا فساءه أن يعرِّض الشاعر ببعض بني عمه، فلما خرج المتنبي ألحق به بعض غلمانه ليوقعوا به، فوقفوا له في الطريق، فرماه أحدهم بسهم وقال: «خذه، وأنا غلام أبي العشائر!» فوقع السهم في نحر فرسه، فانتزعه ورمى به؛ ثم كرَّ عليهم بالسيف فجرح أحدهم، فتركوه واشتغلوا بالمضروب. واستخفى أبو الطيب عند صديق له، وسيف الدولة يسأل عنه، وينكر أن يكون قد أمر بقتله، أو علم بما دُبِّر لاغتياله. ثم عاد إليه الشاعر يمدحه، ولكن اجتماع الحُسَّاد عليه كان ينغِّص عيشه، فسئم الإقامة بينهم وآلمه أن يُعِيرهم الأمير سمعه، فأزمع الرحيل، وحذَّر سيف الدولة بقوله:
فلم يحفل سيف الدولة بتحذيره، ولا منع الخصوم عن الوقيعة به، حتى كانت حادثة ابن خالويه، فجاءت ثالثة الأثافي.
وابن خالويه له دالة على الأمير؛ لأنه مؤدبه، وهو يكره المتنبي لشاعريته وحُظْوته، ويكرهه لأن أبا الطيب كان يحتقره ويزدري آراءه في النحو، ولطالما حاول النحوي مناظرته، فخذله الشاعر، وجهَّلَه وسفَّه آراءه. فاتفق أن اجتمعا مرة في مجلس سيف الدولة بعد أن عاثت مكايد الحساد في صدر الأمير فأفسدت في ما بينه وبين شاعره من مودة. وكان أبو الطيب اللغوي حاضرًا، فجرت بينه وبين ابن خالويه مناظرة في اللغة، والمتنبي ساكت. فقال له سيف الدولة: «ألا تتكلم يا أبا الطيب؟» فتكلم بما قوَّى حجة أبي الطيب اللغوي وضعَّف قول ابن خالويه، فأخرج هذا من كمه مفتاحًا ليلكم به المتنبي، فقال له المتنبي: «اسكت ويحك! فإنك أعجمي، وأصلك خوزي فما لك والعربية!» فضرب وجهه بذلك المفتاح، فأسال دمه، فغضب المتنبي من ذلك. وزاده غيظًا أن سيف الدولة لم ينتصر له لا قولًا ولا فعلًا، فاعتصم بالصمت عالمًا أن التعرض لابن خالويه وخيم المغبَّة ما دام الأمير راضيًا عن عمله، وخرج من الحضرة، وقد عوَّل على الرحيل.
اتصاله بكافور
وكان المتنبي لا ينفكُّ يحلم بالملك منذ حداثته، فلما صار إلى كافور بعد خيبته عند سيف الدولة، ولقي من الأسود حفاوة وإكرامًا، طمع فيه وشاقه أن يُقطع ولاية في مملكته يدبِّر أمورها، ويعتاض بها من خيبته، ويكبت بها حسَّاده، فوعده كافور، فشرع المتنبي يمدحه في كل سانحة، ويعرض لذكر الولاية، وكافور يماطله.
ولم يسلم في مصر من أعداء يكيدونه، فإن ابن حنزابة — وزير كافور — كان يبغضه؛ لأنه أبى أن يمدحه، فأخذ يشنِّع عليه، ويشير على كافور بأن لا يجيب طلبه، وإذا سمع مدحه في سيده قال: «هذا هزء بكافور.»
فلما طال الأمر بأبي الطيب، وبان له أن وعود كافور عرقوبية، تولاه اليأس، وملَّ الإقامة في مصر. ثم أصابته الحمى، فساءت صحته، فعزم على الرحيل.
وكان كافور يعلم أن أبا الطيب واجد عليه لتخييبه رجاءه، فخشي أن يهجوه إذا خرج من مصر وابتعد عن حكمه، فمنعه من الرحيل، وألزمه أن يبقى في بطانته، فعلم أبو الطيب أنه سجين لا يستطيع البراح إلا خفية، فأعدَّ كل ما يحتاج إليه، وأعانه بعض أصحابه، فدفن الرماح في الرمال، وحمل الماء على الإبل لعشر ليال، وتزوَّد لعشرين. وكان يفعل ذلك سرًّا وهو يظهر الرغبة في المقام، ويركب في خدمة العبد خوفًا منه. فلما كانت ليلة الأضحى في أواخر سنة ٣٥٠ﻫ/٩٦١م خرج من مصر مستخفيًا، ونظم في هجو كافور داليته الشهيرة: «عيد بأية حال عدت يا عيدُ!» فأرسل كافور بعض رجاله بطلبه فلم يدركوه.
في العراق وفارس
برح المتنبي مصر ساخطًا على كافور يهجوه ويوجع عرضه، فقدم الكوفة سنة ٣٥١ﻫ/٩٦٢م وأقام بها. وبلغ سيف الدولة قدومه، فأنفذ إليه ابنه من حلب سنة ٣٥٢ﻫ/٩٦٣م ومعه هدية سنيَّة، فمدحه أبو الطيب بقصيدة، وأرسلها إليه. ثم ماتت أخت سيف الدولة، فعمل المتنبي قصيدة يعزيه فيها، وبعث بها إلى حلب. ثم أنفذ إليه سيف الدولة كتابًا بخط يده يسأله المسير إليه، فأجابه أبو الطيب بقصيدة أولها:
ولكنه لم يصر إليه، بل لبث بالكوفة نحو ثلاث سنوات، قصد في خلالها إلى بغداد والخليفة فيها المطيع لله، والسلطان بيد معز الدولة بن بويه، ووزيره المهلبي، فرغب المهلبي إلى أبي الطيب في أن يمدحه، فالتحف برداء الكبر، على لغة الحاتمي، وأعرض عن مدحه؛ فحنق الوزير وأغرى به الشعراء فانبروا يشتمونه ويتنقَّصون قدره. وكان أشدهم تطاولًا عليه ابن سُكَّرة وابن حجَّاج. وكان المعز قد ساءه أن يصدر شاعر عن حضرة عدوه سيف الدولة ويرد حضرته في دار الخلافة، فلا يلقى أحدًا يساويه في صناعته. فما كان من الحاتمي إلا أن تعرَّض لمناظرة أبي الطيب فجاءه في داره، فازدراه المتنبي ولم يوقره، فحنق واندفع ينتقده ويظهر عيوبه. ويحدثنا الحاتمي في رسالته الموضحة أن أبا الطيب اعتذر له مستخذيًا، وعجز عن مناظرته. ولكن لا نستطيع أن نثبت حقيقة هذه المناظرة؛ لأن القصة يرويها أحد الخصمين. ومن الصعب أن يقنعنا الحاتمي بأن المتنبي لانت قناته في مناظرته له، وقد عُرف باستبحاره في اللغة، واعتداده بنفسه، وصلابته في الدفاع عن شعره.
ولم تطب الإقامة للمتنبي في دار السلام، فلم يُطل بها مكوثه، بل رجع إلى الكوفة وأقام بها زمنًا ثم رحل إلى أرَّجان وفيها ابن العميد وزير ركن الدولة بن بويه صاحب أصفهان. وكان قد راسل المتنبي إلى العراق فصار إليه في شهر صفر سنة ٣٥٤ﻫ/شباط ٩٦٥م، ومدحه وأقام عنده برهة. ثم جاءه كتاب من عضد الدولة بن بويه صاحب فارس يستزيره، فودع ابن العميد، وشخص إلى شيراز، فاحتفى به عضد الدولة، وأحسن وفادته، وأجزل له العطاء حتى بلغ ما وصل إليه منه أكثر من مائتي ألف درهم ما عدا الخِلَع والهدايا والتحف.
وعرضت لأبي الطيب حاجة في الكوفة، ويظن أنه كان يريد الرجوع إلى حلب، فاستأذن عضد الدولة بالسفر على أن يعود إليه، فأذن له وخلع عليه الخلع الخاصة، ووصله بالمال الكثير، فودعه بقصيدة كافيَّة أنشده إياها في أول شعبان سنة ٣٥٤ﻫ/٢ آب ٩٦٥م، وكانت آخر شعر قاله، وقد أودعها من التشاؤم على نفسه، بما لم يقع له في غيرها مع كثرة أسفاره. وكثيرًا ما تنتاب الهواجس قلب المرء، قبل نكبة مقدورة له، ولا يعلم لها سببًا:
مقتله
اختلف الرواة في مقتل المتنبي، فمن قائل إن قاتله فاتك بن جهل الأسدي، ومن زاعم أن عضد الدولة لما وفد عليه أبو الطيب وصله بثلاثة آلاف دينار، وثلاثة أفراس مُسرجة محلَّاة، وثياب مفتخرة، ثم دس عليه من سأله: «أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟» فقال: «هذا أجزل إلا أن عطاءه متكلَّف، وسيف الدولة كان يعطي طبعًا.» فغضب عضد الدولة، فلما انصرف أبو الطيب من شيراز، جهز عليه قومًا من بني ضبة فقتلوه. وقيل إن الخفراء جاءوه، وطلبوا منه خمسين درهمًا ليسيروا معه، فمنعه الشح والكبر، فوقع له في الطريق ما وقع. على أن الرواية الأولى أشهر، وتحرير الخبر أن رجلًا يقال له ضبة بن يزيد العُتبي كان قد خرج في الكوفة مع خوارج الأعراب من كلاب، فقُتل والده في تلك الفتنة، قتله قوم من الكوفة، وسبيت أمه.
