الكتاب المولدون
(١) ميزة النثر
تبدُّل النثر ميزة جديدة ظهرت في إنشاء المترسِّلين، ووُضعت لها القواعد والأصول، وأقيمت الأهداف والحدود، فكان منها أسلوب واضح المعالم، يعتمد على الصناعة والتنميق. والترسل منذ نشوئه قائم على الصنعة والتزيين؛ لأنه وليد المواطن الأرستوقراطية المترفة، فقد كان أصحابه الأوائل، إما وزراء وأمراء، وإما متقربين إلى الوزراء والأمراء، ومعظمهم من الموالي المستبحرين في الحضارة، فكان الزخرف والتنوق في العبارة من أخص غاياتهم. ولا بدع فترف الألفاظ من اتباع ترف الحياة ولا سيما الترسل فإن أغراضه قليلة، فإذا لم يُحسن فيه تصريف الكلام، ضعف شأنه وانحطَّت منزلته. ولكنه كان في الأعصر الأولى غير بيِّن التكلف لصحة طباع أهله، ثم تداولته الأجيال، فسارت به الصنعة في طريق الكمال بعامل النشوء والارتقاء. فما إن اكتهل العصر الثاني حتى بات المترسلون يلتزمون المحسنات اللفظية والمعنوية التزامًا، ويتكلفونها تكلُّفًا.
وكأنَّ الأقدار أبت إلا أن يظل الترسل في أيدي الأعجام يتعهدونه بأذواقهم حتى يبلغوا به أقصى حدود الفن والصناعة. وأتاحت له كاتبين بليغين عبدا طريقه بما لهما من واسع السلطان، وبراعة الإنشاء، ألا وهما ابن العميد وزير ركن الدولة، والصاحب بن عبَّاد وزير مؤيد الدولة ففخر الدولة، فارتفع شأن الترسل بهما، وتعشقه الكتَّاب، وجلُّهم عجم متقربون إلى الحضارة، فاحتذوا مثالهما، وساروا بالأسلوب الجديد إلى أعلى درجاته، ونبغ فيهم أمثال أبي بكر الخوارزمي، وأبي إسحاق الصابي، وبديع الزمان الهمَذاني، وأبي منصور الثعالبي وسواهم.
(٢) إنشاء المترسلين
يتناول الترسل عدة أغراض متلونة، فمنها الإخوانيات على اختلاف أبوابها، ومنها مقدمات الكتب، ومنها مناظرات الأدباء كمناظرة أبي بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمَذاني، أو مناظرة المتنبي والحاتمي، ومنها المناظرات السياسية كمناظرات الشيعة والعباسيين، والشعوبية والعرب، ومنها المقامات وسنفرد لها بحثًا خاصًّا بها. وأمعن المترسلون في الوصف حتى جارَوُا الشعراء في خيالهم؛ فوصفوا القصور والحدائق والرياض، والأزهار والبرك والجداول والأنهار والبحار، والسفن والزوارق، والزينة والرياش، والحلي، وآلات الطرب، والأطعمات والأشربات، والأواني، والفصول، والليل والنهار، والغيوم والمطر، والرعود والبروق، والصيد والوحوش والطيور، والعواطف والشهوات. وتماجنوا في وصف الإماء والغلمان، ومجالس اللذة والطرب.
وحلَّوْا إنشاءهم بأنواع المجاز والبديع، فالتزموا التشابيه والاستعارات والكنايات فما كادوا يعبِّرون عن معنى بحقيقة لفظه. والتزموا التزيين فجاءوا بالمسجوع قصير العبارات على الغالب، مزدوجًا وغير مزدوج. وجاءوا بالطباق والجناس وسواهما من المحسنات، فغلبت ميزة الشعر المصنوع على نثرهم، لا ينقصه غير البحور والأوزان.
كتابي، جعلني الله تعالى فداك، وأنا في كد وتعب، منذ فارقت شعبان، وفي جَهد ونَصَب، من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى، دون العذاب الأكبر، من وقع الصوم، ومُرْتَهَن بتضاعف:
وآثروا الإطناب، وكرهوا الإيجاز وعابوه، فأفضى بهم ذلك إلى الإكثار من المترادفات، وإلى معاقبة الجمل على المعنى الواحد، كما رأيت في المثالين المتقدمين، فأصبح اللفظ غاية لهذا الأسلوب.
وكان من تأثير المواطن الأرستوقراطية التي نشأ فيها الأسلوب الجديد أن أصحابه أسرفوا في منح الألقاب، كسيدي الأستاذ، وسيدي الشيخ، وما شاكل. وأكثروا من الأدعية، فتركوا لمن جاء بعدهم رواسم لفظية تداولتها الأجيال حتى ابتذلت وصارت من سقط المتاع.
وتسرَّب هذا الأسلوب في لغة المصنفين، فاستعملوه في كتبهم فِعْلَ الثعالبي في يتيمة الدهر. ولكنه لم يشع عندهم، فقد تحاماه سوادهم أمثال أبي الفرج في أغانيه، والقاضي الجرجاني في وساطته، والآمدي في موازنته، وابن رشيق في عمدته، وانتحلوا مذهب الجاحظ وسواه من الكتَّاب المطبوعين.
ونحن نجتزئ هنا بدرس آثار بديع الزمان؛ ففيها غنى لمن يريد الاطِّلاع على أسلوب المترسلين.
(٣) بديع الزمان ٩٦٧(؟)–١٠٠٧م/٣٥٧(؟)–٣٩٨ﻫ
(٣-١) حياته
مناظرته مع أبي بكر
لا نعلم من أمر هذه المناظرة إلا ما أملاه بديع الزمان عنها، فإن مؤرخي الآداب لم يذكروا من أخبارها غير ما أورده الثعالبي في يتيمة الدهر. وهو لا يكاد يتعدى الإشارة بأوجز عبارة، ولا يزيد على الإخبار بوقوعها، وانقسام الناس بين المتساجلين، وهبوب ريح الهمذاني لتصديه لشيخ راسخ القدم صليب العود كالخوارزمي، وهو لم يزل غض الحداثة، مقتبل الشباب. ولكن البديع فصَّلها في إحدى رسائله تفصيلًا وافيًا، وذكر جميع ما جرى فيها من منافسات، ومباهيات، ومشاتمات. وخلاصتها: أن أبا الفضل دخل نيسابور صفر الكف، رث الهيئة؛ لأن اللصوص دهموه ورفاقه. وهم في بعض الطريق، فابتزوا ما معهم من دراهم وثياب. وكان أبو بكر في نيسابور. فزاره البديع فلم يلقَ لديه وفادة حسنة. وإنما لقي صلفًا وتكلفًا لرد السلام، فعاد من عنده، وكتب إليه يعاتبه. فرد عليه يستنكر عتابه، وينكر ألا يكون وفَّاه حقه، ونسبه إلى العربدة فسكت البديع. وانقطع عن ذكر أبي بكر. ومضى على ذلك شهر فجعل الخوارزمي يعرِّض ببديع الزمان، ثم لا يكتفي بالتعريض حتى يعلن: «وجعلت عواصفُهُ تهُبُّ. وعقاربُهُ تَدِبُّ.» وطلب أن يجمع بينه وبين الهمذاني. وعرف البديع فكتب إليه يعرض عليه المناظرة، فاجتمعا مرتين بمشهد من القضاة والفقهاء والأشراف وغيرهم من سائر الناس. وتقارعا، فقرعه البديع بالمهاترة والتحقير والمشاتمة، ونَفَسَه بالمبادهة والحفظ، والشعر، والترسل، واللغة والعروض، والسجع. وخرج البديع رافع الرأس. وأبو بكر منكسًا: «ولما خرجتُ لم يلقوني إلا بالشفاه تقبيلًا، وبالأفواه تبجيلًا. وانتظروا خروجه إلى أن غابت الشمس، ولم يظهر أبو بكر حتى حَضَرَ الليل بجنوده، وخلع الظلام عليه فروتَه.»
