الفصل السادس عشر
قال الراوي: كان الوقت سَحَرًا لم يتنفس عن فجره، ولم ينبثق عنه صباحه بعد، عندما
طُرقت
دار الأستاذ الجليل طرقًا خفيفًا، استفاق له التلميذ الشاب، وأسرع إلى فتح الباب، إنها
طرقات أنبأت عن موعد عُقد في الأمسية الماضية، وتهيأ لها الشاب بأمر من أستاذه.
دخل الرجل متلففًا بعباءة واسعة أخفت معالمه، وكان رجلًا قصيرًا، ترشح على وجهه الغامض
أمارات الخبث والمكر والرياء، مع هيبة ووقار في طلعته، لا يستطيع إنكارهما من يراه وإن
نفر
منه، لم يسبق للشاب أن رأى هذا القادم، ولا يعلم عنه سوى قول أستاذه: إن سيدًا عظيمًا
سيطرق
بابنا وقت السحر، فانتبه إليه، وأيقظني حالًا بعد أن تعلمه أنني أصلي صلاة السحر.
لم يكد الرجل يجلس في قاعة الاستقبال حتى سأل عن الأستاذ الجليل، فأجيب بأنه يصلي
صلاة
السحر، فقال: نفعنا الله ببركاته. وكانت شفتاه تفترَّان عن ابتسامة ماكرة، أردفها بغمزات
تعلن أنه يعرف كل شيء فلم يُخدع، أسرع التلميذ وأيقظ أستاذه، ولم يخف عنه ابتسامة الرجل
وغمزاته، فابتسم الأستاذ ابتسامة من لا يأبه للمكر لأنه أشد مكرًا، وبعد أنْ أصلح حاله
ولبس
ثيابه بادر إلى استقبال ضيفه الكبير.
كان الأستاذ يتوهم أنه سيقابل شخصًا مجهولًا لديه، وإذا هو أمام أحد زبائنه، وما كان
يعلم
أنه وزير الميمنة كان يأتيه متخفِّيًا، فدهش، وكان الوزير يبتسم ابتسامة الماكر الداهية.
أهذا أنت؟ قالها الأستاذ وهو يرحب به ويحييه، بعد أنْ فثأ عن نفسه الدهشة، فأجابه الوزير:
أنا هو بعينه.
الأستاذ
:
ما كنت أنتظر أنْ أجتمع بصديق قديم عزيز في هذا الموعد المبارك.
الوزير
:
بل قل: بتلميذ قديم، يعترف بالجميل، فقد أفدت كثيرًا من نصائحك، وكانت نصائح خبير
عالم، عرك الحياة وعركته، وها قد التقينا وعلَّنا نتعاون.
الأستاذ
:
وكيف حالك مع شدَّاد اليوم؟
الوزير
:
إنني لا أزال أداوره.
الأستاذ
:
وتداور الملك العادل معه، أراك تداور الاثنين، وتمكر بهما بدهاء الأذكياء.
الوزير
:
ألم تعلمني أن الحياة مداورة ونفاق، وأن الإخلاص شيمة الضعفاء؟
الأستاذ
:
أراك تلميذًا نابهًا، استطاع أنْ يخدع ملكين عظيمين، وأن يثري على حسابهما وعلى
حساب الشعب، فوسع شُقَّة الخلاف بينهما، وظلَّ صديقًا لكل منهما، فما أشد مكرك، وما
أوسع دهاءك!
الوزير
:
وهل جئت أنت إلا لهذا؟
الأستاذ
:
إنني مخلص لجلالة الملك العادل، جئت لأنقذه (قالها
متصنِّعًا الغضب).
الوزير
:
قه، قه، قه، قه، وهل بلغ بك الضعف درجة الإخلاص؟ ومتى؟ أيخلص من يملك شجاعتك في
الاحتيال والشعوذة والخداع؟ أنسيت احتيالك على فلان وفلان، وخداعك لفلانة وفلانة؟
ومن أنقذك من حكم القضاء غيري؟ لولا يقظتي وحسن تصرفي، ولولا احترامي لذكائك وعلمك
وخبرتك، ولولا أملي في أن أجد فيك خير معين على الأخصام، لكنت اليوم — كما تعلم —
في أعماق السجون.