وكان ضبة غدَّارًا بكل من نزل به، فاجتاز به أبو الطيب في جماعة من أشراف الكوفة، فامتنع منهم، وأقبل يجاهر بشتمهم، فأرادوا أن يجيبوه بمثل ألفاظه القبيحة، وسألوا ذلك أبا الطيب، فتكلفه لهم على كراهة وقال يهجو ضبة وهو على ظهر جواده: «ما أنصف القومُ ضبة.» وهي قصيدة فاحشة الألفاظ، كثيرة الغُثَّاء حتى إن أبا الطيب كان يكره سماعها إذا رويت له. وقد سببت قتله مع ما فيها من سخف وسفسفة؛ ذلك أنه كان لضبة خال يقال له فاتك بن جهل الأسدي، فداخلته الحمية لما سمع ذكر أخته بالقبيح، فأضمر الشر لأبي الطيب، ولبث يتربص به في جماعة من قومه، قيل إنهم عشرون، وجعلهم عبد الله الكاتب النَّصيبي في قصيدة رثى بها المتنبي سبعين رجلًا، وجعل رفاق أبي الطيب ستة.
وعاد المتنبي من شيراز ومعه بغال موقرة بالذهب والطيب، والكتب الثمينة، والخلع النفيسة، فلما بلغ النعمانية في جبال الصافية، من الجانب الغربي من سواد بغداد، على مقربة من دير العاقول، خرج عليه فاتك في أصحابه، فقاتل المتنبي حتى قُتل هو وابنه محسَّد، وغلامه مُفلح. وروى صاحب العمدة أن أبا الطيب فرَّ لما رأى الغلبة، فقال له غلامه: لا يتحدث عنك الناس بالفرار أبدًا وأنت القائل:
فكرَّ راجعًا فقتل، وكان ذلك في ٢٨ رمضان سنة ٣٥٤ﻫ/٢٧ أيلول ٩٦٥م.
ورثى أبا الطيب عدَّةُ شعراء منهم صديقه أبو الفتح عثمان بن جنِّي النحوي، ومظفر بن علي الطبسي، وعبد الله الكاتب النصيبي، وثابت بن هارون الرَّقِّي النصراني. وهذان استجاشا عضد الدولة على بني أسد؛ لأنهم قتلوا ضيفه، وحووا عطاءه، ولكن عضد الدولة لم يصنع شيئًا، وذهب دم الشاعر وأصحابه هدرًا.
أخلاقه وصفاته
يصور لنا شعر المتنبي أخصَّ ما يمتاز به صاحبه من الصفات، ففيه الكبرياء والأَنَفَة، والشجاعة، والطموح، وحب المغامرات. وفيه التعفف والترصن، ومجانبة اللهو والهزل، حتى إن شاعرنا كان يكره الخمر لأنها تضيع العقل:
ولا يكرهها لأن الكتاب حرَّمها، فتحريم الكتاب عنده دون تحريم ممدوحه إذا أراده على شربها:
ومن يعلو بنفسه إلى منازل الأنبياء والرسل لا يرجى منه تحرج في الدين، فقد روي أن أبا الطيب لم يكن يصوم، ولا يصلي، ولا يقرأ القرآن. ولكنه كان وفيًّا لأصحابه، فقد ترك حلب غاضبًا مقهورًا، وقلبه لم يزل يحنُّ إلى سيف الدولة. وبعث أبو العشائر غلمانه ليغتالوه، فلم يقل فيه كلمة سوء، وإنما قال أبياتًا تُشعر بحبه الأكيد له:
وكان يكره التمويه والخداع، فقد شاب وهو غلام فلم يختضب؛ لأن الاختضاب تمويه:
وكره كافورًا لأنه خدعه وأخلفه الوعد. ولكن عصره كان عصر رياء ومخادعة فاضطره أحيانًا إلى محاربة الناس بسلاحهم:
إلا أنه كان يتألم من ذلك:
وساء ظنه بعصره فتشاءم به، واحتقر أهليه، وزاده تشاؤمًا مغامراته الكثيرة، وإخفاقه المتتابع.
وعيب أبو الطيب بالبخل، فرووا عنه قصصًا غريبة لا نطمئن إلى صحتها؛ لأنها تنافي كبره وإباءه، ولأن الشاعر كان كثير الحساد، فوضعوا عليه هذه النوادر ليتنقَّصوه ويسقطوه. ونحن لا نزعم أن أبا الطيب سخي متلاف؛ فذلك ليس من طباعه، ولكننا لا نراه لحزًا شحيحًا، فقد طالما ذمَّ الحرص وافتخر بكرمه. ولو كان ممن يحرصون على جمع المال لما استنكف أن يمدح كل أمير يسأله مديحًا. وأغلب ظننا أن المتنبي كان مقتصدًا؛ لأنه ذاق طعم الفقر في صباه، ورأى فيه ضيمًا، ونفسه تأبى الضيم، فكره التبذير خوفًا من ذل الفاقة، وهو يطلب المجد، وعنده أن المجد لا يُدرَك بغير المال: «فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ ماله.» فحرصُ أبي الطيب على طلب المجد جعله يؤثر الاقتصاد، ولا يسرف في الإنفاق.
أستاذوه وعلومه
وكان له إلمام بالعلوم الدخيلة، وفي شعره آراء كثيرة اقتبسها من فلاسفة اليونان، ولا سيما أرسطو.
آثاره
لم يخدم الحظ شاعرًا بعد موته، كما خدم أبا الطيب المتنبي، فإن الحرب التي أثارها عليه أعداؤه وحسَّاده أقامت في وجوههم أنصارًا له ومريدين، فسارت أشعاره على الأفواه، وتناقلها جمهور الأُدباء، وعنوا بجمعها وشرحها؛ حتى ذكروا أن شُرَّاح ديوانه يزيدون على الأربعين؛ فمنهم في المتقدمين ابن جنِّي، وأبو العلاء المعرِّي، والواحدي، والعُكْبَري. ومنهم في المحدثين اليازجيَّان، والبرقوقي.
ومنهم من عدل وأنصف كالقاضي الجرجاني؛ فقد ألف كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، ذكر فيه ما للشاعر وما عليه. وكذلك صنع الثعالبي في يتيمة الدهر، والبديعي في الصبح المنبي. وأشهر من نقد شعره في المتأخرين الشيخ إبراهيم اليازجي، فإنه ذيَّل ديوانه بنقد بليغ بذَّ به المتقدمين. ثم قام بعده جماعة من الأدباء في الشام ومصر، فدرسوا شعر أبي الطيب درسًا تحليليًّا حديثًا. وللمستشرقين — متقدميهم ومحدثيهم — عناية كبيرة بهذا الشاعر، ونقل أشعاره إلى لغاتهم.
ولا ريب أن اهتمام الأدباء بأبي الطيب من نحو ألف سنة إلى اليوم هو لا بد سرٌّ من أسرار عبقريته وخلوده.
(٢-٢) ميزته
لا أُشبِّه المتنبي إلا بنسر عتيق أشرف على القمم العالية، باسطًا جناحيه زهوًا وكبرًا، فلاحت له طيور مدوَّمة تريد مجاراته، فانقضَّ عليها كاسرًا يصيح بها، فأوسعها رعبًا وذعرًا، فأسفَّت جوانح للكلاكل، وراح النسر يخفق بقوادمه وخوافيه، وقد منع حجاب الشمس عن سائر الأطيار.
وأبى أن يقتنع بما أتيح له من عز وسلطان، وهيهات ذلك، وله همة تصك بمنكبها منكب السحاب، ونفس طمَّاعة لا ترضى بما دون نجوم السماء، فحدثته أن يخرج من سمائه، ويحتل سماوات غيره، ففعل؛ فتضافرت عليه نسور غريبة، فردَّته، فأبي أن ينكص خائبًا، فعاود الكرَّة، فعاوده الإخفاق. وما انفك يغامر ويخاطر حتى تخطَّفته هوج الرياح، فحطَّمت جناحيه، فهوى على الصم الخوالد، فتمزَّق صدره وعيناه ناظرتان إلى عل.
هذا هو المتنبي في شاعريته ونبوغه، في كبريائه وطموحه، في عزائمه ومغامراته، وفي إخفاقه ومماته. فماذا ترك ذلك من أثر في شعره؟ إنه لا بد شيء عظيم، سنتبينه في دراسة أغراضه وفنونه.
مدحه
•••
•••
•••
•••
وأضراب هذه المغاليات كثيرة في شعر أبي الطيب لا نرى حاجة إلى الاستزادة منها، ففي القدر الذي أوردناه كفاية للدلالة على نظر الشاعر إلى ممدوحه، وشغفه بكل خارق عجيب. ومثل هذه المعاني وغيرها معادة مكرورة في ديوان المتنبي فلا تكاد تقرأ قصيدة إلا وقعت على شيء منها وجدته في قصيدة سواها. وترداد هذه الأفكار في شعره دليل على ما كان لها من بليغ التأثير في نفسه. وهي إلى ذلك يشوبها الغلو المستكره حتى لينحدر بصاحبه إلى السخف، وربما لا يخلو من المضحكات فيخيل إليك أن الشاعر يهزأ بممدوحه، كقوله:
ومثل هذه الحماقات يحفل بها شعر صباه أكثر من شعر كهولته.
وأروع مدائح المتنبي ما قاله في سيف الدولة، ويكاد يبلغ ثلث شعره. ويمتاز في وصف الجيوش والمعارك، وصدق العاطفة وإخلاص الولاء، والإدلال على الممدوح، ومخاطبته بلغة العشاق والمحبين. وهذه الخاصة تكاد تشمل جميع مدائح المتنبي، إلا أنها في مدح سيف الدولة أظهر وأدلُّ؛ لأن أبا الطيب لم يحبَّ ممدوحًا كما أحب صاحب حلب، ولم يخلص الود لأمير كما أخلص له، فهو شاعر سيف الدولة وإن تعدد ممدوحوه.
وليست مدائحه في كافور كذلك، فإنها كذب محض، وتجارة محض. ولكنها رائعة الفن، بديعة الأسلوب؛ لأن الشاعر استطاع أن يلبسها ثوبًا ذا لونين اتحد ظاهرهما واختلفت حقيقتهما، فمزج المدح بالسخر والجِدَّ بالعبث، ولا يُلام أبو الطيب في مدحه الكاذب لكافور؛ لأنه لم يقصده إلا بعد أن دعاه إليه، ولم يمدحه شغفًا بمناقبه، ولكن رجاء أن ينال منه ولاية يمحو بها خيبته، ويفقأ عيون خصومه، ويحقق أحلام صباه؛ فقد كان شاعرنا متهالكًا في طلبها، وبه مثل الجنون للحصول عليها، حتى إنه اصطنع التزلُّف على غير عادته، فكان ينشد العبد واقفًا بين يديه، ولم ينشد الحر إلا قاعدًا.