فنتيجة المناظرة على رواية الهمذاني نصر مُبين له، وخذلان مهين للخوارزمي، غير أننا لا يسعنا أن نطمئن كل الاطمئنان إلى روايته وهو أحد الخصمين. وليس لنا مستند سواها يشفع لها ويزكيها، فهي أشبه برواية الحاتمي لمناظرته مع المتنبي. ومن تدبرها برويَّة وأناة رأى فيها من صلف البديع واعتداده بنفسه، وتحامله على أبي بكر ما يجرح حقيقتها، ويلقي الشبهات عليها، فإنه جعله ينخذل في جميع العلوم التي ناظره فيها، ولم يتركه مرة يبلغ شأوه في باب من الأبواب، حتى في الترسل واللغة والسجع، مع أن أبا بكر طويل الباع في هذه الفنون. ولم يروِ له من الشعر إلا كل غث ساقط. وبلغ من تجهيله إياه أن جعله لا يعرف أنَّ للشاعر أن يصرف ما لا ينصرف، وهذا لا يكاد يجهله صبيان الكتاتيب.
ولم يقتصر على تحقيره وإخزائه، بل حقَّر شهوده وأخزاهم، ورماهم بأقبح الأوصاف: «رجالٌ يلعنُ بعضهم بعضًا، فصاروا إلى قلب المجلس وصدره، حتى رُدَّ كيدهم في نحرهم، وأُقيموا بالنعال إلى صف النعال.» مع أنه أفاض النعوت الحسنة على من كانوا له شهودًا وأنصارًا.
وإنا — وإن كنا نكبر عبقرية أبي الفضل ونؤثره على أبي بكر — لا نرى بدًّا من الشك في روايته. فغير معقول أن ينهزم خصمه على هذه الصورة الفاضحة ويصلد زنده في جميع الفنون، لا تقتدح ناره، ولا يهب شراره، وهو أحد شيوخ العلم، وأيمة الأدب، ومناظره فتى في أوَّل عمره.
وقد رأينا أن الثعالبي لم يذكر في يتيمته أن البديع قهر أبا بكر، وإنما ذكر انقسام الناس بينهما، وأن هذه المناظرة كانت سببًا لنباهة الهمذاني. ولا غرو في ذلك، فإن تصدي فتى رطب لشيخ يابس العود، ومقارعته له بمشهد من العلماء، لا بد له أن يطير بشهرته، ويجعل اسمه على الأفواه. وغير عجيب أن ينقسم الناس بينه وبين خصمه، فهذا دأبهم في كل مناظرة. وأن يكثر أنصاره، وله من ظرف الصِّبَا وجماله خير شفيع.
ولبث الخصام ناشبًا بينهما بعد المناظرة، فكان أبو بكر يتتبع مقامات البديع ويطعن عليها، والبديع يتتبع شعر الخوارزمي ويعيبه، حتى قُبض أبو بكر، فخلا الجو للهمذاني لا ينافسه فيه منافس، ودرَّت عليه أخلاف الرزق، فحسنت أحواله، وخفض عيشه.
زواجه وموته
صفاته وأخلاقه
وصفه صاحب اليتيمة قال: «كان مقبول الصورة، خفيف الروح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخُلق، شريف النفس، كريم العهد، خالص المودة، حلو الصداقة، مُرَّ العداوة.» ا.ﻫ. وكان على نشأته الفارسية يؤثر الانتماء إلى العرب، فيقول في إحدى رسائله: «إني عبد الشيخ، واسمى أحمد، وهَمَذَان المولد، وتغلب المورِد، ومضر المحتد.» ويطعن على الشعوبية، ويفضل العرب على العجم، ولا يبالي، فمن ذلك قوله يرد على شاعر شعوبي هجا العرب وافتخر عليهم:
وكان إلى ذلك حسن العقيدة الدينية، يتشيَّع للعلويين ويمدحهم. ولعله اتخذ مذهب الإسماعيلية الباطنية لكثرة مداخلته لهم.
ذكاؤه
أستاذوه وعلومه
لم نعرف من أستاذي بديع الزمان غير اثنين أولهما ابن فارس صاحب المجمل، فقد درس عليه وهو في همذان، فأخذ عنه اللغة وآدابها. والآخر الصاحب بن عباد فإنه اتصل به بعد أن ترك همذان، وتلمذ له في صناعة الترسل، وأفاد منه أدبًا جمًّا. وكان لمداخلته الإسماعيلية أثر بليغ في تثقيفه، فاقتبس شيئًا كثيرًا من آرائهم ومعارفهم.
وكان يعرف لغة الفرس وآدابهم. ونستدل من رسائله ومقاماته على براعته في علم الكلام، واطِّلاعه على مذاهب أصحاب البدع وآرائهم الفلسفية، ومعرفته علم المنطق، وأحوال البلدان، وطبائع أهلها؛ مما يجعل منه أديبًا عالي الثقافة، مكتمل الآلة في زمانه.
آثاره
لبديع الزمان ديوان طبع في مصر، وشعره مختلف المذهب، فآنًا يجري مع الطبع ويخلو من التكلف، كقصيدته التي رد بها على الشاعر الشعوبي، وآنًا تظهر عليه الصنعة وتكثر فيه المحسنات اللفظية والمعنوية كسائر شعر عصره.
وله في النثر مجموعة رسائل نشرتها المطبعة الكاثوليكية في بيروت، وشرح غريبها الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي. ومجموعة مقامات فيها اثنتان وخمسون مقامة، تولى شرحها الشيخ محمد عبده المصري، ونشرتها المطبعة الكاثوليكية في بيروت، إلا المقامة الشامية فقد تُركت لما فيها مما ينافي الأدب، وكذلك أُغفلت بعض جمل وألفاظ من مقامات أخرى. ويستفاد من رسائل البديع وأقوال المؤرخين أن أصل المقامات أربعمائة، فعبثت بها أيدي الدهر، فما أبقت إلا على أقلها.
(٣-٢) ميزته
لا تقوم ميزة البديع على شعره، فإنه وإن يكن له فيه أشياء حسنة، فآثاره في النثر أبلغ وأسمى، وبها طار ذكره، وخلد على كرور الليالي، فعلى هذه الآثار من رسائل ومقامات نعتمد في كلامنا عليه لنجلو تلك الميزة التي بوأته أعلى درجات الأدب.