الأستاذ
:
وهل كنت مطلعًا على جميع هذه الحوادث، وقد اتهمت بها ظلمًا وبهتانًا؟
الوزير
:
ألا تزال تحاول مداورتي؟ لم أطلع وحسب، بل تدخلت في صالحك، وهذه وثائق الدعاوى
أقيمت عليك، وما أراه تلك الوثائق حتى اصفر وجه الأستاذ، وارتبك ولم يعد قادرًا على
الكلام، فاستمر الوزير في حديثه بلهجة الظافر الواثق وقال: من هو الذي أغراك
بالمجيء إلى العاصمة؟ لم يكن سوى رسول من قبلي، ألم يكن فلانًا؟ ثم قام أتباعي
بالدعاوة لك، ومهدت لك طريق الاجتماع بجلالته، وكنت ذكيًّا جدًّا بالاستيلاء على
شعوره وأفكاره، ومن استطاع أنْ يجمع يستطيع أنْ يُفرِّق، ولا سيما حين تكون هذه
الوثائق في حوزته، إنك قد حققت ظني بك وحققت ظن شدَّاد، فلنتصارح ولنتعاون إذا كنت
لا تزال على طموحك في الثروة والوجاهة والنفوذ، وإلا فاذهب إلى بلدك لا يعرف أحد
منك شيئًا.
الأستاذ
:
هه هه هيه، على رسلك يا هذا، وهل أنت من ملائكة السماء أم من قديسي الأرض؟ أتظن
أن من أرسلتهم لاغتيال فلان وفلان قد كتموا سرك، ولم يخبروا به أحدًا؟ أو تظن أنك
في احتيالاتك ورشواتك بعيد عن أعين الرقباء؟ وهل في تشجيعك للمحاسيب والأقارب
والمقربين على مخالفة القوانين خير لهذا البلد؟
الوزير
:
وما لك تحاول رد التهم بخلق التهم؟ إنها لمراوغة جبان.
الأستاذ
:
بل هي مدافعة عن الذات، وإنني أملك الوثائق، والله إنني جمعت ما يثبت آثامكم
جميعًا، أنتم حاشية الملك، ولم يعجزني سوى وزير الميسرة وقائد الجيش والمشير الأول،
وسأجد لهم ما يلوثهم ولو في أجواء حياتهم الخاصة، فاطمئن، وما دمنا يعرف كل منا
الآخر فلِم المداورات وإضاعة الوقت؟! نعم، فلنتعاون.
الوزير
(وقد افترَّ ثغره وبدا ضعفه خبيثًا لئيمًا)
:
ألا نتبادل الوثائق ونحرقها؟
الأستاذ
:
على أنْ نكتب عهدًا في التعاون.
اتفق المشعوذان الماكران على ذلك، وأحضر الأستاذ الجليل وثائقه، ونودي على التلميذ،
وطُلب
إليه أنْ يحرق هذه الأوراق أمام أعينهما، ففعل، ثم تناقشا في نص العهد، فالوزير أراده
مبطنًا ينص على أنهما يتعاونان في صالح المملكة لينقذ بذلك الظواهر، وأصر الأستاذ على
أنْ
يكون صريحًا، لا التواء فيه ولا تورية، فينص على أنهما يتعاونان على خداع الملك وشعبه،
ويقتسمان المغانم والأرباح ماديةً ومعنويةً، وانتصرت فكرة الأستاذ، واثقين بأنها تظل
سرًّا
مصونًا، وضمانًا لعدم حصول سهو أو نسيان، وأمضيا صك الخيانة والنفاق.