ووعده كافور بالولاية فاستنجزه الوعد، فأرهقه مَطْلًا وتسويفًا، فكانت نفسه الكبيرة تتألَّم لعبث الأَسْوَد بها، واضطرارها إلى مصانعته. وبوسعنا أن نتبيَّن سوء حالها من تململ الشاعر في كل قصيدة مدح بها كافورًا، وإلحافه في طلب الولاية، وتذمُّره على التسويف:
ولئن كان أبو الطيب بارع الفن في مدح كافور، لقد كان سيئ السياسة في مصاحبته، قصير الحيلة في استمالته، ضعيف النظر في استبصار فطنته، فإنه ما كاد يدخل عليه لينشده أول قصيدة صنعها فيه حتى فاجأه بطلب الولاية، وأظهر له غرضه من مجيئه إليه، فقال في يائيته:
فعلم العبد أن أبا الطيب طامع فيه، فساء به ظنُّه، ومنَّاه الوعود الكاذبة. وأبت نفس المتنبي في جبروتها أن تستتر مع رغبتها في اصطناع التزلُّف، فطفق الشاعر يتغنَّى بفضله ويتسامى إلى مقام الملوك فيقول:
ولعل كافورًا خاف من طمعه وطموحه فعالجه بالمطل، أو لعله شكَّ في صلاحه للسياسة والتدبير لما رأى من تهوره وقلة مبالاته. وأحسَّ أبو الطيب ضعف ثقته به فخاطبه بقوله:
قال الواحدي: «هذا البيت يشبه الاستهزاء لأنه يقول: طربت على رؤيتك كما يطرب الإنسان على رؤية المضحكات.» وقال ابن جنِّي: «لما قرأت على أبي الطيب هذا البيت قلت له: «ما زدت على أن جعلت الرجل أبا زَنَّة، وهي كنية القرد، فضحك».» ولا نُرى أنه يفوت العبد الذكي، أن يكتنه الذم بمعرض المدح في قوله:
فأن تقول لإنسان: «نَمْ واطمئنَّ فالحظ يخدمك.» لأقرب إلى التهكم منه إلى المدح.
ومهما يكن عليه كافور من الغرور بالنفس، لا نحسبه يُخدَع بشاعر يفضله على الشمس بشمس سواده، وإن جعل وجه الشبه ضياء مجده:
فذكر الشمس السوداء كافٍ لأن يبعث السامع على الضحك والاستغراب. وقد علمت أن كافورًا فطن ذكي، فهيهات أن تذهب عنه مرامي الشاعر، وإن تغافل عنها، وصرفها إلى وجهها الصالح صونًا لكرامته وأجاز عليها أبا الطيب وقرَّبه، ولكنه عرف من أين يأتيه، فينتقم منه، فإنه ما زال يعده بالولاية ويماطله حتى أتلف نفسه انتظارًا، وأشعل في قلبه حُرقًا.
وجملة القول أن مدح المتنبي جيد بارع لولا غلوه الممقوت، وأفخمه ما جاء في سيف الدولة، وأبرعه ما جاء في كافور.
رثاؤه
يختلف رثاء المتنبي باختلاف صلته بالمفقود، وشعوره بوقع المصاب، فقد اضطرَّ إلى رثاء أشخاص لم يحزنه الرُّزء بهم، فجاء شعره متصلب العاطفة، فاقد الشعور، كرثائه لأم سيف الدولة وابنه وأخته الصغرى، ولمحمد بن إسحاق التنوخي، ولعمة عضد الدولة. ولكنه ستر عجزه بإرسال الحِكَم البليغة ووصف المأتم والجنازة ومدح الميت أو مدح آله. وإن نفسًا كبيرة كنفس أبي الطيب تهزأ بالدهر ومصائبه، ويغلب عليها العقل أكثر من العاطفة، لا يهون على الدهر أن يذلها ويلينها، مهما جرَّ عليها من حوادثه وخطوبه. ولكن قد تمرُّ بها أحوال قاهرة تخضعها للعاطفة ولو زمنًا يسيرًا، فتتصاعد منها زفرات، وتنحدر دموع، كما جرى للشاعر في رثائه جدته لأمه، وأبا شجاع فاتك، وأخت سيف الدولة الكبرى، فإنه ذرف على هؤلاء الثلاثة ثلاث دمعات صادقات. فقد ماتت جدته بالكوفة وهو بعيد عنها، وكان قد طال غيابه بعد أن أخفق في دعوته، فبرَّح بها الشوق، فأرسلت إليه كتابًا تطلب منه أن يحضر، فشخص إلى العراق، ولكنه تعذر عليه دخول الكوفة، لأسباب غير واضحة، فجاء بغداد، وكتب إليها يسألها المسير إليه، وكانت قد يئست فقبَّلت كتابه شوقًا، وغلب عليها السرور فحُمَّت وماتت، فكان لموتها على هذه الحال أثر عميق في نفسه، فجزع عليها وبكاها، وأرسل الدمعة الأولى أحرَّ دمعة روَّى بها تراب ميت:
ومات أبو شجاع فاتك، بعد خروج المتنبي من مصر، وكان أبو الطيب يحبه لشجاعته وكرمه، فرثاه متوجعًا، ذارفًا دمعته الثانية على ضريح ميت:
وماتت أخت سيف الدولة الكبرى وهو في الكوفة، بعد رجوعه من مصر، فكان في رثائه إياها صادق العاطفة، بيِّن اللوعة؛ مما يدل على إخلاص المودة لها، فجاءت دمعته على قبرها خاتمة دمعاته الثلاث:
والمتنبي في رثائه مثله في مدحه، يخاطب المرثي مخاطبة المحب لحبيبه، ويؤخذ عليه أنه لم يجتنب هذه الخطة في رثاء الأميرات، فقد خاطب أم سيف الدولة بقوله:
وقال في أخته الكبرى:
وما رثى امرأة إلا رفعها من الأنوثة إلى الذكورة، متأثرًا بعقلية عصره، فإنهم كانوا يحتقرون المرأة، ويعدُّونها ضعيفة، مهيضة الجناح. وكان أبو الطيب يحب القوة، ويأنف أن يرثي ضعيفًا، فجعل مرثياته ذكورًا وربما فضَّلهن على الذكور. قال في أم سيف الدولة:
وقال في أخته الكبرى:
وقال في عمة عضد الدولة:
هذا؛ وإن أحسن حلية تتحلى بها مراثي أبي الطيب هي الحِكَم والأمثال.
هجاؤه
لم يصطنع أبو الطيب الهجاء آلة للتكسب كما اصطنعه بشار ودعبل وابن الرومي، فالمتنبي أعز نفسًا من أن يهبط بها إلى هذا الدرك. وإنما اصطنعه عدة للكفاح يؤذي بها من آذاه، ويدرأ بها عن نفسه. ولا نعدُّ هجاءه في كافور من قبيل التكسب؛ لأنه لم يهجه مهددًا ليعطيه، أو مستقلًّا عطاءه. وإنما هجاه لأن كافورًا آلمه في صميم فؤاده؛ إذ عبث به عبث الوليد بلعبته، حتى إذا ملَّها اطَّرَحها وحطَّمها، فقد استقدم كافور أبا الطيب، وكان هذا يأنف أن يتصل به، ووعده بأن يُقطعه ولاية يدبر أعمالها، ثم ماطله وكذب عليه، واستأثر به، ومنعه براح مصر، فهذه الأمور أحفظت الشاعر وزادته كرهًا للعبد فهجاه. وكذلك هجوه لابن كَيْغَلَغ فلو لم يؤخره عن السفر لما هجاه. وهكذا هجاؤه لضبة، فإن رفاقه الكوفيين هم الذين حملوه على هجوه، ولم يكن يريده. وليس له في غير هؤلاء الثلاثة هجاء يستحق الذكر إلا أبياتًا مبثوتة في عدة قصائده ذم بها الزمان وأُهَيْلَه، والملوك والحساد والشعراء، فجاءت وليدة الألم والتنافس، والدفاع عن النفس، وحب الذات، والاستئثار بالنفوذ وجوائز الأمراء. وحبُّ الاستئثار بالجوائز يرجع عند المتنبي إلى التنافس والاعتداد بالنفس أكثر مما يرجع إلى الرغبة في التكسب كما يدل على ذلك شعره.
وهجاء أبي الطيب مقذع يؤلم الأعراض، فاحش الألفاظ والمعاني، يمتاز في تلك القوة التي تتغلغل في أجزائه، هي قوة نفس الشاعر العاتية، وفي تلك الأمثال الحكمية التي يتحلى بها جميع شعره. ثم في ذلك التشاؤم الذي تضاعف في صدره بعد الإخفاق المتواصل، فجعله ناقمًا على الدهر وبنيه. ثم في اشمئزازه من المهجو واحتقاره له، حتى لا يكاد يخاطبه إلا بصيغة التصغير. ثم في تصويره السخري له حتى يجعل منه أضحوكة شوهاء فيصيبه بخُلقه وخَلقه ومنزلته الاجتماعية.
وسخرُ أبي الطيب بعيدٌ من أن يكون فيه نكتة لطيفة، أو شيء من الظرف، وإنما هو تهكم حادٌّ جارح يعجب أكثر مما يضحك. وأبرع هجاء قال كان في كافور؛ فإنه افتنَّ فيه ما شاء له الفن، فأرضى به نفسه المتألِّمة، الثائرة على العبد المتملك. وكافور عند أبي الطيب كُوَيفير بصيغة التصغير، وكناه أبو النتن، وأبو البيضاء. وألقابه الخنثى، والأُسَيْوِد، والخنزير، والخصي، والنويبي وما شاكل.