رسائله
تتوزع رسائل البديع على أغراض مختلفة كالسؤال والشكوى والعتاب، والاعتذار، والاسترضاء، والمدح والتهنئة. ويعرض في أكثرها لشئونه الخاصة، فمن ظلامة يبسطها، وشكاية يرفعها، وحاجة يشرحها. وله على خصومه حملات منكرات، فيصورهم تصويرًا دقيقًا ملؤه السخر والنكاية، ويطعن عليهم في غير رفق ولا هوادة، فما يذكر لهم صفة إلا قبحها وشيمة إلا رذَّلها. وتحفل رسائله بالآيات والأمثال، والإشارات التاريخية، والاستشهادات الشعرية. ويستهلها على الغالب بالبسملة فالحمدلة، ويدخل عليها الدعاء. وهي في أكثرها قصيرة بليغة الأداء، وإذا طالت في أحوال مخصوصة، لا تفرط في الطول.
مقاماته: التعريف بالمقامات
ومدار المقامات على بطل متبدل الألوان، كثير الاحتيال، فيه شر كبير، وفيه خير كبير؛ فهو ديِّن منافق، صادق كاذب، متزهد ماجن، واعظ مخادع، كل شيء وضده. وهو إلى ذلك واسع العلم والأدب، شاعر خطيب، متكلم راوية، تجده في كل مقامة، وقلما خلت مقامة منه، ويتولى الحديث عنه راوية خيالي مثله، يفاجئه في كل مقامة، ويفضح أسراره، وينقل أخباره.
والفن القصصي ضعيف في المقامات لقصرها؛ ثم لأن القصة ليست غاية فيها بل واسطة لإظهار شخصية بطلها في مختلف أحواله. ولقد تمر مقامات غثة باردة لا قيمة فيها للقصة البتة.
وتمتاز المقامات في جمال لغتها، وكثرة غريبها، واعتمادها على المجاز أكثر من الحقيقة، واصطباغها بالصنعة أكثر من الطبع، فهي ملتزمة السجعات، أنيقة العبارات، حافلة بالمحسِّنات المعنوية واللفظية. فيها الأمثال والأشعار، والآيات والأحاديث، فكل مقامة قطعة أدبية، لغتها لغة الشعر على الأكثر لا لغة النثر.
مخترع المقامات
وبديع الزمان أول من جاءنا عنه فن المقامات، فله فضل المتقدم، وإن زعم بعضهم أنه أخذه عن أستاذه ابن فارس، فليس في آثار أستاذه ما يرجح هذا الزعم فضلًا عن تأكيده. ولا يحط من قدر البديع قول الحصري في زهر الآداب إنه ترسم ابن دريد في أحاديثه الأربعين؛ لأن أحاديث ابن دريد نوادر ولطائف لم يستقل بها دون غيره، فللجاحظ مثلها في البخلاء والحيوان، وكذلك لابن قُتيبة في عيون الأخبار، ولابن عبد ربه في العقد الفريد. وهو في هذه الأحاديث يتوخَّى إظهار فصاحة الأعراب، والإشادة بفضائلهم، وليست المقامات كذلك. ويروي أحاديثه عن عدة رواة معروفين، وللمقامات راوية خيالي واحد. وفي الأحاديث أبطال مختلفة، وللمقامات بطل واحد.
وإذا جاز أن يجعل الحديث نواة للمقامة فمن باب التشابه القصصي، فالمقامة حكاية فنية راقية وُضعت للخاصة، وأما الحديث فنادرة يتلهى بها العامة والخاصة معًا. وكيف دار الأمر فالمقامات غير الأحاديث الدريدية، ولا فضل في اختراعها إلا لبديع الزمان.
تحليل مقامات البديع
وحوادث هذه المقامات تقع على الغالب في الأمصار المتحضرة، وقلما عُنِيَ البديع بالكلام على أهل البادية، كما في مقاماته الغَيلانية، والأسدية، والبشرية، والفزارية، والأسودية. وهي — في أكثرها — قصيرة ضعيفة الفن القصصي، تكاد تكون غثة باردة، لولا حسن الصياغة، وبراعة التصرف في ضروب الكلام. وأما ما طال منها فإنه جميل موفق كالمقامة المضيرية والبشرية والأسدية وسواها.
وراوية بديع الزمان وبطله لا ينحصران في زمان محدود، فإن عيسى بن هشام يحدثك في المقامة الغَيلانية عن الفرزدق وذي الرمة كأنه معاصر لهما. ثم يحدثك في المقامة الحمدانية عن سيف الدولة بن حمدان. ويحدثك عن خلف بن أحمد، وكان واليًا على سجستان معاصرًا للهمذاني، وقد خصه البديع ببعض مقاماته، وأشاد فيها بذكره وأطراه.
ونحن نجتزئ بتحليل مقامتين من مقاماته، إحداهما المضيرية، وفيها تظهر براعة البديع في الوصف ودقة التصوير، على شيء كثير من السخر وخفة الروح. والأخرى البشرية، وهي التي وفق بها صاحبنا لاختراع شاعر جاهلي تبنَّاه التاريخ من بعده، ألا وهو بشر بن عَوانة العَبدي.
المقامة المضيرية١٧
فهذه المقامة من أبدع ما صنع الهمذاني، ففيها جمال القصص، وروعة الفن، ودقة الوصف، وحسن الانتقال، واتساق الأفكار. وفيها السخر والفكاهة والنكتة. ولو وُفِّق البديع في جميع مقاماته توفيقه فيها، لبلغ في هذه الصنعة غاية الغايات.
المقامة البشرية
تمتاز هذه المقامة عن سائر أخواتها من مقامات بديع الزمان في أنها اصطنعت شاعرًا لم تعرفه القرون الخالية، وزفَّته إلى تاريخ الآداب، فاحتفل به المؤرِّخون، وأعظموا شأنه، ولم يجدوا مشقة في تحديد عصره، فجعلوا وفاته في أواخر القرن السادس للمسيح. وهذا الشاعر هو بِشر بن عوانة العبدي صاحب القصيدة الشهيرة التي أولها:
والقصيدة وصاحبها من صنع الهمذاني، ولا غرابة في ذلك، فإن البديع لم يكن في مقاماته مؤرخًا ولا راوية. وإنما هو كاتب متفنن، وقاصٌّ خيالي. ولم يدَّع يومًا صحة مقاماته، بل كان بالضد يفاخر في اختراعه لها، كما في رسالته إلى أبي بكر الخوارزمي حيث يقول: «فيعلم أن من أَمْلَى من مقامات الكُدْية أربعمائة مقامة لا مناسبة بين المقامتين لا لفظًا ولا معنى، وهو لا يقدر منها على عشر، حقيق بكشف عيوبه.» ا.ﻫ. على أن الغريب أن ينخدع بها جماعة من جلَّة الأدباء والمؤرِّخين، فيجعلوا المقامة البشرية قصة حقيقية، وقصيدة الأسد شعرًا جاهليًّا، وبشر بن عوانة بَشَرًا سويًّا. مع أنهم لو راجعوا المظانَّ الأدبية والتاريخية التي صنفت قبل المقامات لما وجدوا كتابًا واحدًا يذكر بشرًا، أو يشير إلى قصياته في الأسد، فقد رجعنا إلى أمهات الكتب القديمة، فلم نسمع لبشر خبرًا؛ فلا الضبي ذكره في مفضلياته. ولا ابن سلام في طبقاته، ولا ابن قتيبة في الشعر والشعراء وعيون الأخبار، ولا أبو تمام والبحتري في حماستيهما، ولا الجاحظ في البيان والتبيين والحيوان، ولا ابن عبد ربه في العقد الفريد، ولا المبرد في كامله، ولا الطَّبري في تاريخه، ولا الأصفهاني في أغانيه، ولا المرزباني في الموشح، ولا ابن النديم في الفهرست، ولا المسعودي في مروجه، ولا القالي في أماليه. ونظرنا في بعض الكتب الركينة التي تأخر زمن أصحابها عن زمن صاحب المقامات، فلم نرها تذكر بشرًا في جملة الشعراء، أو تضيف إليه قصيدة الأسد. ومن هذه الكتب العمدة لابن رشيق، وزهر الآداب للحصري، ومعجم الأدباء لياقوت، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وفوات الوفيات لابن شاكر الكتبي.