عندئذ وبعد أن احتفظ كل منهما بنسخة من ذلك العهد، التفت الوزير إلى شريكه الأستاذ،
وقال
بألم وضعف باديين: إنني أخشى تغير الملك عليَّ.
وقص عليه ما جرى في الاجتماع، ثم روى له ما علم عن سهرة الملك وعن اجتماعه بمشيره
الأول
وكأنه كان حاضرًا، وأكد له أنَّ الملك يأمل أنْ يجد فيه روح أستاذه الشيخ الوقور موقد
نار
الثورة على أبيه.
الأستاذ
:
وكيف اطلعت على ما لم تشهد من الحوادث وما عهدتك من المنجمين العبقريين.
الوزير
:
لا أكتمك الحقيقة، وقد توحدت مصالحنا، فإن حاجب الملك هو جاسوس مخلص لي، ونستطيع
الاعتماد عليه، ولكنني أود أنْ أنبهك لخطأ أوقعك فيه حرصك على اجتذاب قلب الملك،
ولكنه يضر في مصلحتنا.
الأستاذ
:
وما هو هذا الخطأ؟
الوزير
:
إنك قد أوعزت بفكرة الحرية، وأطنبت أمام جلالته بحرية الشعب، وأنحيت باللائمة على
طريقتي في التجسس، ولا أدري كيف يمكنك أنْ تتدارك كل هذه الأمور، وهي لا تنسجم مع
ما صممنا عليه.
الأستاذ
:
لا أريدك خوارًا في عزيمتك، وقد أحسنت في إبلاغي ما جرى للملك، وسأتدبر الأمر
فاطمئن، وأما اهتمامك بما قلته عن الشعب وحريته، فإنه يدل على ضعف في كياسة
السياسة، ولا أدري كيف فاتك هذا الأمر، إننا نعطي من نخدع ما يحب وما يريد؛ لنأخذ
منه ما نحب وما نريد: الحرية، العدالة، الرحمة، وما ماثلها، إنما هي كلمات يؤخذ بها
المغفلون، ونستغلها نحن لمصالحنا، إننا لم نتورع عن استغلال الأديان على سموها وعلى
شدة تأثيرها، أفنعجز عن استغلال هذه الكلمات، إنها كلمات تسحر عيون الناس وتعمي
قلوبهم ما داموا لا يفقهون لها معنى، فلِمَ نتورع عن استغلالها؟ هي سلاح خصومنا،
فلنسلبهم سلاحهم هذا، ولنتخذه سلاحًا لنا، إنما يُخشى علينا منها، إذا ما فقهوا
معانيها، واتصلت بنفوسهم على حقيقتها، وسترى كيف سأشوش على الملك وعلى الشعب فهم
معاني هذه الكلمات الساحرة، سيختلط عليهم الأمر، فتدرك كيف نتخذها وسائل لإلقاء
أبواب السحر، نحن السحرة لا نكتفي باستخدام عالم الجن ولا بالاتصال بعالم الأرواح،
بل نستخدم هذه الألفاظ ولا سيما المبهمة منها، وهي أكثر تأثيرًا في استعباد الناس
من الجن والشياطين والأرواح والشعب، ألا تزال تؤمن بخرافة الشعب؟ إنه وثني ألفاظ،
يساق بها كما تساق الماشية ما دام جاهلًا مغفلًا، وإذا اضطررت لتعليمه فاثقل
المنهاج وغرر بالمعلمين، كن مطمئنًا، وثق بي، ولا تعجل، فالعجلة من الشيطان يزل بها
الإنسان.
وما بلغا من حديثهما هذا الحد حتى دخل التلميذ، ينبئ الأستاذ عن وصول رسول الملك مع
بعض
الأتباع، وإنهم يقولون: إنَّ جلالته في انتظار الأستاذ الجليل.
ظهر الفزع على الوزير، فابتسم الأستاذ قائلًا: ابقَ هنا مع تلميذي إلى أنْ يبعد بي
الموكب، وإلى اللقاء، وابتسم كل منهما للآخر ابتسامة المكر والنفاق.