غزله
ليس في أخبار أبي الطيب ما ينبئنا أنه أحبَّ يومًا، ولا في شعره ذكر لمحبوب يردد اسمه، ويشبِّب به، ويتشوَّق إليه. وقد تزوج المتنبي، ورزق ولدًا، ولكنه لم يحدثنا بشعره شيئًا عن امرأته وحبه لها. ولو لم نعلم أن له ولدًا لجهلنا أمر زواجه؛ لأن مؤرخي الآداب سكتوا عنه.
وكان أبو الطيب متعففًا يرغب عن الملاهي ومكانس الريب، والقيان والحب الفاجر، فخلا غزله من التعهُّر والمجون. غير أنه تسرَّى بالجواري التي أهديت إليه، والتسرِّي عندهم غير ممنوع.
وهو في غزله يؤثر البدويات على الحضريات، وقديمًا كان الغزل المتعفف في خيام الأعراب. وليس له غزل متحضر إلا في شعره الذي قاله وهو في بلاد فارس، فإن ديار العجم ذكرته بوطنه الذي نشأ به، فحنَّ إلى ديار الشام، وذكر نساءها، وتغزل بهن. ولكن إن هي إلا خطرة عرضت حتى عاد إلى البدويات كأنه لا يجد ارتياحًا في ذكر نساء الحضر.
وغير عجيب أن يأنس المتنبي بالأعرابيات وقد تمضَّى شطر عمره الذي تشتعل فيه نار الحب، وهو يتردد في قبائل البادية، فتفتقت أكمام عاطفته على بسمات البدويات، فشغف بهن، ولم يَرُقْه إلا حسنهنَّ؛ لأنه جمال مطبوع لا مصنوع، وهو يكره التمويه والطلاء:
وكان يكثر النزول في بني عدي، وهي قبيلة ضاربة بأرض سلمية من عمل حمص، فشبب بالعدويات وجعلهن عرائس شعره دون أن يسمي واحدة منهن:
على أن غزل المتنبي لم يكن قوي العاطفة؛ لأن اشتغال الشاعر بطلب المعالي لم يترك له متسعًا من الوقت فيفرغ للحب والنساء. وكان له من نفسه المتصلبة وازع عن الاستسلام لعوامل الهوى، فإذا نسب فاتِّباعًا للأسلوب القديم، وإرضاءً للفن، لا تلبية لجرس فؤاده الخافق، أو تحفيفًا للواعج أشواقه. ولطالما أراد التغزل فاخشوشن فأسمعك في صباه:
وأسمعك في شبابه:
وأسمعك وهو على قمة كهولته:
وقد تجد له غزلًا يروقك، فإذا تدبرته رأيت أن إعجابك به ناجم إما عن صنعة تستحسنها وإما عن معنى جميل تستلطفه، لا لأنه حرَّك فيك عاطفة كامنة، كقوله:
وأكثر عنايته بأن يغوص على المعاني الدقيقة ويستخرجها من مكامنها. وأن يدخل الفلسفة على الحب، فإذا صحَّ أن تسميه غزِلًا في مثل هذه الحال، فهو فيلسوف الغزليين وغَزِل الفلاسفة. وقد يجيء بالأشياء الحسنة لما فيها من قوة التفكير، ودقة المعنى، وقد يعتاص عليه اللفظ، فما ينجلي له الكلام، وربما تبغَّض فيه وتبرَّد. ومهما دار الأمر فإن أرضت الفلسفة في الغزل الأدباء أو المفكرين، لا نراها ترضي حبيبًا مرحًا لعوبًا، تعوَّد أن يفهم لغة العاطفة، لا لغة العقل. وهيهات أن يكون له صبر على إجهاد فكره ليتفهَّم غزلًا خفيَّ المعنى، أو معقَّد اللفظ قيل فيه. وماذا يهمه من تفلسف أبي الطيب في وضع قانون الصبابة للمحبين ليصح أن يسموا عشاقًا:
أَوَليس من التبرُّد أن يوغل شاعرنا في التفلسف، فيختلق الأعذار للنوى، ويجعل منها شخصًا عاشقًا حبيبه:
وذهب بعض غزل أبي الطيب مذهب الأمثال؛ لما فيه من فلسفة الحياة في الحب كقوله:
فهذا أولى بأن يبعث الزهد والنسك في النفوس، من أن يضرم نار الحب والصبابة. ومن ذلك قوله:
وقوله:
وما هكذا لغة المحبين، وبعيد أن يستميل صب حبيبه بالاعتماد على المنطق والأدلة العقلية.
وشيء آخر يميز غزل المتنبي وهو مزج الحب بالحماسة، وخلط ألفاظ الحرب بألفاظ النسيب. وأبو الطيب شاعر فارس، ومن عادة الشعراء الفرسان أن يصطبغ حبهم بدماء الحروب:
وقد يكون المتنبي أحب كما يزعم، غير أن الحب لم يشغل فؤاده، فيتيِّمه ويذلُّه، وأراد أن يتغزَّل أُسوة بغيره، فجاء غزله فلسفة وصنعة.
وأنَّى لنفسه الجبارة أن تخضع للحب وتلين؟ وهي لا تصبو إلى غير ركوب الأهوال، وبلوغ المراتب العليا، فما حبها إلا القوة تحيط بها السيوف والرماح. ولقد أحسن أبو الطيب في تعريف حبه حين قال:
فخره
لا يستغرب الفخر في شاعر شجاع باسل متكبر كالمتنبي، فعنصر الفخر مركَّب في طباعه، رافقه منذ صباه حتى وافته منيته، فقد كان صبيًّا يوم سمت به همته إلى أن يقول:
وفي هذه الأبيات الثلاثة وضع خطة الفخر التي سار عليها طوال حياته، وهي الارتفاع بنفسه إلى أعلى الدرجات، وتحقير غيره والإزراء به. فأبو الطيب في فخره كثير الاعتداد بنفسه، لا يجد لها صنوًا، والناس كبارهم وصغارهم، ملوكهم وسوقتهم، محتَقَرون عنده.
وليس للشاعر قصائد مستقلة في الفخر، وإنما هي أبيات يوردها في أثناء شكاويه ومدائحه وأهاجيه ومراثيه، وأعجبها ما جاء في قصائد المدح وهي كثيرة، فإنه يجعل نفسه في الثُّرَيَّا شرفًا وخيرًا، بحيث يصبح كل ما يقوله في ممدوحه لا يعادل ذرَّة مما قاله في نفسه، فكأنَّ نفسه الكبيرة تأبي عليه أن يطري أحدًا قبل أن يؤدي لها حقها من التعظيم والإكرام. وأعجب من هذا أن ممدوحيه كانوا يسمعون تبجُّحاته وتمدُّحاته، ويرضون عنه، ويقبلون مديحه، ويجيزونه عليه؛ فكان كمن يستبيهم بقوة شعره، وسحر بيانه، فيستَخْذُون له ولا يستنكفون. فما قولك بشاعر يمدح أميرًا ويصدِّر مدحته بأبيات يقول فيها مفتخرًا:
فمهما يقل من مديح في الأمير لا يبلغ به مبلغ هذا البيت الذي وضع فيه قدمه على الرءوس غير مستثنٍ رأس ممدوحه. أَوَليس عجيبًا أن يدخل الشاعر على سيف الدولة معاتبًا مسترضيًا فيخاطبه بقوله:
وغير ذلك من أبيات كلها صلف وتعريض. ثم يرضى عنه سيف الدولة ويدنيه ويجيزه، مع أن أبا الطيب لم يقل له كلمة ليِّنة إلا أردف معها كلمات عنيفة، فقد جاءه من علٍ وملأ مسامعه وناظريه كبرًا وتعجرفًا، وفتن الأمير بقوة شعره، فاغتفر له سيئاته، وتغافل عما نعت به نفسه من أوصاف لم تنعت بمثلها الملوك.
ومفاخر المتنبي تتناول حينًا آباءه، وأحيانًا نفسه. وهو إذا افتخر بآبائه يُجمل القول فما يعدِّد لهم مآثر، ولا يذكر لهم أيامًا، ولا يتباهى بأسمائهم، وإنما يقول:
وأما إذا افتخر بنفسه فإنه يتسع له مجال القول فيباهي بشجاعته وصبره وعفته وإبائه، وشعره وفصاحته، فتراه يتحدى الزمان ليبارزه:
ولا يقبل حكما إلا لله:
وإذا سأل متكسبًا كان الفخر حشو سؤاله، فإنه يُظهر للممدوح قيمة شعره، فهو كالدر لا يغبن من يعطي عليه درًّا:
ويعرض للشعراء فيرمي بهم إلى أسفل، ويحلِّق فوقهم مغرِّدًا، ومدلًّا بشاعريته على ممدوحه فيقول:
وقلما خلت قصيدة لأبي الطيب من أبيات في الفخر، ولا سيما مدائحه.
وصفه
وأبدع في وصف الأخلاق وتصوير الحياة والأشخاص، وصوره مادية واقعية، قلَّما بثَّ فيها روحًا أرفع من روحها، ولكنه يرفعها بالإغراق والتكبير وجمال الفن؛ فما أسَدُه أسدًا عاديًّا ولا شخصه إنسانًا بشريًّا ولا جيشه جيشًا مألوفًا، وإنما هي أشياء متطرفة عن حدودها تطرُّفَ نفسه الجبارة وخياله العنيف الجامح.
وقد وصف الأسد في قصيدة مدح بها بدر بن عمَّار لما عفر الليث بسوطه ودار به الجيش. ومثل هذه المشاهد الراعبة تثير إعجاب أبي الطيب، فبالغ في وصف الأسد ما شاءت له شاعريته وشاء خياله المبدع. وهذه المبالغة كلها مدح لبدر لأنه أذلَّ بسوطه ليثًا هصورا نضد هام الرفاق تلولًا. ووصف المعارك فكان كما قال فيه ابن الأثير: «إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى يظن أن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا.»
وهذه المعارك هي التي شهدها مع سيف الدولة، فأجاد وصفها، ولم يبرع في وصف الحروب إلا عند صاحب حلب.