ولعل ضياء الدين بن الأثير، صاحب المثل السائر، أوَّل من ضَلَّ فأثبت بشرًا، وأَضَلَّ غيره من الأدباء والمؤرخين، فإنه لما عمد إلى الموازنة بين المتنبي والبحتري في قصيدتيهما اللتين وصفا بهما الأسد قال: «أما البحتري فإنه ألمَّ بطرف مما ذكر بشر بن عوانة في أبياته الرائية التي أولها:
وهذه الأبيات من النمط العالي الذي لم يأت أحد بمثله. وكل الشعراء لم تسمُ قرائحهم إلى استخراج معنى ليس بمذكور فيها.» ا.ﻫ. وقال في مكان آخر: «ولفطانة أبي الطيب لم يقع فيما وقع فيه البحتري من الانسحاب على ذيل بشر لأنه قصر عنه تقصيرًا كثيرًا.» ا.ﻫ.
فابن الأثير يزعم أن البحتري قد تعلق في بائيته التي وصف بها الأسد بمعاني بشر بن عوانة، توهمًا منه أن بشرًا شاعر جاهلي قديم. ولعله استكثر قصيدة الأسد على بديع الزمان، وهو من طبيعته لا ينظر إلى حسنات غيره إلا في شيء من الصلف والتعنُّت، وخصوصًا إذا كانوا من أهل زمانه، فضَنَّ بها أن لا تكون لشاعر في الجاهلية، فأثبت بشرًا غير متحرج، وتعامى عن حقيقة فن المقامات، فجاء بعده من تعلق بأذياله، وأدخل بشرًا في صلب التاريخ.
ولم يقل أحد قبل صاحب المثل السائر أن البحتري سرق عن غيره في قصيدته التي ذكر بها الأسد، مع أن الآمدي في موازنته بين الطائيين أورد كل ما أُدرك من السرقات على البحتري، وما كان له أن يغفل عن قصيدة بشر لو كان بشر معروفًا عنده؛ لأن فيها أبياتًا لها أشباه في قصيدة البحتري، مثال ذلك قول بشر:
وقد قال البحتري:
وكذلك القاضي الجرجاني وهو كالآمدي ممن تقدم زمانهم زمن البديع، فإنه ذكر في كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، قصيدة أبي الطيب في وصف الأسد، وقال: «ولولا أبيات البحتري في هذا المعنى، لعددت هذه من أفراد أبي الطيب، لكن البحتري قال يصف قتل الفتح بن خاقان أسدًا عرض له، فاستوفى المعنى، وأجاد في الصفة، ووصل إلى المراد. وأما أبو زبيد فإنما وصف خلق الأسد وزئيره، وجرأته وإقدامه. وكأنما هو مرعوب أو محذر، والفضل له على كل حال. لكن هذا غرض لم يرُمْه ومذهب لم يسلكه.» ا.ﻫ.
وفي رسائل بديع الزمان أبيات من وصف الأسد استشهد بها صاحبها من غير أن يعزوها إلى بشر؛ مما يدل على أن البديع لم يخطر في باله يومًا أن يجعل من مقاماته قصصًا تاريخية، ولا من بشر بن عوانة شاعرًا حقيقيًّا.
تحليل المقامة البشرية
لم يتعمد البديع الصنعة في هذه المقامة، ولا التزم السجع والتزيين، بل تركها تجري مع الطبع، فبَعُد بها شيئًا عن إنشاء المقامات. فكأنه — وهو يتحدث عن شاعر في الجاهلية — أبي إلا أن يجعل كلامه ملائمًا لعصر شاعره. وهذا من بعض حسناته، إلا أنه لم يتأتَّ له أن يبعد بقصته عن الإغراب، فهي على لطفها، وفكاهتها، وحسن سياقها، فيها أشياء كثيرة لا يطمئن إليها العقل، ولا يسلِّم بها المنطق. ولو لم تتخذ هذه المقامة تاريخًا لحياة شاعر حقيقي لما عنينا بنقد ما فيها من الإغراب؛ لأنه مستملح في قصص خيالية كالمقامات.
وهذه القصيدة شهيرة متداولة وفق فيها بديع الزمان كل التوفيق، فقد ضمَّنها دقة الوصف، وجمال التصوير، وأفرغها في قالب شائق، متخيَّر الألفاظ، منسجم التعابير، ولكنها على طبعيتها، وجزالتها، تتناهى سلاسة ورقة ووضوحًا، فتجعلك تشك في جاهليتها؛ لأن الشعر الجاهلي مهما سهل ولان، لا يخلو من خشونة البداوة وغموض بعض التراكيب، ولا سيما شعر قيل في وصف الوحوش والإبل والقفار، فإن عاطفة الجاهلي تتصلب في مثل هذه الحالات، فتصلُب معها ألفاظه. وبوسعك أن تلتمس أية قصيدة جاهلية شئت، فترى اختلافًا بيِّنًا في لغتها، إذا اجتمع من أغراضها الغزل، والاستعطاف، أو الرثاء إلى وصف الوحوش والإبل والقفار. ومعلوم أن بشرًا من صعاليك العرب، وهؤلاء يعيشون في البراري المقفرة، ولا يخالطون غير الوحوش، فيصبحون من الخشونة على جانب عظيم، وتخشوشن معهم لغتهم. ولنا في شعر الشنفرى وتأبط شرًّا أمثلة صادقة للغة أولئك الصعاليك. أما قصيدة بشر فحضرية أكثر منها بدوية، وليس ورود بعض الغريب فيها بدليل على جاهليتها، وهو قليل تافه لا تأثير له، لتشتُّته في أثناء اللفظ المأنوس.