ووصف الجيوش والمعامع أروع شعر المتنبي وأفخمه، ولولاه لما جاءت مدائحه في سيف الدولة أجلَّ من مدائحه في غيره، فقد كان مصورًا بها لحروبه، ومؤرخًا ومخلدًا. ومن العدل أن نقول إنه لو لم تجتمع عبقرية المتنبي، وهمة سيف الدولة في الحروب، لما خرج هذا الشعر الرائع.
فلسفته وآراؤه في الحياة
والمتنبي — كما علمت — يحب القوة فغير عجيب أن تقوم آراؤه في الحياة على تعظيمها. وتعظيم القوة يكاد يكون من خصائص الفلسفة العربية منذ طورها الجاهلي إلى عصر أبي الطيب. فقد كان العرب في بداوتهم يعيشون بالغزوات والغارات، فجاءت حكمة شاعرهم ممزوجة بالقوة كما قال زهير:
ثم جاء الإسلام قائمًا على الجهاد، فلم يجد الشاعر المسلم غير القوة عتادًا، فبشَّر بها وأشاد بذكرها. والمتنبي أحد أولئك المبشرين الذين رفعوا للقوة هيكلًا عاليَ الدعائم. ويختلف عن غيره في أنه كان يبني فلسفته على مشاعر نفسه ورغباتها، فهو لم يعظِّم القوة إلا لأنه أحبها، وجاهد في سبيلها، ولم يَرَ للحياة معنى إلا بها.
وقد يحب الإنسان القوة ويعظمها، ولكنه يرحم الضعف ويعطف عليه. وأما المتنبي فقد ازدرى الضعيف، وسخر منه، وتنادر عليه:
ونحن نشرع الآن في تحليل فلسفته، وعرضها على حياته وحالة عصره، لنستخرج منها هذين العنصرين المتضادين ألا وهما: تعظيم القوة، وتحقير الضعف، ونصل إلى الغاية التي يرمي إليها شاعرنا؛ وهي المجد.
ذم الزمان وأهيله
أوتي أبو الطيب نفسًا جبارة تسامت به إلى أرفع الدرجات، فخالفتها الأقدار، فأخفقت مرارًا، فأفضى بها الإخفاق المتتابع إلى التشاؤم بالزمان وأهله. وقد تشاءم بأهل زمانه لأنه رأى فيهم أعداءً وحُسَّادًا يكايدونه، ويعكسون آماله، ويخضدون شوكته. ورأى فيهم أيضًا من ساعده الحظ، فبلغ أعلى الرتب، وهو عنده لا يستحق هذا المقام، فكره زمانه، وأشار إليه بذا تحقيرًا:
وكره أهل زمانه، وصغرهم فجعلهم أهيلًا، ورماهم بأقبح الأوصاف، فهم قوم ليس الإحسان عندهم في صنع الجميل، وإنما في ترك القبيح:
وفي هذا البيت حكمة خالدة مع العصور.
كره النسل
وقاده تشاؤمه بالزمان وأهله إلى القول بكره النسل:
مصاحبة الناس
فأما وقد قضى على أهل زمانه باللؤم والقبح والظلم والجهل، فأصبح من حقه أن يتهم مودتهم ودينهم:
ويربأ بنفسه أن ينتسب إليهم:
سخطه على الملوك
وأبو الطيب ساخط على الملوك، يريد الشر لهم لأمرين؛ أولهما: أنه يرى من حقه أن يرتفع إلى منازلهم؛ لأن فؤاده منهم:
والثاني: تألمه من رؤية من تجري معهم التقادير، وهم جُهَّال، فتُعلي لهم العروش بعد خمول ذكر. وقد حاول أن يوطئ له عرشًا، فلم يفلح، فنقم منهم، وراح يشتمهم، ويتمنى هلاكهم:
اعتقاده بالحظ
ونشأ من هنا اعتقاده بالحظ، فقضى أن العاقل غير مجدود:
وكان كافور مجدودًا لأنه مغفل في نظره: «وجَدُّك طعَّانٌ بكل سنانِ.»
الحياة والموت
ولو كان غير المتنبي أُصيب بالإخفاق المتواصل في حياته، لأفضى به ذلك إلى الإذعان والخنوع، ولكن أبا الطيب لم يزده الإخفاق إلا عزمًا وإقدامًا، وأبى أن يقر بخيبته وعجزه؛ فلم يفتأ يجاهد الأيام ويعارك الليالي فما يسقط في المضمار إلا نهض قائمًا وهو يقول:
أو يقول:
وكان يرى أن «لكل امرئ من دهره ما تعوَّدَا»؛ فمن عوَّد نفسه الذل هان عليه احتماله:
ومن حمل نفسه على ركوب الأخطار هانت عليه مكارهها:
ونظر إلى الموت فرآه ضروريًّا لحياة الإنسان فقال:
وقضي بأن طعم الموت واحد، سواءٌ مات الإنسان حتف أنفه أو مات في الحروب:
ورأى أن لا مهرب من الموت، فاستعجز من يحذره ويخافه، على حين لا يردُّه حذر ولا خوف، فتولد فيه تحقير الضعف وإيثار القوة:
وأنكر أن يكون العجز من العقل:
وعلى هذه الآراء بنى صرح الحياة التي يريد أن يحياها، فإذا هي حياة القوة البالغة بصاحبها إلى أعلى قمم المجد.
طلبه المجد
وغير جدير بأبي الطيب أن يطلب من المجد أدناه، وهو يرى أن طعم الموت في الأمر الحقير مثله في الأمر العظيم، فمدَّ نظره إلى أسمى الدرجات وقال:
ووطَّن نفسه على الجهاد في سبيل المجد، فعانى الأسفار، وركب الأخطار، فما الدنيا عنده إلا غنيمة الجسور: «والبرُّ أوسع والدنيا لمن غلبا.» فأضعف ذلك فيه حب الوطن، فكان يقول: «وكل مكان ينبت العز طيب.» أو يقول: «إن الدليل غريب حيثما كانا.» ووضع خطته التي يسير عليها لبلوغ المجد فإذا هي:
فالقوه تحوط هذا المجد من جميع أطرافه، فقبابه الصوارم، وموطنه المعارك، وهدفه تضريب أعناق الملوك، ولا سلامة له إلا إذا سبح بالدماء:
وهذه القوة التي يتعشقها شاعرنا يدعمها بأشياء ثلاثة لا غنية عنها، وهي الشجاعة والعقل والمال.
الشجاعة والعقل
يقدِّس المتنبي العقل كما يقدِّس الشجاعة؛ لأن هذه لا تبلغ بصاحبها المراتب العليا ما لم يصحبها العقل:
وهو وإن فضَّل السيف على القلم مرة في قوله:
فقد فضَّله بين قوم لا يعظِّمون العلم، وإنما يعظمون البطش، ولكنه قضى للعقل على الشجاعة بقوله:
والعقل عنده لا يعادله في التعظيم إلا الشرف:
المال
وكان يرى أن المال عصب المجد، وأن لا قوة إلا به، فعظَّم جانبه، ولم يسرف في إنفاقه حفاظًا على المجد أن ينهار بشلل أعصابه:
فحبه المال من أجل المجد وحده، فإذا ذهب المجد أصبح المال لا قيمة له ولا نفع: «ولا مال في الدنيا لمن قلَّ مجده.» فالمجد إذن هو المحور الذي تدور عليه فلسفة المتنبي في الحياة.
فلسفته الإلهية
لم يُعنَ أبو الطيب بالفلسفة الإلهية عنايته بفلسفة الحياة؛ لأنه رآها لا تؤدي إلى نتيجة واضحة، فزهد فيها ولم يتعمَّق في بحثها، غير أنه ترك بعض أقوال لا نرى بأسا في أن نعرض لها موجزين، فنقول: إن الشاعر لم يشكَّ في وجود الله تعالى، ولكنه استخفَّ بالدين والأنبياء والكتب المقدسة، غير حافل. ويظهر أنه تأثر بالحلولية منذ صباه، فقد ذكر هذا المذهب وهو صبي:
والحلولية انتحلها جماعة من العلويين، فقالوا بأن روح الله تحلُّ في أئمتهم حتى تبلغ المهدي المنتظر. ونرى أن أبا الطيب قد تلقَّن هذا المذهب من باطنية الكوفة، ورافقه التفكير فيه إلى أواخر حياته فإذا هو يقول في ابن العميد:
ولعل تأثره بهذا المذهب يؤيد الرواية التي تذهب إلى أنه ادَّعى العلوية في أول أمره، وما العلوية إلا الإمام الباطن، والمهدي المنتظر.
النفس
تكلم أبو الطيب غير مرة على النفس فقال:
وهذا مذهب الماديين الذين يقولون بأن النفس من الهواء. وقال أيضًا:
وهذا قول من يرى أن الشرَّ كامن في النفس، وهو مذهب مادي أيضًا؛ لأن أصحابه يزعمون أن الخير في الجسم، ويخالفون في ذلك مذهب أفلاطون الذي يقول بأن الخير في النفس، والشرَّ في الجسم. وتكلم أبو الطيب على خلود النفس قال:
فقد أقر بعجزه عن إدراك الحقيقة، ووقف حائرًا بين القولين لا يبتُّ أمرًا. وحاول مرة أن يفسِّر الحالة التي تطرأ على النفس بعد مفارقتها الجسد فقال:
ولكنه لم يخرج بهذا التفسير من حيرته وعجزه.
المحسوسات
لم يشك المتنبي في المحسوسات، كما أنه لم يشك في المعقولات:
الكواكب
وكان الفلاسفة في عصره، والفارابي في مقدمتهم، يقولون بعقول الكواكب، يريدون به تأييد المذهب الانبثاقي الذي اعتمدوا عليه في تعليل خلق العالم، فلم يطمئن المتنبي إلى هذا القول، فسخر به، وأنكره:
ولكنه اعتقد تأثيرها الطبيعي في حظوظ الناس أسوة بأهل زمانه:
على أن فلسفته الإلهية ليست مما ينظر إليه في معيار شاعريته وتفكيره، وإنما تقوم منزلته على آرائه في الحياة.
ما أُدرِك عليه
كان انحدار المتنبي في مقابحه بقدر ارتفاعه في محاسنه، فجعل منها سلاحًا ماضيًا بأيدي خصومه يحاربونه به. ولا نريد أن نتقصَّى جميع ما أُدرك عليه، فهذا بحث يطول أمره، وليس محله هنا. وقد عالجه قبلنا جماعة من الأُدباء المتقدمين كالصاحب بن عبَّاد، والقاضي الجُرجاني، والحاتمي، والثعالبي، والواحدي وسواهم. فبحسبك أن ترجع إلى الوساطة، أو يتيمة الدهر، أو الصبح المنبي لتقع على ضالتك. بل حسبك أن تطالع البحث البليغ الذي ذيَّل به الشيخ إبراهيم اليازجي ديوان أبي الطيب؛ فإن فيه نهاية الأرب. وإنما نحن نجتزئ بالدلالة على أنواع معايبه، وبيان أسبابها، فنقول: إن المتنبي كان يعنى بتصيد المعاني ويغوص عليها في أبعد قراراتها، حتى إذا أمكنته أبرزها بالثوب الذي يتفق له، فسواء عليه كان كرابيس أو خزًّا وديباجًا. وربما ازدحمت عليه المعاني في البيت الواحد، فيلجأ في إظهارها إلى التقديم والتأخير، والحذف وتقصير الألفاظ، فيكثر تداخله وتعقُّده ويطبق عليه الغموض، فلا يحصَّل معناه إلا بعد كدِّ الخاطر وإرهاق الذهن. واستبان للشيخ إبراهيم أن طائفة من غوامض المتنبي ليس فيها كبير معنى بحيث لو حللتها لما رأيت للشاعر عذرًا في إلباسها هذا الثوب البالي. وعزا ذلك إلى التعمية في صور التراكيب، وإلباس المعنى غير ثوبه، فقد كان المتنبي يقع على المعنى الساقط فيحاول الخروج به إلى الإغراب، وعلى المعنى المسبوق فيحاول البعد به عن أصله، فيغير ديباجته ويتحذلق فيه حتى يفسده. وأكثر معمياته واردة في أوائل شعره قبل أن تستحكم ملكته، وكان يومئذ يحتذي خطة أبي تمام فيغرب ويتكلف، وينقب عن الوحشي من اللفظ، ويعتمد الصيغ الشاذة، والتراكيب الجافية، ويسرف في طلب المجاز والبديع، فمن ذلك قوله:
قال الصاحب بن عبَّاد: «وهذا من عنوان قصائده التي تحيِّر الأفهام، وتفوت الأوهام، وتجمع من الحساب ما لا يدرك بالارتماطيقي، والأعداد الموضوعة للموسيقى.» ويؤخذ عليه فساد ذوقه في مطالع المدح:
قال الثعالبي: «وهو بِرُقْيَة العقرب أشبه منه بافتتاح كلام في مخاطبة ملك.» وعِيب عليه الاستكثار من استعمال ذا، وهي ضعيفة في صنعة الشعر، دالة على التكلف، ويزيدها قبحًا وغلاظة أن تأتي ثقيلة على السمع، متقلقلة في موضعها، ظاهرة التكلف كقوله: «يُضاحِكُ في ذا اليوم كل حبيبه.»
وعيب عليه تكرار اللفظ حتى يثقل وقعه، ولا يحسِّن فيه المعنى:
فقد أراد المغالاة في ممدوحه فحشر نفسه في هذا المأزق المستوحل حتى غرق. وكأن ممدوحه أحب أن ينتقم للشعر فلم يجزه بسوى دينار واحد.
ومن مقابحه خشونته في مخاطبة الملوك:
وسوء تخلصه من الغزل إلى المدح:
ولم يقنع بتكليفه هذه المهمة الشنعاء حتى جعله يعتقل رمحه ليحارب امرأة، ويأخذ له بثأره منها:
ويعاب عليه غلوه المستنكر حتى يخرج به إلى الإحالة، وسرقاته عمن تقدمه كأبي تمام والبحتري وابن الرومي وسواهم، وتكراره للمعاني، وهذا عندي ليس بعيب؛ فللشاعر أن يستعين بمعانيه متى شاء، على أن لا يفرط في تردادها، والمتنبي لم يفرط في التكرار.
وهو أقل الشعراء إخلالًا بالأوزان، فليس في ديوانه إلا بيت أو بيتان خرج بهما عن الوزن كقوله:
فقد اختلس حركة الهاء من به. ويدرك عليه بعض سقطات في اللغة كقوله:
ووجه الكلام أن يقول: «أن تبدل بلونها لون الأستاذ.» لأن ما دخل عليه حرف الجرِّ في هذا الفعل كان هو المتروك.
(٢-٣) منزلته
أوتي المتنبي شهرة لم يؤتها شاعر قبله، فسار شعره على غوارب السنين والأحقاب، تردِّده الحواضر والبوادي، وتختصم فيه مجالس الأدب، وتعقد عليه حلقات الطلب. وحجب شعراء زمانه فلم يذكر معه إلا أبو فراس، ولولا مكانه من السلطان لأخفاه. وكان من عداوة الأدباء له أن ضاعفت سيرورة شعره؛ لأن اهتمامهم بنقد أقواله، وإظهار معايبه، جعل الناس يلتفتون لفته من كل صوب، وقام له أنصار ينافحون عنه، ويردون حجج خصومه، فصنفت الكتب في ما له وما عليه، وعني الشرَّاح بتفسير ديوانه لكثرة الراغبين فيه، فكتب له الخلود في أرفع ألواحه، وتبوَّأ أعلى درجاته. هذا ولسنا نزعم أن خلوده مدين لعداوة الأدباء دون غيرها، فلو لم يكن في شعره ما يستحق هذا الاهتمام لما شغل به الناس، وملأ الدنيا على حد قول ابن رشيق؛ فإن في شعره من قوة البلاغ، وطيب المساغ، ما يستبي الأسماع، ويلج القلوب بغير استئذان. ولربما قرأت له قصيدة دون أن تبغي حفظ شيء منها فما تتركها إلا وأنت راوية له على الرغم منك. ولا ريب في أن ذلك عائد على فرة مقلداته التي استقاها من فلسفة الحياة، فلا تقع حادثة في نظام الاجتماع إلا كان لها في شعره ما يُتَمَثَّل به، فكأنه كما يقول الشيخ إبراهيم اليازجي: «ينطق بألسنة الحدثان، ويتكلم بخاطر كل إنسان.» وقد وفق لإفراغ هذه المقلدات في قالب سهل واضح، فساغتها النفوس، وعلقت بالحوافظ، وقلما وجدت له بيتًا عائرًا إلا وقد جمع حلاوة اللفظ وشرف المعنى.
وشيء آخر عمل لتوطيد شهرة المتنبي وخلوده، وهو ما تجد في شعره من تصوير المعامع، وإطراء الشجاعة والحميَّة والشرف؛ فإن الإنسان مطبوع على حب القوة، يلذُّ له أن يتغنى بها، ويتمنى أن ينسب إليها ولو كان ضعيفًا. وكذلك الإنسان يُكبر الشرف والحميَّة، وإن كان دنيئًا ساقط المروءة، فاشتمال شعر أبي الطيب على هذه الميزات العالية ملَّكه قلوب الناس وخواطرهم، فحفظوه واستشهدوا به، حتى إن الصاحب بن عبَّاد وهو أشد خصومه لددًا كان أحفظهم لشعره، وأكثرهم تمثلًا به في محاضراته ومكاتباته. ولا يزال شعر المتنبي في زماننا معينًا نميرًا يترشف منه الشعراء والكتَّاب.
وامتازت لغة المتنبي في قوتها فلاءمت بها قوة نفسه ومعانيه وأغراضه، وتبدو هذه القوة في ألفاظه الصلبة، وتراكيبه المتينة، وتشابيهه واستعاراته؛ يمدُّها خيال بدوي عنيف، يسبح في سماء محجَّبة بالغيوم، تنقضُّ منها الصواعق، وتثور فيها الزوابع، وتنقذف عنها الرجوم، فما يعود إلا مضرَّجًا بالدماء.
وكان لحياته المضطربة تأثير في توجيه عاطفته، فإن تردده في البادية، ومغامراته الكثيرة، وإخفاقه المتتابع، وتشاؤمه بالزمان وأهله، جعل عاطفته تنمو مخشوشنة متصلبة، لا ترتاح إلى سوى العنف والشدة. وكذلك أثرت فيها ثقافته الفلسفية وتطلبه للمعاني؛ فضعف عملها في كثير من المواطن بقدر ما قوي عمل التفكير.
وتتفاوت ديباجته، فأحيانًا تنجلي صافية لها رونق ورواء، فتُطرب وتبهج وتحمس، وأحيانًا تتجهم كدرة معقدة نافرة، فتضيق بها النفس وتتأذى منها الآذان.
وأبو الطيب يمثل شطرًا كبيرًا من عصره، ففيه تتجلى تلك النهضة الفكرية التي سمت بها العلوم والفلسفة والمنطق. وفيه يتمثل اتساع الرزق على الشعراء لتعدد حواضر العلم والأدب، وتنافس الأمراء في استقدام الشعراء ليمتدحوهم، ويغالوا في نعوتهم حتى أصبح الشعر تكسبًا كله. وفيه يتمثل اضطراب الحالة السياسية، وتحفز كل ذي طموح إلى التملك، وكثرة الحروب والخروج والفتن.
وعلى الجملة فشعر المتنبي مستند تاريخي لزمانه. وهو أبرع من وصف جيشًا، وصوَّر ملحمة، ولو طالت ملاحمه لسد ثلمة في الشعر العربي. وهو أكثر الشعراء المتقدمين بيتًا مقلدًا، وأنضجهم تفكيرًا وحكمة، وأبصرهم بفلسفة الحياة، وأخلدهم على كرور الأجيال.