وغير عزيز على بديع الزمان أن يأتي بمثل هذه القصيدة على جلالتها، فإن له في شعره الذي يجري به طبعه ما يشبهها، كقصيدته التي رد بها على الشاعر الشعوبي، ودافع عن العرب. وليس لنا اعتراض على ما فيها من وصف وتصوير؛ لأنهما ميزة الهمذاني في رسائله ومقاماته. على أننا نعجب لبشر وهو الصعلوك الجاهلي، كيف عرف الكتابة، فكتب قصيدته بدم الأسد على قميصه، في حين أن وجوه قبائل البدو كانوا أميين يومئذ، وندر وجود الكتَّاب فيهم. أفما كان ينبغي للمدرسة التي خرَّجت بشر بن عوانة أن لا تضن بعلومها على زملائه السليك، والشنفرى، وتأبط شرًّا؟
وأرسل بشر القميص إلى ابنة عمه لتقرأ القصيدة، ولا نعلم من كان رسوله إليها؛ لأن صاحب المقامات لم يذكره ولا ذكره من أرَّخ بشرًا بعده. غير أننا نعلم أن بشرًا ذهب يطلب النوق منفردًا، وسلك طريقًا تحامت عنه العرب.
وحلف لا ركب حصانًا ولا تزوج حصانًا، ثم زوج ابنة عمه لابنه.»
أفليس عجيبًا أن يكبر ولده من المرأة التي سباها، وهو لم يزل يسعى في صداق ابنة عمه، ثم يكون لهذا الولد الأمرد من البأس ما يمكنه من قهر أبيه، حتى إذا عرفه بشر تخلى له عن فاطمة ابنة عمه، وأزوجه إياها، فكانت من نصيب ابنه لا من نصيبه.
فهذه هي المقامة البشرية التي خُدِعَ بها جماعة من الأدباء والمؤرخين، وكان ابن الأثير أول المخدوعين على تنطسه وكثرة دعاويه.
إنشاؤه
يمتاز إنشاء البديع في لغة أنيقة التعبير، فيها رصانة البدو، ورقة الحضر، تلازمها الصنعة، دون أن تفسد طبع صاحبها، فالهمذاني له باع طويل في تخير ألفاظه وتحسينها، يتعمد السجع فيردده في جمل قصيرة الفواصل، أو طويلتها. وربما تعددت فواصله متواطئة على حرف واحد، فيؤثر عندئذ تقصير الجمل ويقطعها تقطيعًا.
وإذا تخلى عن السجع لا يتخلى عن المجاز والتزيين، فإن رسائله ومقاماته حافلة بالتشابيه والاستعارات والكنايات وأنواع البديع المعنوي واللفظي، ولا سيما الطباق والتشكك والجناس. وقلما تقع على لفظ يعبِّر عن حقيقة معناه. وقد تمر بك استعارات وكنايات تدل على معنى واحد. وتقليب الجمل على المعنى كثير في إنشاء البديع، وهو من لزوميات الصنعة لما فيه من افتنان في التعبير وتنوُّق في إبلاغ المعنى. ومن ذلك قوله في مقامة: «ورفعناها فارتفعت معها القلوب، وسافرت خلفها العيون، وتحلبت لها الأفواه، وتلمَّظت لها الشفاه، واتَّقدت لها الأكباد، ومضى في إثرها الفؤاد.»
وإنشاؤه على الجملة مجموعة صور مختلفة التلاوين، وهو للشعر أقرب منه للنثر. وكأنه في وشيه وترف ألفاظه خُلِقَ ليربى ويترعرع في قصور الطبقة الأرستقراطية من أهل البيان. وليس في هذا الوشي على صنعته الظاهرة، ما يقرع الأسماع وتجفو عنه الطباع، فإن ما ينضاف إليه من روعة الإنشاء، وصحة الطبع، يجعله سهل البلاغ، طيب المساغ.
(٣-٣) منزلته
قال الثعالبي: «هو بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عُطارد، وفرد الدهر، وغرة العصر.» ا.ﻫ.
وفي هذه النعوت ما يدل على شدة إعجاب صاحب اليتيمة به. ولم ينفرد بهذا الإعجاب أبو منصور وحده، بل شاركه فيه جمهرة المتأدبين في عصره، وبعد عصره. وحسب البديع منزلة أن ينتظم له حزب يلفُّ لِفَّه وهو ما برح فتى غض الشباب؛ فقد علمت كيف انشق الناس شطرين بعد مناظرته لأبي بكر، وكان الشطر الأعظم بجانبه، يشد أزره، ويفضله على خصمه. وقد استحق صاحبنا هذه المنزلة، بذكائه النادر، وسرعة خاطره، واستبحاره في اللغة وآدابها، وبلاغة إنشائه وحسن مائه وروائه، وطول باعه في الوصف والتصوير، ودقة نظره في مراقبة الأشياء، وبراعته في التوليد والابتكار. وهو خير مصور للحياة في لذتها وألمها، ولأخلاق الناس، ولا سيما المحتالون الذين يتوسَّلون بمختلف الحيل لابتزاز الأموال، وأول من ابتكر فن المقامات، فترسَّمه فيه أخلافه، فنحتوا من صخره، واغترفوا من بحره. وكفاه فخرًا أنه خلق لتاريخ الآداب شاعرًا خدع به صيَّابة الأدباء، فرووا شعره، وأثبتوا خبره، وظل حديث المجالس، وحلقات الطلب زهاء عشرة قرون. وبديع الزمان أحد زعماء الأسلوب المنمَّق، وأبعدهم صيتًا، وأوسعهم شهرة، وأنبههم ذكرًا.
(٤) القصص
بدأ القصص عند العرب بَدْءَه عند سائر الشعوب، أسمارًا ونوادر وأحاديث، يقطعون بها ليالي الشتاء، وأيام الفراغ. والعرب كغيرهم من الأمم يروقهم التحدث بأخبار أسلافهم، والإشادة بمناقبهم، فقادهم ذلك إلى المبالغة في رواياتهم حتى بلغوا بها حدَّ الإغراب والتخريف، فأصبحت أسمارهم ونوادرهم أقاصيص تلتبس فيها الحقيقة بالخيال.
وتضاعفت عناية الناس بالقصص في صدر الإسلام بعد أن صار العرب دينًا جامعًا، ودولة منظمة، وشعبًا مجموعًا. واشتمل ذاك العصر على حياة لهو ومجون، وحياة حرب وجهاد، فكان القاصُّون يعمرون مجالس اللهو، ويسمرون بنوادر العشاق والمتيمين. ويقصدون أماكن الفتن ومزاحف البعوث، ويضرمون الحماسة في صدور الرجال بأخبار فرسان العرب وأيامهم المشهورة.
وطفقت هذه الأقاصيص تزداد إغرابًا وبهرجة بكرور الأيام والسنين، وتتابع القاصين عليها، وتفاوتهم بخصب الخيال وحب التزيين، ورغبتهم في استهواء السامعين وإثارة عواطفهم حتى أصبحت خرافات في أكثرها ليس لها من الحقيقة إلا أثر بعد عين.
ولم يُشرع في تدوين القصص إلا في صدر الدولة العباسية، وأول من أخذ بأهداب هذا الفن عبد الله بن المقفع في كتابه كليلة ودمنة. وفعل فعله سهل بن هارون في كتابه ثعلة وعفرة، وعلي بن داود كاتب زبيدة.