(٣) أبو فراس ٩٣٢–٩٦٧م/٣٢٠–٣٥٧ﻫ
(٣-١) حياته
هو الحارث بن سعيد بن حَمْدان بن حَمْدون الحمداني، عربي النجار ينتمي بعمومته إلى تغلب فربيعة الفرس، وبخئولته إلى تميم فمضر الحمراء لقوله:
وكنيته أبو فراس، ولد على الأرجح في الموصل حيث كان أبوه وأسرته وقتل أبوه وعمره ثلاث سنوات، قتله ابن أخيه ناصر الدولة؛ لأنه سعى سرًّا في ضمان الموصل وديار ربيعة من جهة الراضي بالله الخليفة العباسي. فنشأ أبو فراس يتيمًا تحتضنه أمه، ويعطف عليه ابن عمه سيف الدولة أخو ناصر الدولة.
فلما قام عرش الحمدانيين في حلب سنة ٣٣٣ﻫ/٩٤٤م كان شاعرنا في جملة من ضمهم بلاط سيف الدولة من آل حمدان، فشب في كنف ابن عمه يشمله حنانه ورعايته، فرسخت محبته في قلبه صبيًّا، وميَّزه سيف الدولة بالإكرام عن سائر قومه؛ لِمَا رأى من نجابته ومحاسن أخلاقه.
وأقامه سيف الدولة على منبج، فتولى أعمالها، وحارب الروم دونها.
أسره
أما نحن فنميل إلى ترجيح الرواية التي تقول إنه أسر مرة واحدة لأسباب منها: أن الثعالبي — وهو أقرب الرواة عصرًا إلى أبي فراس — لم يذكر له سوى أَسْرَة واحدة، ولم يرو أسطورة نجاته كما رواها ابن خلكان، مع أنه شديد الإعجاب به لا يذكر اسمه إلا بالإعظام، فلو صحت الأسطورة والأَسْرة الثانية، لما غفل عنهما صاحب يتيمة الدهر. ومنها: أن الرواة لم يختلفوا في شأن الفداء، فقد اتفقوا على أن سيف الدولة افتداه مرة واحدة وهو أسير في قسطنطينية. ومنها: أن أبا فراس لم يقل رومياته إلا بعد أن طال أسره، وأبطأ سيف الدولة في بذل فدائه، وله رومية شهيرة نظمها في خرشنة، وبعث بها إلى سيف الدولة لما علم أن والدته قصدت إليه من منبج تكلمه في المفاداة فلم يجب طلبها، وفيها يقول بلسان أمه:
فهذا يدل على أنه أخذ يعاتب ابن عمه وهو في خرشنة، فالراجح أنه لم يؤسر غير مرة واحدة سنة ٣٥١ﻫ فامتد أسره إلى سنة ٣٥٥، فتكون مدة أسره أربع سنوات، سلخ بعضها بخرشنة، وبعضها الآخر بقسطنطينية، ونظم رومياته في كلا المحبسين.
ذكر ابن خالويه أن ابن أخت ملك الروم كان أسيرًا عند سيف الدولة، فلما وقع أبو فراس أسيرًا في يدي أخته، سامه إخراج أخيه المأسور أو دفع فدائه، فكتب أبو فراس إلى سيف الدولة يسأله المفاداة، فامتنع سيف الدولة من إخراج ابن أخت الملك إلا بفداء عام، فحُمل أبو فراس إلى القسطنطينية، وسيف الدولة يأبى أن يفتديه فداءً خاصًّا، فبقي أسيرًا أربع سنوات حتى تيسر الفداء العام. ونحن نرى أن صاحب حلب لو أراد تعجيل الفداء لما عزَّ عليه أن يطلق ابن أخت الملك ليُطْلَق أبو فراس، ولكنه آثر التسويف لغرض في نفسه، ولعله أحسَّ من الشاعر الفارس طمعًا في الملك، وتريَّب من دلاله وزهوه بشجاعته، فرأى أن يصرفه عن وجهه زمنًا، ويمد في أسره، ليضعف عزائمه، ويريه أن الدولة غنية عنه، وأن النصر يتم بدونه، ففعل ما فعل حتى حان وقت الفداء فافتداه.
موته
توفي سيف الدولة سنة ٣٥٦ﻫ/٩٦٦م بعد خلاص أبي فراس بعام واحد، وخلفه ولده أبو المعالي سعد الدولة، وهو ابن أخت شاعرنا، يعاونه على الأمر قرغويه مولى أبيه. فخطر لأبي فراس أن يتغلب على حمص ويقطعها، وهذا يؤيد ما زعمناه من مطامعه في الملك، فقصده قرغويه بجيش إلى حمص، فاستظهر عليه وقتله. وروى ابن خلكان عن ثابت بن سنان الصابي أن جثته بقيت مطروحة في البرية إلى أن جاء بعض الأعراب فكفنه ودفنه، وقد رثاه أبو إسحاق الصابي بقصيدة أشار إليها الثعالبي، ولم يذكر منها شيئًا.
صفاته وأخلاقه
كان أبو فراس طويلًا بدينًا، تبدو عليه دلائل القوة والبطش، وقد وصف نفسه فقال:
وشاب وهو في العشرين:
وأصابته طعنة في خده فبقي أثرها:
ووصفه الثعالبي فقال: «كان فرد دهره، وشمس عصره، أدبًا وفضلًا، وكرمًا ونبلًا، ومجدًا وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة.» ا.ﻫ.
وكان كغيره من أبناء الملوك يميل إلى اللهو والعبث والسماع، ولكن حياته كانت سلسلة حروب وغزوات، وأسر واعتقال، فلم يُتَح له أن يتنعَّم بمخضَرِّ العيش، ويرتوي بماء الشباب، فكان يفترض اللذات افتراضًا، فإذا سنحت له شرب وطرب، ولها وعَبَثَ، ودلف إلى بيوت الخمَّارين:
وكان صبورًا لا يستخفه الجزع، ولا يوهى له جلَد، ولطالما أوصى بالصبر وافتخر به. وهو إلى ذلك حسن التدين، عظيم الثقة بعناية الله. وكان يتشيع للعلويين.
آثاره
لأبي فراس ديوان جمعه ابن خالويه بعد موته، وأورد له الثعالبي في يتيمة الدهر طائفة حسنة من مختاراته، ولا سيما الروميات. وأفضل طبعات هذا الديوان ما أخرجته المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة ١٩٤٥ بعناية سامي الدهان الذي تولى جمعه ونشره وتعليق حواشيه ووضع فهارسه.
(٣-٢) ميزته
الشعر عند أبي فراس أُلهُوَّة يتلهَّى بها، وبلسم يداوي به كلومه، وقِمَطْر يجمع فيه مفاخره. وقد أغناه الله عن السؤال بعزة الملك، ونعيم الدولة، فلم يصطنع المدح ولا الهجاء، وإنما مدح قومه وعشيرته، وهذا فخر لا مديح:
ومدح بعض أصدقائه من آل ورقاء وسواهم، وهذا من نوع الإخوانيات.
فالمدح والهجاء لا حظَّ لهما في شعر أبي فراس، وما القصيدة التي هجا بها العباسيين، ومدح العلويين، إلا من النوع السياسي، اندفع إليه شاعرنا بعاطفة التشيع لعلي وأبنائه.
ولم تكن حياته المضطربة لتسمح له بأن يفتنَّ في وصف مشاهد الطبيعة، وأسباب اللهو، فلم يترك فيه شيئًا يستحق الذكر.
وكذلك الرثاء لم يكن له يد فيه، فقد ماتت أخته فرثاها، فلم يحسن رثاءها. وماتت أخت سيف الدولة، فأراد أن يرثيها فكان رثاؤه مواساة لأخيها. ورثى ابن سيف الدولة فما تم له الإحسان. ومات سيف الدولة فلم يقل فيه شيئًا على ما بينهما من مودَّة وقربى. وما كان لأبي فراس أن يقصر في الرثاء، وهو شاعر عاطفي، والرثاء قوامه العاطفة، ولعلَّ تعوده ركوب الأهوال والمخاطر جعله يستهين الموت فما يرتاع له، ولا يرى فيه ما يبعث على الجزع؛ فكان يستقبل مصائب الدهر في شيء من الأنفة والاستكبار، وحبس عاطفته فلم يطلق لها العنان في التفجع والإرنان. وربما كان سكوته عن رثاء سيف الدولة مسببًا عما وقع بينهما من جفاء من أجل الفداء.
ونظم في الحِكَم فما تأتَّت له البراعة؛ لأن العاطفة إذا غلبت أضعفت قوة التفكير، وإنما ترك بعض أبيات جرت مجرى الأمثال كقوله: «وفي الليلة الظَّلماء يُفتَقَد البدر.» وقوله: «ومن خطب الحسناء لم يغلُها المهرُ.»
وله في الإخوانيات شعر حسن، وخصوصًا ما كان منه في تسلية صديقٍ نابته نائبة كالقصائد التي بعث بها إلى أبي العشائر، وكان هذا أسيرًا عند الروم.
وأجمل شعره ما جاء في مفاخره ورومياته، ونحن نعتمد عليها في دراسته ونلم إلمامًا بغزله.
غزله
لأبي فراس غزل يأتي به مرة في صدور مفاخره وإخوانياته، وأخرى مستقلًّا في مقطَّعات صغيرة. ويختلف عن غيره من متغزِّلي المولَّدين بأنه لم يتعهَّر فيه، وإن استخفَّ في بعضه حيث يذكر مجالس لهوه. ولم يتذلل لمن يحبه، فيدعوه بسيده، ومالك رقِّه، أو يفرش خدَّيْه تحت أقدامه، بل يغلب عليه الكبر والأنفة. وإذا برَّح به الوجد حبس دمعه على عيون الناس لئلا يتبيَّنوا فيه ضعفًا، وأبى أن يبكي إلا محتجبًا بقميص الليل. ثم لا يغفل عن نعت دمعه بصفات ترفعه من وهدة الذلِّ، فهو العصيُّ، ومن خلائقه الكبر.
وإذا رأى من حبيبه صدودًا استرضاه على شيء من الاعتداد بالنفس:
وليس لشعره عروس اشتهر بها، وقصر نسيبه عليها، فحينًا يذكر أم عمرو، وآخر عمرة، وكثيرًا ما يشبب بشخص لا يسمِّيه. وألطف غزلياته، وأشملها لميزته في هذا الفن، قوله في صدر إحدى رومياته:
وقد تغلب الصنعة على غزله، ولا سيما مقطعاته؛ فإنه كان يزينها بألطف التشابيه والاستعارات، ويوشيها بأنواع البديع حتى يكاد يبعد بها عن الطبع.
مفاخره
لا يُستغرب الفخر من شاعر كأبي فراس، تحلى بأشرف صفاته ومعانيه: فمن فروسية وشجاعة، وإباء وعفة، إلى نسب رفيع وحسب كريم، إلى شاعرية جوَّادة، وبيان ساحر. فإذا افتخر أمعن في وصف شجاعته وإقدامه، وبلائه في الحروب، وباهى الناسَ بآبائه وأعمامه وجدوده، وعدد أيامهم وحروبهم، ومدح سيف الدولة، وذكر مناقبه، وفاخر به لأنه ابن عمه ومربيه. وله رائية طويلة تبلغ مائتي بيت وخمسة عشر بيتًا، تكاد تشتمل على جميع خصائصه في الفخر، أكثر فيها من ذكر الغزوات والوقائع. ولو عني بالوصف والتصوير، كما عني بسرد الأخبار، لترك ملحمة من فرائد الشعر القصصي. ووصفُ المعارك والجيوش والعدد ضعيف في شعر أبي فراس على الإجمال، فقد كان همه في تعداد انتصاراته، والإدلال بشجاعته وكرمه، وعفته وحلمه.
وقلما ترى في مفاخره اعتدادًا مستكرهًا كاعتداد أبي الطيب، وخروجًا إلى الإحالة كخروجه، وإن وقعت على شيء من ذلك ساغته نفسك، ولم تنفر منه، لقربه من الطبع وبُعده من التكلف، فتتمثل فيه أميرًا معجبًا بنفسه، مزهوًّا بمناقب قومه، يتكلم بعاطفته لا بعقله، والشعر العاطفي محبَّب إلى القلوب كيفما جاء.
ويمتاز فخره في نفحته الملوكية، وفخامة لفظه وشدة أسره، ولكنه لا يخرج إلى الوحشي من الكلام.
رومياته
ويراد بالروميات القصائد التي قالها الشاعر وهو أسير في بلاد الروم، فقد آلمه أن يتناساه ابن عمه، ويهمل أمره، ولا يذكر ما له من بيض الأيادي في دولته. وكان يزيده ألمًا ما يبلغه من الأخبار عن والدته الحزينة، فإنها لم ترفأ لها دمعة طوال أسره. وقصدت من منبج إلى حلب تلتمس الفداء من سيف الدولة، ثم عادت خائبة، مكلومة الفؤاد، مكسورة الخاطر، وما إن علم الأسير بخبرها، حتى قبضت على صدره غُصَّة القهر، فثار ثائره، وفاضت مشاعره، وبثَّ أشجانه في مسامع بنات عاطفته.
والروميات تشتمل على أجمل المزايا التي تحلَّى بها أبو فراس، ففيها عزة نفسه وإباؤه، وجرأته وشجاعته. وفيها حبه لوالدته، وحنينه إلى صبيته ووطنه. وفيها صبره وجلده وثقته المكينة بعناية الله. وفيها شكايته لسيف الدولة وعتبه عليه. فكأنها مذكرات ضمَّنها ما كان يمر به وهو مأسور.
وكان يتوقع من سيف الدولة أن يعجل افتداءه، فلما استبطأه أرسل إليه يحثه على بذل الفداء:
وتأبى على أبي فراس نفسه الكبيرة أن يتذلل في طلب الفداء، لما به من أَنَفة وعزة، فإما أن يطلبه لأنه يريد أن يموت قتيلًا لا موسَّدًا، أو لأن ملك بني حمدان ليس به غنى عنه. وإما أن يطلبه من أجل أُمِّه العجوز:
وخطر له أن يلتجئ إلى خراسان بعد أن أوجعه تباطؤ سيف الدولة عنه، فكتب إليه يقول: «مفاداتي إن تعذرت عليك، فأْذن لي في مكاتبة أهل خراسان ومراسلتهم ليفادوني، وينوبوا عنك في أمري.» فأثَّر ذلك في سيف الدولة، وساءه أن يفزع ابن عمه إلى قوم أعجام غرباء، فأرسل إليه يقول: «ومن يعرفك بخراسان؟» فآلم أبا فراس أن يُنسب إلى الخمول، فقال من قصيدة يعاتب بها سيف الدولة:
وهذا قول لا يصدر إلا عن نفس عزيزة، لا تلين لها خُنزوانة مهما تراخى بها الأمر، وتألَّبت عليها المصائب. وربما ناظر شاعرنا الدمستق، وفخر عليه، ورماه بقوارص الكلام، غير خاشٍ مغبَّة جراءته، ولا مبال على أي جنبيه وقع الأمر، فمن قوله فيه وقد تناظرا في أمر الدين:
وقال له الدمستق يومًا: «إنما أنتم كتَّاب ولا تعرفون الحرب.» فأحفظه ذلك من عدوه فرد عليه: «نحن نطأ أرضك منذ ستين سنة، بالسيوف أم بالأقلام؟» وله شعر في ذلك.
ولشَدَّ ما كان حنينه إلى وطنه وأهله، فقد جمعت في صدره الشجاعة والصبر، والرقة والحنو، ولكل من هذه الصفات أثر بليغ في حياته، ولا سيما حياة أسره، فبينا تراه يعاتب ويهدد ويعظ ويؤنب، إذا هو يلين ويلطف فيبث صبابته، ويشرح هواه، ويناجي والدته وصبيته وخلَّانه، وقد تهيج به الذكرى ريح تهب شآمية، أو عيد يمر به، أو حمامة تنوح على شجرة، فتفيض شجونه، ويتسلَّى بالأشعار:
وجملة القول إن أبا فراس تعذَّب في الأسر كثيرًا، ولقي أشد العنف والإرهاق، ولكنه لم يخفض رأسه، ولا أذلَّ نفسه، بل ظلَّ شديد العزيمة، صليب العود، بادي الشمم، جريء القلب، يجابه العدو في عقر داره، متدرعًا بالصبر، متوكلًا على رحمة الله.
ولا بد من القول إن لأسره يدًا على خلوده، وعلى الأدب معًا، فلولا رومياته لما كان له في سائر شعره ما يتميز فيه من الشعراء العاديين. ولولا أسره وشقاؤه لما جرى طبعه بهذه القصائد الرائعة، فجاء بها ذوب العاطفة المتألِّمة، وعصارة النفس الكليم، فكتبت اسمه في سفر الخلود، ومهرت الأدب نوعًا طريفًا من الشعر الوجداني.
ما أُدرِك عليه
أدرك على أبي فراس من السرقات كما أُدرك على غيره، ولكنه يعاب في ما سرقه عن أبي الطيب المتنبي، مع كرهه له، وتسريقه إياه، كقوله:
وقد قال أبو الطيب:
ومما يدرك عليه أخذه باللغات الضعيفة كقوله:
فهذه لغة أكلوني البراغيث. وربما رفع خبر كان وأخواتها، وسكن الفعل المضارع حيث لا مسوِّغ للتسكين، كقوله:
وقوله:
(٣-٣) منزلته
قال الصاحب بن عباد: «بدئ الشعر بملك، وختم بملك.» يعني امرأ القيس وأبا فراس. وقال الثعالبي: «وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة، والحلاوة والمتانة، ومعه رواء الطبع، وسمة الظرف، وعزة الملك. ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز. وأبو فراس يُعَدُّ أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام.» ا.ﻫ.
وقد حُقَّ لأبي فراس أن يستوي على الدرجة الرفيعة مع الشعراء، ولكن الأدباء المتقدمين لم يلتفتوا إليه كل الالتفات لأسباب منها أن معاصرته لأبي الطيب أخفتت صوته، كما أخفتت أصوات غيره من أصحاب الشعر، إلا أن أبا فراس كان أظهر منهم لمكانته في دولته. ومنها أن المتقدمين كانوا يبنون مقاييس الفحولة على المدح والهجو؛ فمن لم يُشهر بهما لا يُعَدُّ في الفحول. ولم يكن بأبي فراس حاجة إلى هذين الفنين فلم يصطنعهما، فانحدرت منزلته بعض الشيء ولم يعدُّوه في الطبقة الأولى، ولكنهم ختموا به الشعر، وفضَّلوه على ابن المعتز. وبين هذين الشاعرين شبه، فكلاهما ملك قال الشعر متلهيًا لا متكسبًا، ونظمه في الفخر والغزل والإخوانيات، إلَّا أن حياة ابن المعتز كانت راحة ورخاءً، فأكثر من وصف الرياض والحدائق، ومجالس اللهو، وغدوات الصيد، فغلبت الصنعة على شعره. وكانت حياة أبي فراس حربًا وأسرًا، فأجاد الفخر والحماسة وأبدع في رومياته، وغلبت على شعره العاطفة؛ لأنه لم يتكلفه تكلفًا، وإنما جرى به طبعه الصحيح، وهو في أشدِّ حالات التأثر محاربًا كان أو أسيرًا.
واستسلامه إلى العاطفة المطلقة جعل في خياله ضيقًا، فلم ينفسح له مجال التصوير والتزيين؛ فقد كان يصف حالته في الأسر كما يحسها ويشعر بها، لا كما تجسمها المخيلة وتوسِّعها. وكان يصف الحروب، ويذكر الوقائع دون أن يلجأ إلى الخيال لتلوينها وتعظيمها فِعْلَ المتنبي، فصوره الخيالية قصيرة الخطى، قريبة المدى، ولكنها لطيفة محببة.
وتمتاز لغته في حسن اختيار الألفاظ وجمال التعبير، ففيها الجزالة وشدة الأسر في موضع الشدة، وفيها الرقة والسهولة في موضع الحنو. وجدير بنا أن ننصف أبا فراس فنقول: إنه جيِّد الشعر في حماسياته، مبدع في رومياته، شاعر العاطفة في كلتيهما. وهو الشاعر الملك، والملك الفارس، والفارس الأسير.