ولما ضعف سلطان العباسيين، وتولى الأتراك عنهم شئون الدولة، انصرف أولئك إلى اللهو والسمر، فكان القاصون يخرِّفونهم بالحكايات والنوادر، فشاع تصنيف القصص ونقلها، ولا سيما أيام المقتدر. وما جاء العصر الثالث حتى كان منها طائفة حسنة ذكرها ابن النديم في الفهرست، وفيها قصص عربية الأصل كأخبار العشاق في الجاهلية والإسلام، أمثال عروة وعفراء، ومجنون ليلى، وعمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وأخبار الحبائب المتظرفات كقصة هند ابنة النعمان، وأخبار عشاق الإنس للجن، وعشاق الجن للإنس، وأخبار البطالين كقصة أبي عمر الأعرج، وأخبار المغفَّلين كنوادر جحا. وفيها قصص عجمية الأصل نقلت عن الفارسية ككتاب هزار افسان، ومعناه ألف خرافة، وكتاب دارا والصنم الذهب. وأشهر هذه القصص وأكبرها اثنتان؛ إحداهما عربية النجار؛ وهي سيرة عنترة العبسي، والأخرى فارسية وهي حكايات ألف ليلة وليلة.
(٤-١) سيرة عنترة
سيرة عنترة كغيرها من القصص، تداولتها ألسنة القاصين زمنًا قبل تدوينها، وتصرفوا فيها كما شاءوا وشاء لهم خيالهم من زيادة أو نقصان. ونرى أنها لم تدون دفعة واحدة على ما هي عليه اليوم بل مرَّت بها أزمنة طويلة، والكتَّاب يتواطئون على تصنيفها، فيغيِّرون فيها، ويضيفون إليها. حتى وصلت إلينا ضعيفة التأليف، مختلفة اللغة والشعر، فيها الحسن الجيد، وفيها القبيح الرديء.
(٤-٢) ألف ليلة وليلة
هي حكايات متتابعة، مأخوذة من أصل فارسي في كتاب اسمه هزار افسان، ومعناه ألف خرافة، ولا يُعرف مصنف هذا الكتاب، ولا ناقله إلى العربية. قال فيه صاحب الفهرست: «ويحتوي على ألف ليلة، وعلى دون المائتي سمر؛ لأن السمر ربما حُدِّث به في عدة ليال، وقد رأيته بتمامه دفعات. وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث.» فمن هذا القول نعلم أن أصل ألف ليلة لم يكن بذي خطر، ولكن أدباء العرب رفعوا قدره بما أدخلوا عليه من التحسين، وعفَّوْا على أصله الفارسي بما بدلوا فيه، وزادوا عليه.
وليس هذا الكتاب عمل رجل واحد أو عصر واحد، وإنما شأنه شأن سيرة عنترة، فقد ظل العرب يشتغلون بتصنيفه حتى أواسط عصر الانحطاط، فلذلك تجد فيه أخبارًا عن المماليك، وشعرًا لشعراء متأخرين.
وتمتاز ألف ليلة وليلة في غرائب حوادثها، وخيالها العجيب، وفيها أدب كثير ومجون كثير، وفيها سخط على الظلم والارهاق، وتمثيل لحياة المسلمين وحكامهم في العصور الخالية.
(٤-٣) منزلة القصص
ومما يجدر ذكره أن أكثر القصص التي ألفها العرب قصيرة. وأما ما طال منها فينقصه التحام الأفكار ووحدة الموضوع، فسيرة عنترة مثلًا وهي أكبر القصص العربية، لا تجد في أجزائها ارتباطًا محكمًا؛ إذ بوسعك أن تسقط من أخبارها جانبًا عظيمًا دون أن تحدث خللًا فيها. ويرجع ذلك على أن حوادثها غير متينة الالتحام في ائتلافها وتسلسلها، واتجاهها إلى الفكرة العامة، وأن نتائجها لا تتعلق بمقدماتها تعلقًا كليًّا كما هي الحال في القصص الغربية الراقية، فيتعذر الاستغناء عن شيء منها. ولا نتَّهم مخيِّلة العربي من أجل هذا النقص، فإن من يقرأ عنترة وألف ليلة وليلة يقع على خيال قوي في انطلاقه، مدهش في صوره وألوانه، غير أن صاحبه مترجرج السير، قصير النَّفَس، كثير الانتقال، مختلط التفكير، فارغ الصبر، لا يترسم خطة إلا ضاق بها ذرعًا، ونكص عنها قبل أن يستتمها، ومضى يتفرَّج منها بسواها؛ لذلك آثر القصة القصيرة على الطويلة، وإذا أطالها سرد الحوادث المختلفة دون أن يُعْنَى بوحدتها وربط أجزائها، فجاءت قصته ضعيفة الفن، غثَّة الأسلوب، باردة التأليف. ولا ريب أن تواطؤ الكتَّاب على القصة الواحدة في أعصر متفاوتة اللغة والخيال والتفكير، كان له أثر سيئ فيها؛ إذ إنه زادها اضطرابًا، وأوسعها فسادًا، فلهذه الأسباب لم تأتنا قصة راقية الفن عن العرب، وإنما جاءنا حكايات ومقامات ونوادر وأحاديث.
(٥) العلوم
بلغ التفكير الإسلامي حده الأقصى، ونضجت العلوم، وصنفت الكتب في مختلف الفنون والأغراض، فكتب ابن جنِّي أبحاثًا فلسفية في أصول النحو، واشتقاقات اللغة، وأحكام حروف الهجاء وما يصيبها من إعلال وقلب وإبدال. ووضعت المعاجم اللغوية الكبيرة كتهذيب اللغة للأزهري، والمحيط للصاحب بن عبَّاد، والمجمل لابن فارس، والصحاح للجوهري. وظهر علم الفِهرست في كتاب ابن النديم.
ونهضت العلوم الطبيعية والرياضية، فقد أدخل ابن الهيثم البصري أساليب جديدة على الجبر والحساب، وطابق بين أحكام الهندسة والمنطق. وتقدم الطب وكثر أصحابه. وشاعت الصيدلة، واخترعت الأدوية، وأصبحت الكيمياء علمًا ثابتًا. ودخلت عليها المركبات المستحدثة كماء الفضة، وروح النشادر، والسليماني، وملح البارود، والبوتاس، وغير ذلك. وأُلِّفَت الكتب النفيسة في علم النجوم، وترقى الأسطرلاب، وشرع العلماء يرحلون لمراقبة الخسوف والكسوف.
وازدهرت الفلسفة الإسلامية، واستقلت عن الفلسفة اليونانية بميزة توفيقية خاصة، ونبغ الفلاسفة الكبار، كابن سينا وإخوان الصفاء.
وكثرت التواريخ الخصوصية بتكاثر الدولات، ولكن فن التاريخ لم يتقدم؛ لأن المؤرخين لبثوا يسردون الأخبار عارية من النقد والتمحيص. وأما الجغرافيا فكانت مختلطة بالتاريخ غير منفصلة عنه، وقد زادت مادتها بفضل الرحلات، فأضيف إليها جهات جديدة، منها في أواسط أفريقية، ومنها في داخل آسيا، ومنها جزر في المحيط الهندي، وشاع رسم الخرائط. وكان المسعودي أشهر من اشتغل بالتاريخ والجغرافيا، وعانى الأسفار الطوال بسببهما، ومن آثاره فيهما كتابه الموسوم بمروج الذهب.
(٦) الأدب والأدباء
اتسق فن الأدب، واستقلَّ بذاته، ورغب الأدباء في نقد الشعر على طريقتهم، فصُنِّفت الكتب في تعداد سقطات الشعراء، ومناظرتهم، كما فعل الصاحب بن عبَّاد، والحاتمي مع أبي الطيب، وفي الموازنة بينهم، فِعْلَ الآمدي في موازنته بين الطائيَّين، وإظهاره حسنات كل منهما وسيئاته. وفي الوساطة بين شاعر ونقاده، كما فعل القاضي الجرجاني في وساطته بين المتنبي وخصومه، وأصبح للشعر نُظُم محدودة، وأبواب معروفة، ومناهج مقررة بعد أن صنف ابن رشيق القيرواني كتاب العمدة في صناعة الشعر ونقده، وأكمل ما بدأ به ابن المعتز وقُدامة بن جعفر.
وشاع تمحيص الروايات والأخبار، في المجاميع الأدبية، وأشهرها الأغاني لأبي الفرج، ويتيمة الدهر للثعالبي، وزهر الآداب للحُصري. ونجترئ هنا بالكلام على أبي الفرج؛ لأن كتابه أشهر المجاميع، وأكبرها، وأجزلها نفعًا.
(٧) أبو الفرج الأصبهاني ٨٩٧–٩٦٦م/٢٨٤–٣٥٦ﻫ
(٧-١) حياته
هو علي بن الحسين الأموي القرشي، تتصل عصبيته بمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وكنيته أبو الفَرَج. وُلِدَ بأصبهان، وإليها انتسب، ونشأ ببغداد، وبها تخرَّج على طبقة رفيعة من العلماء والرواة كابن دريد، والأخفش الأصغر، والأنباري، والطبري، وابن المَرْزُبان وسواهم، فحفظ عنهم شيئًا كثيرًا من اللغة والنحو والشعر والأغاني والأخبار والآثار، والأحاديث المسندة، والأيام والأنساب، والخرافات، والسِّيَر، والمغازي. وحذق شيئًا غير يسير من آلة المنادمة، مثل علم الجوارح والبيطرة، ونتفًا من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك.
وكان متصلًا بالحسن المهلَّبي — وزير معز الدولة بن بويه — منقطعًا إليه يمدحه ويأخذ جوائزه. وأفاد من كتبه ثروة حسنة، فقد أهدى كتاب الأغاني إلى سيف الدولة، فأعطاه ألف دينار، واعتذر إليه من تقصيره في المكافأة، كما يقتضيه حق الكتاب. وكان أنسباؤه بنو مروان ملوك الأندلس يتقدمون إليه بتصنيف الكتب لهم، فيفعل، ويسيِّرها إليهم، ويأتيه إنعامهم سرًّا. وفُلج وخولط في أواخر أيامه، ومات في بغداد.
صفاته وأخلاقه
كان لطيف المنادمة، وحسن المعاشرة، حلو الحديث، يحب اللذة ومجالس اللهو ويشرب الخمر ويصحب القيان والمغنين. وكان مع ذلك رَثَّ الهيئة لا يُعنى بتحسين شارته، كثير الهجاء، في لسانه سلاطة وهُجر، تُخشى معرَّته، ويُحذر جانبه لعلمه بالأنساب والمثالب. وكان أكولًا نهمًا، إذا ثقل الطعام في معدته تناول خمسة دراهم فلفلًا مدقوقًا، ولا يؤذيه ولا تدمع منه عيناه. وهو مع ذلك لا يستطيع أن يأكل حمصة، أو يصطبغ بمرقة قِدر فيها حمص، وإذا أكل شيئًا يسيرًا من ذلك شري بدنه كله، وبعد ساعة أو ساعتين يُفصد، وربما فصد لذلك دفعتين. فلما كان قبل فالجه بسنوات ذهبت عنه العادة في الحمص، فصار يأكله ولا يضرُّه، وبقيت عليه عادة الفلفل. وكان على أمويته يتشيع للعلويين لتربِّيه بينهم، ومخالطته لهم، واشتماله بإنعامهم.
آثاره
لأبي الفرج شعر أكثره في مدح المهلَّبي، روى منه الثعالبي طائفة حسنة في يتيمته. ولكن منزلة الأصبهاني لا تقوم على أشعاره وإنما تقوم على مصنفاته الأدبية والتاريخية وهي كثيرة، منها في الأيام والأنساب والمثالب، ومنها في الشعر والشعراء والشواعر، ومنها في القيان والمغنين والحانات وأصحابها. وأشهر هذه الكتب وأبقاها الأغاني، اشتغل به صاحبه خمسين سنة، ووصل إلينا منه واحد وعشرون جزءًا، والجزء الأخير نشره المستشرق الأميركي رودلف برونو. ولعلَّ الكتاب كان أكبر حجمًا، وضاع منه بكرور الأزمان. قال ياقوت: «وجمعتُ تراجمه فوجدته يَعِدُ بشيء، ولا يفي به في غير موضع منه، كقوله في أخبار أبي العتاهية: «وقد طالت أخباره ها هنا، وسنذكر خبره مع عتبة في موضع آخر.» ولم يفعل. وقال في موضع آخر: «أخبار أبي نواس مع جنان؛ إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت.» ولم يتقدم شيء، إلى أشباه لذلك. والأصوات المائة هي تسعة وتسعون، وما أظن إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء، أو يكون النسيان غلب عليه، والله أعلم.» ا.ﻫ. وللأغاني اختصارات كثيرة لا نرى فائدة من ذكرها.
(٧-٢) ميزته
لم يخلص إلينا من آثار أبي الفرج شيء يُعتدُّ به إلا أغانيه، فعليه قامت ميزته، وبه كان خلوده، فإليه نستند في الكلام على أدب الأصبهاني، ومنزلته، ومبلغ تأثيره.
الأغاني: جمعه وتأليفه
وحكاية هذه الأصوات أن هارون الرشيد أمر إبراهيم الموصلي، وإسماعيل بن جامع، وفُلَيح بن العوراء باختيارها له من الغناء كله، ففعلوا، ثم أمرهم أن يختاروا له ثلاثة منها ففعلوا، ثم رُفعت إلى الواثق بالله وهو خليفة، فأمر إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن يختار له منها ما رأى أنه أفضل من غيره، ويبدل ما لم يكن على هذه الصفة بما هو أولى منه، ففعل ذلك، فعلى هذه الأصوات المختارة اعتمد أبو الفرج في تأليف كتابه، ولكنه لم يقتصر عليها، بل أضاف إليها طائفة كبيرة من الأصوات التي غُنِّي بها، وليست منها.
وكان إذا ذَكَرَ الصوت عرَّف قائله ومن غنَّى به، وبيَّن لحنه وطريقته وجنسه. ومذهبه في ذلك مذهب إسحاق الموصلي؛ إذ كان هو المأخوذ به يومئذ دون مذهب من خالفوه في أسماء الألحان، وبيان أجناسها، ثم ينتقل إلى الشاعر الذي قاله، فيذكر نسبه وأخباره، وتاريخ مولده ووفاته، وطائفة من أشعاره، وما غُنِّي له فيه، معتمدًا بذلك على الإسناد المتسلسل. ثم يفرغ إلى من غنى بهذا الصوت، فينسبه ويروي أخباره ويبين صنعته، ومنزلته، وما له من الأصوات المعدودة. وإذا لم يستتم الكلام على الشخص الذي يتحدث عنه؛ لأن له أخبارًا مع شخص آخر جُعِلت على حدة، أشار إلى ذلك بقوله: «وسنذكر خبره مع فلان في موضع آخر.» ويقول في ذاك الموضع: «أخبار فلان مع فلان إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت.»
وابتداؤه بالأصوات الثلاثة المختارة فما يليها جعله لا يراعي في كتابه طبقات الشعراء، وأزمنتهم، ولا طرائق الغناء، وطبقات المغنين، فإنه استهل الكتاب بأخبار أبي قَطِيفة، وهو شاعر مخضرم ليس في المعدودين، ولا الفحول، وإنما غنَّى له مَعبد في شعر له:
فعَدَّ من الثلاثة الأصوات المختارة، فبدأ به أبو الفرج، ثم بمعبد، وثنَّى بعمر بن أبي ربيعة، ثم بابن سرُيَج؛ لأن ابن سريج غنَّى في شعر عمر:
فعُدَّ من الثلاثة الأصوات المختارة، وثلَّث بنصيب بن رباح، ثم بابن مُحرِز؛ لأن هذا غنى له في شعره:
فعُدَّ من الثلاثة الأصوات المختارة. وهكذا مشى إلى سائر الأصوات على غير ترتيب في الشعراء والمغنين.
أغراضه
رأيت أن الأغاني لم يقتصر على الغناء والمغنين، وإنما هو تاريخ جزيل الفائدة، ففيه أخبار بضع مائة من الشعراء، والمغنين، والقيان، والإماء، والغلمان، والعشاق والمعشوقات، والمخنثين، والمتظرفين والمتظرفات. وفيه أخبار الخلفاء والأمراء والقواد، ومن نبغ من أبنائهم وبناتهم في الشعر والغناء. وفيه أخبار قبائل العرب وأنسابهم، وغزواتهم، وأيامهم، ومياههم. وفيه محاسن ما قيل من الشعر في الجاهلية والإسلام والمائة الأولى والثانية لبني العباس. وفيه وصف مآكل العرب ومشاربهم في بداوتهم وحضارتهم، وذكر عشقهم وأنواعه، وتسرِّيهم، وزواجهم وطلاقهم، وسائر أحوالهم. وفيه تصوير بديع للمجالس والملاهي، والرياض والحدائق.
وقد علمت أن أبا الفرج يحب اللذة ويتطلبها، وبنى كتابه على الغناء، والغناء يُقصد به إلى اللذة والترفيه عن النفس، فغلبت ناحية العبث والمجون على كتابه، وحفل بالنوادر المسلية والمتعهِّرة. فتراه يُعنَى بفضح الشعراء، وذكر أخبارهم وأشعارهم الفاحشة، وتصوير فساد أخلاقهم. ولم يتحرَّج من تشهير الخلفاء وأبنائهم، ونسائهم، وذكر عشقهم واستهتارهم، وعكوفهم على اللهو والشراب والسماع.
فلهذا لا يسعنا اعتماد الأغاني من النواحي التاريخية الشاملة، ولا سيما كلامه على الإسلاميين والمولدين، فإنه قلما تناولهم إلا من ناحية العبث واللهو. ولا ينبغي الاستسلام إلى رواياته كلها دون التوقف عند بعضها في شيء من الشك والاحتياط.
إنشاؤه
لصاحب الأغاني لغة جزلة سمحة، لم يؤثر فيها أسلوب الرسائل، فهي تفيض طبعًا وسلاسة، وتبرأ من كل تكلف وصنعة وتعمد للمجاز. وجملته رشيقة حلوة المساغ. فخمة طلية، بارعة التصوير، ملؤها ماء وحياة، لا ليان فيها ولا جفاف، تميل إلى القِصَر لبلاغتها وإيجازها وحسن اختيار ألفاظها التي تؤدي حقيقة المعنى، من غير تأبُّد وخشونة. ولا عيب فيها غير الإكثار من فعل القول.
وليس الأغاني كله من إنشاء صاحبه، ففيه من أقوال الرواة الذين أخذ عنهم، وفيه نقل عن كتب يذكر أسماءها، وفيه تلفيق لأقوال جمع بعضها إلى بعض؛ فلذلك اختلفت لغة إنشائه. ولو اختصر الأصبهاني في الإسناد لدفع عن قرائه كل ضجر، ولكنه أحب أن يزيد روايته ثقة فأساء إلى قرائه بالحديث المُعَنْعَن المتسرد.
(٧-٣) منزلته
لم يُحدِث كتاب عند ظهوره من التأثير ما أحدثه الأغاني في حلقات الأدب؛ فقد بادر الملوك والناس إلى شرائه، وتنافسوا في اقتنائه. وكان سيف الدولة أوَّل من اقتناه من ملوك الشرق. وذكر صاحب نفح الطيب أن الحاكم المستنصر، أحد خلفاء بني أمية بالأندلس، بعث إلى أبي الفرج بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة من الأغاني قبل أن يخرجه بالعراق. وقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة بن بويه: «لم يكن كتاب الأغاني يفارق عضد الدولة في سفره ولا حضره.» وذكر ابن خلكان: «أن الصاحب بن عبَّاد كان يستصحب في أسفاره حمل ثلاثين جملًا من كتب الأدب، فلما وصل إليه هذا الكتاب لم يكن بعد ذلك يستصحب غيره؛ لاستغنائه به عنها.»
وبلغ الصاحب أن سيف الدولة أعطى أبا الفرج ألف دينار لمَّا أهدى إليه نسخة من كتابه، فقال: «لقد قصَّر سيف الدولة، وإنه يستحقُّ أضعافها؛ إذ كان مشحونًا بالمحاسن المنتخبة، والفِقَر الغريبة، فهو للزاهد فكاهة، وللعالم مادة وزيادة، وللكاتب والمتأدب بضاعة وتجارة، وللبطل رجلة وشجاعة، وللمتظرف رياضة وصناعة، وللملك طيبة ولذاذة. ولقد اشتملت خزانتي على مائة ألف، وسبعة عشر ألف مجلد، ما فيها سميري غيره.»
وأقوال المتقدمين في الأغاني كثيرة، ويطول الكلام عليها، وكلها تدل على إعجاب منهم وإكبار.
ومما يزيد منزلة هذا الكتاب أن صاحبه لم يقتصر فيه على الرواية والإسناد، بل كان كثيرًا ما يمحص الأقوال، وينتقدها، ويظهر صحيحها من مكذوبها، ويحمل على الرواة الذين يصطنعونها. وربما أورد الخبر على روايات مختلفة، ثم عاد إلى رأيه فرجح إحداها، أو أبدى شكه فيها، وجعلها على عهدة أصحابها.
وكتابه كان — ولا يزال — المورد العذب الذي ينهَلُ منه كل باحث في الآداب، ولولاه لضاع أدب كثير للجاهلية وصدر الإسلام.